أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جابر حسين - في رحيل سعدي ولميس، هل تكف مغامرات وتجاريب الشعر؟















المزيد.....


في رحيل سعدي ولميس، هل تكف مغامرات وتجاريب الشعر؟


جابر حسين

الحوار المتمدن-العدد: 6942 - 2021 / 6 / 28 - 01:46
المحور: الادب والفن
    


--------------------------------------
(ها هي الساعة قد أزفت
الموسيقي تستطيع
والكلمة تستطيع
والساعد يعلو
يعلو...
نريدها أن تأتي الصورة:
الحقيقة عما حدث.
بدأ المطر يسقط،
والأحمر يعلو...
يعلو ويعلو
والقاتل يغسل يديه من البئر
ويسقط في الهاوية)...

-ج.ح. -


1: سعدي يوسف

كان الوقت حزينا في المشهد الشعري العربي، هذا الشهر، قليل الضوء، كثير الحسرات والأحزان: يوم السبت12/6/2021م، رحل عن دنيانا الشاعر العراقي سعدي يوسف في العاصمة البريطانية لندن عن عمر 83 عاما، وهو في منفاه اللندني، حيث داهمه السرطان فأقعده تحت العلاج، منذ أبريل الماضي في أحد مشافيها ، وكان قد حاز من حكومتها، في وقت سابق، علي الجنسية البريطانية. سعدي كتب آخر كراساته الشعرية: (الشيوعي الأخير يدخل الجنة) ونشرها في2007، صادرا عن دار المدي. حائزا علي أجازة في آداب اللغة العربية من جامعة بغداد، فعمل، طوال حياته، في التدريس والصحافة واشتغالاته الشعرية والأدبية التي لم يكف عنها حتي رحيله.
سعدي، كان قد انتمي باكرا إلي الحزب الشيوعي العراقي، لكنه، كما لدي العديد من الشعراء والمشتغلين بالآداب والفنون، سرعان مع اختلف، جريا وراء رؤاه الشعرية
(المتمردة) علي كل سائد ومألوف، مع الحزب الشيوعي، فنشأ خصاما فيما بين رؤياه الفكرية والفنية، وبين اطروحات وبرامج وخطط الحزب، بل نجده، انصياعا لتلك النزعة المحرقة لديه، أدار نفس (الخصام) والقطيعة فيما بينه ورفاقه في الحزب وخارجه من اليساريين، ثم شرع يعلن مواقفا، سياسية وايديولوجية ووجودية، لا يقول بها احدا غيره. حدث ذلك التحول لديه، وتشكل ليغدو واضحا وجليا، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ثم أصبح أفكارا ورؤي، محددة وحادة وقاطعة، بعد الغزو الاميركي للعراق في مارس2003م! فيما يخصني، لم يكن ذلك التحول مفاجئا لي علي أية حال. فقد ظللت ردحا من السنين أتابع مواقف الشعراء والكتاب والفنانين عموما، وتوجهاتهم الفكرية حين تتنزل في اليومي والمعاش من حياة الناس، ولعل لينين، كان محقا حين، رأي وقال، أن المثقفين هم الأكثر قابلية للإنكسار وللخيانات! وقد رأينا، تقريبا، نفس موقف سعدي لدي مواطنه بدر شاكر السياب، حد أن عديد الإختصاصيين يرون أن سبب ذلك المرض، الغريب النادر، الذي أصاب السياب حتي أودي به، هو تلك (القطيعة) والخصام، الذي بلغ به حد العداء، بينه والحزب الشيوعي العراقي. تري، أيكون ما أصاب سعدي شيئا مثل ما أصيب به السياب؟
سعدي، عاش تجربة السجن القاسية تحت سلطات البعث العراقي بسبب من انتماءه للحزب الشيوعي العراقي، حدث له ذلك أبان انقلاب البعث في8/2/1963م، وجري اطلاق سراحه قبل نهاية العام بسبب من انقلاب الناصريين أواخر العام نفسه. فشد اجنحة ترحاله الأولي في المنافي، فذهب إلي طهران ودمشق ثم الجزائر التي أستقر بها سنوات قبل أن يعود للعراق بعد الانقلاب البعثي الثاني في يوليو1968م. سعدي، (1934/2021م)، ولد في أبي الخصيب بمحافظة البصرة جنوب العراق، ويعد من بين أبرز الأصوات الشعرية في عالم الشعر العربي وفي العراق، من حيث انغماسه (الكلي) في تجاريب الشعر، علي سعة وجوهها، ومن غزارة واستمرار أشتغالاته وأعماله الشعرية والأدبية. أما تجاربه الثرة تلك فهي، جلها وليست كلها، تنحو صوب (الحداثة) التي تقودها التجربة والتفرد والسير في الدروب الوعرة في أدغال ومتاهات الشعر، برغم ما يشي عنها من الجدة والفرادة والغرائبية، لكنه، برغم تحليقه العالي في فضاءات الشعر، ظل مشدودا إلي سمات وملامح الواقعية والفعل اليومي، بارتداداته وصخبه وصراعاته وتناقضاته، الأمر الذي أدخله في دوامات الصراع مع القوي الخارج شعريا عليها، ثم، جعله، هذا الموقف، (يتجرأ) فيدخل، تحت ظلال رؤياه المحلقة تلك، في التماس الخشن مع الأراء والايديولوجيات السائدة المسيطرة، بهذا القدر أو ذاك، علي مشهد الحساسية الشعرية وقتذاك، نعني سنوات الخمسينات والستينات من القرن الماضي. (تحولات) سعدي، الشعرية ورؤاه السياسية، حدثت لديه وهو يعيش تجاريبه الشعرية في وجود شعراء شعراء كبار يعيشون رؤيات (الحداثة) ويشاركونه هواجس الشعرية الجديدة ورؤاها في موطنه العراق: الجواهري، البياتي، بلند الحيدري، السياب، نازك الملائكة، مظفر النواب، ولميس عباس عمارة وغيرهم.
في شعره، وجدناه ينحو صوب الرؤيا المستقبلية، تلمع وتضئ جوانب عديدة في قصيدته، صحيح، أنها ليست صائبة في جملتها، لكنها، علي أية حال، هي معلولة إلي سعي الشعر حين يلوذ، بكلياته، ليكون في سمات وملامح الجديد الذي يبدأ يتخلق، بلمعان وجسارة، ليكون في وجه القصيدة حين يجئ أوانها المحتم في المستقبل المأمول.
أصدر سعدي العديد من الكراسات الشعرية، أكثر من أربعين مؤلفا ،وكان فيها (رائيا متفردا) إذ يقول بما في وعيه الشعري ومعارفه في الحياة. لكنه، ولأنه الكائن في (محارق) الإبداع، يذهب باشتغالته فيها إلي حيث تقوده هي، فقد اتجه، أيضا، إلي الاشتغال بالترجمة عن الأنجليزية التي يتقنها إلي جانب الفرنسية والألمانية والايطالية، فترجم لكل من: والت ويتمان/ نعوجي واثنيغو الروائي الكيني/ وول سوينكا النيجيري/ كينز ابورو أوي الياباني/ جورج أورويل/ لوركا/ كافافي/ ويانيس ريتسوس وغيرهم. أضافة لهذا الانتاج الغزير، كتب رواية وحيدة (مثلث الدائرة)، ومسرحية واحدة (عندنا في الأعالي)، ثم مجموعة قصصية قصيرة (نافذة في المنزل المغربي)، علاوة علي يوميات ونصوص سياسية وأدبية، منها، (يوميات الأذي)، و(يوميات ما بعد الأذي)، لكانه، يود أن يشمل إبداعه حقول الإبداع جميعا، فيا لهذه المخيلة الفسيحة في اتساع رؤاها وجسارتها علي القول إلي حيثما تقوده، فلا يكترث!
تلك الجسارة، لنقل أنها الجرأة في الإفصاح والقول، هي نزعة لديه منذ مبتدأ أمره الشعري والثقافي، لا يستطيع، وأن أراد، مفارقتها حتي لا تكون شاهدة وشاخصة لإبداعه كله. حادثتان، بالأحري، قصيدتان: (الشيوعي الأخير) وأخواتها التي جعلهم في أسار رؤاه (الفكرية) وقناعاته، حيث (أنغمس) عميقا في الأيدلوجيا التي سبق ورفضها، فجعل من ذاته، ورؤاه تلك، (منهجا) وفكرا (صحيحا)لم يرض عنها تنازلا من أية نوع، فهو، بذاته ونفسه وصفاته، (الشيوعي الأخير) الذي (ختم) به الأيدولوجيا والمنهج الشيوعي برمته، فلا أحدا سواه:
(أنا المعنيّ بالمعنى
بما تهبُ الحياةُ
أنا الشّيوعي الأخير)!
وكان، طبيعيا، أن تثير، تلك الرؤيا، الذيوع الواسع والجدل الكثيف، وكم تسأل العديدون، هذه الوجهة الجريئة إلي أين مآلها، وكيف للشعرية (المغايرة) في حداثتها الراهنة أن تحتويها، لتكون، لدي شعرية سعدي شارة إليه وعلامة؟!
(التفجير) الشعري الثاني حدث في الملأ، عندما جهر بقصيدته (بنت الباشا)، وتناول فيها حادثة (الأفك) المشهورة في التراث الإسلامي وفي القرأن بشأن عائشة بنت أبي بكر وزوجة الرسول. يعتقد سعدي، وفقا لقصيدته، أن عائشة ليست بريئة، الأمر الذي أنهض عليه السلفيون وعامتهم حد أن كفروه واستباحوا دمه علانية، لكن الشاعر كان معتصما عنهم بالمنافي واللغة! كنت أنا قد كتبت أوان تلك (الهجمة) الشرسة، ونشرت الكتابة لدي (الحوار المتمدن) في17/12/2013م، تحت عنوان: (جناية سعدي، أم هو الشعر)؟:
يا أبن يوسف، يا سعدي، حين كتبت (عيشة بنت الباشا)، كانت الطفلة الجميلة قد سألتك بما يقوله قلبها الغض، فشرعت تكتبها، قصيدة (الطفلة) بنت الباشا، تسألك أسئلة وجودها، وظللت تجيبها، بما أثار دهشتها، واستثار شهيتك للإفصاح حتي بحت لها بالمسكوت عنه الذي لم تدركه الطفلة ولا مجتمعها، فشرعت تقول، أمسية 16/11/2013م، وأنت في ليل لندن المشمول بالسحروالغموض:

(طِلْعَت الشُمّيسهْ
على شَعَرْ عيشهْ
عيشه بنت الباشا
تِلْعَبْ بالخرْخاشةْ!
صاح الديك بالبستانْ
الله يلعن السلطانْ
***

لَكأنّ عائشةَ الجميلةَ تستجير. تقولُ لي: سعدي!
أوَ لستَ مَن يهوى الجميلاتِ؟ الحرائرَ... والصبايا؟
كيفَ تخذلُني ، إذاً؟
أنتَ العليمُ بأنني، بنتٌ لتاسعةٍ، وأني كنتُ ألعبُ بالدُّمى.
لكنهم جاؤوا
وقالوا: ثَمَّ تطْريةٌ لوجهِكِ...
( كان وجهي وجهَ طفلتكم، وليس من معنىً لتطريةٍ... )
أجابوني:
النبيُّ أرادكِ!
***
طِلْعَت الشمّيسةْ
على شَعَر عَيشة
عيشة بنت الباشا
تلعب بالخرخاشة ْ
صاح الديك بالبستانْ
الله يلعن السلطانْ
***
وعائشةُ ، الحـُـمَيراءُ ...
الجميلةُ مثل إيرلنديّةٍ ، والشَّعْرُ أحمرُ .
يا عطاءَ الله !
كان محمّدٌ ، ما بين رُكعته ، وتالي رُكعةٍ ، ينوي يُباشرُها
وأحياناً يرى ما بين ساقَيها ، صلاةً ...
هكذا
ذاقتْ عُسَيلَتَهُ
وذاقَ محمدٌ ، دبِقاً ، عُسَيلَتَها ...
هيَ مَنْ هيَ : الـحَوّاءُ
عائشةُ الحـُمَيراءُ ،
الجميلةُ مثل إيرلنديّةٍ ...
صنمُ النبي !
***
طِلْعَت الشمّيسة
على شَعَر عيشةْ
عيشة بنت الباشا
تلعبْ بالخرخاشةْ ...
صاح الديك بالبستانْ
الله يلعن السلطانْ
***
لكنّ عائشةَ الجميلةَ ، سوفُ تُعْلي أن ناعمَ شَعرِها سيظلُّ أحمرَ
سوف تُعْلِنُ أنها ، أبداً ، محاربةٌ ...
لقد قهرتْ نبيّاً في السريرِ
وهاهي ذي ، على جملٍ ، تقاتلُ .
إنّ عائشةَ الـحُـميراءَ
النبيّةُ
بعدَ أن ذهبَ الذكورُ الأنبياءُ إلى الهباء ...
***
طِلعت الشمّيسة
على شَعَر عَيشةْ
عيشة بنت الباشا
تِلْعَبْ بالخرخاشة !
صاح الديك بالبستانْ
الله يلعن السلطانْ)...
ماذا قلت لها ، يامجنون الشعر ، حتي أنهضت الدنيا وألبت "جيوش " الموتورين فطلعوا ، كما الأبالسة ، يشتمونك ويلعنونك ، وفيهم من أباح دمك ، ففاحت رائحة الدم الكافر،
و" المثقفون " الكذبة أخرجوك مطرودا وملعونا من مجالسهم ، واتحاداتهم ومؤسساتهم الثقافية، وتبرأوا منك وعايروك وأنكروك ، في الشعر وفي الحياة! ماذا كتبت أيها المجنون حتي غدوت في نسغ الجلاد ومهدري الدماء يصرخون ويدعون بذبح من يخالفهم من الوريد إلي الوريد. أهذا أنت يا سعدي، أم هو الشعر الذي كتب؟

2: لميعة عباس عمارة

لميس، (1929/الجمعة19/6/2021م)، تقول عنها ويكيبيديا: (ولدت في منطقة الكريمات، وهي منطقة تقع في لب المنطقة القديمة من بغداد، والمحصورة بين جسر الأحرار والسفارة البريطانية على ضفة نهر دجلة في جانب الكرخ. وهي تنتمي لعائلة مندائية عريقة ومشهورة في بغداد، واشتهرت عائلتها بصياغة الذهب، وهي مهنة يتوارثها الصابئة المندائيون، وكان عمها زهرون عمارة أحد أشهر صاغة بغداد آنذاك. جاء لقب عائلتها «عمارة» من مدينة العمارة حيث ولد والدها، وهي ابنة خالة الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد، الذي كتب عنها في مذكراته الكثير لتأثره بها وحبهِ لها).
درست لميعة، وتخرجت بأجازة في اللغة العربية وآدابها بمعهد المعلمين العالي في بغداد في خمسينيات القرن الماضي، حيث زاملت فيه كبار شعراء العراق وقتذاك، منهم: البياتي والسياب وبلند الحيدري ونازك الملائكة ومظفر النواب وغيرهم، وعرفت وتواصلت مع الجواهري وقرأت لمعروف الرصافي الذي أعجبت بأعماله. عملت عند تخرجها أستاذة في المعهد العالي للمعلمات، ثم أشتغلت بالصحافة حيث بدأت تسير في مسار الشعر (الحديث) الذي كان في سمت نهوضه الكبير وقتذاك، لتغدو وجها لامعا في مشهد الحداثة الشعرية العربية، فكتبت أشعارها بالعربية الفصيحة، وأيضا، بعامية أهل العراق، ولها فيها أشعارا جميلة أصبحت في ذاكرة الغناء الشعبي العراقي ومن جواهره.
انحصرت موضوعات قصيدتها، كلها تقريبا، في التعبير، شعريا، عن قضايا المرأة التي كانت، في حقبتها، تنوء تحت ظلال الكبت والقهر الذكوري وتدني حقوق المرأة والحط من قيمها الإنسانية في المجتمع والحياة، وتناولت كثيرا، جل شعرها أيضا، قضايا الحب في سياقاته فيما بين المرأة والرجل، والحال كذلك، فلا مندوحة إذن، إلا أن تكون قصيدتها، في تناولاتها تلك، محلقة في سماوات الرومانسية، التي شرعت تذهب، وقتذاك، إلي الإضمحلال والتلاشي. تناولت قصيدتها أيضا، بصوت المرأة الجسورة، موضوعات الحرية في ارتباطاتها الوثيقة بنهوض المجتمع، للمرأة والرجل معا، هكذا، أصبحت لميعة صوتا شعريا صقيلا يناصر ويدعم قضايا المرأة، العراقية والعربية، في مسارات نهوضها وتحررها. في هذا المقام، لابد أن ننظر في حساسية شعرها مقارنة مع معاصرتها وزميلتها في معهد المعلمين العالي نازك الملائكة. وفي ظني، أن ما قال به الكاتب العراقي عقيل عباس في شأنهما، صحيح تماما ويجد القبول عندي، قال عقيل لموقع (الحرة) يوما: (عند المقارنة بين لميعة ونازك الملائكة، تعد الأخيرة هي الرائدة في مجال الشعر الحر، لكن فيما يتعلق بقضايا المرأة، لميعة هي الأهم والأعمق شعريا)، ونستطيع القول، أن أعمالها الشعرية كلها تؤكد هذا التقييم الذي نقول به في حق شعرهما معا.
لميعة، ظلت، طوال مسيرتها، الشعرية والحياتية، جريئة في تناولها (ذات) المرأة، وشرعت تكسب قصيدتها أردية ملونات، من المشاعر والعواطف والرغبات والشهوات، فعلت كل ذلك في مجتمع ذكوري مغلق، يحاصر المرأة أيما حصار، لكنها، تحت ظلال مثل هذا الواقع الذرئ، ظلت سائرة في (تحدي) التقاليد والأعراف الذكورية التي كانت مشاعة في الناس حد (القداسة).

وصفها الكاتب الفلسطيني سمير حاج في صحيفة القدس العربي في أكتوبر الماضي بأنها: (النّورسة العراقية المهاجرة قسراً منذ عام 1978 بعيداً عن العراق المشغوفة به، والسّاكن في أحنائها وأشعارها، هي صوت الشعر العراقي المهاجر إلى أمريكا، المسكون بالوجع والحرقة والحنين، والعابق بحضارة بلاد الرافدين الممتدة في عمق الزمن).
وأضاف أن: (لميعة شيّدت قصيدة الأنوثة وأضاءتها، في خريطة الشعر العربيّ الحديث، واحتفت بثنائية الجسد والروح وأصبحت الأنا الشاعرة النرجسيّة الجريئة، تثور وتبوح بالمسكوت عنه، متماهية مع كاليبسو الجميلة التي اشتهت أوديسيوس جهراً).
في هذا المنحي، تقول لميس في بعض شعرها:

(أحتاج إليك حبيبي الليلة
فالليلة روحي فرس وحشية
أوراق البردى ـ أضلاعي ـ فـتِّـتـها
أطلِق هذي اللغة المـنسـيّـه
جسدي لا يحتمل الوجد
ولا أنوي أن أصبح رابعة العدوية)...
لميعة، من وجوه قصيدتها جميعا، تعد جزء هام من ذاكرة القصيدة الجديدة، ومن هواجسها بالمغامرة والانفتاح على عوالم نزعت عنها الرتابة والمألوف الشعري، فدرجت قصيدتها لتكون مسكونة بالأنوثة، وفي ذات الوقت، تمثل وعياً جديداُ مثلما تمثل انفتاحاً كسرت معه الكثير من تقاليد الألفة والنمطية والسائد الذكوري المشوه.

تقول لميعة في قصيدة (الباب الضيق):
(قال: سأ’بقي بابي مفتوحا
قلت: وأبقي ...
لكن قدمي لن تجتاز الباب المفتوح
لن يمسخني شوقي،
لن تحملني للصلب جروح
قال: أجن بجسمك...
احتاج اليك،
أضمك
أفنى فيك
أفت’ الليل بصدرك!
قلت: أحبك أكثر
عيناك سماوات وبحور
صدرك ركن الطير المذعور
قال : إذن تأتين ...
- يا حبي المطلق لن آتي،
لن أذبح ’ حبي
في لحظة شوق تغتال سنين
لن أقتل’ ذاتي
أعانق شبحي
في وحشة ليلك َ
وأغفر مأساتي)...

هي مأساة إليها أذن، ذلك الشبق (الوحشي) إليه، لا تريده يكون حبا مقابلا للجسد وفيه، برغم الشوق (المحرق) إليه، تنأي عنه وتجفوه! تقول بذلك كله، وهي التي عمدت (الجسد) الأنثوي أيقونة جهيرة ووهاجة في نضال المرأة وتحقيق ذاتها في مقابل التشوهات العديدة التي جعلها العقل والتفكير الذكوري عارا ملتصقا بالمرأة وجسدها! وتحضرني، في هذا الصدد، دراسة كتبها الكاتب العراقي شوقي يوسف بهنام، بعنوان: (لك وحدك أيها الطاووس الجميل، أغني/ دراسة نفسية لبعض قصائد مجموعة
(عراقية) للشاعرة لميعة عباس عمارة)، نشرها بموقع (مجلة ندوة الإلكترونية للشعر المترجم) بدون تاريخ، يخلص في دراسته ليقول أن هنالك (تناقضا) فيما تصبو إليه لميعة كأنثي إلي الرجل، وبين تباعدها، لكأنه هروبا متعمدا من ملامسة جسد الرجل، هي وجهة نظر علي أية حال. يقول بهنام في بعض مما أوردته الدراسة:
(لا ادري، وهذا تساؤل قد يكون له ما يبرره، على الأقل في حسابات كاتب هذه السطور، لماذا اهتمت الشاعرة الكبيرة لميعة عباس عمارة، في مجموعتها المعنونة ( عراقية ) بهموم المرأة المهجورة؟ المرأة المهجورة، لعوامل طبيعية، مثل موت الزوج، أو لعوامل اجتماعية علائقية، مثل المطلقة، أو لعوامل غير محددة، مثل الفتاة العانس. وقد يرجع هذا الاهتمام، إلى مشاطرة شاعرتنا، الجو النفسي لمثل هكذا نساء، لأنها ربما، تشعر بذات المحنة، اعني، محنة الهجرة و الإحساس بالهجر، يعني إن الإنسان يعاني من النبذ و الرفض من الأخر، ولا نريد الدخول في تفاصيل إشكالية الرفض. يكفي أن نذكر أن الباحث النفسي الكبير (ميشيل فوكو) تناول هذه الإشكالية في العديد من دراساته في إطار الرؤية النفسية و الاجتماعية. ولا ادري إيضا، لماذا عنونت مجموعتها هذه بهذا بالعنوان المحدد، اعني ( عراقية ). تريد أن تقول لنا، إن حال المرأة العراقية هو بهذا الشكل الذي قدمتة لنا الشاعرة).
للقصيدة حكاية لا تخلو من الطرافة والجدوي، يقول البعض، ومنهم بهنام الذي سبق ونقلنا عنه مجتزأ من دراسته النفسية في أشعار لميعة. يقولون، أن الشاعر عمر أبو ريشة ألتقي لميعة في أحد اللقاءات الشعرية، فأخذ يسألها، الأسئلة التي جعلتها لميعة في قصيدتها، فكان أن ردت عليه بما جاء في قصيدتها. تقول لميعة:

(تدخنين؟
لا.
أتشربين؟
لا.
أترقصين؟
لا.
ما أنت،
جمعُ لا!؟

أنا التي تراني
كل خمول الشرق في أرداني
فما الذي يشدُ رجليك إلى مكاني؟
يا سيدي الخبيرَ بالنسوان
أنّ عطاء اليوم شيء ثانِ
حلّقْ!
فلو طأطأتَ،
لا تراني).

ولا شك، أن موضوع القصيدة، مضمونها لا شعريتها، هي، هكذا، أدخل إلي بعض ما قال به بهنام واستحسناه منه، ومسألة حدوث الواقعة من عدمها، فذلك يظل شأنا شعريا أكثر منه واقعيا.
أما تلك الحكاية، التي أوردها جهاد فاضل، أن نزار قباني روي له مرة أنه التقي في بيروت في أحد الأيام بالشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة، فسألها عن أحوالها، فأجابته إنها بصدد طبع ديوان جديد لها، فقال لها وهو يضحك: (لا تتعبي يا لميعة في نظم الشعر، وخير منه كتاب منشور تروين فيه حكايتك مع بدر شاكر السياب)!. جهاد، فيما كتبه، يؤازر رأي نزار، هذا إذا سلمنا بصدق الحكاية، فيشرع يصور رؤي وعواطف السياب تجاه النساء ممن كن معجبات بشعره، وأولئك اللواتي كن زميلات له في معهد المعلمين العالي في بغداد، وذكر أن قصيدة السياب (أحبيني) مكتوبة أصلا في شأن علاقة حب متبادلة فيما بين لميعة والسياب،وبالطبع، كل ما أتي بذكره جهاد هو بعض مما كان متداولا في شأن حبيبات محتملات للسياب. لكنني، أرجح أن الحكاية هي من تأويلات سير العلائق بين الشاعرات والشعراء، بخاصة، وهم يعيشون نفس الحقبة وتلك الأيام. وأجدني، استنادا إلي (شطحات) السياب، الجلية في أنباءها وتداعياتها،
من خلال علاقته (الملتبسة) مع المرأة، أطمئن، تماما، لما قالته لميعة نفسها بشان تلك العلاقة، حيث ذكرت: (كانت علاقة بريئة ومحلقة ومبدعة، ليس أكثر).

هكذا، هذا ما عن لنا أن نقول به لمناسبة رحيلهما، سعدي ولميس، وهما رايتان من ضوء وأمل وجدوي، في ضمير الشعر العربي وحساسيته التي تنشد الإكتمال، ولن تبلغه، فقد سبق وكانا بشعرهما في الخلود.



#جابر_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حماية الإبداع والمبدعين، لماذا وكيف؟
- الغناء في الراهن الفني ومستقبله، ما تقوله نانسي عجاج، ورؤياه ...
- بستان الخوف، الرواية التي أفزعت الأخوان المسلمين فصادروها وم ...
- في التعليم السياسي في السودان.
- أبو عيسي، عن الموت الذي يرافق الحياة
- يوسف حسين، حياة بكاملها منحها للحزب الشيوعى.
- طيب تيزينى، راجع التراث، ثم نظر إلى حالنا، ورحل!
- عن المرأة التى فى حياتنا، والآن فى الثورة.
- فى الميدان، الآداب والفنون تؤازر الثورة والثوار.
- رسائل إلى نورا: فى الطريق إلى الميدان.
- فى تذكر استشهاد حسين مروة.
- ياعيب الشؤوم، كمال الجزولى معتقلا لايزال!
- الحرية للأستاذ المناضل كمال الجزولي وكافة المعتقلين السياسيي ...
- أكتوبر، يوميات الثورة في الشعر والأدب والفنون.
- طيور إيمان شقاق، ورؤيتها للوحة الصلحي.
- ( الميدان )*: تحية لأربعة وستين عاما من الحياة.
- في رحيل حسين عبد الرازق وأمين مكي مدني!
- حنا مينه، نزولا علي رغبتك، لا نبكي رحيلك، فدعنا نسامرك إذن!
- في تذكر الشاعر الكبير كجراي.
- في رحيل سمير أمين، أبدا لم تفارقنا يارفيقنا!


المزيد.....




- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جابر حسين - في رحيل سعدي ولميس، هل تكف مغامرات وتجاريب الشعر؟