أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالحميد برتو - محو العراق (7) الأخيرة















المزيد.....


محو العراق (7) الأخيرة


عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)


الحوار المتمدن-العدد: 7049 - 2021 / 10 / 16 - 16:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


إبادة المجتمع العراقي

يتنال كتاب "محو العراق" الفترة الواقعة بين عامي 2003 و2010. أما الفترة التي أعقبت صدور الكتاب، فقد حملت مآسي عميقة وكثيرة. هي الأخرى لا تقل خطورة عن سابقاتها، بل ربما أشد. شكلت تراكماً عمّق المأساة العراقية المتعددة الأوجه، التي طورت بعد الإحتلال أزمات شديدة الخطورة. أكد المؤلفون على أنهم الى جانب الملاحظة المباشرة للوضع العراقي إعتمدوا على المقابلات مع الأفراد والأوساط المعنية، تقارير المنظمات الأهلية والدولية المتخصصة، منظمات حقوق الإنسان، الصحافيين المغامرين، المدوونات الإلكترونية للجماعات والأشخاص، خطب المسؤولين وتقارير الأفراد والدوائر الرسمية وغيرها.

توقف الكتاب عند العديد من الأضرار التي تعرض لها العراق من جراء الحرب والحصار والإحتلال. لم يهمل الكتابُ بيعَ إرث العراقي الثقافي الغني، الذي أحتفظت به المتاحف والمكتبات العراقية والمواقع الأثرية المحمية. بيعت تلك الآثار لمن يدفع في الخارج. وتستمر عمليات إبادة المجتمع من خلال الهجوم الشامل على حياة العراقيين وثقافتهم وهويتهم الوطنية.

الطفولة المفقودة
ينظر الكتاب الى الإحتلال كإحدى حلقات عملية محو العراق. بدأ تنفيذها منذ عام 1990. إعتمد الكتاب شهادة منظمة اليونيسيف كإحدى المؤشرات الأساسية على ذلك. قدرت المنظمة عدد الضحايا من الأطفال العراقيين دون سن الخمس سنوات بين 1990 ـ 1998 بنحو نصف مليون طفل. جاء ذلك نتيجة للحرب، العقوبات الإقتصادية، إفلاس منظومة العناية الصحة العراقية وضرب مؤسسات الخدمات العامة المختلفة.

كما أدى إجتياح عام 2003 الى مفاقمة ظروف معيشة الأطفال العراقيين، وكذلك لما سميه بسياسة "الصدمة والترويع" الأمريكية. إنتشرت حالات سوء التغذية والإسهال التي سببتها حالات تلوث المياه. ولحقت بالأطفال خسائر كبيرة نتيجة لتفجر الذخائر. إنعكست تلك الحالات المزرية على نحو مليوني طفل حسب تقديرات منظمة اليونيسيف.

بلغ عدد الأطفال خارج المدارس حتى عام 2007 نحو 769 ألف طفل. ووصفت الحالة الصحية في العراق بالمفجعة. شاهد الأطفال جثثاً ملقاة في الشوارع، دبابات تجوب شوارعهم، إعتقال أقاربهم وطرحهم أرضاً، إهانات حواجز التفتيش، فرار ذويهم أو قتلهم أمامهم، أو فقدانهم أذرعهم أو أرجلهم. شاهد الأطفال غارات على المنازل، التي كانت رمزاً للآمان، وباتوا يرون فوارق بين أبناء شعبهم من ناحية الدين والذهب والعرق، حالات برزت بعد الحرب، أدت الى فقدان الأمان الإجتماعي.

تقع الحوادث المفجعة في كل الأوقات والأماكن. تصيب الناس من كل الأعمار. ثم خلت أحاديث الناس من كل ما هو مريح. باتت أخبار الإصابات تستعر. لا يعلم أحد متى يكون هو أو هي حديث الناس. لتتحول حياتهم الى خبر محزن. إنه الجحيم.

ذكرت آن فينيان المديرة التنفيذية اليونيسيف: يشكل الأطفال والمراهقون نحو 50% من مجموع سكان العراق. إنه لأمر شديد الفظاعة أن يشاهد الأطفال تلك المآسي. تسألت عن طبيعة المستقبل الذي سوف يواجهونه بعد حرمانهم من طفولتهم.

نقل الكتاب توقعات طفلين عراقيين، عشية غزو عام 2003. كيف كانا ينظران الى مصير ونتائج الحرب. قالت الطفلة الأولى سلمى: "يأتون من فوق، من الجو، وسيقتلوننا ويدمروننا... أننا نخشى هذا كل نهار وكل ليلة". وقال عاصم: "لديهم مدافع وقنابل وسيصبح الهواء بارداً وحاراً وسنحترق كثيراُ". (الكتاب ص 205) كان الطفلان بعمر الخمس سنوات، بعد مرور سبعة أعوام على إندلاع الحرب، يطرح الكتاب سؤالاً حول مصير الطفلين سلمى وعصام، وما حَلَّ بهما. ما الذي تتركته الولايات المتحدة وراءها في العراق؟

أما النساء فقد ارتفعت طموحاتهن عشية إحتلال 2003. لكن وضعهن في الواقع بات أسوأ بعد الإحتلال. سرعان ما تحطمت تلك الطموحات. لم يحصلن إلاّ على الخوف والرعب. إستغلت العصابات حالات الفوضى وفقدان الأمن والنظام لإختطاف النساء وإغتصابهن، بل حتى بيعهن في الخارج بعد أن توفرت إمكانية تسفيرهن وإعادتهن بدون جوازات سفر.

تتحمل الولايات المتحدة الأمريكية المسؤولية الكبرى في إندفاع الأصولية العنفية. فقد منح الأمريكيون سلطات واسعة لرجال الدين والقادة العشائرين. إستخدم رجال الدين العنف لفرض الحجاب على النساء وإعاقة تعليمهن الذي تراجع بصورة عاصفة. ضاقت المساحات المتاحة أمامهن، وإتساع نطاق الخوف من المجهول.

نهشت الأصولية المنفلتة ليس فقط حقوق النساء، بل طالت بقسوة الطوائف قليلة العدد. فمن المسيحيين الذين كان يزيد عدد عن مليون ونصف مواطن، لم يبقى منهم في البلاد سوى نصفهم. تعرض بعض قادتهم الى القتل أو الإختطاف. أطلقت سيول من التهديدات ضدهم. وتم حرق عدد من الكنائس.

استبيحت كل الأقليات الدينية والعرقية، حيث أستهدف المندائيون، وهم أناس مسالمون. كان عددهم قبل الإحتلال نحو 50 ألفاً. لم يبقى منهم في العراق سوى خمسة آلاف. هذه الديانة العراقية القديمة، لا تملك سنداً دولياً يدعمها. كما تعرض اليزيديون الى أهوال مريعة. يبلغ عددهم نحو نصف مليون مواطن. وعلى غرار الأقليات الدينية عانت الأقليات الإثنية كثيراً. فالشبك الذين تختلف ثقافتهم عن الأكراد والعرب. يقطنون في سهل نينوى، تعرضوا لمضايقات شديدة. يشعرون بأنهم غرباء في وطنهم حسب تصريحات ممثليهم.

كما تعرض العراقيون ـ الفلسطينيون لعمليات قمع شديدة على أيدي مليشيات متوحشة. يذكر أن معظمهم ممن هجروا الى العراق عام 1948. قُتل المئات منهم وسلبت بيوتهم وممتلكاتهم. كانت عمليات التشريد واسعة. تلقوا تهديدات بالقتل إن لم يخلوا منازلهم. تحول قسم منهم الى مخيمات قرب الحدود العراقية السورية، ضمت نحو 2500 شخص، وقسم أختبأ داخل العراق.

النهب يحرّر
لا تقف المأساة في العراق عند حدود التشرد في داخله وعلى طول حدوده. إنما شملت مستقبل الكثيرين منهم. طالت ماضيهم أيضاً حيث تدمير المتاحف والمكتبات القديمة والمواقع الأثرية. بات العراق كله ميدان للسرقات التي لا يمكن تعويضها. سرق من المتحف الوطني 9 آلاف أثر لا يقدر بثمن. أحرقت أو دمرت أعداد لا تحصى من المخطوطات التاريخية النادرة. لا تكفي كلمة نهب لوصف الحالة في العراق أثناء وبعد الإحتلال. لم توفر القوات الغازية حماية للمؤسسات التي وقعت ضحية للنهب نتيجة للفراغ والفوضى.

يذكر أن الولايات المتحدة وبريطانيا لم يوقعا على أتفاق لاهاي عام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حال النزاعات المسلحة. لكن العراق طرف في ذلك الإتفاق. ومن الجدير ذكره أن منظمتين دوليتين غير حكومية قد طالبتا بحماية الملكية الثقافية العراقية أثناء الإستعداد لإحتلال العراق عام 2003.

حذر المجلس العالمي للمتاحف في 23 شباط/ فبراير 2003 و 14 نسيان/ أبريل 2003 بأنه يحمّل أطراف التحالف الدولي مسؤولية الحفاظ الممتلكات الثقافية العراقية من النهب. كما أثنت المنظمة الثانية ـ اللجنة الدولية للدرع الأزرق في 7 آذار/ مارس على مبادرة المجلس العالمي للمتاحف. أعتبرت الحفاظ على الإرث الثقافي الأصلي حق من حقوق الإنسان. أشارت اللجنة الدولية الى أن العراق موطن أقدم الحضارات في العالم، وإن خسارة أي جزء من ذلك الإرث والتراث خسارة للبشرية جمعاء. طالب المجلس الولايات المتحدة بوضع خطة لحماية الممتلكات الثقافية في العراق. ووضع خطط طوارئ لمواجهة الإحتمالات.

لقد سمح البنتاغون بعمليات النهب. رأى المسؤولون الأمريكيون في ذلك النهب تقويضاً لأركان النظام السابق. إعتبر المسؤولون العسكريون الأمريكيون النهب عملية جيدة وضرورة تحرّر من الخوف ونوع من التمتع بالحرية.

أدلى وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد بتصريات وقحة في تعقب له على عمليات السلب والنهب، بأنها "أمور تحدث!". وأضاف: أن "الحرية مشوشة، وللشعوب الحرة الحرّية في القيام بالأخطاء وارتكاب الجرائم والإتيان بأمور سيئة. وهم أحرار في عيش حياتهم والقيام بأمور رائعة، وهو ما سيحدث هنا". (الكتاب ص 234)

وضع المؤلفون إفتراضين إثنين لما جرى من عمليات سلب ونهب. إما عمل إجرامي نتيجة لعدم كفاية الإدارة، أو إنها خطة شريرة لتدمير العراق. في كل الأحوال تكون النتيجة واحدة. أفرغت جميع الوزارات العراقية ومستودعات الذخيرة لوزارة الدفاع حتى منتصف نيسان/ أبريل 2003 من كل محتوياتها. حمت القوات الأمريكية وتولت حراسة وزارتي النفط والداخلية فقط.

لم تولي القوات الأمريكية أي إهتمام بالتخريب الذي إجتاح كنوز الثقافة العراقية، حيث سُلبت عشرات المكتبات في مختلف أنحاء البلاد، ونُهبت آلاف المواقع الأثرية، وسرقت مجموعات من المتحف العراقي أو دُمرت.

السنة صفر
تناول الكتاب شذرات من تاريخ العراق. توقف عند بعض محطاته بإحترام بالغ. توقف عند أول مكتبة في التاريخ. كان من بين موجوداتها ملحمة جلجامش. أشار الى العصر العباسي الذهبي حين كانت بغداد عاصمة الدنيا. مشيراً الى دار الحكمة، التي لا نظير لها في ذلك التاريخ. هذا الى جانب تقدم مختلف العلوم من الفلك الى البصريات ومن الجبر الى الفيزياء. وإزهار الترجمة وكان من ثمارها حماية ثمار التراث الإغريقي وإغناءه. خطرت ببال المؤلفين فجعية بغداد بالغزو المغولي، الذي سبغ النهر بلون الحبر الأسود وسبغ شوارع المدينة باللون الأحمر بدماء سكانها.

جرى الحديث بالأسم عن المكتبات، التي طالها الحرق والإتلاف الإجرامي. وصف الكتاب الهلع، الذي إنتاب موظفي تلك المكتبات وجهودهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لم تسلم من الحرق مكتبات الجامعات والدوائر الرسمية. أكد فرناندو بايز مؤلف كتاب "التاريخ العالمي لتدمير الكتب" ومدير المكتبة الوطنية في فنزويلا، بأن ما يصل الى مليون كتاب وعشرة ملايين وثيقة فريدة من نوعها دُمّرت أو فقدت أو سرقت عام 2003 في مختلف أنحاء العراق. كانت القصص التي وقعت في دار الكتب مؤلمة ومروعة.

يقول روبرت فيسك مراسل الإندبندنت: شاهدت الموجة الثانية من عمليات نهب وحرق المكتبات العراقية. ناشد فيسك القوات الأمريكية لوقف تلك الهجمات. لكن لا أحد يسمع النداء. قوبلت نداءاته بلا مبالاة. إختصر الصحافي المشهد بقوله: "أما بالنسبة للعراق فإنها السنة الصفر ... إذ يتم محو الهوية الثقافية للعراق". (الكتاب ص 237) كما يصف الدكتور سعد إسكندر المدير العام لدار الكتب بإيجاز بليغ أهمية مكتبة دار الكتب والوثائق: بـ"أنها المكان الذي تبدأ فيه الهوية الوطنية لأي بلد".

الآثار المفقودة
كانت الآثار العراقية محمية بقوانين مشددة تصل حد إعدام مهربي الآثار والمقتنيات التاريخية. حصلت عمليات نهب للآثار خلال فترة ما عُرِفَ بالإنتفاضة الشعبانية عام 1991. فقدت السيطرة على مواقع الآثار الهامة، بصفة خاصة، عند فرض مناطق الحظر الجوي في جنوب وشمال العراق.

دخلت القوات الغازية عام 2003 الى بلد غني بالملكية الثقافية. أشار الكتاب الى أولى المنحوات التي مضى عليها أكثر من خمسة آلاف سنة المحفوظة في المتحف الوطني العراقي. وصف إهمال تلك الموجودات بالجريمة الكبرى بحق العراق والعراقيين بل بحق التاريخ الإنساني.

عشية الغزو نبهت جهات إنسانية ومتخصصة عالمية من المخاطر التي تحيط بأصول الممتلكات الثقافية العراقية. دعت الغزاة الى المحافظة على تلك الموجودات والمواقع الأثرية المكتشفة والمتوقعة من إعتداءات النهابين. يقول الواقع لا توجد آذان صاغية. تُرك المتحف ودار الكتب الوطنيين دون حماية تذكر، مما عرضهما الى أبشع عمليات الحرق والنهب. هذا على الرغم من وجود مواقع للقوات الأمريكية لا تبعد عنهما أكثر من كيلومتر واحد. خلقت تلك الأعمال الإجرامية خسائر لا تعوض.

تذكر لنا الحوادث المؤلمة، مشاهد مشرفة عن حرص القائمين على المتحف الوطني والمكتبات العامة والجامعة، من جهود لحماية ما يمكن حمايته. قال الدكتور دوني جورج يوخنّا مدير المتحف العراقي السابق: "من حسن الحظ أن موظفي المتحف أخلوا بعض كنوزه الى خزنة سرّية في المصرف الوطني، مما حمها من النهب. كل شيء أُخلي ما عدا بعض القطع المشؤومة ـ فهي هشة أو وازنة جدّاً فإستحال نقلها. تعرض ما تُرك في مكانه للتحطيم والحرق أو السرقة. وفقد نحو 15 ألف قطعة ـ لم يتم مذذاك سوى استعادة ستة آلاف منها". (الكتاب ص 245)

بلغت العلانية في عمليات بيع آثار العراق حد إستخدام الإنترنت، لذلك الغرض غير المشروع. ذكر نيل برودي في تحقيق أجراه لمركز علم الآثار في جامعة ستانفورد. أن 55 موقعاً على الإنترنت عرضت في كانون الأول/ ديسمبر 2006 قطعاً أثرية عراقية، بما في ذلك لوحات مسمارية وأختام أسطوانية ذات شهادات مشكوك فيها. ارتفع العدد بحلول أيلول/ سبتمبر 2008 إلى 72 موقعاً. يظل التمادي في نهب العراق جرحاً مفتوحاً على العراق المُبتلي بالمآسي اليومية.

إبادة مجتمع
يصل المؤلفون في خاتمة جهدهم الثمين الى خلاصة، تُفيد بأن إبادة المجتمع العراقي، هي نتيجة العدوان الأمريكي. إستند المؤلفون على مؤشرات، أكدت لهم ذلك. منها: تدمير الكنوز الثقافية العراقية، دعم وتشجيع فورة الأصولية العنفية، إهلاك البنى التحتية الإقتصادية والإجتماعية، معاناة النساء والأولاد والأقليات والقضاء على أسلوب الحياة اليومي.

إعتمد المؤلفون منهجية كيث داوت في دراسته الموسومة بـ(فهم الشر: دروس من البوسنة) التي إستخدام فيها مفهوم إبادة المجتمع. كتب داوت واصفاً تلك الحروب أو النزاعات بالمجنونة: "أن النزاعات المسلحة، ليس في البوسة وحسب، بل أيضاً في رواندا والشيشان والشرق الأوسط، تحدد أهدافاً مجنونة".

إن المقتبسات التي إستخدمها كتاب "محو العراق" من دراسة كيث داوت مهمة جداً. فيها خلاصات دقيقة عن حروب البوسنة والهرسك وعموم منطقة البلقان، مثل القول: "لا يتم تدمير البيوت فحسب، بل أيضاً هيبة المنزل. ولا يتم قتل النساء والأطفال وحسب، بل أيضاً المدينة نفسها مع طقوسها ومناهج حياتها. ولا تتم مهاجمة جماعة معينة من الناس وبنياتها السفلى، وحسب، بل تاريخها أيضاً وذاكرتها الجماعية. ولا يتم هدم النظام الإجتماعي وحسب، بل أيضاً المجتمع نفسه. ويسمى العنف في الحالة الأولى إبادة منزل؛ وفي الثانية إبادة المدينة؛ وفي الثالثة الإبادة الجماعية. إلا أن من الضروري إدخال تعبير جديد، محدث، على الحالة الرابعة، وهو إبادة مجتمع".

يواصل داوت تحديد معالم إبادة المجتمع، فيضيف أن من مستلزماتها: "خطّة منسّقة لأعمال مختلفة تهدف الى تدمير الأسس الأساسية للمجتمع". ونتائجها وحشية ومتفشّية معاً. هي تتضمن تدمير الدولة الإجتماعية ـ مثلاً: "التضامن، الهوية، العائلة، المؤسسات الإجتماعية، وعي الذات" ـ والفاسدة إذ "يصبح الإرتياب وسوء النية التوجهين السائدين لدى الناس الذين يعيشون معاً". (الكتاب ص 252)

يخلص المؤلفون الى نتيجة بعد كل المعطيات، التي قدموها، أو إستندوا عليها، أو إستشهدوا فيها، بأن: التدمير المقصود للعراق وشعبه، الذي قامت به الولايات المتحدة وحليفاتها أبان حرب الخليج وحقبة العقوبات الدولية وحرب الخليج الثانية، هي: "محاولة إبادة إجتماعية".

يصف المؤلفون العراق، الى يوم صدور كتابهم عام 2010، بأنه يعيش حالة سلام هش. تقطعه بين فترة وأخرى، إغتيالات وهجمات إنتحارية. إن الديمقراطية المصدرة إليه هشّة ومنقسمة على طول خطوط إثنية وطائفية وعرقية. ولكن عند هذه النقطة، إقتبس الكتاب من أعداد هائلة من العراقيين، على حد تأكيدهم، بأنه على الرغم من كل ما تقدم: "تبقى شِغافُ المجتمع العراقي نابضة بالحياة السليمة" و"بقيت الهوية العراقية ولم تُدمر".

حاشية: أُناس خارج اللحظة
أعلن الرئيس الأمريكي براك أوباما يوم 27/2/2009 في خطاب له عن إنسحاب الجيش الأمريكي، خلال عام 2011 من العراق. أثنى أوباما على الجيش الأمريكي "لتوفيره فرضة ثمينة لشعب العراق". وقال كلاماً يحمل في جوهر أكاذيب سلفه، حول سعي البلدين للسلام والبحبوحة لأبنائهما وأحفاديهما.

سخر الكتاب من تلك الدعاية الفجة، مؤكداً على حقيقة الأوضاع الصعبة للطرفين. لكن لا ينبغي تجاهل حقيقة، أن أمريكا هي التي شنت حرب الخليج الأولى. وهي التي فرضت الحصار الإقتصادي والعقوبات، التي دامت 12 عاماً. وأجهزت على حياة نحو مليون عراقي. هي التي غزت العراق عام 2003، وأودت بحياة أكثر من مليون إنسان، وشردت أكثر من أربعة ملايين، حولتهم الى لاجئين معدمين. هي التي حولت العراق الى بلد محطم يسوده الخراب المطلق.

توصل الكتاب الى خلاصات مهمة، تفيد بوجود إنفصال أو إنقطاع عميق بين الحقيقة والخطاب السياسي الأمريكي. إنه الزيف المنظم بمهارة وعناية وخبرة تاريخية. قارن الكتاب بين خطاب أوباما نفسه في الحملة الإنتخابية وكلامه في موقع المسؤولية.

قال أوباما المرشح الرئاسي عن إحتلال العراق عام 2003، بأن الحرب "لم يجب السماح بها ولاشنّها". لكن تلك البلاغة قد تغير جوهرها عندما أصبح رئيساً ومسؤول عن الأعداد الكبيرة من القتلى.

طرح الكتاب مسألة الحرب العادلة، متناولاً نقطتين هامتين تبرران إندلاعها. أولى وجود مبررات مشروعة لإعلانها. والثانية قانون الحرب. لكن الحرب الأمريكية على العراق غير عادلة. كان السبب في الحرب الأولى مسألة "تحرير" الكويت. وفي الثانية 2003 كذبة سلاح الدمار الشامل. في حالتين كان كل المطروح مجرد ذرائع.

صمم ذلك الخداع، كما يرى الكتاب، لتمرير الأسباب الحقيقية. وهي بسط النفوذ الأمريكي على الشرق الأوسط، إعادة صياغة الإقتصاد العراقي وضمان الوصول الأمريكي ثروة العراق المعدنية الكبرى. إن معظم تلك الأهداف فشلت. وباتت إيران تحتفظ بهيمنة كبيرة على القرار العراقي، وليس أمريكا في الظروف القائمة. ربما يختصر الأمر قولُ الصحفي الأمريكي نير روزن في نيسان/ أبريل 2009: "نحن لا نخلق جنّة في العراق، بل أوجدنا جحيماً".

وجدت بصدد الدور الإيراني، من المناسب إستكمالاً للحالة القائمة اليوم، إعادة نشر بوست، نشرته يوم 12/7/2021 على صفحتي في الفيسبوك، تحت عنوان "قراءة اللحظة الراهنة" جاء فيه: "تضافرت جهود وفتوى ملالي طهران، تأسيساً على الوهم الإمبراطوري، مع الطمع الأمريكي بكل أنواعه، تحدوه نزعة الكابوي، مصحوباً بالهلع من الفكر التقدمي واليساري والإنساني الأصيل حقاً، وذلك تأسيساً على محاكمات قانون سميث وعِصاب السناتور جوزيف مكارثي التاريخية. ظهرت تلك الجهود المشتركة والمنسجمة بين الجانبين تحت سقف واحد. عُلِّقَت على بابه إيحاءآت بالعدائية بين الطرفين. لكنها في المحصلة النهائية عدائية مبرمجة بإتجاه تدمير العراق ومثله وأفراده. بعد فشل تقاسم العراق بين الطرفين. بدأت محاولات كل منهما إبتلاعه. هنا ربما يتحول ما تحت السقف الى عداء حقيقي لوقت ما. يظل الإصرار عند واشنطن وطهران على إبقاء العراق تحت السيطرة المنفردة قائماً. يقول منطق التجارب: بعد الحنجلة يأتي الرقص. المسارات كلها مفتوحة بين العاصمتين. لكن القرار المستقر في سلوك الطرفين تدمير ما تبقى من العراق، على خطوات بإتجاه الإلحاق التام. في نهاية المطاف الكلمة الأخيرة لشعب العراق مهما غلت التضحيات. بالأفق التاريخي نقول بثقة: سنرى".

يستمر طعم الإحتلال المر، متمثلاً: بأكثر من مليون قتيل، ثلاثة أضعاف هذا العدد من الجرحى والمصابين، نحو مليون أرملة وأرمل، أعداد هائلة ممن فقدوا المعيل ومصادر رزقهم وآلاف المفقودين والمغيبين. هذا الى جانب ما أصاب البنى التحتية والخدمات العامة الأساسية: الزراعة، الصناعة، التعلم، الصحة، الكهرباء، الماء، الصرف الصحي وغيرها. ومن أخطر الأضرار ما لحق بالعلاقات الإجتماعية بين أبناء الشعب العراقي.

يصل المؤلفون الى إقتراح حكيم موجه الى الإدارات الأمريكية. لم يسبقهم إليه إلا عدد قليل من الوطنيين العراقيين، الذين لم يقفوا عند حدود إدانة إحتلال بلادهم، بل طالبوا المحتل دفع تعويضات عن الأضرار الجسيمة، التي لحقت بالشعب العراقي. صاغ المؤلفون طلبهم على النحو التالي: "إن الدور الإيجابي الوحيد المتبقي للولايات المتحدة يتضمن دفع تكاليف إعادة الإعمار وإعادة التوطين والأضرار ـ وهي تكاليف يحاجج بعض المحللين، بأنها قد تبلغ بكل سهولة تريليونات الدولارات". (الكتاب ص 259)

خَتَمَ المؤلفون رحلتَهم الشاقةَ مع محنة الشعب العراقي، بعبارات للمسرحي البريطاني هارولد بينتر (1930 ـ 2008)، الذي يَرجع لِأصولٍ كادحة، قالها في خطابه أثناء تسلمة جائزة نوبيل عام 1985. إن العراقيين يعيشون "خارج اللحظة. فلا وجود لموتهم. إنهم ممسوحون. لا بل لا يُسجلون حتى أنهم أموات". وبعبارات بينتر فإن الكشف عن الأعداد الدقيقة للجثث وإستعادة الروايات الضائعة ـ بمجرّد القراءة عنها والتفكير فيها والمشاركة فيها ـ أمر حاسم في "أستعادة ما نكاد نخسره وهو ـ كرامة الإنسان".

يتجلى الموقف الأخلاقي والإنساني للمؤلفين هنا، بقولهم: "وإذا أمكننا، في هذا الكتاب، تقديم إسهام، ولو بسيط، في اتجاه هذا الهدف فسنكون عندذاك حققنا غايتنا.".

يا للمسافة الهائلة بين أحرار الوطن والعالم من جهة وبين مَنْ خانوا أو تواطؤوا من الجهة الأخرى.



#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)       Abdul_Hamid_Barto#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محو العراق (6)
- محو العراق (5)
- محو العراق (4)
- محو العراق (3)
- محو العراق (2)
- محو العراق (1)
- مرحلة العجب العجاب
- وداعاً أبا سامر - كاظم حبيب
- هوامش عابرة على سياسةِ اليوم
- أَعَرَبٌ أَنتم؟!
- المجد للأول من آيار
- البصرة وصورة الأمس
- أَحم، عندنا إنتخابات 7 من 7 (3)
- أَحم، عندنا إنتخابات 7 من 7 (2)
- أَحم، عندنا إنتخابات 7 من 7 (1)
- أَحم، عندنا إنتخابات 6 من 7
- أحم، عندنا إنتخابات 5 من 7
- أَحم، عندنا إنتخابات 4 من 7
- أَحم، عندنا إنتخابات 3 7
- أَحم، عندنا إنتخابات 2 7


المزيد.....




- بآلاف الدولارات.. شاهد لصوصًا يقتحمون متجرًا ويسرقون دراجات ...
- الكشف عن صورة معدلة للملكة البريطانية الراحلة مع أحفادها.. م ...
- -أكسيوس-: أطراف مفاوضات هدنة غزة عرضوا بعض التنازلات
- عاصفة رعدية قوية تضرب محافظة المثنى في العراق (فيديو)
- هل للعلكة الخالية من السكر فوائد؟
- لحظات مرعبة.. تمساح يقبض بفكيه على خبير زواحف في جنوب إفريقي ...
- اشتيه: لا نقبل أي وجود أجنبي على أرض غزة
- ماسك يكشف عن مخدّر يتعاطاه لـ-تعزيز الصحة العقلية والتخلص من ...
- Lenovo تطلق حاسبا مميزا للمصممين ومحبي الألعاب الإلكترونية
- -غلوبال تايمز-: تهنئة شي لبوتين تؤكد ثقة الصين بروسيا ونهجها ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالحميد برتو - محو العراق (7) الأخيرة