أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - سهى جرار..رحيل مفجع، في زمن - الشر العادي-















المزيد.....

سهى جرار..رحيل مفجع، في زمن - الشر العادي-


جواد بولس

الحوار المتمدن-العدد: 6967 - 2021 / 7 / 23 - 02:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


سهى جرار، رحيل مفجع، في زمن " الشر العادي"
كان لا بد للأسيرة خالدة جرار أن تحكّ ذراع الشرّ مرّة أخرى، لا كي تمتحنه، بعد خمسين عامًا من القهر والوجع، بل لتؤكد لنفسها أنها ما زالت قادرة على السفر في دروب الملح؛ ولكي تثبت، للعالم أيضًا، أن التاريخ قد يكتبه الغاصبون والأقوياء لكنّ مداده كان وسيكون دومًا من دماء ضحاياهم، وصفحاته ستبقى هي أرواحهم المعذبة الخالدة.
لقد سمعت خالدة بنبأ وفاة ابنتها سهى حين كانت مع رفيقاتها الأسيرات في غرفتها في سجن الدامون، الذي يقع على قمة جبل الكرمل؛ فأمضت ليلتها، هكذا أتخيّل، وهي تعصر قلبها قطرات من أسى ولوعة وحنين لا يداوى. وحين زارها المحامون في صباح اليوم التالي وجدوها قويّة وصابرة؛ فأوصتهم أن ينقلوا باسمها، لأهلها ولشعبها، دعاء الأسيرات الأمهات اللواتي يتحرّقن حسرة ولوعةً وشوقًا، وينتظرن، بعناد وبشموخ موعدهن مع الحرية في أحضان الوطن وعلى ترابه، مع أحبابهن.
أعرف أن خالدة لم تراهن على موقف مصلحة سجون الاحتلال الاسرائيلي ازاء مطالبة محاميها بالسماح لها بحضور جنازة ابنتها؛ فهي، وزوجها غسان، أبناء لأجيال فلسطينية خبرت، منذ عقود، كيف يكون "الشر عاديًا "، وكيف يكون التاريخ أسودَ، وتكون "تاؤه" مربوطة على قرني محتل ظالم وشرير؛ فعندها، هكذا تعلّما، لا يصح التنبؤ والانتظار ؛ فالشر لا يعرف إلا أن يتمظهر بطبيعته العادية الواحدة البسيطة والواضحة ونتائجه دائمًا متوقعة وبديهية.
ترددت كثيرًا قبل اتصالي بغسان كي أعزيه بوفاة سهى؛ وتمرّنت على عدة سيناريوهات ممكنة لبداية مكالمتي معه، لكنني لم أعرف أيها سيكون الأهون علي وعليه. طلبته، فرد علي مباشرة بصوته المألوف، وبلكنته المميزة التي كان يصاحبها القلق. صمتُّ لوهلة، ثم بدأتُ معتذرًا أنني لست الى جانبه في هذه الأوقات الصعبة. حاولت أن استرسل في شرح أعذاري، فقاطعني بدماثة صديق عتيق وقال: "من قال أنك لست موجودًا فأنت معنا الآن ومنذ أكثر من ثلاثين عامًا، ألا تذكر ?"
أتذكر بالطبع كيف تعرّفت الى غسان جرار وخالدة رطرورط/ جرار، حين كانا طالبين يساريين ناشطين في جامعة بير- زيت، وحين أحبّا بعضهما، ومضيا يربيان معًا قلبين أحمرين ويسيران على دروب مقاومة الاحتلال وبناء عائلة تباركت أولًا "بيافا" وبعدها "بسهى"؛ فكبرتا طفلتين طموحتين في دفء خيمتين وارفتين وعلى نفس الوعد والعهد.
لم أعرف، وأنا أحدّثه، إذا كان المقام يتيح لي دق أبواب ذلك الماضي، عندما اعتقلت قوات الاحتلال الاسرائيلي، في الأول من كانون ثان عام 1992، غسان من بيته في رام الله، واقتادوه الى معتقل الظاهرية، ليجد أن رفيقيه، حسن عبد الله وعلي فارس، قد سيقا قبله إلى هناك؛ وكيف في غداة تلك الليلة أخبروهم بأن قائد جيش الاحتلال قد أصدر أوامر أبعادهم عن الوطن لأنهم، كنشطاء في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يخطّرون أمن المنطقة وسلامة السكان .
استأنفت محادثتي مؤكدًا على أنني أعرف كيف يتقطع قلبه على فقدان حبيبته سهى؛ لكنني، هكذا أضفت، أعرف أيضًا صلابته وقوة تحمّله ورجاحة عقله وحكمته، وتمنيت عليه أن ينجح في تخطي الأزمة، لتصبح ذكرياته مع سهى مشاعل تنير فضاءاتهم بالبسمة، التي ستبقى كسيرة وحزينة، وبالأمل.
ثم انتقلت، محاولًا حجب غصة داهمت حلقي، وسألته: هل تذكر عندما زرتك في معتقل الخليل لأرتب معك تدابير معركتنا في الدفاع ضد أوامر ابعادكم ، انت وحسن وعلي. أجابني: طبعًا أتذكر، ثم أردف، وكأنني أشعلت في صدره شرارًا: كان الثلج يغطي مدينة رام الله وجبال فلسطين، وكنا نجلس في بيتنا أنا وخالدة ويافا ابنة الخامسة. انقطع صوته لهنيهة، وكأنه كان يبعد عن عينيه الندف، ثم أضاف: "كان عمر سهى أربعة عشر شهرًا". سمعت في صوته نبرة حنين دفين فأكمل مضيفًا: "عساك لا تتذكر، يا جواد، فسهى كانت قد ولدت في يوم 11/9/1990 وأنا كنت في ذلك الوقت سجينًا في زنازين سجن رام الله، وأنت كنت المحامي عني. جئتني الى ساحة بجانب الزنازين لتخبرني بأن القاضي العسكري قد أمهل المحققين مدة أثنتين وسبعين ساعة، وبعدها، هكذا طمأنتني، فإما ان يقدّموا بحقي لائحة اتهام، واما أن يحيلوني الى الاعتقال الاداري، واما أن يفرجوا عني. كنتُ منهكًا من التعذيب فسمعتك بطمأنينة وحفظت وصيتك التي جعلتني بعد أن غادرت مثل الرخام أصم، فأفرجوا عني بعد اربعة أيام". كان يخاطبني وكأنني زرته قبل أيام قليلة؛ شأنه، في هذه التجربة شأن جميع الفلسطينيين الذين يبنون قصور آمالهم من تراكم أفراحهم الصغيرة؛ فيفرحون بسقوط الثلج على لياليهم المزعجة، ويحسبونه رسائل حب من السماء، وينتصرون قليلًا، ويصمدون كثيرًا، وينامون خفافًا ولا يحلمون بالمستحيل.
مدهش كيف تحفظ الضحية تفاصيل معذبيها وتعذيبها وكيف يتذكر جسدها تقاسيم السياط واختلاف موسيقاها في كل ضربة هاوية على لحمها ومع كل أنة. ومفرح كيف يواجه الفلسطيني تلك الذكريات، فهي، وان بقيت ندوبًا على ذاكرته، سرعان ما تتحول الى صور من هزائم مُنيَ بها الظالم، وتفاصيل ترسم فسيفساء صمود شعب ما زال، رغم ظلم الاحتلال وبطشه، ورغم خيانات الاشقاء والاقارب، "يحلم بالزنابق البيضاء" وبالثلج، ويطارد حبيبات الندى ليحيا أبناؤه عزيزين رغم طغيان العهر والعطش والسراب.
لقد ازعجتهم حريّة غسان؛ فعادوا في مطلع العام 1992 واعتقلوه مع مجموعة من رفاقه بنية إبعادهم خارج الوطن. أوكلت للدفاع عنهم أمام لجنة الاعتراضات العسكرية، ومن ثم في الالتماس الذي قدمناه الى " محكمة العدل العليا" الاسرائيلية. زرتهم مرارًا في سجن الخليل وأعددنا معًا نصوص مرافعاتهم بعد ان أتفقنا، هكذا ذكرني غسان، على ضرورة المماطلة في الاجراءت القانونية، فاسرائيل في تلك الايام كانت على عتبة خوض انتخابات برلمانية لا تساعد أجواؤها على ادارة معركة سياسية شعبية ضد سياسة الابعادات ولا المضي في معركة قانونية مجدية بالطبع.
قدم غسان ورفاقه مرافعاتهم الطويلة التي كانت عبارة عن لوائح اتهام بحق الاحتلال وموبقاته؛ أما أنا فتحدثت وأطلت، ثم أجملت مرافعتي كما أوردها الاسير حسن عبد الله، الذي أصبح روائيًا وقاصًا فلسطينيًا معروفًا، في مجموعته القصصية "رام الله تصطاد الغيم "، فقلت للقضاة : "مرافعتي الاجمالية ستكون قصيرة وموجزة، فهذه رغبة من أوكلوني عنهم، حيث طلبوا مني أن اعترف أمام المحكمة نيابة عنهم بما يلي: الرجال الذين يجلسون فيما تطلقون عليه اسم -القفص- يعترفون أنهم يعشقون الزيتون ويفتنون بنوار اللوز، ويطربون للحن الشبابة..انهم يعترفون بحسهم المرهف الشفاف عندما يستمعون لبكاء طفل ويهتزون من اعماقهم لزغرودة أم شهيد، وهي تزف ابنها في عرس مهيب؛ فهل تستحق هذه التهم عقوبة الطرد من الوطن ." لن اسهب في تفاصيل الحكاية؛ ففي شهر تموز من العام 1992 انتخبت في اسرائيل حكومة جديدة، فقام وزير عدلها بالغاء أوامر الأبعاد بحق غسان ورفاقه، مؤكدًا عمليًا بقراره، ما أعلناه دومًا على انها كانت قرارات سياسية باطلة وكيدية وتستهدف الحاق ابشع العقوبات الوحشية بحق الفلسطينيين. ولكنهم ... لم يفرجوا عن غسان جرار، بل حوّلوه الى الاعتقال الاداري، ليمضي، وراء قضبان القهر، مدة خمسة عشر شهرًا اضافيًا.
"تعرف كم نحن أقوياء" ، هكذا أجابني حين رجوته أن يصمد كي يسعد "يافا" ويبقى الى جانب خالدة، لكنه تابع وقال بصوت الأب الحنون: "لكننا، في النهاية، نبقى بشرًا، نحب حتى آخر الأنفاس، ونعشق الفجر وهو يراقص محيّا بناتنا، ونذوب حين يغرقوننا بالرقة وبالغنج. لقد قصم ظهري هذا الرحيل.." ثم استعاد تفاصيل تلك الليلة، قبل ثلاثين عامًا، عندما كانت سهى طفلة صغيرة، ويافا عروسًا تحب الثلج، وحين "لبست رام الله، مدينته الحبية، ثوب زفافها ونامت ترتعش من الانفعال تحت أنفاس عريسها القادم من السماء" ، كما كتب صديقنا حسن عبد الله في قصته الجميله "عروسان في الثلج"، ووصف فيها كيف قضى غسان ليلته الأخيرة مع عائلته وكيف سألته يافا " ألا يلعب الناس في بلادنا بكرات الثلج؟ " فأجابها " بعد أن تنامي، فاذا نمت سنخرج جميعنا من البيت في الصباح ونلعب بالثلج ونقيم تمثالًا جميلًا، وسأصورك بجانبه ثم نعمل كرات ثلجية ونقذف بها أمك ". فرفضت يافا فكرة قذف أمها لأنها تحبها، فأجابها غسان بأنه هو أيضًا يحب أمها، فقالت: " اذن سنقذفك أنا وأمي بالثلج" . ثم أغمضت يافا عينيها وهي تحلم، فحملها غسان الى سريرها وغطّاها جيدًا وطبع على جبينها قبلة.
سمعته يتنفس بصعوبة ثم قال: ما زلنا نحلم بذلك التمثال الأبيض، وبالعروسين وهما تلعبان بكرات الثلج.
أصغيت له بخشوع مضطرب، وحاولت أن أحيط صدري بكواتم أصوات، وخفت أن يشعر بأنني ضعفت حتى البكاء؛ وددت لو كان في مقدوري أن أسمعه زفرة "الدرويش" حين قال: " للحقيقة وجهان، والثلج أسود فوق مدينتنا، لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا "، لكنه سألني فجأة، متى ستزور خالدة، فقد تكون هي بحاجة لمثل هذه الزيارة؟ وعدته قريبًا .



#جواد_بولس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كم نحن بحاجة الى لم الشمل
- الغضنفر
- حكومة بينيت-عباس،ابنة الانتهازية والالتباس
- ما العمل؟ كان سؤالنا الأكبر ولم يزل
- -يدًا بيد- وحكومة إسرائيل القادمة
- في - الشيخ جراح- يبكون فيصل الحسيني
- رسالة الى رئيس وقادة جهاز المخابرات العامة، - الشاباك-
- ماذا بعد ان استردت الهوية روحها؟
- مواطنة بين زغرودة وصاروخ
- الهوية بين اغواءات المصالح وتعدد الولاءات
- ماذا لو رُشّح مواطن عربي لرئاسة اسرائيل؟
- من أجل اقامة جبهة:مواطنون ضد الفاشية
- ويبقى السؤال أمامنا ، ما العمل؟
- الحركات الإسلامية بين نداءات المقاطعة والدعوة للاندماج
- نصر يعادل هزيمة
- كيف ومتى أصبح نتنياهو ناصر العرب؟
- التحية لشباب أم الفحم والعزاء لجلجولية
- مرة أخرى انتخابات، فهل سيجزينا آذار
- هل يحلم عماد بالزنابق البيضاء
- أنشهد نهاية اليسار في انتخابات فلسطين؟


المزيد.....




- أثار مخاوف من استخدامه -سلاح حرب-.. كلب آلي ينفث اللهب حوالي ...
- كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير ...
- جهاز التلقين وما قرأه بايدن خلال خطاب يثير تفاعلا
- الأثر الليبي في نشيد مشاة البحرية الأمريكية!
- الفاشر، مدينة محاصرة وتحذيرات من كارثة وشيكة
- احتجاجات حرب غزة: ماذا تعني الانتفاضة؟
- شاهد: دمار في إحدى محطات الطاقة الأوكرانية بسبب القصف الروسي ...
- نفوق 26 حوتا على الساحل الغربي لأستراليا
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بها
- الجيش الأمريكي يختبر مسيّرة على هيئة طائرة تزود برشاشات سريع ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - سهى جرار..رحيل مفجع، في زمن - الشر العادي-