أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جابر حسين - القدال ما مات، عايش مع الثوار...















المزيد.....



القدال ما مات، عايش مع الثوار...


جابر حسين

الحوار المتمدن-العدد: 6994 - 2021 / 8 / 20 - 03:49
المحور: الادب والفن
    


القدال ما مات، عايش مع الثوار
ويتأمل حال البلد...
- جابر حسين -
‏---------------------
‏" يا أصدقائي الشعراء ،
‏ أسمحولي أريحكم قليلا من الشعر لكي
‏ أتلوا عليكم بيانا في وصف حالتنا العربية " ...
‏ - درويش -

الموت، عادة، ما نعرفه، نعرفه لكننا لا نتوقعه، يأتينا حين يأتينا، في غفلة منا، ونحن في خضم الحياة نعيشها ملء وجودنا، ونكاد لا نأبه له، بل لربما ننساه حد لا نحس بوجوده معنا، يعيشها الحياة معنا، يراوغنا وهو يتأملنا، لكنه قليلا ما يشاكسنا ليشعرنا برفقته، في حالات المرض وحين يصيبنا ما يصيبنا، عندها فقط ننتبه إليه، ونراه ماثلا أمامنا بكل جبروته وقسوته!
مساء الأحد 4/7/2021م، رحل عنا الشاعر الكبير محمد طه القدال بمستشفي الأمل بالعاصمة القطرية الدوحة! وفي اليوم التالي،
الأثنين 5/7/2021م، رحل الروائي الكبير القاص والصحفي عيسي الحلو! ثم، لكأن الموت يعطينا بضع أيام فقط لنري وجهه الشاخص فينا كأشرعة القانصين الرشاق، ليرمي سهمه المسموم فينا وفيه، ليرحل أيضا الشاعر والكاتب المبدع عادل عبد الرحمن بخيت يوم 16/7/2021م في أمريكا التي أختارها مقرا أخيرا له وهو في غربته الطويلة عن الوطن وشعبه. وكلاهما، أعني القدال وعادل، يعرفان تماما الموت وتشخيصاته الماثلة في الحياة، لكنهما معا، لم يتبدي في شعرهما أية مظاهر لخشيته أو الحذر منه، ليست لا مبالاة بالطبع، لكن الحياة، بكل محمولاتها، هي التي كانت مدار شعرهما، الحياة لا الموت. حالتنان تجدهما عندهما حين يتناولان موضوعة الموت وتداعياته: حالة الشهداء لأجل الشعب والوطن والقضايا الجليلة من أجلهما أيضا، ثم حالة موت الطغاة. ما عدا ذلك، فأن القصيدة لديهما، هي، في جميع وجوهها، لا تكترث للموت، فهي تشتغل علي موضوعات الحياة بعيدا عن ساحاته التي هي، أصلا، نوعا ما تعني انقطاعا عن سياقات الحياة في تمظهراتها المختلفة وهي في عديدها.
هكذا، من خلال هذه الرؤيا نكتب عن مسارات قصيدة القدال.
في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي كان السودان ينوء تحت وطأة حذاء ديكتاتورية نميري السوداء . كان الظلام ‏كثيفا والعسف والقهر والمسغبة في أعناق أهل السودان قاطبة ، الهواء كان مالحا و السماء تنذر بهول مرعب والبلاد ‏كلها علي شفير الهاوية . لكن الشعر كان حاضرا في مواجهة الطغيان ، صارخا في برية البلاد كلها ويحدس إرهاصا ‏بالثورة المقبلة .
أخذ الفنون جميعها في خاصرته وظل يصدح بالأغاني والأناشيد . محجوب شريف يطلقها قصائده من داخل السجن ‏فتطلق في سماء البلاد نداءات وشعارات وأناشيد فتغدوا في ملامح الشعب رؤيات وشموعا تشعل الضوء في نفق ‏الديكتاتورية وتكشف عنها سوءاتها للملأ ثم تبشر بالغد الآتي . في تلك الحقبة السوداء من تاريخ شعبنا ونضالاته طلعت ‏أجمل الأشعار والأغاني والأناشيد ، نهض المسرح عفيا يقدم عروضا شعبية عالية القيمة والإبداع علي امتداد شارع النيل ‏، وأنضم التشكيل فقدم أنضج وأروع اللوحات زينت جسد الوطن المعافي . نهض الشعر في معية الفنون جميعها يصافح ‏، ليل نهار ، نضال الشعب وتوقه للحرية والإنعتاق والديمقراطية ، لكأن المبدعون كانوا يرون رؤية فيكتور هيجو و ... ‏يتمثلونها في إبداعاتهم وهم يخوضون في بلبال الثورة التي يرهصونها في الفنون: "لا ينتقص من قيمة الجمال أن ‏يخدم الحرية وأن يعمل علي تحسين أوضاع الجموع البشرية . أن الشعب المتحرر ليس قافية رديئة . والجدوي الوطنية ‏أو الثورية لا تنتزع شيئا من الشعر". بل تزيده ألقا ونضارة. في تلك الفترة نفسها تشكل الهرم العظيم للشعر في ‏عاميتنا الفصيحة . كان محجوب شريف في أعلي الهرم ، الخفقان في قلب الوطن ، ثم من بين جماهير شعبنا كان ‏الطلوع البهي الجسور لقاعدة الهرم في نهوضها الكبير ، كانا معا ينهضون بشعبنا صوب القمة في الأعالي ، حميد ‏والقدال .

الشعر في ملامح الوطن:

من بين الركام القمئ للديكتاتورية طلعت أجمل الورود ، بعطر الثورة تصافح سواعد وقلوب الشعب ، طلعت – يومذاك – ‏الجسارة في قصيدة القدال يعلن في الملأ موقفا ورؤيا ، لكأنه كان يسجل موقعا للشعر ولقصيدته فيسير علي نهجها ‏حتي يوم الناس هذا:

‏" أبيت الكلام المغتغت
‏ وفاضي ...
‏ و ... خمج !

‏ أشوف العساكر تباري الكباري
‏ وتفتش قلوب الجهال الشلوخهم هوية
‏ و ... أغني الزيوت والكنانة ،
‏ كضب !

‏ أقول البنات المفتح صدورهن
‏ يقالدن رشاشك
‏ ويخلن حبيبهن ...
‏ كضب ! " ...

تلك كانت وجهته ، كان عليه أن يكون فيها تلك اللحظة الحاسمة من لحظات قوله الشعري ، فالبدايات هي التي تحدد ‏مسار وتطور الشعر من بعد . عليه أن يكون فيها ، بجانب شعبه وقضاياه في التحرر والتقدم حتي لو لم تتح له غير تلك ‏اللحظة الواحدة من الأمل فلا مندوحة من أن يخوض غمارها ، حتي لو فقدها فلن يأسوا عليها لأن هناك آخرين ‏سيسكبونها في نبع الثورة السيال ، كل الآخرين في شعبنا العظيم . كم تعرض القدال للعنت والقسوة والملاحقة من ‏سلطات الديكتاتوريات حتي لحظات معاناته قسوة المرض ورحيله الموجع، لكنه أبدا لم يفارق نهج شعره ووجه قصيدته . ظلت أشواق شعبه وآماله بعضا حيا في ‏وعيه وفي قصيدته . فقد إبتدع لقصيدته وجها هو وجهها بالذات ، في صورها وفي معانيها و في دلالاتها في شسوع ‏إمتداداتها إلي فوق ، حيث رحاب القصيدة في أعلي أعاليها . جعل لها لغتها وملامحها ، وظلت اللغة عنده ميدانا لنسج ‏البراعة والجدة والإبتكار ، نعم هي ، في عمومها ، تعد لغة أهل الوسط ، لكنها تمسك بالكلمات من أعناقها لتعيدها في ‏سيرورة الإنتقاء الحصيف فتغدو في المعاني المبتكرة لكأنها قد نسجت فقط لتكون في جسد القصيدة ، وفيها ما يفهم لغير ‏أهل الوسط عبر صوتها واصداء وقعها في نفس قارئها أو المستمع إليها . قلت المستمع ، نعم، لأقول أن مأثرة القدال ‏الكبري، في ظني، تكمن في طريقة إلقاء القصيدة ، يطلع منه ، من دواخله كلها صوت القصيدة ، أظنه لا يعيش تلك اللحظة إلا مع ‏قصيدته ، ولا يري في الناس أمامه إلاها وحدها ! تكاد تري الآخر لديه هو نفسه ، ذات الشاعر نفسها ، تنطلق حرة في ‏مسار رؤاها معلنة للبصر والبصيرة تخوما عاليات تتيح له – كل مرة – بلوغ تأليف المعني ونسج أردية القصيدة التي ، ‏لا مندوحة ، هي رؤياه نفسها أيضا ، وتجعله في مؤامة لغتها هي بالذات ، فيصف تهيئاتها التي هي بعضا كثيرا منه. ‏أحيانا " تنشق " المخيلة عليه فتري في القصيدة إنتقالات وقفزات رشيقة في وجوه شتي! يكتب قصيدته بشغف حقيقي ‏راسما، بعاميته المنتقاة الآخر الناهض في مواجهته! ولكن ، ما هو الآخر عنده ؟ واقعه المعيش أم ملهمه الشعري ؟ أم ‏درايته الشعرية ، أم هو ما يلتصق منهما في ذاكرته فيبدأ يتشكل " الشك " لديه و... "اليقين"؟ وما هي ملامحها، ‏وكيف تبدو إذ تكون بعضا حيا في جسد القصيدة؟ القدال صاحب الدراية والفطنة والدهشة، تراه يجمع حتي الكواكب، ‏حتي ذرات الحياة الصغيرة فيصوغها لوحات ملونة في قصيدته. يلم شظايا الكلمات، المهملة منها والغافية، فيصنع ‏منها متراسا صلبا من خلل كينونته الشعرية التي احتضنت الخيال منه وخرجت عنه في ذات الوقت! يفعل ذلك وهو يبحر ، في ذات الوقت، بمهارة البحار، في فنيات قصيدته، في اللغة والصورة والمعني، أيا ما كان موضوعها، ممسكا ‏بلحظتها الشعرية حد يصل بها إلي الإشباع المزهر في وجوه تطلعاته للبزوغ وللتحليق في فضاءات الممكنات في راهنه‏، راهن الشعب والوطن في وجهة تجلياتهما. فيبقي الآخر هو نفسه الشاعر، الوجه الحقيقي للشعرية في حياته، حياته ‏هو وحياة الآخر الذي هو شعبه ووطنه و... في رؤاه. لقد تعرفنا عليه – رويدا رويدا – من خلال قصيدته، التي هي ‏من عامية لغات أهل السودان، تماما كما تعرفنا علي عاميات آخري لدي محجوب شريف وحميد، عرفناه، إذن، من ‏خلال قصيدته، من خلال ما أراد هو لنا أن نكون فيه، أكيد، هذا مما يجوز للشاعر ولا يجوز لنا!

شرع يجدد في قصيدته:‏
قرأ القدال قصيدته / الملحمة : " طنين الشك واليقين " علي مسرح قاعة قصر الثقافة بمدني في يوليو2019م. كان يعاني ‏من تداعيات " نزلة " أصابته، لكن لم يستكين إليها، فقد تلي القصيدة في صيغة الأداء بالغ الفصاحة والدلالة الذي ‏عرف به . بدأ في سعيه الشعري يقول بحالته وبحال البلد ، لا يكف عن تأمل الحال والإفصاح عن ما يكاد يخفي فيكشف ‏عنها استارها لتبدو في ضوء الشعر واضحة واضحة ، يذهب وراء رؤاه تلك:
‏ "لو شوكة الساعات مشت
‏ وين ما مشت!
بيها العمير أب دم وقيح، ينشك.
راح العمر يا مك...
نكرت فعايلك مكه.
والشك رهاب الذاكره
والموية تسلك في الدروب
الماشيه جيهة الحق
في نفوس حميدة وشاكره،
نقاع غسيلا
لا شطفه ديك لا مصمصه...
تهرد هرد...
أدران نفوسا خاينه
خايفه وماكره.
المويه عندها ذاكره!"..

يمشي القدال مع الذاكرة، مع الموية، و "البرق والأرض... والغيمة والليل والضباب و... الناس"، يمشي وهو ‏يتأمل الناس و البلد "الحدادي مدادي"، الوسيع بلحيل! فبدأت أنا في تأمل قصيدته، من أولها حتي ‏نبضات الشاعر في لغتها وملامحها وسيماء المغايرة فيها، وهي – في ظني – تعد في جديده الذي علي مغايرة من ‏قصيدته التي عرفت عنده. دعاني، إذن، داعي المغايرة لقراءة قصيدته ومعرفة وجوه الجدة والمغايرة فيها، لكن ذلك درس ‏سيأتي أوانه، في الحين الذي تكون فيه القصيدة في وعي الناس. التحية لروح شاعرنا الكبير الذي رحل عن دنيانا وهو يحمل هذا الوقر المهول ‏علي عاتق الشعر منه، فلم يعد، في ظني، من هو مثله في وجهة شعرالعامية عندنا، بمثل هذه الوجوه البديعة في قصيدة العامية.‎

القدال يقول بعامية مبتكرة...
‏---------------------------

‏"قلت: فناشدتك الله ما أعلمتني
‏ فيم إمتزت علي أقرانك،
‏ وبم بززت أترابك؟
‏ قال : بحاجة مباحة
‏ وديباجة مبيحة.
‏ قلت: فيا واحد الندي
‏ رق لواحد القصيدة!"...
‏ - حسن طلب من "زبرجدة إلي أمل دنقل" -

لقد بات من المعلوم الآن بشكل جلي أنه لا توجد لغة عامية واحدة عندنا حتي نقول بمصطلح "عامية أهل السودان". في ذلك القول الكثير من الشطط بل ومجافاة صريحة للواقع اللغوي في السودان. ونحن ننظر في حال عديد عامياتنا ‏في شعرنا الذي شاع في الناس، نجدهم يقولوا "شاعر العامية" و "شعراء العامية" ونكاد لا ننتبه لنوضح أي عامية ‏هي تلك التي نصنفها في الشعر أو نصف الشاعر بها! وأنا أتأمل في شعرية القدال ولغته وتعابيره التي درج عليها منذ ‏مبتدأ أمره وتوفر علي إبتداع الجديد فيها، تحدثت إلي الأستاذ ميرغني ديشاب، الذي هو – في تقديري – أحد أعلم ‏الباحثين في علم اللغات واللسانيات في بلادنا، فكان أن أتفق معي أنه لا توجد في السودان عامية واحدة، بل هنالك مستويات ‏لغوية في اطار ما يمكن أن نطلق عليها – لأغراض الدرس – العاميات السودانية، ولكل وجهها ووجهتها في عاميات ‏كل الكيانات القبلية في بلادنا، حيث تغدو العامية هنا أصوات لغوية ويجري عليها الإختلاف من كيان لغوي إلي آخر، كل ‏بلسانه الخاص، أو قل بالأحري بعاميته الخاصة. لقد سرنا طويلا – دونما إنتباه – خلف ذلك المفهوم الخاطئ الذي "‏قسم" العربية العامية لدينا إلي "عربي أمدرمان" و "عربي جوبا"، ذلك خطأ تاريخي لغوي فادح علينا التخلي ‏عنه وتجاوزه بل والإعتراف علانية بخطل ذلك التقسيم وتعسفه. فمنذ البداية، كان يفترض أن تؤخذ اللغة العامية علي ‏كل مستوي من مستوياتها العديدة في هذا البلد الكثير التنوع، وبذلك وحده، نكون في صحيح التوصيف والتصنيف لكل ‏عامية من تلك العاميات العديدة في تنوعها المثير!

في الشعر، كيف نري وجوهها:

نقول أن هنالك ثلاثة شعراء، من حيث جودة الشعر ومن حيث الإستخدام البارع للسان العامي وجعله في شعرية المعني، ‏ثم خوض غمار المغايرة وتجريب غير المجرب في قول الشعر باللسان العامي للشاعر، ذلك الذي يطلع من تربة بيئة ‏الشاعر نفسها و... يتجاوزها – بالأحري – يجري عليها تجاريبه الشعرية فينسج بخيوطها أردية ولبوسا ملونات في ‏قصيدته. من يكتب بالعامية – أيا ما كانت تلك العامية – ولا يجري عليها إبتكاراته ويطور ويستحدث فيها الجديد من ‏لغتها وصورها ومعانيها ودلالاتها، من المؤكد أنه لن يكون له شأن تاريخي في اطار شعر عامياتنا، بل سيظل في قول ‏عاميته وهي تراوح في رؤاها لكنها لا تنهض بالمهمة العظيمة للشعر، أن يكون في شأن الحياة واللغة وإمتداداتها ‏ودلالاتها في حياة إنسان بلادنا. فهنالك العديد من الشعراء يكتبون، كل بعاميته، في العاطفة والحب علي سبيل المثال، ‏وتتكرر لديهم تلك الكتابة وذلك القول حد لا تكاد تري في قصيدة الواحد منهم إختلافا عن عموم شعره في ملامحه وسماته ‏ولغته وموضوعاته! قلنا ثلاثة شعراء هم: عالي المقام، صاحب الإسهام الأوفر محجوب شريف، الذي يلتقط لغته في ‏الشعر من أفواه عامة الشعب علي قول ديشاب، وهو يعد أحد أبرع من توغل بحساسيته الشعرية العالية في لغة أهل ‏أمدرمان مضيفا إليها مفردات وسياقات آخري فجعلها "مفهومة" ومتجاوب معها علي المستوي اللغوي القومي إن ‏جاز لنا أن نقول بذلك، فقد كان أبن بيئته التي عاش فيها حساسياته كلها، المتمرد المجرب علي وجوهها جميعا ، ‏فإنعقدت إليه الريادة التي شهد بها الجميع وهم يعايشون بزوغها فيهم كل صباح. الثاني كان حميد، التي كرس في ‏قصيدته التوليد اللغوي في اطار لغة الشايقية، فجعل يتقرب بها ويدخلها – حين تكون الممكنات الشعرية متاحة لديه – ‏في لغة أهل أمدرمان، بذات وسائل الفكر ومراتب الوعي التي ظلت تتحرك فيها قصيدة محجوب شريف تقريبا، لهذا ‏تري قصيدته محتفيا بها في كل كيانات السودان، يفهمونها وتصيب منهم دهشة الشعر وتجعلها في وجدانهم فتلامس ‏منهم وعيهم وعواطفهم. أما ثالثهم فهو شاعرنا، الذي رحل عنا الأسبوع الماضي، محمد طه القدال. من المعلوم أن القدال ينحدر و... ينتمي – بهذا القدر ‏أو ذاك – إلي قرية " حليوة " في وسط الجزيرة. ولسان أهل الجزيرة، هو ما تعارف علي تسميته بلسان "أهل الوسط ‏"، لكنه، منذ بدء أمره الشعري تمرد علي هذا القاموس، نقول بتمرده ولا نعني بالطبع رفضه أو تجاوزه بالمرة. فقد أمسك بتلك اللغة ‏وأخرجها إلي رحاب أوسع في امتداد الجغرافيا واللغة، سار بها – وهي بين يديه في الإضافة والتغيير – إلي حيث توجد ‏كيانات عاميات أخري، فيخالطها ويلقي علي تربتها العفية قصيدته. قال لي ديشاب، إن القدال يمتلك ثروة لغوية هائلة، ‏ويعني تلك الثروات النفيسة، شديدة اللمعان والمعاني والدلالات في العاميات العديدة لدي سائر الكيانات السودانية في ‏تنوعها. فقد صارت عامية القدال – بعد خروجها من المستوي اللغوي لأهل الجزيرة – أقرب إلي لغة البطانة لدي ‏الشكرية والكواهلة وغيرهم. تلك – في ظني – هي الثروة اللغوية لدي القدال التي قال بها ديشاب، وهي نفسها جوهر ‏ثرائه اللغوي الذي رفد بها شعر العامية في قصيدته وفي العاميات جميعها ، وتلك – أيضا – أحدي وجوه إبداعه الشعري ‏الكبير . قلنا عاميته أقرب إلي مستوي لغة البطانة ، لكنه لم يتوقف عندها بل نراه يوغل في مساره إلي العاميات ‏الآخري في غرب السودان وجنوبه وشرقه أيضا. ففي هذه العاميات تكون قصيدته في حيويتها بين الناس ، تجد عندهم ‏الفهم والحفاوة بها، لكأنها بعضا من لغتهم لا الدخيلة المندسة إليها.

مأثرة القدال أيضا:

حوالي مطالع الثمانينيات من القرن الماضي كان حركة " الحداثة " لا تزال تكرس وجودها وتغدو الوجه المعاصر للشعر ‏في جديده اليانع، وقتذاك ظل مظفر النواب يتسيد " فن الإلقاء " الشعري علي مستوياته العديدة، وفي سطوعه الشعري ‏ظل هو الأكثر تأثيرا وتجاوبا مع الجمهور، ولا يلتفت إلي مقولة " الجمهور الكلب " التي قال بها توفيق صائغ وشكلت ‏ملمحا هاما في قصيدته المغايرة الغريبة، لم يكن توفيق يوما يصغي للجمهور وما يطلبه من الشاعر فظل حاملا للغريب ‏في مفرداته اللغوية وصوره ومعانية، لعله كان يحدس بقصيدته بالذي سوف يأتي فتكون في ملمح المستقبل الذي لا يكاد ‏يراه الجمهور ماثلا أمامه، وتلك كانت بعضا من رؤية جبرا حول شعره وشاعريته! مظفرا جمع في قصيدته جماليات وجدانية ‏بديعة إلي جانب التحريض ضد " الحكام الكذبة " و الراهن الذي يتوجب علي الشعب الثورة عليه. كتب في عاميته ‏العراقية أجمل وأعذب القصائد في العاطفة والحب والحنين وعشق الوطن. فعل ذلك وراهن - طوال عمره الشعري ومنذ ‏بداياته – علي قدرة الإلقاء في التأثير علي وعي الجمهور عبر إنفعاله العاطفي مع قصيدته، نعم، نجح مظفر في ذلك ‏أيما نجاح، فكان الأكثر جماهيرية ونجومية، ومحبوبا منها، قد أجري تأثيرا عاليا في ذهنية الشباب وحرضهم علي ‏الثورة. في ذات الوقت، تقريبا، كان القدال وحميد في ذات المسعي، يجعلان الإلقاء سمة أكثر تأثيرا في وجه القصيدة ‏وأشدها نورا وحضورا في ضمير الناس. وفي ظني إنهما فعلا ذلك ليس من باب الصنعة والترويج لشعرهما، بل أجده عندهما، إنفعالا ‏داخليا بقصيدتهما، حيث يعيشان لحظة توهج الشعر وعنفوانه وحيويته، فتطلع في أصواتهما تلك اللغة الضاجة من أعماق ‏نفسيهما فتكون وجها ناصعا عندما يقولان بالشعر، كل بلسانه ولغته العامية التي يتقنانها. وتلك أعدها منهما مآثرة في ‏شعرنا، في وجهته بعامياته كلها. القدال ظل، علي مدار سير قصيدته، يسير علي هذا النهج صاعدا به إلي ذري عاليات ‏علي غير ما تعارفت عليه العاميات عندنا. يقول القدال في " شيخ تلب ":

‏" حزينة وجوفك دمدم حزين
حزنت وقلب الحازنك خلى
تعدى الحلم الشفتيهو قديم
وتملا حسارك قلبك ملى
وكل ما هبهب قاصدك نسيم
يلهب جلدك كضباً طلى
فطمت جناك وحضنك رحيم
وحنـّك تب ما صابو البلى
سمعت غناك وصوتك رخيم
شديد اوتارك زايد حلى
عرفت الغم الصارلك نديم
وشفت الكون بى شوفاً جلى
لقيت الكاتلك كافر زنيم
وانت وحيدك قلبك ولى.

يا شيخ تلـّب انزل كبكب
وارمى الحترب فى الميضنة
فى الباردة تعب لى الحارة تسب
عجمان وعرب فى الميضنة
البس خضرب وادخل قصرب
والحس واشرب فى الميضنة
دى الدنيا تهب شقيش ما تصب
القبلى حرب ..
لى سيدك حب لا تخش ضرب
لى يوسف جب فى الميضنة
دقنا وشنب درويشنا يسوق
تايوتا تكب فى الميضنة
يا شيخ تلب وين الزغلب
الكانو تلب
ديل صبحو غرب
ام اضحو جنب
فى الميضنة
انزل كبكب وارمى الحترب
فى الميضنة!

كبس االهم على
والحال قبض يا سيد
غبنا فيا كج
وتادو جنبى معيد
مو جنا تجيب
سلسل جنازرو تقيد
بلا غيبوبة البلد
النصيحو مصيد
كنا تلاتة ...
ود النوق وديك وعتيد
قلنا نكمل الفرض
العلينا نشيـد
جينا عليكى يا المحبوبة
شوقنا يأيـد
بقينا ضهابة متل زولاً
ضرير وبليد
ود النوق مركوبو
العليهو يشفق
بقى يتباطأ
فى خبة مشيهو يلفق
ان جاهو العلوق
صيحة نفاقو تنفق
اصبح جدوا وكل
ما شافلو سلقة يصفق
‏- وديك الجن
رفيق همى وغنايا وفنى
سوا طريقو فى نخبة
وصبح متهنى
ما هماهو باسط مية
سكرة ينى
كل ما شافلو زفة
جديدة فوقة يغنى.

‏- يا عتيد الرماد
نط الحيط بالزانة
تفضى الخانة
تلقى جنابو سيد الخانة
فارش دارو لى اسيادو
بيت كرخانة
غافل ضبحة الفجرى
وجرى السلخانة
يا حميد اقيف
شوف الخلوق محنانة
كفكف دمعتك
والعبرة فوت خنقانة
عسلك سال بحر
فوقو النحل ونانة
ياد ان طاق غرق
جازاك دباير دانة ! " ...

قصدنا من إيراد هذه القصيدة كاملة حتي نستطيع من خلالها أن نتبين تلك الصلة الوثيقة المعقودة في شعر القدال فيما بين ‏إبتكاراته اللغوية وبين طريقته في الإلقاء وجعلهما، معا، في وجهة شعره إذ ينهض في العاميات شجرا مؤرقا في كل ‏مواسم الشعر عندنا، وهذا ما سيأتي بيانه في سائر هذه الكتابة.
‏وفي شأن عامياتنا:
القدال، النساج الأكبر!
‏"ماذا جري للكلمات
‏ لم تعد تهزنا...
‏ قد تثير الضحك،
‏ وقد تثير السخرية...
لكنها تنام تحت الأغطية !"...
‏ - فؤاد طمان -

هنا، في هذا المنحي، الكلمات عندهم لا شك تثيرنا، هؤلاء الثلاثة الذين قلنا بهم: محجوب شريف وحميد والقدال، قد حملوا عبء ‏التغيير النوعي الكبير في عاميات أهل السودان، بأن جعلوا الكلمات تثير في المتلقي و... القارئ أيضا، ما تثير من ‏إنفعال يلامس الوعي منهم فيجعلهم في حقيقة الشعر وراهنه. لم يتميز - في ظني – من بينهم سوي القدال. كان ‏محجوب مهموما بالتأسيس للنهج الجديد الذي رأي فيه " قرابة " تجمعه، لا مندوحة، مع الجماهير الذي توجه إليها بكل ‏كيانه الشعري والحياتي، وظل في ذات الوقت يعمل علي نسق يجعل المفردة سهلة هينة إذ تلامس قلوب الناس ووعيها معا. وحميد ظل يشتغل علي قضية نقل عاميته الشايقية إلي عاميات آخري في البلد، دون أن يبتدع جديدا في لغتها، بل ‏جعلها وجها كثير البساطة في صوره الشعرية، تلامس الأفئدة بنبرة الحنان والأشواق والآمال والإصرار نفسه الذي في ‏بيئتها، لكنه رفدها بقوة ملازمتها وإلتزامها صف الجماهير الفقيرة الكادحة وقضاياها. أما القدال فقد حقق شيئا خصبا، فقد إبتدع وجها مغايرا للشعر، في المفردة والعبارة، وعلي غير ما هو سائد ومألوف، ومثلما فعل محجوب وحميد فقد ‏حول الشعر إلي قضية، بحيث تصبح حياة الشاعر قضية بنفس الدرجة التي يكون فيها شعره هو الآخر قضية. فكان ‏عليه - والحال كذلك – أن يعيش صراعا وحراكا مستمرا، في حياته وعلي مستوي قصيدته بجسارة وشرف: الصراع ‏اليومي المستمر ضد كل العوائق والثوابت وأشكال السكون التي تقف أمام حريته، التي هي حرية القصيدة في أن تقول ‏قولها. لهذا ترك، منذ وقت مبكر، دراسة الطب الذي كان متفوقا فيه بجامعة الخرطوم وإلتزم قضية حياته الجوهرية: ‏القصيدة والتجديد فيها. فكان – منذ يومذاك – أن أخذ بيديه الممدودتين صوب المستقبل سلاحه الفذ: موهبته وإبداعه ‏الشعري، وسار سيره في قصيدته. فأصبحت قصيدته دائما متميزة، بناء ولغة ورؤية، وبلغت اللغة والصور الشعرية ‏لديه ذري عاليات من الإبداع. هنا أيضا، الكلمات تثيرنا لأجل طلاوتها وألوانها وهي في جدتها و... في المغايرة لما ‏هو سائد، ويكاد يؤطر اللغة في قوالب غليظة لا تدع لها مجالا للإنعتاق. ثم جعلها في النبرة والصوت حين تلقي إلقاءا في ‏الناس، فتثير وتثير وتثير، في حراك وصخب، ولا تنام!

وجوه المفردة و العبارة عنده:
تتأمل المفردة، التي هي واحدة الكلمة، في قصيدة القدال، فتعطيك - من تلقاء واحدها – معني وإشارة، ثم، وهي في ‏(دلالها) ذاك، تأخذك إلي حيث مقصودها، بالأحري محبوبها، الذي هو معناها وجوهرها، ذلك مستوي أول، أما الثاني ‏فهي العبارة، حين تتجاور، في تقارب رحيم، الكلمة مع الكلمة الواحدة أو تزيد، فتكون العبارة هي المعني، وهي ‏أيضا الدلالة كلها التي تشي بها ويمتد المعني فيأخذها إلي حيث مقصود الشاعر وإلي رؤياه التي تتنزل في وعي الناس ‏. لست أعلم – بعد – شيئا عن طفولة القدال وصباه الباكر في قريته "حليوة" بالجزيرة، لكنني أكاد أتصور أن بداياته ‏الأولي كانت شديدة القرب، حميمة الإختلاط، من عامية أهله هناك، وسط تلك الأجواء الرحيمة، باللغة وبالطفولة، بالطبيعة ‏والكائنات، بالشجر والعشب والطير والماء، متخمة بفيوضات حنان القلوب، تزفها أعراسا في وجدانه اليانع في طلوعه. الطفولة وهدهدات المهد، الأهازيج والحكايا، الأعياد والأراجيح والحلوي و... الفرح، أكاد أتصوره، في وقته ذاك، وهو يتلقي ‏كل ما حوله، بلسان عامية أهله، والبيئة كلها، من حوله، مشبعة بالعامية المشحونة بالذكريات والحساسيات التي تولدها في الناس. أظنه، ‏منذ بواكيره الأولي تلك، قد أدرك أن للعامية قدرة عالية علي ملامسة الناس، فتشكلت لديه رؤيات ملونات يسدلها عليها، ثم ‏يدخلها، بوعي، ظل يتعمق لديه رويدا رويدا، إلي جسدها فيزيدها فتنة وعذوبة. وكلما إزداد وعيا إزدادت هي إقترابا ‏حميما ولصيقا به، بشاعريته وعواطفه كلها. فقد أدرك، أيضا، إن للمفردة العامية، في صيغتها الشعرية قدرة "تاجيج‏‏" الوجدان وتفجير طاقات الحشود، تفعل في النفس فعلها أكثر مما تفعل الفصحي، خصوصا لدي الأوساط الشعبية، وهم ‏الذين يحملهم في قلبه وينشئ قصيدته لأجلهم. ولا يفوتنا هنا، أن نلاحظ مقدار ما لدينا من كم الأمية الكبير وسط شعبنا. ‏ثم أنه، ومع تطور ونمو وعيه، أدرك ما في عامية أهله من جماليات، غني جمالي "موروث" لديهم، لكنه، للأسف ‏العميق، غير مدروس جيدا حتي اليوم. لقد وعي القدال شيئا كثيرا من ذلك كله، فتكرس الإنتشار لقصيدته في السودان ‏وخارجه، يقرأ شعره الآن جيدا في مصر والعراق وسوريا ولبنان ودول الخليج وغيرها، فقد كان رهانه، منذ البدء، ‏علي قضية عادلة، في اللغة وفي الشعر.
لنورد إذن بعضا من المفردات التي جاءت في قصيدته التي إنتقيناها لندلل عبر كلماتها أن المفردة وحدها تعطيك معني ‏بين، ويزداد ذلك المعني إتساعا حين يشكل الصورة الشعرية ويختلط بها، تأمل كلمات من مثل: ( دمدم / الحازنك / تعدي ‏‏/ الشفتيهو / حسارك / هبهب / كضبا / جناك / حنك / تب / ما صابو / الصارلك / الكاتلك / وحيدك / تلب / الحترب / ‏الميضنة /الباردة / تعب / الحارة / خضرب / قصروب / شقيش / لا تخش / تايوتا / الزغلب / الكانو / جنب / كبس / ‏جنازرو / النصيحو / عتيد / ضهابة / مركوبو / العليهو / يتباطا / خبة / العلوق / نفاقو / سلقة / متهني / ماهماهو / ‏باسط / شافلو / نط /الخانة / جنابو / دارو / اسيادو / كرخانة / ضبحة / الفجري / السلخانة / أقيف / الخلوق / محنانة / ‏العبرة / فوت / خنقانه / ونانة/ ياد / طاق / جازاك / دبابير / دانة ). لكل كلمة من هذه المفرادت معناها ودلالاتها في ‏وعي الناس. مفردات جد بسيطة منها ما هو في التداول علي ألسنة الناس، ومنها البعيد عنها - لربما لغرابتها – لكننا ‏نجدها هنا وقد لبست لها لبوسا مما ألبسها إليها الشاعر، وهنا يمكنك أن تري كيف للإبداع الشعري يكون في العامية، ‏وكيف تستقر المفردة في الوجدان، فتمسه مسا وتأثر عليه تأثيرا يقارب الدهشة، لكنه يكون قد غدا في الحب. لاحظ كيف ‏تكون المفردة في صيغة عاميتها إبلغ وأشد تأثيرا من الفصحي، مثلا مفردات مثل: الحازنك عوضا عن " الذي أحزنك "‏، و الشفتيهو عوضا عن " ما رأيته "، و حسارك عوضا عن " حسرتك "، وحنك عوضا عن " حنانك "، و شقيش ‏عوضا عن " أينما " و الفجري عوضا عن " في الفجر "، و الصارلك عوضا عن "ما صرت إليه" و... هكذا، ‏تجري المفردات بين يدي القصيدة فتكون في وجهة المعني والدلالة و... خادمة طيعة ومغناجة للصورة، تنشأ في ‏تلاوينها وضجة أغانيها. أما تلك التي " نحتها " الشاعر وألقي بها في القصيدة فعدت من الإبتكارت في فصيح عاميته، ‏فهي هنا، علي سبيل المثال: حسارك التي هي حسرتها وقد جاءت أعمق تعبيرا وأكثر طلاوة وأشد تأثيرا أيضا، أضافة ‏إلي إنسجامها مع موسيقي وإيقاع القصيدة. و مفردات "الحترب / الميضنة / خضرب / قصرب / الزغلب / جنازرو / ‏خبة / خنقانه / ونانة / ضبحة / الخلوق / محنانة " و... غيرها، هي من إبتكارات القدال اللغوية في شعره، فلم أعلم - ‏بعد – أن هنالك من سبقه علي إستخدامها في مثل هذه المواضع، التي هي مواضعها هي بالذات في القصيدة، تأخذ الواحدة ‏منها فيختل نظام القصيدة وبنائها بأكمله فلا تعود في فتنتها التي تدهشنا و... تسحرنا!
أما عن العبارة المبتكرة في القصيدة، فأننا نجدها حين تكون العبارة قد "حضنت"، مثلما أم رؤوم، المفردات التي ‏أحست بميل قلبي إليها إن صح التعبير، فهي تنتقيها لتصطفيها، تضمها إلي حنان صدرها، تقبلها لتريها جميلة ‏ورشيقة وبهية في الناس. نعم، أن لها تلك القدرة العجائبية أن تخلق فيها الجمال والخفة والرونق البهي في ملامحها ‏وجسدها. ولنا أن نري كل تلك الفتنة في عبارات مبتكرة في القصيدة نفسها التي أمامنا ، منها مثلا: "حزينة وجوفك ‏دمدم حزين / حزنت وقلب الحازنك خلي / تعدي الحلم الشفتيهو قديم / وتملا حسارك قلبك ملي / وكل ما هبهب قاصدك ‏نسيم / يلهب جلدك كضبا طلي / فطمت جناك وحضنك رحيم / وحنك تب ما صابو البلي / سمعت غناك وصوتك رخيم / ‏شديد أوتارك زايد حلي"، هكذا ينظر إليها، إليهما معا، الوطن والحبيبة، فهما عنده في الواحد لا التثني، والأنا التي ‏يقول بها الشاعر هي عشقه فيهما لا غير، ولأجلهما، كانت القصيدة، و... كان الشعر. العبارة هنا نجدها ليست منبتة ‏عما يجاورها من عبارات، بل هي ممسكة بعضها ببعضها في تماسك لا يكاد ينفصم، لكن أيضا، لكل عبارة منها ‏وجهها ومعناها وإشارتها ودلالتها القريبة جدا والمتداخلة مع اخواتها، تلك القربي العصية الإنتزاع من سياق القصيدة‏، ومن هو ذلك الذي يستطيع منازعة الشاعر في رؤاه؟ يمكنك أن تمضي مع عبارات القصيدة، علي ذات النسق، حتي ‏نهايتها، فتتجلي أمامك في جدتها وفي إبتكاراتها، هنا وهناك، وعلي طول مسار القصيدة. في ظني، أنه لم يكن من بد أمام ‏الشاعر سوي الإنصياع لنداءات اللغة في دواخله. فقد رأيت كيف أن الأمر كله قد بدأ معه بحب اللغة، اللغة - الأم، ‏وسائر اللغات، أعني اللغة الشعرية في وجهة عامياتها هي بالذات، لربما بدأ الأمر عنده في المدرسة أو ما قبلها، ‏ومعلوم أن المرء يبدأ بالتحول إلي فاعل عبر لسانه الأم، وبوسائط يكرسها التراث اللغوي والتعليم، ثم - من بعد - ينحو ‏بلغته إلي لغة أهله التي لها السيادة في بيئته، ثم يجري عليها ما تمليه عليه موهبته و وعيه، يفعل ذلك في لغته الأم وهي ‏في علاقة مصوغة وموجهة صوب وجهتها التي في رؤياه وضميره الإبداعي، لكأنه يكون في برهة التفكير حول اللغة، ‏داخل اللغة نفسها، تهيؤا للخروج منها بميلاد آخر قد لا يكون شبيها لها إلا في القليل الذي لا يعتد به. هي لحظة التفكير "الإنعكاسي"، التفكير المسقط علي الذات، لحظة تفكير ما بعدي، تفكير نقدي وجمالي، إذا ما فهمنا بالجمالية التفكير ‏بالآثار والجمال في علاقة ما بعدية، أو لنقل لاحقة للآثار السائدة والتي سبق وتعلمناها ودرجنا عليها حتي غدت في ‏المسلمات عندنا. أنه البحث المحرق في اللغة، "تنقيب في الظلام" علي قول مأمون التلب، هكذا لا يمكن للكتابة إلا أن تكون ‏شعرا، وأن يكون الشعر نفسه بعضا حيا وكثيرا من الشاعر نفسه!
هذه وقائع في شأن كتابة القصيدة عند القدال كما رأيتها وأحسستها، لكنها - في ظني - وقائع تتضمن منطقا، لا منطق ‏تاريخ شخصي للشاعر، بل هو تاريخ إبداعي لديه في قول الشعر، وقابل للتعميم، هل يمكنني دعوته حكاية؟ لم لا، فهو ‏حكاية في شأن شعره في عاميته هو بالذات لا في غيرها. فالخطاب الإنساني كله، مهما أوغلنا في البعد، قد بدأ ‏بحكايات. حتي اللاهوتيات بدأت بالحكاية، بالسرد، بالرواية، و... بالشعر، منذ العهد القديم وحتي القرآن. القدال – كما أري - "غاطس" عميقا في هذا النبع، لعل الأسئلة، وهي تتكاثر عليه وينوء بها كاهله، هي التي جعلته في البحث والتنقيب ‏حتي أوردته إلي الضفاف العفية حيث وجد الإجابات والصياغات في لغته العامية التي اطمئن إليها وأستقرت عليها ‏قصيدته، بعد عناء تلك الأسئلة التي تتعلق بالفن، باللغة، بعلاقة اللغة بالكينونة وبما هو راهن وماثل أمامه في بيئته ‏وسط ناسه وفي وطنه. وهنا بالذات يتوجب – إن شئنا درس الشعر – أن يطال الحديث " الأنطولجيا " أو الكينونة ، و ‏‏"الفينولوموجيا" أي الظاهراتية، حيث تنتشر وتتمفصل قدرة اللغة ومحباتها في حركة إن لم تكن هي نفسها واحدة، ‏فستظل غير قابلة للإنقسام، مزدوجة في الأساس، إذ يصبح فيها المرء رائيا وشاعرا، فينموان معا، في البزوغ الكبير، ‏فأين المفر؟!
كان هذا مدخلي إلي أحدث قصائده " طنين الشك واليقين" المؤرخة 19/ أغسطس/ 2014م، حين شرعت في تناولها وقتذاك، التي أعدها تطورا نوعيا في ‏شعره، برؤية مغايرة وتفكرات عميقة في ما آل إليه الحال، حال الناس والبلد، وقد تحدثت معه في شأن قراءتي لها، فلم يخالفني الرأي. ‏

الطنين يبدأ يقارع القدال!
( أنا عاصم الحزين،
لا أقبل في أستاذي محمد طه القدال.
أسميه حقلاً يسع السنابل كلها
وخريف الدُعاش المستمر
لا أساوم في موقف الروح منه
أحاور خبرته وأجاور إشاراته النِد بالنِدْ
أقف أمامه بما تراكم من خبرة الوعي بالمعرفة، وبإبداع الذات في الدروب المختلفة
أقترح له نشيداً
ويقترح لي نشيداً
الحجر
البئر
العين التي رأت
العُشب على الحواف
الموتى بجانب الطريق
الشجرة التي الحلم
الحصاة في فنجان القهوة
الضوضاء ما برحت عادية
( الطِريف ) والرِمش يضحك
البنت التي...
المبالغة
والشعر حين الوردة
الضوء يتوضأ بالشعر
الندم منقبضٌ
النية( تِلّيسةٌ )
الشهوة هوّةٌ
الدم لا أماماً ولا بعد القتال
الحب لا يتعالى وقال:
أنتَ تحب محمد طه القدال
وأنا أقول:
أحب أستاذي محمد طه القدال
أحب مبدعي بلادي
وأحب أبناء شعبي عليهم السلام أجمعين
وسلامٌ حتى مطلع الأمر. )...
- عاصم الحزين -
الخرطوم/ نوفمبر 2014 م.
هكذا، من وجوه وتلاوين القصيدة، ينشأ حب الناس للقدال. لا من المدائح ولا من الرياء، ولا من المجاملات التي لا تري مافي الشعر من جمال ومن درس .... بل من تلقاء القصائد وفعلها في قلوب ووعي الناس. وكما نري هنا، فقد رأي عاصما فيه ( يقينه ) فأفصح عن مواجده نحوه، نحوه هو شخصيا، ونحو شعره الذي جعله في كل هذا اليقين. وفي ظني، إن عاصما لم يطأ موضع الشك، بل دلف بدواخله كلها إلي ذلك الملكوت الظليل من الحب صنيع القصيدة، فكان هذا اليقين الذي جلبه إليه الشعر. ولا أظنه، أيضا، قد عرف ذلك ( الطنين ) الذي شاكس القدال في رؤاه كما أسفرت عنها قصيدته التي نحن بصددها، نعني قصيدة( طنين الشك واليقين ) التي هي من جديد شعر القدال كما أشرنا إليها في مبتدأ هذه الكتابة، وهي نفسها التي رأينا إنها تكاد تكون ( عتبة ) جديدة عالية في مسار قصيدته، وإنها تستحق أن نقف حيالها، بالتأمل الكثير وبالدرس أيضا. ( الطنين ) إذن، قرع كثيرا في وجدان القدال وهو يحدس ويرهص بهذه القصيدة، والطنين أجراس، لها دوي وإيقاع. يكون خفيفا هينا حينا، ويكون أحيانا دويا هائلا يهز الوجدان ويرعشها مثل قرع طبول في غابة بتول. هو تنبيه بما هو حادث، أو ذكر بما جري في برهات عاشها وجدان الشاعر ووعيه، بحساسية الشاعر فيه بكل ما يعتورها من قلق ورعشات ورؤي محرقات في تجوالها داخله. تختزن ذاكرته كل هذا اللهيب، حد توصله إلي قلبه فيرقشه ويتداعي الرهق اللذيذ فيكون في الجسد! ما أقسي تلك البرهات علي قلب الشاعر وعلي جسده، وما أجملها، وهي منه في بلبالها ذاك حتي تكتمل صورتها في رؤاه، عفية في جمال سماتها وملامحها فتخرج في الناس تقدل في دلالها، جالبة الحب إليهم و ... اليقين. لكن، وقبل أن تكون تلك البرهات يقينا، فهي تكون طنينا في وجدان الشاعر، وتطال، في ذات البرهة تلك، ذاكرته، تنتاشها وتناوشها، شيئا ما أشبه بالإفتراس، لكنه منه الرحيم، يكون في الدم لا في الجسد، في الذاكرة نفسها حيث الوعي سيدها وهو الآمر في راهنها. فيكون الطنين قادرا علي إستثارة دواخل الشاعر كلها لكي تنتبه... وتري ما هو حادث فتكون فيه. وهنا بالضبط يأتي ( الشك ) مقحما نفسه، في ذلك العنفوان، ويفعل فعله الذي قد يورده مورد الحريق فيجعله في الأتون من اللهيب، لا وجعا يمسك به وإلا وضعه فيه، في المحرقة التي تؤلم حد القسوة، لكنها ( القسوة التي في الحليب ) علي قول المجذوب. لكنه - وياللمفارقة هنا – قد يكون لطيفا أحيانا، لينا وحانيا، جميلا في مسراته، لكأنه وردة الصباح قد تفتحت لتوها في شروقها.
الطنين، في رفقة الشعر:
فما هو الطنين، لغة ومعني؟ طن يطن طنا وطنينا، يراد به، علي ما جاء به لسان العرب، القطع أو بتر الذراع بالسيف، وتلك مفارقة هنا أيضا. وهو صوت الأذن والطس والذباب والجبل، فتأمل! وهو صوت الطنبور وضرب العود ذي الأوتار، وطنين الذباب صوته إذ مرج وسمعت لطيرانه أصواتا، وطن طنطنة ودندن دندنة بمعني واحد، وهو الصخب في الصوت وتعني الكلام الخفي...، ذلك، إذن، مما قالت به العرب في معني الطنين، لكنني أري إنه كان جلبة عند القدال، جلجلة وضجيج ظل يقرع دواخله فيجعلها في الإنتباه لحالها وهي تعيش قلق الأسئلة في تواترها المؤلم وهواجسها المقلقات لطمأنينة نفسه... لقد رأيت قلقه جراء ذلك الطنين كله يكاد يجعله، لفرط خشونة الواقع من حوله، في الفزع، الذي هو أحد تجليات قلب الشاعر ووساوسه عندما يعيش تلك اللحظات، بالغة الحساسية والألم لطلوع القصيدة. يقول عن (الشك ) لحظات اشتداد الطنين عليه: ( الشك رهاب الذاكرة )، لا ينفك عنها، بل يلازمها في تحولاتها تلك، ثم يقترب، يقترب وهو ينازع نفسه ليقول: ( الموية بتنقط يقين!). وفيما سبق رأينا كيف جعل من الماء كثيرا من العزاء، بل شيئا كثيرا من الأمل و... لربما أحد عتبات طريق الخلاص وقد رأه، رأي العين، وليست تعطي الأمل وتمنح الضوء في النفق فيضئ فحسب، ليس (نفق) حمدوك وحكومته علي أية حال! بل، بينما هي تفعل ذلك، تطرد تلك المنغصات البشعة عن الطريق، فيكون ممهدا لكي يمشي إليه الناس، أنظروا ما يفعله الماء، أيضا، وهي تغسل وتدحر وتزيح: (تهرد هرد... / أدران نفوسا خاينه خايفه وماكرة. الموية عندها ذاكرة.). يا سلاااااام، ليتني أجد وقتا أتقصي فيه وأتأملها تلك الذاكرة المدهشة، ذاكرة الماء في شعر القدال، سيكون ذلك لاشك درسا عظيم القيمة والجدوي في النظر إلي شعرنا، فلم أري، فيما أعلم، أن هنالك من جعله في مثل هذا الوجه في شعرنا كله! تتجول الرؤيا، في هذا المنحي، وتحلق في أعلي أعاليها و هي تصور معني تلك (الذاكرة المائية) في إختلاطها بالناس ومعايشتها لهم كل أوقاتهم. تلك الحيوات الجميلة السمات في الوطن رغم البؤس والشقاء والعسف الذي يحيط بها صباح مساء، فتعطيهم الأمل مزهرا في شروقه، تجعله القصيدة دانيا إليهم وبين أيديهم .
أين يذهب الطنين وماذا يترك من بعده؟
الماء هو ما جعل الأمر هينا، وهو الذي (غسل)، نظف ونقي، فغدت الرؤيا في جلاء الوضوح ومصاحبة الحياة، في المسرات التي تكون بعضا كثيرا من أناشيد وأغاني الحياة في الناس وهم يسعون، سعيهم كله، صوب الغد. أعطتهم الثقة وأرتهم ملامح المجد من حولهم، لعله يواسي جروحهم وهو يفصح عن معاناته التي أوصلته إلي عتبات اليقين، وقت أذهبت ( ذاكرة الماء )عنه ذلك الطنين كله. يقول:(وريني سيل نسي مرقدو؟). يقول بذلك وهو (يهرول)، لكأنه لا يود يضيع وقتا أدخره ليكون في شأن الناس لا غير. وهو علي تلك الحال، ومن وسط (الجلجلة)، يضع نفسه في موضع الندي، في الموضع الذي فيه الذين هم في رؤاه بذرة يانعة و... مزهرة، إلي حيث الإشارات التي أخذته إليها وهي تؤشر إليه ليكون، فيتأمل حالهم ويريهم وجوها لم يروها، أو بالأحري، لم ينتبهوا إليها حتي جاءهم المدد، مدد الماء في معية الضوء. يقول في شأن حالهم:(أما المساكين الدراش...)، وتأملوا هذه المفردة الجميلة في موضعها (الدراش!)،. فالخور وسائد مرقدم... )، هكذا رأهم فتفطر منه القلب وأقتربت الرؤيا منهم فلامستهم في حالتهم تلك من بؤس الحال ووخزات المسغبة وهم في (مرقدم) و... ياله من مرقدم! وهم علي تلك الحال، تأتيهم إشارات، لكنهن الكاشفات، فتجعلهم في (الظن) الذي هو صاحب (الشك)وثمرة (الطنين) في ذات الوقت. ألم نقل أن بعضا منه يكون أحيانا هينا ولطيفا و... هاديا؟ فمتي، وكيف يأتي ذلك (الظن) الكعب؟! لا، هو ليس ظنا جاء الشاعر فخالط إليه رؤاه، بل هو ما رأه باديا في الناس المتعبين في مراقد البؤس تلك. يقول:
( فالخور وسايد مَرْقَدُم..
من فد هطيل ..تِنْدَكَّا
والذاكْره لامن تنغمِس في الطين ..
بتصبح طين ..
طيناً عَميكة ولُكَّه.
ويومها التغيب في ظِنَّتَك
راحت عليك السِكَّة.
حِس القِرِش .. ظِنَّه
خَم الهَبِش .. ظِنه
دم النَّبِش .. ظِنه
ما بيتسمع.. ولا فيش يقين
إلا النويح فوق البِرِشْ
تتذكر الكون في شريط
ويمر عليك طيف الحياة
زي البَرِقْ
ويجوط عليك العَرْشْ
ما تْفُرزو من قَش العَرِشْ.
يمسخ عليك الموت
تحلالك الدنيا
بس العُمُر هيهات ..
لا طار ولا ركَّ )....
عندما يأتي الماء، حين يأتي، ليكون خيرا وعافية في الناس، ليكونا مددا لحياتهم، وسكة سالكة للمسير، وليكون الضوء إليهم وشارة إنتصار وفرح، هذا بالطبع لو كانوا من رؤياه، في حقيقته التي هي من ذات وجوههم في معاشهم اليومي (ومراقدهم). حينها يكونوا في الرؤية المنيرة، وفي صحبة عافية البقاء و المسير الذي يقود خطاهم إلي حيث يكونوا في مراقي المستقبل الموعود بشروقهم فيه. لكن الشاعر يذكرهم و... يذكرنا، وهو تنبيه جراء المكابدات، بما من شأنه أن يغبش لديهم، ولدينا، رؤيتنا فيسوء حالنا فلا نعود نري، لذا نري أن (التنبيه) هنا من لوازم الصورة والمعني في القصيدة، ولا مندوحة من ذكره. وتلك (الظنات) ولا أقول الظنون، تكاد تبلغ مرتبة الطنين، لكنها لا تكونه أبدا، برغم المسار الوعر للقصيدة في مناحيها هذه، في تحليقها في المعيش مما نحن، جميعنا، منه وفيه! تستطيع أن تري كيف تكون الذاكرة حين هطول الماء، حين يكون الطين طينا حتي ( تنغمس ) بعضا من الذاكرات فيه، فتصبح طينا هي الأخري، فلماذا يكون إنغماسها فيه أصلا؟ ذلك من (غبش) الرؤية لاشك، التي لأجلها أوقد الشاعر مصابيحه في مواجهتها، لينكشف أمامهم ما لا يرونه منها، وتلاحظ أن الشاعر قد جعل من ذلك بعضا من مهمات قصيدته ليكون في خدمة الذين يحبهم. ثم رأينا كيف تضيع (السكة) نفسها عن تلك الذاكرات حين تصبح طينا في الطين فلا تعود تري ولا تحس! تصبح تلك (الظنات) وبالا علي الحواس، إذ تجعل السمع غائبا، فالطين قد غشاه فعاد السمع معطلا، هنا يغدو ( اليقين ) منعدما، ويبلغ الحال ببعض الناس مبلغ اليأس والحسرات والتفجع والإستكانه، فمن أين يأتيهم اليقين إذن؟ وقد أصبح عندهم محض (نويح فوق البرش)؟ تلك حال من لا يحسنون البصر، والبصيرة فيهم في الغباش الذي يعتم رؤياهم، إذاك، ويالويلهم، (يجوط عليك العرش/ ما تفرزو من قش العرش!). فما المخرج، إذن، من مأزق الطين هذا، وكيف يكون وجه الخلاص والبشارة في القصيدة؟ ذلك ما سوف نراه في ما يأتي.


أرابيسك القدال.
(ثمرة ناضجة
والشمس في داخلها قلب نقي
الشمس كلها للناس.
... ... ...
الناس كلهم للناس
والأرض بأجمعها والزمن
والسعادة في جسم واحد.
... ... ...
أنا أقول ما أري
أقول ما أعلم
أقول ما هو حق!)...
- بابلو نيرودا -
و... لكن ما هو - أصلا - الأرابيسك؟ هو يعني، من ضمن ما يعني، التزيين، يقوم بالتداخل المنفلت، المغناج في دلاله، للزهور وللورود وللثمار و للخطوط في تنوعها وتعرجاتها وللألوان، تذهب من تلقاء ألوانها، في اللوحة لتقول قولها! نتحدث عن (الأرابيسك) في نسيج قصيدة القدال، لكن قبل ذلك لننظر إلي عنوانه الجديد المبتكر، الذي لم نعرفه عنه من قبل ولا أظن أنه قاله بهذا (اللون) الذي تحار كيف تنظر إليه في وهلتك الأولي: (طنين الشك واليقين)، هذا ما جعله عنوانا لأحدث قصائده المؤرخة.... ونظن أن العنوان هنا هو مفتاح يرشدنا إلي الباب الذي يمكننا من الدخول إلي براح القصيدة. وأول ما يطلعنا عليه عنوانه هو تنبيهنا بأننا نقف علي أعتاب عالم تتداخل فيه الأفكار والأشياء والوقائع والمشاهد و... التفكرات.عالم تلتف مكوناته علي بعضها البعض، وأن العبارة، العبارة التي هي من جنس القصيدة وجسدها نفسه، متروكة لغواية هي في صميم ذاتيته، هي إنفلاته حينا، وحينا آخر مزاجيته الشعرية ورؤياه، قد تكون أيضا هي بعض فوضاه ومتاهته، هي منطقه المكشوف وجهه في القصيدة مرتسما في هذا التداخل اللغوي اللين مع رؤاه ووعيه، لكنه المتروك – له وحده – لتزيينه في ذلك الأرابيسك المكون لشكل القصيدة الذي يفصح عن فتنتها. نعني أن (الشكل) هنا محكوم بحالة الشاعر تلك، بمزاجيته عند إمساكه ببرهة الشعر، هي مزاجية القول وإنفلاته صوب رغباته، وصوب أشواقه، من حيث هي طبيعة مجئ المحاميل إلي النطق ونسجها – بخيوط فيوضاته – في قول أو لنقل في صياغة أو بالأحري في نسيج مبتكر، ومن بتلك القدرة علي إبتكار النسيج النفيس سوي النساج الأكبر! لقد رأيت في القصيدة بعضا كثيرا من هذا التطريز البديع في رداء القصيدة، ليس في النسيج وحده، بل في الألوان التي تزينها فتبدو كحلية نفيسة لامعة تحيط بخصرها. قرأت ما قالت به يمني العيد حول السرد الذي جعله أنطوان شماس في روايته:
( ARABESOUES ) وتعني أرابيسك أيضا، كتبها بالعبرية وقرأتها يمني مترجمة للفرنسية، وبدا الأمر لي وكأنها قرأت قصيدة القدال هذه، ولو جاز لنا أن نجعل قولها عن الشعر عوضا عن السرد لما رأيت تعسفا في قولي، تقول يمني: (في التزيين تترك للخطوط حرية ترسم جمالية الشكل. لا معني يقود حرة الخطوط، بل إن معناها هو حركتها. وفي السرد يترك للكلام حرية تنسجه وتبنيه شكلا، كأن حركته هي قوله. أي كأن الكلام السردي يتحرك في صياغته متروكا لذاته، أو، لما هو ذاته، قوله المعادل لواقعه وحقيقته. هكذا يوحي تكون القول بأنه تكون شكله، كما يوحي تكون الشكل بأنه هو، تماما، تكون القول وظهوره )*... تماما، مثلما نراه جليا في (طنين الشك واليقين) لدي القدال. الحركة اللغوية هي نفسها، واحدة، والصور في معيتها رافدة وحاملة إليها محمولاتها بالذات ، حركة العبارة إذ تجئ – لفرط فتنتها – إلي صياغة تبدو غير مكترثة بالقوانين السائدة ، تلك الجاهزة و المعدة سلفا في قوالب يقولبون فيها القول الذي يجافي مقولاتهم.
في الطريق إلي الطنين:
يجب أن لايغيب عن إنتباهنا، ونحن نسعي للأقتراب من منطقة الطنين، حيث الشك و... اليقين في قصيدة القدال، أن الشاعر بدأ يغدو " مطوقا " ، لا بالايديولوجي الذي نراه في بعض شعرنا، بل ب "الحدثي" الذي تفصح عنه الذاكرة، مطوق لا بوعي هذا الحدثي إذ يتجلي في مشهد الحياة من حوله فحسب، بل بمشهديته المنسوجة علي وجه الذاكرة. هذا ما سعي ليقوله لنا في صورة الذكري. وهنا بالضبط يفلت الواقع الخشن منه، برغمه، فلا يكاد يكون في طوعه، لذا يفتح نوافذ قوله كلها لتكون في تعدد الأقوال في اختلافها وإلتباسها، فتتحاور ما شاء لها أن تتحاور وتخلق أزرقها، تلك المساحة جهيرة الحرقة والمرارة في ما بين الشك الذي يداخله و اليقين الذي في أشواقه كلها و يسعي إليه. لكن العبارة تبقي، في مجمل السياق، تشف وتشي عن توجهها فتكاد تكون هي منطوق الشاعر نفسه، بل تجد صدي لها في صوته ونبراته وأنفاسه حين يقول بالقصيدة، تلتمع أحيانا كثيرة كومضة عن قصد، أو كمنطوق بها لكنها تشرع في الهروب من قصدية يراد لها أن تكون طوقا يطوقها، كل ذلك يمكننا أن نلتقطه من لسانها حين تكون قد توغلت في تلك المتاهة و... تود لها هروبا إلي البراح الفسيح! في طريقي إلي تلك "المنطقة" وددت أن أبدأ أسير قليلا من أول الطريق إلي قصيدته التي سبقت قصيدته هذه مباشرة وأحدثت دويا لا يزال صداه يرن في السامعين والقارئين فينبههم إلي ما في حياتهم من قسوة ومسغبة وتغيرات خلخلت منهم نسيجهم الذي كان في التماسك والتراحم و... مودات التسامح والحب، أعني بها قصيدة "طواقي الخوف". التي تحسر فيها أيما تحسر وتحرقت من جراء وجعها المفردة والعبارة حد أصبحت لهيبا ونارا في المشهد برمته. يعلن أنه ما عاد يعرف خوفا ولا يخشي عاقبة تأتيه من حيث لا يدري أو هو يدري لكنه لا يتواري عن ما يستوجب التواري عادة، لدي بعضهم الكثير ، التواري خشية أو تقية ، فيمضي في بسالة الفرسان ليقول قوله ويتحسر علي إنفصال الجنوب وتخلخل وتفتت أطراف البلد، تلك حال تجعل الطريق وعرا إلي منطقة الشك و... اليقين أيضا، منطقة وعرة لاشك، لكنه بالغها بإرادة الذكري وواقع الحال و رؤي الشاعر التي هي ممكنات ومعقولات في أشد المناطق وعورة وخشونة. انفصل الجنوب، والحرب تأكل من أطراف البلد، من أطرافها الأكثر حيوية وخصوبة و الحال أصبح "مقلوبا" حد لا تكاد تتبين خيطه الأبيض من أسوده، والناس – بعض الناس – صاروا أبواقا وطبول، والبعض الآخر في توهان الذهول والحيرة:
"والمنابر
أه من تلك المنابر
أنداية كرتلة وبنابر
والجرايد
داقة طارات المدايد
الصدق في الناس كذوب
الساسة نيام العسل
بين أنتباهة
وغفلتين
بين السلاطين والجيوش
والشلاتين
والقرايب
فين حلايب؟
واللي بني الارض كان في الفرض
سوداني!"...
"شلاتين" منطقة مطلة علي ساحل البحر الأحمر بالقرب من حلايب، والشاعر هنا يقول بسؤال السيادة الذي يقلق الروح التي في حب الوطن. ولكن، أنظروا للحلية في هذا الجزء الصغير من القصيدة، ونعني بها ذلك الأرابيسك الذي يجعله الشاعر في المفردة فتغدو مثل عقد اللؤلؤ في عنق العبارة: المنابر / المنابر( يكرر المفردة لتغدو جرسا وإيقاعا يسري مسري القصيدة فيجلب إنتباها ومعني) / كرتلة (إستدعاء تلك المقامرة المحفوفة بالمغامرة من زمان سمح مضي) / الجرايد/ المدايد (جمع مديدة وهي في دق الطار لها طقس ومذاق يكون في وجه المداهنة أحيانا) ثم أنظر في العبارات لتجد فيها تلك الحلي في تمام جمالها: الصدق في الناس كذوب/ الساسة نيام العسل / بين أنتباهة وغفلتين (هي غفلة آخري، ليست واحدة، وفي المابينها وأنتباهتها تلك المساحة الرمادية، الغبشاء في رؤي الناس، فكيف لل الشوف يكون جليا واضحا ومؤشرا والحال كذلك؟) / السلاطين والجيوش (في كفة أو بالأحري في الضمير اليقظ) و / الشلاتين والقرايب (هنا تكتمل الصورة وتبدو واضحة في مشهد المقابلة بينهما) ليأتي – برغم السرد نفسه – سؤال الروح وقلقها علي جسد الوطن: فين حلايب؟/ واللي بني الأرض كان في الفرض سوداني!! ، أينها تلك الجغرافيا الآن من وجه الوطن، أينها(السيادة) بالله عليكم حتي يوم الناس هذا!!؟
اللغة في ما بين سحرها و الواقع:
لو سرنا مع فرضية إن المألوف في الصياغة الأدبية أن ينتج الواقع رموزه وفضاءه سواء كان خرافيا أو سحريا، فأن القدال نهج عكس هذا المألوف الشائع السائد حين سعي إلي تحويل ذلك الذي نراه سحريا ورمزيا إلي واقع، أو هو – في قدرة أخري – قد جعل الواقع يبدو، في أزمنة متقاربة لكنها غير متشابهة، في السحر وفي الرمز وفي الإشارة... أستطاع بمهارة اللغة وأجنحة الخيال والعين الوسيعة أن يجعل الجمالية (التزيينية)/ الأرابيسك نعني، تبدو في جمالية الحقيقي، في الواقع الذي نراه ونعيشه رغم بؤسه وقسوته، ذلك معناه، وتلك هي رؤيته التي تزين ملامح القصيدة عنده. لهذا قلنا أن شغله الأساس في قصيدته هو اللغة، عاميته التي يخوض بها مغامراته الشعرية كلها، ممسكا بها من عنقها، في أخيلتها وصورها ومعانيها ودلالاتها علي حد سواء. وهو إذ يفعل ذلك فأنه يريد لقصيدته أن تكون مجلوة وفي كامل زينتها، فهي "عروسه" الذي يأبي أن يزوجها لأحد لتكون خالصة إليه! ولهذا، أيضا، نقول أن كل شئ في قصيدته يبدو متداخلا لدرجة تجعلك تكاد تكتفي بمتعة القراءة والسير بمعية اللغة وما في صحبتها من بهجة والرضي في الدخول إلي عوالمها، فالتداخل الذي نعنيه هنا تزييني جميل ودخولنا هنا هو من باب المتعة ذات الفتنة، تجذبنا، برغمنا، جراء جمالياتها مشفوعة بإغراءات من تجليات اللغة وما يحف بها من صور ومشاهد و... معاني، وبشوق يعترينا حد لا نجرؤ علي مفارقته لنكتشف عوالم اللغة تلك. نجده في عديد المرات يترمز لكنه لا يخرج أبدا عن سعة اللغة في تمظهرها الشعري ويستند إلي ذخيرة حية تستدعي التاريخ وعادات المعاش، من ذلك الواقع الحي ويسعي بين الناس لصيقا جدا بحياتهم. دعونا، الآن، وقد سرنا سيرنا حثيثا نريد أن نبلغ تلك الجغرافيا والتاريخ ولحظة الشعر التي من علي تخومها بدأ ذلك (الطنين) يخايل الشاعر حتي وضعه في حال (الشك واليقين) حيال الأمر كله، دعونا نتأمل هذا الجزء من قصيدته ( طواقي الخوف ) ونسعي لنري فيه ملامح قولنا عن الأرابيسك في قصيدته، علما بأن (طواقي الخوف) من مطولات القدال وليس متاحا لنا هنا أن نجلو كل وجوهها، لكننا نكتفي بقليلها الذي هو، لا شك، بعضا كثيرا منها أيضا، وقد يصلح مصباحا إلينا لندخل عبر ضوئه إلي حيث العتمات التي ستنكشف لنا علي وجوهها كلها لدي حالة (المابين) التي عايشها حتي طلوع قصيدته في الناس. نتأمل، إذن، قوله في هذا المجتزأ:
( عيال بتسرح للمدارس
والقطور نجمآ بعيد
بنوت بتجري
علي الخطاطيب الخطاطيف
البتجرح
والعريس نجمآ بعيد
الدكاكين التملاء وتفضي
السماسره يسمسروا
والبسفوا الطين
يسفو
والبحتوا الراب
يحتو
والبناطلين ليها سستم
والقوانين ليها سستم
البنوك الفيها بستم
من سويسرا ولي ماليزيا
باالسفارات
والعمارات
والخبارات
أنا كنت متغطي
ومندفي
العمة ملوية
والشال علي كتفي
سودان وكان ماكان
سودان علي كيفك
السكة ساعة أيد
والارض مروية
والناس حنان وظراف
والرايح يجيك
للحول
والخدمة مظبوطة
مظبوطة مدنية
والدنيا حرية
الماشي درب الكار يغور
والتاب من التمباك يتوب.....!
أنا مابجيب سيرة الجنوب
الغبوا عرفوهو
والعرفو سووهو
أصبحت زي الزول
قادل بوسط السوق
سروالو ملصوهو
لو العرق مسروق
أوقلبي نشلوهو
طعم الكضب مسلوق
ماسخ تضوقوهو
لو فمي ما مطلوق
أو كمي غسلوهو
ياني البسوي القوق
قولي البتابوهو
ماعندكم دمي
ماعندهم دمي
من دمي لا لا لا
ماقدرو فصلوهو
وانا مابجيب سيرة الجنوب)...
نقف هنا، لنورد بعضا من الموقف الشعري للقدال وهو يعيش أحداث وتجليات ثورة ديسمبر العظيمة، مشاركا فيها وداعما، بالشعر وبالجسد، حضورا في التظاهرات والمواكب والوقفات وفي الإعتصام الجليل، ونعني بها (خلقه) للمرابيع.


مرابيع القدال،نداءات للثورة والثوار/ت:
‏العام2013م، قبيل إنتفاضات سبتمبرذلك العام نفسه،حيث إستشهد فى تلك الهبات أكثر من 200 من الثوار/ت، ولا نزال حتى اليوم، نطالب بمحاسبة ومحاكمة القتلة. فى ذلك الوقت، شرع النظام يشدد من قبضته القمعية وينال،بأدوات الأمن الدموية، من أبناء وبنات السودان، وهم فى الميادين يعلنون الثورة ضد الكيزان وينادون بالحرية والديمقراطية والسلام،فى ذلك الوقت، إبتكر القدال(المرابيع)، التى هى أيضا، لغة فى الشعر وفى الثورة، خفيفة ورشيقة، تشتمل على أربع مقاطع، بلغة قصيدته نفسها تقريبا، لكنها، مشحونة بالكشف والجهر لسوءات وجرائم الديكتاتورية، تسرى فى وعى الناس وتحرضهم على الثورة. داومت صحيفة(الراكوبة) الأكترونية على نشرها تحت عنوان(مرابيع القدال/مرباع اليوم) تصدر عند صدور كل عدد، وأشتغل الفنان عصام عبدالله على تصميم لوحاتها،لوحة لكل مرباع*. المرابيع، أعدها تجربة جديدة مبتكرة، طلعت من رحم عنفوان الثورة، برسم الثورة والثوارت. نورد بعضها لنرى كيف رافق، الشعر والشاعر، نداءات الثورة والثوار/ت فى الحراك العظيم لشعوب أهل السودان صوب الثورة والتغيير:
1:*
(ناس تِـتْـشَابا لى حَـرْق البَخَـورْ
ولى لـحْـس الجِـزم ساوَّالا دُورْ
ياخي القَـال كَـفَايْ مَـلْيَ القُبورْ
تاااني تَـريِّسُـوه يَـمْلانا جُـورْ؟)…
2:*
(ديك العده ينقز بالشتم والطاره
مادام البلد كورة شراب ووزارة
خرماج الدفاع ناظر بدون نضاره
وين ما يوزروه يطفح خراب وعوارة)…
3:*
حول تصريح وزير المالية في حكومة الكيزان وقتذاك، كتب الشاعر محمد طه القدال:
"قال وزير المالية أن المصروفات زادت بنسبة 106% نتيجة للصرف على الدفاع. وزيادة الاجور سلفية على المرتب".
نفير القدال..مرباع اليوم:

(كان المال مَـكَـنْـتـَر في السنين الغابرة للجــيمين
قام ارتاح جنوبنا الغالي من بيع العَــشم بالــدين
لمُّوا عليها لَغــَّافِـين على ابْساطور على ابسكِّين
وفي غضب الله ياخزنتنا جيمنا التاني بى جيبين)…

هكذا، يمكننا أن نقول، بعد أن رأينا، وجه الشعر الذى فى الثورة، فى قصيدة القدال، أن قصيدته ظلت، منذ ميلادها الأول الأول*،وحتى ثورة ديسمبر2018م، ظلت، وستظل، فى توجهها صوب الثورة والثوار/ت، قصيدة، بدأت سيرها على نسق الحداثة والجدة والإبتكار،لكنها، وهى التى اختارت أن تكون فى صف الجماهير وقضايا الوطن، فى الحرية والسلام والعدالة، شرعت، لتكون فى الميدان، إشارة وراية، تتمظهر فى(تحولات) إبداعية على غير نسقها التى هى فى دربه، مثلما رأينا وجهها فى (المرابيع).
القدال،وهو على أحواله تلك،فى نبع الثورة السيال، أبدا لم تكف لحظة قصيدته،عن الصراخ والغضب فى وجه الدكتاتورية وعسفها، تصفع،بأيدى الشعر القادرة، وجه الجلاد، وتحرض على النيل منه وهزيمته. فى الوقت الذى كانت أنظمة القمع والدم، ترتعش رعبا ومهانة، والدكتاتور يترنح، ويتصور أنه يرقص فى وجه الثورة التى تناوشه وتقسره على رؤية هزيمته الماحقة، تحيطه وتكاد تسقطه إلى الحضيض القمئ، كانت قصيدة القدال، توالى صفعاتها وطعانها فى جسده الحى، وما إكترثت لأية مآل يأتيها، فالشعر له نصال وحراب ولهيب:
(يا القايدك عماك .. باللهي
شوفو عماك بسوقك وين؟
خاتياك الدروب الباهيي
ودوبها خطاك تودي الطين.
الصبيان يقودوا الهَبَّه
والبنوت مثالهن وين؟
حالف شفتهن.. واللهِ
بالبنبان يردوا الدين
حت شفعنا عرفوا السُبَّه
دوس الكوز غناهم زين
وجهجهوا للكجر جهجاهي
ولبُّوا على البقول يامين
حتى الماتولد قام لبى
ثورة حقيقي مي تخمين
ثورة بتقلع المتباهي
وتلعن طغمة الفاسدين
ثورة وهبه فوق الهَبَّه
شأن وطنا عزيز وامين
و يا القايدك عماك .. باللهي
شوفو عماك بسوقك وين؟)*…
ولتبيان قصيدته فى راهنها،وراهن الثورة ومآلاتها، نكتفى بإيراد قصيدته التى حيا بها ثوار/ت البرارى، نموذجا لما فى الثورة من زخم نضالى جسور، ولما فى القصيدة من رؤيا، ترافق الثورة فى مساراتها جميعها:
(بري وما أدراك ما بري المكين
تعرف عبيد حاج الامين؟
الناس بتعرف عزها.
وين ما بتتاوق يا الحزين
تلقاك معاني العزة في بري الوفا
انت المشيت بالتاتشر المشري
وكمين،
من دم ولادنا
ومن طريحات البنات
العزهن يسري وأمين
لا عند مهيرة وكل ميرم
وانت ماك خابر ولا بتدري
من وين بدت بري
أو انتهت بري
انت الجهل
هن معرفة
انت البلادة مع الغبا
هن العقل
هن كل ميادين المعاني المترفة
ياخ اختشي
هل هي ديّ المحرقة؟
يا ناس..
حميدتي كلامو صاح
هل في الدرايسة محل كماج؟
والا البراري المعركة
أمريكيا روسيا دنا العذاب؟
والا الكضب أصل الحقيقة وأسها؟
قالولنا نحنا الدين عدييل
نحنا المشيريع الحضاري البالفساد والمسرقة
وكان الشعار من ضمن كم الفبركة
اهو ديل… بنات بري التمام..
اهو ديل…
ولاد بري التمام)*…
القدال، سيظل خالدا في ضمير شعبنا، وفي مشهدنا الثقافي والشعري لآماد طويلة قادمة. العزاء لأسرته ومعارفه وأهله ومحبي شعره الكثار، وأما الثورة، ففيها صوته ومساره الإبداعي وسيرته في الناس وفي الوطن، بالجد، القدال ما مات!

هوامش:
——–
*فى معنى(التغيير)،الذى يطال كل ما فى الحياة،حتى الشعر.
*كان نظام الكيزان يتبجح بأنه قد أخرج للبلاد البترول،ودعم إنتاج السكر!
*إشارة إلى قصيدته:(طنين الشك واليقين).
*مجتزأ من كتابة لنا:(تأملات فى عاميات أهل السودان، القدال الآن يتأمل حال البلد)،نشرت فى(الحوار المتمدن)بالنت2017م.
*(مرابيع القدال)،نشرت بصحيفة(الراكوبة)الأكترونية،نوفمبر2013م.
*المرابيع(1/2/3)،المصدر السابق.
*من(مديح الظل العالى)،لدرويش.
* مجتزأ من قصيدة(كضب..العمى)،نشرت فى صفحة جريدة(اليوم التالى) على النت فى4/9/2019م، الصفحة باشراف محمد إسماعيل.
*(إلى أشاوس البرارى)،نشرت بصفحته بالفيسبوك21/3/2019م.
--------------------------------------------------------------



#جابر_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في رحيل سعدي ولميس، هل تكف مغامرات وتجاريب الشعر؟
- حماية الإبداع والمبدعين، لماذا وكيف؟
- الغناء في الراهن الفني ومستقبله، ما تقوله نانسي عجاج، ورؤياه ...
- بستان الخوف، الرواية التي أفزعت الأخوان المسلمين فصادروها وم ...
- في التعليم السياسي في السودان.
- أبو عيسي، عن الموت الذي يرافق الحياة
- يوسف حسين، حياة بكاملها منحها للحزب الشيوعى.
- طيب تيزينى، راجع التراث، ثم نظر إلى حالنا، ورحل!
- عن المرأة التى فى حياتنا، والآن فى الثورة.
- فى الميدان، الآداب والفنون تؤازر الثورة والثوار.
- رسائل إلى نورا: فى الطريق إلى الميدان.
- فى تذكر استشهاد حسين مروة.
- ياعيب الشؤوم، كمال الجزولى معتقلا لايزال!
- الحرية للأستاذ المناضل كمال الجزولي وكافة المعتقلين السياسيي ...
- أكتوبر، يوميات الثورة في الشعر والأدب والفنون.
- طيور إيمان شقاق، ورؤيتها للوحة الصلحي.
- ( الميدان )*: تحية لأربعة وستين عاما من الحياة.
- في رحيل حسين عبد الرازق وأمين مكي مدني!
- حنا مينه، نزولا علي رغبتك، لا نبكي رحيلك، فدعنا نسامرك إذن!
- في تذكر الشاعر الكبير كجراي.


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جابر حسين - القدال ما مات، عايش مع الثوار...