أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالحميد برتو - محو العراق (5)















المزيد.....


محو العراق (5)


عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)


الحوار المتمدن-العدد: 7039 - 2021 / 10 / 6 - 17:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


فرض الرقابة على المدنيين

يبدأ هذا الفصل بإقتباس من الرواية الموسومة (1984)، للكاتب البريطاني جورج أورويل (1903 ـ 1950). ربما الهدف من الإقتباس وصف الأمر المراد للشعب العراقي، من قبل الولايات المتحدة الأمريكية الساعية، الى التفرد بقيادة العالم بأسره.

لا مَندوحة من الإشارة هنا، الى أن كتاب "تدمير العراق" كان غنياً بمثل هذه الإشارات والإقتباسات المعبرة عن الهواجس والأحكام الإنسانية أيضاً. هي بمعنى ما إضافة للقارئ ليرى جوانب من الأسس، التي يستند عليها المؤلفون في تشريح الحالة العراقية دون مواربة.

توقف الكتاب عند مصطلح "اللاشخص" في رواية جورج أورويل "1984". فُسر "اللاشخص"، بأنه كل مَنْ تعد الدولة، أنه لم يوجد على الإطلاق. وهو شخص يمكن لمجرّد وجوده، أن يهدد الوضع القائم. وقد أعطى الغرب على نطاق واسع هذه المرتبة الغامضة للعراقيين: "اللاشعب" الذي ـ بتعابير المؤرخ البريطاني مارك كورتيس ـ "يُعدُّ عديم الجدوى ويمكن الإستغناء عنه في البحث عن السلطة والكسب التجاري".

هذا الإقتباس يكتسب أهميته، من كون الرواية "1984" تحظى بمكانة مرموقة على المستوى العالمي. وعلى الصعيدين السياسي والشعبي. تقدم الرواية صورة مثيرة عن تبادل الإتهامات بين الأطراف المتصارعة على النفوذ والربح التجاري. تنطلق أحداث الرواية في عالم متخيل. ولكنه غير بعيد عن عالم الواقع القائم.

تجري بين أطراف الصراع الرئيسية عمليات تبادل فج للإتهامات، مثل: استعمال الأساليب غير الأخلاقية، تلفيق الأخبار، التجسس على الآخرين، إخفاء المعلومات، وما الى ذلك. كما إن وصف "الأخ الكبير" في الرواية يُعبر بدقة عن قيادة الفرد لكل شيء. يسيطر على كل شيء. يتجسس على أدق التفاصيل في حياة المواطنين. هو في الوقت ذاته ربما موجود أو غير موجود. إنه قائد "أوشينيا" إحدى ثلاث إمبراطوريات تهيمن على العالم بأسره.

تتوالى أحداث الرواية في مدينة لندن، ضمن عالم روائي خيالي. إنقسم العالم فيه إلى ثلاثة دول عظمى: "أوشينيا" التي تضم بريطانيا والأمريكتين وأستراليا ونيوزيلندا. روسيا التي تحتل القارة الأوروبية لتشكل دولة عظمى ثانية، أما الصين فتحتل اليابان وبقية آسيا مُشكّلَةً دولة ثالثة.

تحل الحروب بشكل دوري بين القوى العظمى الى جانب القمع الداخلي الشديد. تُحول تلك الأوضاعُ الحالةَ الاقتصاديةَ الى حالةٍ سيئة للغاية، حيث النقص الدائم في المواد الغذائية والملابس، إلى درجة أن الكثير من الناس يسيرون حفاة. يحكم "أوشينيا" (الغرب) شخص يدعى "الأخ الكبير" لا يعرفه الناس إلا عن طريق إظهار صورته في أجهزة الإعلام الرسمية، التي تعرض صوره بكثافة شديدة. فالحياة العامة تمثل أبشع دكتاتورية تفوق التصور، في قسوة القمع وخراب كل قيم الحياة. يا لبشاعة الأخ الأكبر.

يُمثل أختيارُ الكتابِ للرواية "1984"، كمدخل لهذا الفصل إختياراً موفقاً للغاية. إنها واحدة من إجمل الروايات المعبرة، عن روحية وسلوك النزعات الشمولية وروح التسلط والهيمنة. تجلى الإبداع بختيار الشعارات المعبرة عن التسلط بإطاره المحلي والكوني، من خلال هذه الشعارات الرئيسية: (الحرب هي السلام، الحرية هي العبوية والجهل هو القوة). هنا يتجسد أيضاً الإحتقار الكلي للقيم، من خلال تصوراتهم المرضة القائلة: (لن يثوروا إذا لم يعوا! وهم لن يعوا، حتى إذا ثاروا).

لم يقف الكتابُ عند حد الوصف للحالة المزرية، بل قدم مبررات لتقديراته تلك بالقول: لم تأتي هذه التسمية عرضاً. فالصمت الإعلامي والحكومي المحيط بالشتات العراقي وبالضحايا البشرية للعدوان الأمريكي، هو جزء من خطة إقصاء منسقة. وعلى المرء دراسة الآليات الموضوعة للتمكن من وضع حد لهذا الصمت.

موضوعية مؤاتية
نظر الكتابُ في الأثر الذي تركه مقال ضابط البحرية الأمريكية في الشؤون العامة الرائد أرثور أ. همفريز حول الأسس، التي ينبغي أن تعتمد خلال زمن الحرب. صاغ ذلك المقال الذي نشرته مجلة المعهد الحربي البحري تصوراً عن مشكلات الصحافة الأمريكية.

مهد المقال الطريق أمام وزارة الدفاع الأمريكية، لفرض قواعد تقيد حرية الصحافة. فرضت وطبيقت تلك القواعد خلال النزاعات منذ غرانادا عام 1983 والحرب على العراق عام 2003 الى يومنا هذا.

يرى همفريز بأن الإعلام الأمريكي، قد خسر الحرب في فيتنام من خلال إحباط المواطنيين الأمريكيين. يشير تحديداً الى مشاهد الجنود الأمريكيين الشباب الجرحى والمشوهين بالألون الحية. يعترف بأن إتساع نطاق وسائل الإعلام قد عقد المشهد، ولكنه قدم تجربة يدعو الى الأخذ بها. أعتبر همفريز أن بريطانيا قدمت نموذجاً حياً خلال حرب الفوكلاند عندما فرضت سيطرتها التامة وتحكمها الكامل بالمعلومات على الإعلام. عندما نقلوا 29 صحفياً الى الجزيرة الواقعة جنوب الأطلسي وتحكموا بتنقالاتهم وإستبعدوا المراقبين المنتقدين من الساحة، وتحكموا بمقالات المراسلين والبرقيات قبل إرسالها.

أعرب همفريز عن إستيائه لإتاحة الفرصة أمام الإعلام لنقل مشهد إعدام جندي على طريقة فيتنام الجنوبية في داخل بيته. والإستياء لم يكن من جريمة الإعدام الكيفي، إنما من أن تصل هذه الحقيقة الى الرأي العام العالمي والأمريكي. تفاخر همفريز بالطريقة البربطانية، التي تركز على شحن الروح الوطنية وإخفاء المشاهد المقززة والإجرامية. هو يحبذ تمرير جزء من الحقيقة وليس الإخفاء التام.

يريدون من الإعلام أن يكون وسيلة لتعزيز المعنويات على حساب الحقيقة. أي إدراج الإعلام في وسائل تنظيم الحرب وتحويله الى أداة ووسيلة بل سلاحاً في مواصلة الحرب النفسية.

إدارة غرانادا وبنما وحرب الخليج الأولى
وصفت الجمعية العامة للأمم المتحدة إجتياح الولايات المتحدة عام 1983 لغرانادا بالإنتهاك الفاضح للقانون الدولي. أطاحت القوات الأمريكي من خلال الغزو برئيس حكومة غرانادا الماركسي هدسون أوستن. أغلقت الولايات المتحدة الباب أمام الإعلام لمدة يومين. منعت بقوة السلاح حتى بعض الصحفيين، الذين غامروا بإستجار قوارب وطائرات لمتابعة التطورات. تم احتجار الصحفيين وصرح الأميرال جوزف متكالف، قائد البحرية الأمريكية المنتدبة لتلك المهمة، بقوله: هل يحاول أي منكم أيها الفتيان المجيء في مراكب صحفية؟ أنا أعرف حقّاً كيف أوقف تلك المراكب الصحفية.

بعد تجربة جزيرة غرانادا، أنشئت لجنة لشؤون الصحافة في البنتاغون، تسمح لمجموعة صغيرة من الصحفيين بمرافقة الجنود الأمريكيين. وعند الغزو الأمريكي عام 1989 لبنما أتبع ذات النظام المعروف بنظام التجمع. استخدم نظام التجمع في عام 1991 بحرب الخليج لتصوير "حرب نظيفة" قليلة الإصابات. من المعلوم أن 1400 صحفيين حضروا الى السعودية، ظل معظمهم في الفنادق بالرياض والظهران. شارك 100 صحفي منهم بعيداً عن المواقع الفعلية. ونصف هؤلاء ظل مع الضباط الأمريكيين. يُقدم الجزءُ الأساسي عن الحرب من خلال إيجار عسكري يومي في الفنادق.

أعرب مئات الصحفيين عن إرتيابهم من المعلومات المقدّمة إليهم وإعتماد نظام الأفلام، كأن المعركة لا تضم عناصر بشرية. جن جنون المراقبين العسكريين عندما سمح أحد الضباط بتسريب مشهد رشاس أحدى الطائرات المروحية الأباتشي يطلق النار، والناس تتراكض بكل الإتجاهات، في مشهد رعب ينطبق بشيء عن المأساة. وعند الضرورة يقولون: "أضرار جانبية".

سيف ذو حدَّين
لم تجد الإصابات بين المدنيين نتيجة رسمية لها في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب. إن عدم إعارة أي إهتمام لتشويه المدنيين وقلتهم هو وجه آخر للإرهاب. وهو موقف معيب بكل المعايير.

تبجح البنتاغون بعد حرب الخليج الأولى، بأنه سينفتح أمام الصحافة. هذه الكذبة جرى إبتلاعها فور بدء عملياته في أفغانستان. عند إجتياح الولايات المتحدة أفغانستان، هدد الوزير دونالد رامسفلد بملاحقة كل مسؤول يسرّب معلومات عن الهجوم الى الإعلام. بذلت جهود كبيرة لإخفاء الجثث الملقاة على الأرض. فرضت من جديد سياسة توزيع صور منتقاة من قبل البنتاغون. هذا الى جانب تقديم إيجار عسكري يومي على غرار حرب الخليج.

يذكر أن مراسل سي. إن. إن والت رودجرز قال:"تمتعنا في تغطية العمليات السوفياتية في أفغانستان بحركة أكبر". حشر الصحفيون في قاعة بمعسكر باغروم يتلقون فيها إيجازاً يومياً. حرم عليهم مشاهدة المناطق، التي تتعرض للقصف. عند أي محاولة للتعرف المباشر يهددون بإطلاق النار.

شملت التهديدات الأمريكية حتى القنوات العربية، التي تغطي إجتياح أفغانستان. بلغ التنديد الأمريكي حد مساواة الشبكات والقنوات العربية بالإرهابيين أنفسهم. تزايدت التلفيقات والإتهامات الرقابة بعد 11 أيلول/ سبتمبر. إرتفعت حمى محاولات رفع الروح الوطنية الأمريكية لتمرير كل يسعى إليه البنتاغون.

خلقت إدارة بوش الإبن جواً من الرقابة الذاتية في وسائل الإعلام الأمريكية. بدا بعضهم كأنهم ناطقون بإسم الحكومة. عانت الأصوات، التي تحترم نفسها وخبراتها المديد وقيمها الشخصية كثيراً. تم إبعاد أهل الرأي وتقريب مَنْ يسبح بسياسة الإدارة.

برز في هذا الوقت والمناخ صوت هيلين توماس، أقدم صحفية في البيت الأبيض. طرحت أسئلة صعبة وأساسية على الرئيس الأمريكي بوش الأبن. تناولت في إسئلتها: مبررات الحرب وعدد القتلى والإصابات الدائمة في صفوف الجنود الأمريكيين والعراقيين. أكدت توماس إصرار الرئيس الأمريكي على إحتلال العراق منذ أن وطأت قدماه البيت الإبيض.

تساءلت هيلين توماس عن الأسباب الحقيقية للحرب. كان سؤالها واضحاً: قلت السيد الرئيس ليس النفط وليس إسرائيل فما هي الأسباب إذاً؟ هنا شن الصحفيون المحافظون هجمات متوحشة على هيلين توماس. كما إن حماستهم الوطنية أفقدتهم حتى التمسك الشكلي بأدب الصحافة والتمظهر بمظهر الموضوعية.

إن القيم الحضارية تتجسد في السلوك الفعلي. فجاء قول هيلين توماس، وهي العالمة ببواطن الأمور، ليؤكد بأن الجسم الصحفي في البيت الأبيض، بدأ يعاني من "الخوف من أن يصبحوا لا أمريكيين ولا وطنيين". أضافت: "يفترض بنا، في النهاية، أننا شعب مطلع. يمكننا التعامل مع الحقيقة". لم تبخل الإدارة الأمريكية بكل أنواع الجهود من أجل زرع وهم أن حربها في العراق حرب "نظيفة".

آفاق مُلحَقة
تحدث البنتاغون خلال الغزو عن عراق خال من الدماء. قام بالحاق الصحفيين مع الجنود في مهمتهم. ليقول البعضُ إن البنتاغون وفر أفضل إطلاع من الحرب الفتنامية. لكن البنتاغون لم يوفر لهم فرصة الإطلاع المباشر والتجوال المستقل. ارتدى الصحفيون الملابس العسكرية والستر الواقية للتماهي مع الجنود. إن أكثر من دراسة جرت في الأعوام 2006 و2007 على نشاطات الصحفيين أظهرت إنحيازهم للبنتاغون وتصوراته عن الحرب. ولم تغطي تلك التقارير سوى 12% من الإصابات، التي وقعت في صفوف المدنيين بالمقارنة مع الصحفيين المتمركزين في بغداد.

إن الصحفيين المستقلين في بغداد إستخدموا مصادر عراقية أكثر بثلاث مرات من الصحفيين المُلحقين. كتبوا مواضيع عراقية ذات طابع إنساني أكثر بأربع مرات من الصحفيين المُلحقين. هؤلاء لهم قصب السبق في النشر في الصحف الأمريكية الأساسية بنسبة تزيد عن 70%. لا يخلو الوضع من صحفيين عاشوا بين الجنود الأمريكيين، ولكنهم تحسسوا آلام العراقيين.

يشير الكتاب بالإسم الى الصحفي إيفان رايت، الذي لم يستطع خيانة أمانته المهنية. يعرض كيف تغوط جندي أمريكي دون حياء أمام نساء كبيرات بالسن، يقفن أمام أكواخهن الطينبة متشحات بالسواد. ووصف رايت وضع القتلى بعد هجوم المارينز على الناصرية، حيث الجثث مرمية على الطريق المؤدي الى خارج المدينة. شوهت القافلة العابرة جثث القتلى، الذين خرجت أمعائهم عن جثثهم.

مر رايت الذي يرافق القوات الأمريكية، خلال زحفها الى بغداد، بباص مسحوق ومحترق مع بقايا إنسانية متفحة، تجلس منتصبة عند بعض النوافذ. رجل ممدد على الطريق مقطوع الرأس وفتاة قتيلة في الثالثة أو الرابعة مطروحة على الطريق ومقطوعة ساقها. هذه مجرد صورة أولية عن الأضرار الجانبية.

رقابة ذاتية جماعية
ذكر كتاب "محو العراق"، بأن إعمال الصحافي إيفان رايت جُمعت في كتاب، تحت أسم "جيل القتل". جاءت فيه حادثة تتعلق بقتل المدنيين العراقيين. يذكر أن سائق إحدى السيارات عام 2005 لم يتوقف عند إطلاق الطلقات التحذيرية على سيارته في تل عفر. أطلق الجنود الأمريكيون النار على السيارة. ذهب ضحية الحادث أم وولدها، لكن أطفالها في الخلف لم يصابوا. أحد المصورين سجل صراخ وهلع الأطفال بعد قتل والدتهم وأخوهم. الضابط المسؤول لم يمنع إرسال التسجيل، ولم ينشر لأن الوقت تأخر.

يضرب على سبيل المثال، حادثة قتل عشرة أشخاص، خمسة منهم أطفال دون الخامسة. تم قتلهم دون إطلاق طلقات تحذيرية. جرى تأخيرالإرسال مما حال دون النشر. تقول رواية البنتاغون: إن الباص لم يتوقف، على الرغم من الطلقات التحذيرية، وواصل تقدمه. لقد تتضارب المعلومات في المصادر الأمريكية نفسها عن كل حالات القتل. كما جرى تجاهل مقتل 60 مدنياً في منطقة الشعلة ببغداد. إستمر الإعلام الأمريكي يردد كالببغاء، ما يصدر عن البنتاغون. بل جرى تعمد في عدم نشر صور الجرحى والمشوهين من الجنود الأمريكيين. هذا الى جانب خلق أجواء الرقابة الذاتية.

طرد برادلي بروكز مراسل الأسوشيتدبرس في 2008 من شمال العراق لمجرّد تحدّثه مع جنود ينقلون النعوش من آلية "هامفي" الى طائرة متوجهة الى الولايات المتحدة. وهو، بحسب مسؤولين في البنتاغون، خالف التعليمات الجديدة. في حالة تململ أي صحفي توجه له تهمة، بأنه وفر معلومات فعالية عن هجوم ما، مما يضر بأمن الولايات المتحدة.

احملوا أفكارنا
جرى تبادل الإلحاق بين الجيش والإعلام. نظم البنتاغون قبل أن يشرع بالإحتلال أعمالاً خفية، لتضليل الرأي العام المحلي. ضم برنامج "المحلل العسكري" نحو سبعين جنرالاً، ممن يتعاونون مع الوزارة بأعمال تجارية ومهنية. يتلقى هؤلاء من محركيهم في وزارة الدفاع، إيجازات عن مواضيع نقاش مختلفة، تصب في قناة مصالح الوزارة، عبر إنتحالهم صفة المحلل المستقل. يطرحون أفكاراً زودهم بها مسؤولوهم. هؤلاء المسؤولون هم ضباط في الوزارة، يسعون لتمرير وتسويق تلفيقات مصنعة بعناية.

بات هؤلاء يُقصدون من قبل وسائل الإعلام، ليس في المواضيع الطارئة، إنما في صياغة الرأي ويؤثرون فيه أيضاً. قاموا بإجتثاث بقية الصحفيين الأكثر ميلاً للحرية والبحث من الشكبات الأساسية. تم الإستشهاد بهم أكثر من 4500 مرة في الوسائل الرئيسية التلفار والإذاعات الرئيسية.

تبنى البنتاغون إدارة التصور عن الحرب ورسم صورة الأوضاع، حيث يكون فيه القصف الأمريكي سريع وفعال، ودون إراقة دماء في العراق وأفغانستان. كما لجأ البنتاغون الى سحب أفلام أخرى أقرب الى الواقع من اليوتيوب. ليس هذا حسب، إنما جرى تقديم ندوات الطاولة المستديرة للمدونين، ولكنها ضمت عملياً المتعاطفين مع البنتاغون فقط.

ترتيب الفلوجة
نجح البنتاغون في جعل الإعلام الأمريكي والشبكات الإخبارية الأمريكية، ولحد ما إعلام وشبكات حلفائه، بأن يحمل أفكاره وتصوراته ورؤيته، لكن الفشل جاء من جهة غير متوقعة، ألا وهو الإعلام العربي. ربما من حيث لا يعلم ذلك الإعلام بما أراد البنتاغون إخفائه من حقائق، أو صَدَّقَ بعضُ المراسلين والمسؤولين، ما كان يروج له الإعلام الأمريكي حول قدسية حرية الصحافة.

تسرب الى موقع "ويكيليكس" تقرير إستخباري للبنتاغون مهر بعبارة: "سري/ لا يوزع على حلفاء الولايات المتحدة". ينسب جزءاً من فشل معركة الفلوجة الأولى في نيسان/ أبريل 2004 الى تسريبات الإعلام العربي، الذي له أمتدادات دولية ـ الجزيزة. يذكر أن تلك المعركة قتل خلالها 600 ـ 800 مدني، بينهم 300 من النساء والأطفال، وشرد مئات الألاف من سكان المدينة.

يصف الكتاب الأسباب التي أدت الى المعركة، حيث يُرجع الأسباب الى دخول الفرقة العسكرية الأمريكية 82 المحمولة جواً في نسيان/ أبريل من عام 2003 الى مدينة الفلوجة. إحتلت الفرقة مدرسة وإتخاذها مركزاً للقيادة. منع الطلاب من دخولها. فتح الجنود في 28/ نيسان/ أبريل النار على الطلبة المتظاهرين المطالبين بإخلاء مدرستهم. قتل الجنود الأمريكيون أكثر 12 طالباً متظاهراً، وجرحوا نحو 75 آخرين. بعد يومين قُتل ثلاثة أشخاص وجرح 16 آخرين، من الذين تظاهروا إحتجاجاً المجزرة السابقة.

يستشهد الكتاب بتقرير لمراسل الديلي ميرور، كريس هيوز، الذي كان حاضراً في أحدى الحالات. سجل ما نصه: "راقبت، في إرتياع، الجنود الأمريكيين وهم يفتحون النار هنا في الباحة على حشد من ألف شخص أعزل. وقُطع الكثيرون، وبينهم أولاد، كل منهم نصفين من جراء رشقات تستمر عشرين ثانية من أسلحة رشاشة، خلال تظاهرة الإحتجاج قتل 13 متظاهراً عند مدرسة العهد". (الكتاب ص 155)

أثارت عمليات القتل إنتقاماً متبادلاً، على حد وصف هيوز. يشير كذلك الى مقتل أربعة أشخاص من الحراس الأمنيين العاملين مع القوات الأمريكية "بلاكووتر". عُلقت أجسادهم في 31 آذار/ مارس 2004 فوق أحد الجسور على نهر الفرات بالمدينة.

إعتبر المسؤولون الأمريكيون الفلوجة رمزاً للمقاومة. قرر دونالد رامسفلد ووزارته والسلطة الإئتلافية المؤقتة برئاسة بول بريمر شن هجوم فوري، لإنقاذ ماء الوجه. ضرب المارينز طوقاً حول المدينة. لم يسمحوا بمغادرتها سوى للنساء أو العجزة أو الأطفال.

بدأ الهجوم البري والجوي في 5 نيسان/ أبريل 2004 على مدينة الفلوجة. شارك فيه نحو ألفين جندي، تدعمهم أكثر من ألف غارة جوية، الى جانب القنص عن بعد. وقع مئات آلاف المدنيون بين نارين. أستمر الهجوم حتى نهاية الشهر. أعلنت القوات الأمريكية وقف إطلاق النار من طرف واحد وإنسحابها وتسليم المدينة الى الفلوجيين والجيش العراقي.

كانت الفرق الإعلامية العربية متنوعة المشارب. سجلت حسب معظم التقديرات قفزة نوعية في نشاطها كماً وكيفاً. بديهي أن تختلف درجات الإندفاع بين الصحفيين. سجل فرق الجزيزة القطرية نقطة كبيرة لصالحه، حين تسلل الى المدينة قبل فرض الحصار عليها. بديهي أن فريقها كانت له دوافع مختلفة مهنية وغيرها. إلا أن خطورة الموقف صقلت نوعية الأداء. لا يخفي رئيس الفريق أحمد منصور توجهاته. وإن المصور ليث المشتاق تطوع لدخول الفلوجة، تحت الهاجس الفني والمهني. ومما عاناه الفريق من مخاطر تحت مظلة القناصين الأمريكيين، يذكر أنهم حرموا لمدة يومين من الذهاب الى المرافق الصحية على سبيل المثال، خاصة عندما يشاهدون ضوء الليزر لبنادق القناصة.

لا شك في أن الأمانة المهنية أحياناً تقع تحت ضغوط المؤسسات التي تدير العمل. مهما كان التقويم المهني، لا يمكن إنكار شجاعة الصحفيين خلال المشاركة في نقل واقع الحرب والإحتلال. لم تكن تلك المشاركة دون دماء. خاصة أن عدد الضحايا من العاملين في حقل الإعلام، خلال العدوان الأمريكي على العراق، لغاية يوم معركة الفلوجة الأولى، قد بلغ 341 قتيلاً، حسب تقديرات مؤلفي كتاب "محو العراق". أن القصف الجوي الأمريكي إستهدف مكاتب بعض المحطات التلفزية العربية. أدى ذلك القصف الى مقتل مراسل الجزيرة طارق أيوب وجرح زميل له.

لا أظن أن أحداً ينكر النجاح، الذي حققته بعض المؤسسات الإعلامية العربية، في تغطية ووقائع إحتلال العراق. من الأدلة المؤثرة ما هتف به وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفلد: "في وسعي قطعاً القول إن ما تفعله الجزيرة آثم، غير دقيق، ولا يُغتفر... تعرفون ما تفعله قواتنا؛ فجنودنا لا يجولون في المكان يقتلون مئات المدنيين. هذا ليس إلا هراء فاضحاً. ما تفعله المحطة شائن". (الكتاب ص 160)

يعرض الكتاب بعض صبيانيات الرئيس الأمريكي جورج بوش الأبن. يشير الى أنه طرح على رئيس حكومة المملكة المتحدة توني بلير قصف مقر الجزيرة في قطر. نصحه الأخير بالتخلي عن هذه الفكرة، لأنها قد تجر الى تبعات. شنت بعض وسائل الإعلام الأمريكية حملة على الجزيرة. وواجهت الإدارة الأمريكية والبنتاغون ضغوط النشر على وسائل التواصل الإجتماعي، الذي ليس من السهل السيطرة عليه. نَشر الكتابُ شهادات مدونيين أمريكيين عن السلوك الأمريكي، الذي لم تنجو منه حتى سيارات الإسعاف.

نخلص الى نتيجة واضحة وتبرر نفسها بنفسها. تقول: إن الكذب قاعدة متينة في السلوك الإستعماري، القديم منه والجديد، وعلى مستوى المؤسسات والأشخاص والنظام الإجتماعي ككل.

ظهرت في فترة الأخيرة، أثناء إعداد هذه المادة، فضحية شخصية مجللجة لتوني بلير (رئيس حكومة المملكة المتحدة عشية وخلال العدوان على الشعب العراقي عام 2003) تصب في الإتجاه المشار إليه. وهي المصافة الثانية خلال أيام كتابة هذا الموضوع، ففي الأولى كانت مع بوش، حين خاطبه أحد الجنود الأمرييكين، ووصفه بالقاتل والكذاب. نشير اليوم الى مصادفة أخرى مع بلير.

نشر الإتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية الأحد الماضي تحقيقاً حول السرية المالية، بناءً على ملايين الوثائق المسربة من جميع أنحاء العالم، أطلق عليه "وثائق باندورا". إن تلك الوثائق ثمرة عمل أكثر من 600 صحافي في 117 دولة. يفضح التحقيق العديد من زعماء الدول والحكومات، من بينهم توني بلير، الذي أرسل جنوده لزرع القيم الرفيعة في العراق بعد إستباحته. وهي في الواقع مجرد رغائب في الربح التجاري الذي يوزن بالدماء.

حسب ما نشرتهBBC في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2021: "تظهر أسماء حوالي 35 من القادة الحاليين والسابقين، وأكثر من 300 مسؤول حكومي، في ملفات الشركات، التي تتخذ من الملاذات الضريبية مقرا لها، وهي الملفات التي يطلق عليها اسم وثائق باندورا. جاء عبر BBC: "كما أوضحت الوثائق كيف تمكن رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير وزوجته من التهرب من دفع 312 ألف جنيه إسترليني، من رسوم الدمغة عندما إشتريا مكتبا في لندن. فقد اشترى الزوجان شركة تتخذ من ملاذ ضريبي مقرا لها، وتلك الشركة تملك المبنى".

وأخيراً، إن التحايل وطمس الحقائق والإستهانة بحقوق وكرامة الشعوب الأخرى، عند قادة دول الهيمنة، مبدأ ووسيلة في الإعلام والإدارة وإسلوب الحياة. لا يتورعون عند الضرورة من اللجوء إليها في بلادهم نفسها.

يتبع: محو العراق (6)



#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)       Abdul_Hamid_Barto#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محو العراق (4)
- محو العراق (3)
- محو العراق (2)
- محو العراق (1)
- مرحلة العجب العجاب
- وداعاً أبا سامر - كاظم حبيب
- هوامش عابرة على سياسةِ اليوم
- أَعَرَبٌ أَنتم؟!
- المجد للأول من آيار
- البصرة وصورة الأمس
- أَحم، عندنا إنتخابات 7 من 7 (3)
- أَحم، عندنا إنتخابات 7 من 7 (2)
- أَحم، عندنا إنتخابات 7 من 7 (1)
- أَحم، عندنا إنتخابات 6 من 7
- أحم، عندنا إنتخابات 5 من 7
- أَحم، عندنا إنتخابات 4 من 7
- أَحم، عندنا إنتخابات 3 7
- أَحم، عندنا إنتخابات 2 7
- أَحم، عندنا إنتخابات 1 ـ 7
- سَمْتُ الإنتفاضة العراقية


المزيد.....




- مادة غذائية -لذيذة- يمكن أن تساعد على درء خطر الموت المبكر
- شركة EHang تطلق مبيعات التاكسي الطائر (فيديو)
- تقارير: الأميرة كيت تظهر للعلن -سعيدة وبصحة جيدة-
- عالم روسي: الحضارة البشرية على وشك الاختفاء
- محلل يوضح أسباب فشل استخبارات الجيش الأوكراني في العمليات ال ...
- البروفيسور جدانوف يكشف اللعبة السرية الأميركية في الشرق الأو ...
- ملاذ آمن  لقادة حماس
- محور موسكو- طهران- بكين يصبح واقعيًا في البحر
- تونس تغلق معبر رأس جدير الحدودي مع ليبيا لأسباب أمنية
- ?? مباشر: تحذير أممي من وضع غذائي -كارثي- لنصف سكان غزة ومن ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالحميد برتو - محو العراق (5)