أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - مهند طلال الاخرس - هداية وحكاية الحزن الذي لا ينتهي..















المزيد.....


هداية وحكاية الحزن الذي لا ينتهي..


مهند طلال الاخرس

الحوار المتمدن-العدد: 7023 - 2021 / 9 / 18 - 00:05
المحور: سيرة ذاتية
    


في المخيم حيث ولدت ونشأت مجتمع شرقي تسود فيه قيم الذكورة على الانوثة، بحيث اصبحت هذه القيم هي المحدد الرئيسي في ابراز صور العلاقات الاجتماعية ومخرجاتها والتي بدورها كانت تطغى في وجودها على كل همسة او لمسة تحمل طابع الانوثة في المخيم، ليس هذا وحسب بل وتحجب اسهامات تلك الانوثة وتجعلها على هامش المجتمع حتى كادت الانوثة ان تصبح نسيا منسيا وكأنها تعيش على هامش حياة المخيم وبشكل منعزل عنه، رغم انها كانت وطيلة حياة المخيم تتحمل القسط الاكبر من اعبائه واحزانه.

في المخيم حيث ولدت كانت تلك الصفة الذكورية بالاضافة الى كثير من العادات الاجتماعية والمعتقدات الدينية الخاطئة والاعراف البالية هي السبب الرئيسي في تغييب دور النساء وحجبه عن التواجد في سيرة المخيم، وهذا كله لا ينفي طبعا تمكن بعض النساء والصبايا من تسطير اسمائهن في طليعة العمل الوطني والنضالي عبر سيرة المخيم وسنوات عزه ومجده.

المهم ان تلك الاسباب مجتمعة كان لها الدور الاكبر في التعتيم على دور الانثى وبالتالي في انتاج وتدوين دور النساء في سيرة المخيم، وهذا بدوره حرمها من ابسط الحقوق حق الوجود وبالتالي تحييدها وصولا لتغييبها عن دورها الاساسي والتشاركي في بناء المجتمع.

هذا التغييب لدور الانثى في المخيم انتج صورة نمطية لها فانحصر دور الانثى في اعمال المنزل ومشوار المدرسة، وكانت حياة الفتيات من الجيل الثاني في المخيم تتمحور حول هاتين المهمتين، وكاد ان يختفي العنصر الانثوي من التواجد في مختلف اوجه الحياة وتفاصيل المخيم، وحدهن الفتيات التي لم تتجاوز اعمارهن سن الطفولة كن يكسرن هذه المظاهر، فبين اوقات الانزواء في المنزل والذهاب الى المدرسة كن هؤلاء الفتيات مع اقرانهن من الذكور يكسرن تلك الرتابة التي تمتليء بها حارات المخيم.

تلك الحارات كانت منسية وتجاوزها الزمن إلاّ من بسمات تلك الطفولة البريئة التي ترسم اول ملامح النصر والتحرير والعودة.

كان للاطفال العابهم الخاصة وكذلك الفتيات، لم يكن الاختلاط مسموحا او عاديا حتى بين الاطفال، كانت الفتيات يملئن الشوارع حبا وحيوية، ويضفن على جنباته دفئا لم ينازعهن فيه إلا قوارير الريحان والعُطرة والجوري التي تسيج حيطان المخيم المتداعية، هذا الجيل الثاني من نساء المخيم ترافق ولادته مع نمو وزراعة اول اشجار الياسمين في المخيم.

في المخيم كانت العاب الطفولة فيها تمايز بين الذكور والاناث؛ فبينما كانت العاب الاطفال الذكور تراعي البنية العضلية والفكرية للاولاد، كانت العاب الاناث تراعي طبيعة الانثى واحتياجاتها كذلك.

وبينما كانت العاب الذكور غنية ومتعددة ومتنوعة وتأخذ مسميات مختلفة كالغماية والزقيطة والخارطة والديك الاعرج وطبة الشرايط والفطبول والشحف والعصا والحجر والعجل والدحول والقلول وعرباية السلوك والبيليا والفنة ولفقر الحال ولافتقادها لابسط مقومات الحياة في المخيم تم اختراع وابتداع الكثير من الالعاب النابعة من الغريزة والناشئة من ظروف المخيم.

بالنسبة للذكور تم تطويع بعض صور العنف لتأخذ صورة الالعاب مثل المكاسرة والمباطحة والمناطحة والجري لمسافات بعيدة غير محددة، وكان المحدد فيها قدرة الجسد على الاحتمال لا غير، ففي مثل هكذا العاب كان الجسد او القدم او اليد هو من يأخذ قرار انتهاء اللعبة وليس العقل.

بالنسبة للفتيات كانت العابهن محصورة بالحجلة والحبلة ودار دور (وهن اشهر الالعاب) وكانت العاب اخرى تمارسها الفتيات وان بصورة اقل كالكف والسبع حجار والزقيطة والغماية. كانت العاب الفتيات تتلائم مع شخصياتهن وتحدد مهامهن المستقبلية بشكل اكبر.

كان المخيم فقيرا في كل شيء حتى في حصة اطفاله من الفرح...

مع الايام وكثرة الخيبات وتوالي النكبات بدأت استشعر بأن للفتيات دورا اصبح اكبر...

كانت اولى حلقات الاستشعار قد تلمستها في بيتنا، فوالدتي موظفة وتعمل مديرة لمدرسة مخيم البقعة الثانوية للاناث، وهذه الوظيفة وفي تلك الظروف وذلك الزمن كان لها تبعاتها واعبائها التي لا تنتهي.

كانت الحلقة الثانية شقيقات ابي وظروفهن الاجتماعية، لكن كان الاهم هو ذلك الدور الذي ابتدعته عمتي انتصار وشكل فارقة في حينه، فعدا عن انها متعلمة ومثقفة كانت ذو امتداد وعلاقات اجتماعية واسعة وممتدة، والاهم من هذا وذاك انها كانت ذو شخصية وازنة ومتزنة ومتميزة.

الحلقة الثالثة كانت نسوة اعمامي الثلاث، اذ كانت اثنتين منهن من اختيار والدتي، كانت والدتي محط ثقة وتقدير كبير من جانب جدتي هيجر، كانت جدتي قد اوكلت مهمة انتقاء عروس ابنائها لوالدتي، لم تكن جدتي منهمكة بالتفاصيل، كانت وصيتها الوحيدة ان تكون موظفة وفي سلك التعليم حصرا، وهذا ما كان.

الحلقة الرابعة كانت الاستاذة هداية، وهداية كانت حكاية لوحدها، فهي صديقة والدتي وتعمل معلمة وزميلة لها في نفس المدرسة(البقعة الثانوية للبنات)، ومع الايام نشأت بين الصديقتين علاقة اسرية قوية امتدت وتشعبت وتفرعت حتى شملتنا بكل تفاصيلها.

كانت هداية تسر لوالدتي بذكرياتها واسباب سرعة نبضات قلبها كلما جائت سيرة شهر ايلول لاي سبب كان، كان رائحة ايلول مجبولة بالدم بالنسبة للفلسطيني حيث كان..، لم تكن هداية مستثناة من هذه الرائحة ومن تداعي الذكريات...
وحدها الايام وذاكرة والدتي ومسامعي الصغيرة اختزنت تلك الذكريات وحفظت تلك النبضات...

كانت اهل هداية على موعد لخطبتها، جاء الموعد ولم يأتي ذلك الشخص، بعد السؤال جاء الجواب، استشهد ذلك الشخص في احداث ايلول الاسود 1970 في الاردن، ثم جاء آخر في ايلول الذي يليه، وانقطعت اخباره ولم يعد، لتكتشف لاحقا بان النظام الاردني حكم عليه بالاعدام وبأنه تمكن من اجتياز الحدود والفرار خارج البلاد، لحقت به هداية برفقة اخيها، اذ كان هو الاخر محكوم بالاعدام ايضا، عُقد قران هداية بمباركة اهلها وبحضور اخيها ثم عادت لعمان لاتمام بعض الامور والتجهيزات، وبقي اخيها وخطيبها مع الفدائيين في المنفى.

في هذه الاثناء صدر عفو عام في الاردن، فتقرر ترتيب موعد الزواج في عمان، اقلعت باتجاه عمان طائرة من ليبيا تقل العريس وآخرين من العائدين ممن التحقوا بركب الثورة لم يكن من بينهم اخيها.

ضُربت الطائرة بالجو واسقطت فوق صحراء سيناء واستشهد كل من فيها، لم تكترث اسرائيل بتلك الفعلة الشنيعة، فقد اعلنت انها خلصت العالم من مجموعة من الارهابيين.

حدت هداية وقدت وطرحت بفكرة الزواج في غياهب الجب، ومرت الايام وطال مكوث هداية في بيتنا، اصبحت ملازمة لوالدتي اكثر واكثر، واصبحت تمضي جل وقتها في بيتنا، ومع الايام اصبحت هداية جزءا من تفاصيل حياتنا.

كان بيتنا متنفسها الوحيد واتقنت والدتي ذلك الدور واجادت.

في احد الايام زارنا في الصباح الباكر والد هداية الحاج ابو لبيب وزوجته، حين عادت والدتي كانت برفقتها هداية، اخبرتُ هداية بأن اهلها قد غادروا قبل قليل، وسريعا تنبهت لعلامات المفاجأة التي تعلو وجهها هي وجدتي معا، واخذت اجول بنظري حول وجوه الاخرين لاستوضح الامر... لكن فاجئتني تلك المقشة التي انطلقت من يد جدتي باتجاهي وخلفها سيل من الشتائم واللعنات، نجحت بتفادي المقشة ولم يكن بالامكان تفادي سيل الشتائم واللعنات ، وفي ظل تعجبي واستغرابي من تصرف الجدة واستماعي الى موشحها الذي لا ينتهي من الشتائم واللعنات، غافلتني جدتي وانطلق من يدها ما كان اصلا في قدمها (مشاية) وهو حذاء جدتي البلاستيكي صاحب الدروب الطويلة والمآرب الكثيرة، نجحت المشاية باصطيادي، فقد تمكن مني غضب جدتي وعيونها، فأوقعتني المشاية ارضا...

استوضحت هداية عن الامر، وسألت شو القصة يا حجة؟ فرشت جدتي الحصيرة وطلبت من هداية الجلوس لحين تجهيز بكرج الشاي.

في المطبخ لحقت بها والدتي واستفسرت عن الامر، اخبرتها جدتي بطلب اهل هداية، كان طلبهم يستهدف من عائلتنا جميعا اقناع هداية بالعدول عن فكرة عزوفها عن الزواج.

تفهمت هداية الامر، وقالت موجهة الحديث لوالدتي لقد تقدم لخطبتي جمال وهو شقيق خطيبي الشهيد.

شعرنا جميعا بسعادة والدتي، وكان اثر تلك السعادة باديا على قبلات والدتي التي غمرت وجه هداية وهي تقول لها الف مبروك.

صعقتنا هداية حين اخبرتنا انها لن تتزوج بعد خطيبها الشهيد، فمن مثل الشهيد يا ترى يكون؟

غيم جو من الحزن والصمت الرهيب قطعته والدتي بطلبها من هداية تغيير ملابسها والتجهز لتحضير طعام الغداء...

بعد سنوات اقتنعت هداية بفكرة الزواج، كان العريس هو نفسه شقيق الشهيد، لقد تقدم بطلب يدها مرة اخرى، سُرت هداية باصراره وبقاءه عازبا طيلة تلك الفترة، لكن ذلك لم يكن السبب الوحيد، كانت هناك اسباب اخرى تدخلت لتحدث الامر المطلوب، كان من اهم تلك الادوار ذلك الدور الذي قام به ياسر عرفات!!

كانت اسرتي محظوظة بأمور كثيرة، كان احدها ان في بيتنا هاتف، وذلك امر ليس بالسهل في ذلك الوقت، كان ياسر عرفات قد تحدث الينا في بيتنا، كانت مكالمة عائلية دافئة كلفت كل اصحابها كثيرا من الدموع ...

في تلك المكالمة تم الاتفاق على كثير من التفاصيل بخصوص هداية، كانت هداية هي سبب الاتصال ومحور الحديث، طلب ياسر عرفات تسخير كل الجهود لحمل هداية على العدول عن فكرة العزوف عن الزواج، ومن اجل حملها على الموافقة على طلب جمال (شقيق الشهيد) بالاقتران بها...

تسابق الجميع لتلبية طلب الختيار وبأخذ الامور على عاتقهم، فرح الختيار وتعالى صوته وامنياته بان يتكلل الموضوع على خير ما يرام، وتصاعدت التحيات والسلامات للختيار من الجميع كان ابو هداية من بينهم، وحدها والدتي من تجرأت على امساك سماعة الهاتف من يد ابي وبإخبار الختيار بحقيقة الموقف، كانت والدتي أخبر الناس وادراهم بهداية وبما يجول بخاطرها...

صارحت والدتي الختيار بحقيقة الموقف، طلب الختيار من والدتي الضغط على هداية، اخبرته بأن امثال هداية صعب المراس وبأن حملها على الموافقة امر في غاية الصعوبة، استوضح الختيار عن سبب تلك الصعوبة، اجابت والدتي بأن قلب هداية مجروح ومنكسر، فقد غزاه الحزن، لا سيما ان قلبها تعلق بمن مضوا الى عليائهم وبقيت هي مكسورة الجناح والخاطر...

حارت العيون واغرورقت بالدموع، وبدأ الختيار بموشح من يستهدف رفع المعنويات فكان من جملة ما قال، بأننا كلنا في الشعب الفلسطيني مشاريع شهادة، واضاف بأن المرأة الفسطينية هي حارسة احلامنا وهي نارنا الدائمة ولا بد ان تستمر المسيرة، وان هذه المسيرة متعبة وطويلة وبحاجة لاجيال واجيال، ونحن على عهد الشهداء ما حيينا...

سرعان ما لمعت في ذهن والدتي فكرة مفادها ان يرتبوا الامر جميعا بغية اقناع هداية حتى لو تطلب الامر الاستعانة بخدمات الشيخة مدللة، طبعا هذا كله بعد التمهيد لهداية وترويضها قدر الامكان، وان عجز كل ذلك لن يتبقى في وسعنا الا الطلقة الاخيرة ...

ردد الختيار بصوت عال: طلقة ايه يا ختي، احنا في جوازة ولا في حرب، ايه يا اختي..الله هو انا مليش كلمة عندكم يعني ولا ايه..

ضرب الجميع بأكفهم على جباههم واعادوا تلك الضربات على افخاد اقدامهم، وحدها جدتي كانت تعض بأصابعها تحت اسنانها وتتوعد والدتي، بينما بقي والدي يسند وجهه على كفه يغمض عينا ويفتح اخرى، فإن وجد جدتي على نفس المشهد عاد واغمض عينه من جديد.

ردت والدتي ليس الامر كذلك يا ختيار، فأنا اعرف هداية جيدا، ولكن ما اقصده ان استنفذنا خياراتنا فلن يبقى امامنا إلاّ تدخلك المباشر، وتلك هي رصاصتنا الاخيرة.
انا جاهز يختي، شوري علي والنبي، قوليلي انا في ايدي ايه وانا اعمله؟

ردت والدتي بثقة، ان تطلب منها ذلك مباشرة يا فخامة الرئيس فمثلك لا يرد له طلب..

بعد مداولات واخذ ورد اقتنع الختيار بالفكرة وطلب ترتيب موعد لمكالمة هاتفية غدا في نفس الموعد على ان تكون هداية حاضرة.

في اليوم التالي كان الجميع على موعد مع الفرح، بدأ هذا الفرح يغيب ويفقد بهجته مع اقتراب ساعات الظهر، تأخر ابي عن العودة وغاب عن الموعد، كذلك الحال عن اهل هداية، حضرت الكهرباء وانقطعت عدة مرات وبقيت كذلك طيلة ذلك اليوم، انقطاع الكهرباء المتكرر جعل الجميع يفكرون في نفس الاتجاه...، كانت والدتي اكثرنا فطنة وادراكا لحقيقة الامر حين غمزت لي وهزت برأسها اتجاه الشارع، فتكفلت بالامر انا وبقية الصغار، عدنا سريعا بعد ان القينا عدة نظرات فاحصة على الشوارع المحيطة وزوارها، عدنا ونحن نصرخ في ساحة الدار
"لا جديد تحت الشمس"، كانت تلك كلمة السر التي يحفظها ويفهم مغزاها كل افراد الاسرة.

بعودتنا شرعت والدتي بخطوتها الثانية، تفقدت خط الهاتف اذا كان يعمل ام لا، تنفس الجميع الصعداء حين تبسمت والدتي واخبرتنا بأن الامور بخير وبأن خط الهاتف لا زال يعمل وبأن الحرارة لم تنقطع.

قرع جرس الهاتف، تلقفت جدتي الهاتف واسهبت واطنبت بالترحيب، كانت جدتي فرحة جدا، لكن كل ذلك الفرح وكل ذلك البعد مع محدثها لم يُنسها ان تسدل غدفتها على عينيها من الخجل، كانت جدتي تتحدث وهي تمسك طرف غدفتها الاخر بفمها.

لم يفت هداية ان تعرف انها المقصودة في تلك المكالمة، كانت والدتي اخبرتها بكثير من التفاصيل واخبرتها بموعد المكالمة، كانت هداية على موعد مع الختيار في طلب يدها...

جاء الدور على هداية، وقبل ان تمسك بسماعة الهاتف عدلت من وضع منديلها وربطته جيدا واسبلت بيديها منفضة ما علق على جلبابها من بعض الغبار متقصدة بذلك تغطية ما اعتلاها من الحرج.

الو، نعم
سامعيتني
ايوا ، سامعك
ازيك يا هداية
اهلين يا سيادة الرئيس
الله، ايه سيادة الريس دي
أوليلي ياوالدي، انتي زي بنتي ولا منفعش يعني
له يا سيادة الرئيس، انت والد للجميع
وانتا ابونا وحبيبنا واحلى اشي فينا
طب هي الوحدة يعني متردش على ابوها لما يعطي كلمة للناس يعني اسمه ايه دا، مش بئا اسمه تكسير كلمة اللي منكسرش في بيروت واللي بيطلع دايما من ثم الموت...
اودي وجهي فين يا هداية من الناس يعني
اي ناس يا سيادة الرئيس
الله، انتي ما تعرفيس ١٧ و١٤ وابو الليل وابو الهول وابو الجماجم ولا ايه..
له يا سيادة الرئيس، ما عاش اللي يكسرلك كلمة او يرفضلك طلب..
عند هذه الاجابة بالذات بدا للجميع ان هداية ذاهبة بمحض ارادتها للايقاع بنفسها في الفخ الذي نصبه لها الرئيس وتواطأ فيه الجميع ...
هنا تنهد الجميع وتبسم، وبدأت الامور بالانفراج..

كان الرئيس واضحا في طلبه يد هداية، لكن كان لا بد من ان يتم ذلك بنص صريح...

احسسنا جميعا بحاجة هداية لتلك الكلمات بصيغة مباشرة وواضحة، وهذا ما ادركناه حين بدا الخجل واحمرار الوجه يملأ وجه هداية وهي تتذرع بنقل سماعة الهاتف من اذن لاخرى، كانت هداية تهز برأسها وتضغط بسماعة الهاتف على اذنها حُسنا للانصات وهروبا من اذان امي التي تلتصق بها...
بدا كما لو ان هداية نجحت بمسعاها في منع امي من استراق السمع من محدثها... لكن سبق السيف العدل، فقد تمكنت والدتي من سماع ما هو مطلوب وبدأت بعناق هداية وتقبيلها، ومع تلك القبلات المنطلقة من والدتي ومع سيل الاشارات من يد هداية بالتزام الصمت لحين اتمام المكالمة إلا ان كل تلك المحاولات ذهبت ادراج الرياح، لكنها نجحت بشيء واحد واكيد موافقة هداية وما يستتبعه من انطلاق لمواسم الفرح...

انطلقت الزغاريد من فم جدتي هيجر وكناينها، كانت كل الاهازيج والزغاريد والههاوي للختيار، كان حق على جميع الرجال في تلك اللحظة ان تتملكهم الغبطة والغيرة من ذلك الموقف ومن تلك الاهازيج التي يتسيدها الختيار، لكنه ياسر عرفات رب الاسرة وربان السفينة وشاغل الدنيا والتاريخ.

لوهلة نسينا جميعا بأن المعنية بالامر هداية وخطيبها قد تجاهلتها كل الاهازيج والزغاريد، لم تكترث هداية للامر، بل اشعلت الجو وقلبت الغرفة رأس على عقب حين طلبت من الختيار الاستماع الى الزغاريد والاهازيج التي انطلقت تتغنى به وبالثورة وسريعا ما وضعت سماعة الهاتف في مواجهة الموجودين...

كانت النسوة والكناين والسلفات والعمات يتحملقن حول جدتي ويرددن،
حطت الدولة على الجسر تا تحبسنا...
ابو عمار يا غالي والعز النا...

ثارت قريحة الختيار وبدا صوته حماسيا وهو يردد على مسامع الجميع قصة زياراته المتكررة للمخيم وتخريجه لعدة دورات في معسكر الاشبال والزهرات في المخيم، ولم يقف عند هذا الحد، بل ألهب حماس الجميع حين ذكرهن بتلك الاهزوجة التي غنينها النساء له في يوم تخريج احدى دورات الاشبال والزهرات في معسكر مخيم البقعة.

لم تبخل جدتي ومن معها من النساء في الاستجابة سريعا في ترديد تلك الاهزوجة، حتى ان تلك الاهزوجة اصبحت تعويذة دائمة في كل اعراس المخيم، كان مطلع تلك الاهزوجة يقول:
بدي لبو عمار طيارة حربية
تظرب مطار اللد ترجع مروحة
بدي لبو عمار طيارة مسلحة
تظرب مطار اللد ترجع ع سورية

كانت النسوة تتزاحم من افواهها الاهازيج والتراويد، وكانت الغرفة على صغرها مليئة بالفرح، كان ذلك الفرح من النوع الكبير والعارم والذي يمكن ان يغطي كل ارجاء المخيم ويفيض...
كان الفرح يغمرنا وكنا نشعر بالفائض منه يجوب كل زقاق المخيم، في تلك اللحظة كنا نتمنى ان نملك الفرح بأيدينا لكي نوزعه على العالم اجمعين...

انهت هداية المكالمة مع الختيار بسيل من السلامات والقبلات، لكن تلك الجلسة الجميلة في تلك الغرفة الصغيرة كانت قد بدأت لتوها، كانت عمتي حلمية قد افسحت المجال لاستقبال زوارنا الجدد، ترك الرجال مواقعهم للقادمات على صوت الفرح، كانت الزغاريد في المخيم تعني انطلاق موسم الفرح وايذانا بقبول التهاني ومشاركة كل زائر بصنع اجواء الفرح وبتقديم اجمل ما لديه ليستمر المخيم في رسم اجمل الصور عن تاريخ شعب نهض من تحت الركام والخيام ليرسم الفرح وليصنع مع الايام مجده القادم رغم انف الليل والغيم وعلى حبات عيون سارقي الآمال والاحلام...

على وجه الريح حضر جمال هواري الى الاردن لعقد القران، كان رائحة الصيف والفرح تنتظر الجميع في عمان، وسريعا رتب امر الزواج وهذا ماتم. ايام معدودة عاد بعدها جمال لتونس لمتابعة عمله كالمعتاد وانهاء بعض الامور العالقة، واتفق مع هداية على ان يعود للاقامة الدائمة في عمان وضرب موعدا لاجل ذلك نهاية شهر اكتوبر من 1985.

وفي تلك الاثناء انطلقت هداية لاكمال التجهيزات وتأثيث بيتها بانتظار العريس القادم من تونس.

في الاول من اكتوبر وقبل موعد العودة بايام كانت تونس وهداية على موعد جديد من حكاية الحزن الذي لا ينتهي، كانت مجزرة حمام الشط، ذلك الهجوم الاسرائيلي على مقر القيادة الفلسطينية في تونس والذي اسفر عن تدمير المعسكر واستشهاد مائة من الفدائيين، كان جمال زوج هداية احد الذين استشهدوا في تلك الغارة.

في مثل ذلك اليوم وقعت الغارة وحلت المصيبة وتداعى حلم هداية للمرة الثالثة، لكن هذه المرة كان وقع المصيبة اكبر من ان يحتمله الجميع؛ كان من بين الشهداء ايضا شقيق هداية باسم الذي لم يمض على زواجه شهر.

يا الهي، على اي جانب من الحزن ينام هذا الشعب،
يا الهي كيف لهداية وشعبها ان تحتمل كل ذلك الالم...
يا الهي تلطف بهداية وامثالها وامنحهم فقط حكاية حزن من الممكن ان ينتهي...
اما نحن، فلا عليك؛ لقد تواضعت احلامنا، نريد ان نُترك وشأنُنا
وان بقي لديك متسع لرجاء وامنية فاستمع لنا جيدا:
نريد ان نموت مطمئنين على من يبقى خلفنا
نريد لهم حياة خالية من الالم ولا تخلوا من الامل
نادى مناد من بعيد: نحن الذاهبون للموت من اجل فلسطين لا نريد ان يختلف من بعدنا في معنى الامل ...
الامل: ان نسير الى ما سار له الشهداء قانعين، وان ينام ابنائنا ذات يوم ويصبحوا على وطن...



#مهند_طلال_الاخرس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عمليات هزت عرش إسرائيل
- الكوفية الفلسطينية
- ناظم حكمت ثائرا
- حرب الاستنزاف، عبده مباشر واسلام توفيق
- باجس ابو عطوان مات البطل، عاش البطل
- أرض الغزالة، حسن خضر
- كل يوم كتاب؛ قصة الثورة الجزائرية/ احمد الشقيري
- كل يوم كتاب؛ طريق الجنوب/ عثمان ابو غربية
- كل يوم كتاب؛ 80 يوم خلف متاريس بيروت
- كل يوم كتاب؛ الرحلة الاخيرة/هشام شرابي
- كل يوم كتاب؛ احلام لم تتحقق، مصطفى ابو علي
- كل يوم كتاب؛ تحت اعواد المشنقة/يوليوس فوتشيك
- كل يوم كتاب؛ موسوعة اعلام فلسطين(8 اجزاء)
- كل يوم كتاب؛ ليلة الطائرات الشراعية
- كل يوم كتاب؛ رحلة العمر/ عبدالعزيز العطي
- كل يوم كتاب؛ ايام في قطر
- كل يوم كتاب؛ عين المرآة
- كل يوم كتاب؛ ابو علي شاهين مسيرة شعب
- كل يوم كتاب؛ بيروت 1982
- كل يوم كتاب؛ احلام بالحرية


المزيد.....




- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...
- زاخاروفا: إستونيا تتجه إلى-نظام شمولي-
- الإعلام الحربي في حزب الله اللبناني ينشر ملخص عملياته خلال ا ...
- الدرك المغربي يطلق النار على كلب لإنقاذ فتاة قاصر مختطفة
- تنديد فلسطيني بالفيتو الأمريكي
- أردوغان ينتقد الفيتو الأمريكي
- كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي
- تظاهرات بمحيط سفارة إسرائيل في عمان


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - مهند طلال الاخرس - هداية وحكاية الحزن الذي لا ينتهي..