أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - الغضنفر















المزيد.....

الغضنفر


جواد بولس

الحوار المتمدن-العدد: 6946 - 2021 / 7 / 2 - 03:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


كانت حركة الوافدين على مدخل مسستشفى " كابلان" ، في مدينة رحوبوت ، خفيفة؛ فدرجات الحرارة كانت مرتفعة بشكل استثنائي، واخبار عودة انتشار فايروس كورونا بدأت، على ما يبدو، تردع البعض وتلزمهم بالتحرك ساعة الضرورة الملحّة فقط، كيلا تعود أيام الحصار المقيتة.
دخلت من الباب الرئيسي وبدأت أمشي نحو قسم الامراض الباطنية في الطابق السابع؛ فهناك سوف ألتقي بموكّلي، الغضنفر أبو عطوان، الذي نقل من سجنه إلى هذا المستشفى في منتصف حزيران على أثر تردّي حالته الصحية بسبب اضرابه عن الطعام.
في البداية انتابني شعور من الغربة والضيق، فزوّار المكان كانوا مختلطين بالمرضى وكان الجميع يتحركون بتثاقل واضح ووجوههم مغطاة بالكمامات الملونة؛ كان بعضهم يَجرّ أو يُجرّ على كراس متحركة، ارتفعت من جنبات عدد منها مواسير فضية، تتدلى من رؤوسها أكياس مليئة بالسوائل ومنها تنطلق انابيب بلاستيكية رفيعة تغور أطرافها في اذرع ركاب تلك الكراسي. وقفت للحظة أراقب، فانتبهت كيف كان الجميع يتدحرجون ببطء وبصمت، ولا يتكلمون، حتى تخيّلت نفسي أمام مشهد من أحد أفلام الخيال العلمي وهؤلاء أشباح غريبة أو مخلوقات تشبه البشر.
لم أتوجه إلى منطقة استعلامات المستشفى، فما أن استأنفت تقدمي أيقَظت رائحة المكان ذاكرتي؛ فمشيت وانحنيت يمنة ويمنة فيسرة حتى توقفت، بعد عدة دقائق، أمام المصعد المناسب الذي سيقلني، كما أقلني في السنوات الماضية، نحو الطابق السابع، حيث رقد رفاق الغضفنر قبله.
في المصعد شعرت باختناق شديد. كان الهواء ثقيلًا ومشبعًا بروائح المرض والعرق والأدوية. توقفنا في كل طابق؛ كانت ثرثرة " المسافرين" متواصلة وفوضاهم في تحديد وجهة المصعد مزعجة، فنزل من نزل وصعد آخرون وكأنهم في رحلة طيران مجانية؛ وأنا، من مكاني في الزاوية الخلفية، كنت أحاول، أن استعيد ما خبرته من زيارات المشافي، فلكل مشفى رائحته الخاصة وكل الروائح تذكرنا بالموت.
لم يكن أمام الغرفة حرس السجون أو رجال أمن؛ فدخلتها، بعد أن مررت على أسرّة أربعة مرضى اسرائيليين تعمّدوا اشاحة أعينهم عني، فتذكرت، لحظتها، ما اسم ذكر النعام.
استقبلتني أخته بنازير حارسة سلامته وذات الشخصية القوية اللافتة، وعرّفتني على والدته وعلى ضيفين، رجل عربي وسيدة يهودية، جاءا ليتضامنا مع أخيها. جلست قريبًا منه، فأدار وجهه نحوي بصعوبة ولم يتكلم. سألته إن كان يعرفني فأجابني بهزة خفيفة من رأسه وتبسم. سألته ماذا تريد مني ؟
حاول أن يستقيم بجسده فبدت المهمة مستحيلة؛ لقد خانه الجسد وبقيت معه العزيمة. عيناه ناعستان تشعان، من فتحتين صغيرتين، اصرارًا طفوليًا؛ وذقنه مكسوة بشعر داكن، كلون الحناء أو ربما الكستناء، وحاجباه سيفان جميلان يحملان جبينًا شهيًا، وشعره تخفيه كوفية عقدها مستديرة على راسه، كزنار من شمس، بطريقة "خليلية" مألوفة، وأرخى من طرفها ذيلًا يشبه ذيل الفرس.
"أريد منك أن تخرجني من هنا الى البيت". قال بصوت خفيض وسبابته تلوح برقة في الفضاء، ثم أردف مؤكدًا أنه يعي خطورة وضعه الصحي؛ فهو مضرب منذ خمسة وخمسين يومًا ولا يشرب إلا الماء ويرفض إجراء الفحوصات الطبية؛ لكنه يعرف أيضًا أنه مسجون، منذ بداية شهر اكتوبر الماضي، من دون سبب وبلا محاكمة. فإما الحرية وإما الحرية؛ قال بحزم وحاول ألا يغفو.
أوجزت أمامه خلاصة الاجراءات القانونية التي استنفدت حتى موعد زيارتي له؛ فبعد أن أمضى مدة ستة شهور في السجن وفق أمر الاعتقال الاداري الأول، قرر قائد جيش الاحتلال الاسرائيلي اصدار أمر اعتقال جديد لمدة ستة أشهر اضافية؛ فصادقت المحاكم العسكرية على أمري الاعتقال ومثلها فعلت محكمة "العدل" العليا، وذلك "بذريعة كونك عنصرًا خطيرًا في "التظيم" وتهدد بميولك الى النشاط العسكري أمن وسلامة المنطقة والمواطنين. وبعد أن تردت حالتك الصحية، وفق تقارير أطباء المستشفى، تقدمت النيابة العامة الاسرائيلية بطلب من المحكمة العليا لتجميد امر الاعتقال أو لتعليقه، فبكونك مقعدًا، وبحالة صحية حرجة، لم تعد تشكل خطرًا كما كنت، وذلك حسب ادعاءات النيابة .
ولقد استجاب قضاة المحكمة العليا لطلب النيابة، وقرروا، في الرابع والعشرين من حزيران المنصرم، تجميد أمر الاعتقال بحقك، وأوضحوا أنك، منذ تلك اللحظة، ستبقى في مستشفى كابلان ولكن ليس كأسير، ولن يحرسك حراس مصلحة السجون ولا غيرهم، بل كمريض حيث ستستطيع عائلتك زيارتك، وفق قواعد الزيارة المتبعة في المستشفى. واضافوا، أنه وفي حالة استردادك لصحتك ستسترد أيضًا قوات الأمن الاسرائيلية "حقها" في تجديد أمر الاعتقال الاداري بحقك".
كانت تعابير الدهشة تنطق من وجهه المتعب ؛ حاول أن يستوضح كيف يمكن أن تصدر هيئة قضائية مثل هذا القرار-السخرية، فأين القانون وأين المنطق ..؟ قاطعته، وقلت له بألم قليل وبكثير من العتب المبطن: "ألم تتعبوا، أنتم هناك في فلسطين المحتلة، من التفتيش عن القانون في خوذات الجنود؟ أولم تيأسوا من الركض وراء المنطق الوهمي في قرارات محاكم الاحتلال ؟ أما زلتم تؤمنون بعدل بنادق رسمت المواجع على شواهد قبوركم"؟
لم أقسُ على الغضنفر؛ وقلت ما قلته بلغة المحامي المجرّب الذي يعرف كيف تكون قلوب هؤلاء المناضلين أرق من نبع، وآمالهم معلقة على رموش العبث. فأنا في الحقيقة أستوعب دهشته ازاء ما تفتقت عنه عقول أجهزة القضاء الاسرائيلي حين اخترع قضاة ما يسمى بمحكمة "العدل" العليا" امكانية تجميد قرار الاعتقال الاداري الصادر بحق المواطن الفلسطيني وابطال مكانته ، بالمفهوم القانوني، كأسير ؛ لكنهم، يمنعوه، في نفس الوقت، أن يتصرف كانسان حر، وأن يختار المكان الذي به سيعالج أو يموت. لقد حوّلوه الى محرر مريض أسير، ورحّلوا عن كواهلهم، بفذلكة وقحة تشبه شطحات محاكم التفتيش الجهنمية، المسؤولية عن حياته وعن حريته. فمن بدأ في سنوات الخمسين الماضية باختراع منزلة "الحاضرين الغائبين" سيعرف اليوم كيف يخترع منزلة "المحرر الأسير".
سألته إن كان يعرف شيئًا عن تاريخ محاكم التفتيش، فلاحظت على زجاج النافذة التي بجانبه صورة وجهه وبسمة خفية وسرب حمام كان يطير بسلام.
بعد نصف ساعة تقريبًا دخلت علينا الطبيبة، رئيسة القسم، وطلبت أن تشرح بحضوري للغضنفر حقوقه وواجباتها؛ فهي كطبيبة مسؤولة عن بقائه حيًا، عليها أن تقوم بفحصه وبمعالجته. سمعها باحترام ورفض ما طلبته بحزم. احترمَت موقفه وحذّرتْه من أنه يمر في وضع صحي حرج وقد تصيبه في كل لحظة جلطة دماغية أو سكتة قلبية وقد يقع ضحية لحالة وفاة فجائية. أصغى لها بانتباه شديد، ومدّ كفه نحو السماء واغمض عينيه، لهنيهة، ثم نظر نحو أمه، التي كانت تستمع للحديث بعينين حائرتين وبشفة مزمومة وسمرة تشبه لون العناب، وقال للطبيبة بطيبة: إما ذلك المدى، وأشار نحو سرب الحمام البعيد، واما هذا الردى. أحسست بركانًا في شراييني وتمنيت لو أكتب اليوم قصيدة يكون مطلعها: "على هذه الارض من يستحق الحياة" .
نظرتُ في عيني الطبيبة التي كنت أعرفها منذ سنوات وتابعت معها عدة حالات اسرى مشابهة، بدءًا من قضية الاسير سامر العيساوي، في العام 2012، وآخرها قضية الاسير ماهر الاخرس، في العام 2019، فلم أجد في عينيها غير الحيرة والدهشة. بلعت ريقها. توقفتْ عن الكلام للحظات ثم تابعته فقالت للغضنفر : أنت في الواقع بالنسبة لنا انسان حر وتستطيع ان توقع على وثيقة مغادرة وتغادر المستشفى على مسؤوليتك، لكنني ملزمة، هكذا اردفت، أن أخبرك أنك اذا اخترت ذلك، سأقوم بإخبار حرس المستشفى، فلربما لديهم تعليمات اخرى. لم ينتظر الكمالة فأجابها مباشرة : لن أوقع لكم على أي ورقة، واعلمي أننا والحرية على ميعاد.
أعلمته بدوري انني انتظر من المستشفى اعداد تقرير طبي جديد، فبعد استلامه سوف اتوجه الى الجهات الاسرائيلية المعنية وساطالب بالافراج عنه أو بنقله الى مستشفى فلسطيني، واننا سنلتقي قريبًا. استسمحته المغادرة، فاذن لي بعد ان ضمن وعدي بأن أكون ضيفهم على مائدة التحرير؛ غصصت، وأعلنت عن اضرابي عن الطعام كي آتيهم جائعا. ضحك مثل فلة أصيلة، ووضع سبابته على شفتيه وحررها برشاقة فارس فكانت هذه قبلته هي زوادتي في طريق عودتي.

تواصلت مع الاخوة في نادي الاسير، وبلغتهم تفاصيل زيارتي؛ فأفرحوني بتفاصيل عملية الافراج عن الشيخ خضر عدنان بعد شهر من خوضه أضرابًا محكمًا عن الطعام. وقرأوا لي مقطعًا من رسالته التي نشرها فور تحرره حيث خصني بها بمقطع قال فيه : "سلامي للمحامي الانسان الذي افتخر به، ورافقني في السنوات (2011,2012, 2015, 2018 ,2021 ) جواد بولس الفذ، الذي أفخر بصحبته وأهله وزوجه وعياله. ابنته كتبت لي في بداية الاضراب: الحرية لخضر عدنان. وأسأل الله أن لا أكون قد خذلتها ، ولا الأهل في كفرياسيف ، ولا في الجولان، ولا في المثلث، ولا في غزة، ولا في الشيخ جراح، ولا في القدس ولا في جنين ولا في أي موقع". سمعت الرسالة بغبطة جمة، ونظرت إلى الأعلى. كان شباك الغضنفر فوقي ، وكنت أسمعه ، هكذا خيّل لي، يردد معي "على هذه الأرض من يستحق الحياة ". طرت عائدًا إلى وعدي ومن فوقي راح يصفق سرب حمام.



#جواد_بولس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكومة بينيت-عباس،ابنة الانتهازية والالتباس
- ما العمل؟ كان سؤالنا الأكبر ولم يزل
- -يدًا بيد- وحكومة إسرائيل القادمة
- في - الشيخ جراح- يبكون فيصل الحسيني
- رسالة الى رئيس وقادة جهاز المخابرات العامة، - الشاباك-
- ماذا بعد ان استردت الهوية روحها؟
- مواطنة بين زغرودة وصاروخ
- الهوية بين اغواءات المصالح وتعدد الولاءات
- ماذا لو رُشّح مواطن عربي لرئاسة اسرائيل؟
- من أجل اقامة جبهة:مواطنون ضد الفاشية
- ويبقى السؤال أمامنا ، ما العمل؟
- الحركات الإسلامية بين نداءات المقاطعة والدعوة للاندماج
- نصر يعادل هزيمة
- كيف ومتى أصبح نتنياهو ناصر العرب؟
- التحية لشباب أم الفحم والعزاء لجلجولية
- مرة أخرى انتخابات، فهل سيجزينا آذار
- هل يحلم عماد بالزنابق البيضاء
- أنشهد نهاية اليسار في انتخابات فلسطين؟
- الحركة الأسيرة الفلسطينية وبشائر القاهرة
- قرانا ومدننا تبكي، فلا تصدقوا وعودهم


المزيد.....




- بالتعاون مع العراق.. السعودية تعلن ضبط أكثر من 25 شركة وهمية ...
- مسؤول إسرائيلي حول مقترح مصر للهدنة في غزة: نتنياهو لا يريد ...
- بلينكن: الصين هي المورد رقم واحد لقطاع الصناعات العسكرية الر ...
- ألمانيا - تعديلات مهمة في برنامج المساعدات الطلابية -بافوغ- ...
- رصد حشود الدبابات والعربات المدرعة الإسرائيلية على الحدود مع ...
- -حزب الله-: استهدفنا موقع حبوشيت الإسرائيلي ومقر ‏قيادة بثكن ...
- -لا استطيع التنفس-.. لقطات تظهر لحظة وفاة رجل من أصول إفريقي ...
- سموتريتش يهاجم نتنياهو ويصف المقترح المصري لهدنة في غزة بـ-ا ...
- طعن فتاة إسرائيلية في تل أبيب وبن غفير يتعرض لحادثة بعد زيار ...
- أطباق فلسطينية غيرتها الحرب وأمهات يبدعن في توفير الطعام


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - الغضنفر