أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - في - الشيخ جراح- يبكون فيصل الحسيني















المزيد.....

في - الشيخ جراح- يبكون فيصل الحسيني


جواد بولس

الحوار المتمدن-العدد: 6918 - 2021 / 6 / 4 - 09:19
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ما زلت أذكر ذلك الصباح الموجع قبل عشرين عامًا؛ كانت القدس تصحو بكسل من نومها القلق؛ وأنا، في سيارتي، أراجع بهدوء برنامج عملي في ذلك النهار. قطعت منطقة حي "الشيخ جراح"، وبعدها دوار فندق "اميريكان- كولوني"، وحين وصلت بمحاذاة عمارة سينما "النزهة" تلقيت اتصالًا هاتفيًا من أحد حراس "بيت الشرق" وسمعته بصعوبة وهو يسألني: "وينك استاذ " ؟ كان صوته متهدجًا ومخنوقًا، فبلع ريقه، وأكمل، دون أن يسمع اجابتي " أبو العبد توفي في الكويت هذا الصباح" ، قالها فغصّ واختفى. لم أستوعب لوهلة كلامه وبقيت واجمًا. كان عقلي يحاول، بخفية، أن يمتص الصدمة وأن يجد لها مكانًا، فقلبي قد بدأ يغرق بدمائة وفكري يشلّ. وصلت ساحة بيت الشرق حيث كان بعض العاملين يقفون، بدون حراك، في الزوايا كجذوع الشجر، ونحيبهم يملأ الفضاء. بدأت الناس تتقاطر كأسراب نمل، بعضهم بتثاقل خائفا وآخرون بهرولة، حتى فاض المكان دموعًا ووجوهًا بيضاء وصمتًا كسيرًا !

سافر فيصل الحسيني إلى الكويت، بعد العاصفة، ليصلح التباسًا وقع بينها وبين فلسطين في ظرف تاريخي استثنائي؛ لأنه آمن بضرورة "إزالة غبار الهفوة" في وقت كانت فيه فلسطين محاصرة وبحاجة لكل "رئة" ودعم لا سيما من قبل أشقائها العرب، ودولة الكويت في مقدمتهم. لقد كان فيصل "مرممًا للجسور" وسفيرًا فلسطينيًا حاذقًا ومرغوبًا، ليس عند جميع الدول العربية وحسب، بل في معظم دول المعمورة. لن نخوض في ملابسات تلك الأيام، ولكن عسانا نتذكر كيف كانت القدس الشرقية مستهدفة من قبل حكومة اسرائيل، وكان بيت الشرق خارجًا من معركة ظافرة ضد محاولة اغلاقه. لقد كان فيصل للقدس حارسًا أمينًا ودرعًا صلبًا ومدافعًا عنيدًا وحكيمًا؛ وكان، في ذات الوقت، قائدًا فلسطينيًا وطنيًا جامعًا، دانت له باحترام وقبلته جميع الفصائل والحركات والمؤسسات والشخصيات الفلسطينية على مختلف مشاربها وعقائدها وانتماءاتها السياسية.

عشرون عامًا، من عمر الخسارة، مضت وما زال جرح القدس مفتوحًا، والدمع رفيقي؛ عقدان واجهت فيهما المدينة المكائد واصرار دولة الاحتلال على ابتلاعها وتدجين أهلها أو ترحيلهم؛ ورغم ما حصل لها، أشعر أن فيصلًا باق فيها كأحلام الياسمين التي تتعمشق في الأزقة وبين القناطر؛ وكالحنين يتجدد كلما ولد في القدس طفل أو طفلة؛ فبعض البشر، لمن لا يعرف، يرحلون بالجسد وتبقى أنفاسهم إكسيرًا لحياة الناس وللشرف.

يوجد لذكرى رحيله، في هذه الأيام، طعم مر وحاد؛ فنحن نتذكره ونشاهد اعتداءات المستوطنين وقوات الشرطة على المواطنين المقدسيين وعلى ممتلكاتهم في عدد من أحياء المدينة، وأشدّها ما يجري منذ سنوات في رحاب المسجد الاقصى، ومنذ أسابيع في حي "الشيخ جراح"، اللذين كانت أحداثهما بمثابة الشرارة التي دفعت بحركة حماس إلى اطلاق صواريخ غزة نحو المدن الاسرائيلية واشتعال موجة المواجهات الأخيرة. لقد خفنا، مع اطلاق أول الصواريخ، أن يُنسى "الشيخ جراح" أو أن يصبح مجرد عروة هامشية في خارطة جسد كبير ينتفض، ولكن المطمئنين كانوا كثرا والرافضون لهذه النبوءة السوداء كانوا أكثر؛ ومع ذلك ؛ ورغم ما قيل ويقال، ستبقى الأمور محكومة بخواتيمها وسيبقى ظهر الغد أصدق.

لقد قاوم فيصل الحسيني محاولات الاستيطان الاسرائيلية في جميع أحياء القدس بدون استثناء، وأذكر في هذه المناسبة صولته الأخيرة في حي "الشيخ جراح"، قبل سفره الى الكويت بأيام معدودة، حين وقف، كعادته، وواجه بجسده، مع عدد قليل من رفاقه المقدسيين، عصابات المستوطنين وعناصر الشرطة التي حضرت لحمايتهم في محاولات سيطرتهم على نفس هذه البيوت. ثم سافر وقال لنا: "انتظروني، فالقدس عندي كالنفس" .

لم يعد فيصل الى قدسه كما تمنى، لكنه ترك وراءه ارثًا نضاليًا غنيًا وهامًا وبوصلة أثبتت نجاعتها في معظم المعارك التي خاضتها المدينة في عهده. لقد كانت اسرائيل أكبر الرابحين من رحيله، فبعده صارت القدس تبكي، وكل شيء تغير.

وللتذكير أقول مجددًا : لقد نجحت قيادات القدس، بعد نكسة 1967 وبقاء اهلها، بترميم بنى المدينة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مما أفضى الى اعادة تأهيل مجتمع مقدسي متماسك تجمعه عرى هوية فلسطينية واضحة سهلت على نخبها القيادية استرجاع موقع المدينة تدريجيًا ورمزيتها كعاصمة للمشروع الوطني الفلسطيني وكعنوان هام تواصلت معه دول العالم ومؤسساتها، وكذلك فعل جميع الفلسطينيين.

لقد استمرت عملية بناء الهوية الوطنية على مراحل حتى وصلت ذروتها فيما أسمّيه "عصر بيت الشرق الذهبي" وخلاله استطاع فيصل الحسيني ومعه كوكبة من قيادي المدينة وفلسطين، تحويل القدس الشرقية الى كيان سياسي واجتماعي شبه مستقل عن السيادة الاسرائيلية، وفرضوه ، بحنكة فريدة، كواقع مقبول وكحقيقة معيشة وملموسة.

لقد بنى فيصل سياسته على توازنات ميدانية دقيقة وخيارات حكيمة وشجاعة، من خلال نظافة قلب ويد ولسان، واستعداد خرافي لمواجهات العدو، بعيدًا عن المزايدات والمراهنات غير المحسوبة.

وهو، برؤيته الكفاحية الواقعية ووقفاته الميدانية الصارمة، نجح في خلق حالة من "الردع الايجابي المتبادل" مع اسرائيل التي أُجبر زعماؤها على ابداء احترامهم له خشية ردات فعله وقدرته المجربة على زعزعزة "السلامة العامة" والمس بحالة " الهدوء العام".

أما موقفه بخصوص الأماكن المقدسة فكان يعتمد على اتباع مبدأ المحافظة على "الستاتوس كوو" ، الوضع القائم؛ ونجاحه في هذه الجبهة يُعدّ انجازًا بالغ الأهمية؛ إذ حرص ، لسنين عديدة، على تحييد جميع هذه الاماكن، وفي طليعتها المسجد الاقصى، عن بؤر التنازع والاحتكاك مع العناصر اليهودية، الحكومية والشعبوية، مدركًا ان زعامات اسرائيل اليمينية والصهيونية المتدينة تسعى لإسقاط بعدي الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي الأبرزين ، السياسي والقومي، وحصر النزاع في بعده الديني وحسب؛ وذلك ايمانًا منها بأن اللجوء إلى المرجعيات الدينية والى احكام السماء ستتيح لهم فتح طاقاتها كي يمطروا الناس بفتاويها، وعندها سيسود الالتباس وتغمط الحقوق ويكثر الاجتهاد وستنافس العبرية العربيةَ والارض ستتكلم ، حسب توراتهم، العبرية، والحرب ستصبح مقدسة !

لقد وافقت معظم القوى السياسية، الوطنية والاسلامية، في تلك السنوات على معظم المباديء التي حملها فيصل ورفاقه، حتى صار العمل وفقًا لها اجماعًا فلسطينيًا وبوصلة القدس المتوافقة.

لم تتغير قواعد اللعبة الا بعد رحيل فيصل وبعد اغلاق بيت الشرق ومعه اغلاق عشرات المؤسسات الفلسطينية. لا أنوي هنا الاسترسال في ما أصاب المدينة بعد عقدين من ذاك الرحيل الموجع، ولكن من السهل أن نرى كيف تراجع اداء اهلها النضالي، وارتبطت مصالح قطاعات واسعة من سكانها باسرائيل، وجنحت اقسام كبيرة منهم نحو المؤسسة الصهيونية الحاكمة.

ما زالت رحى معركة "الشيخ جراح" دائرة، وستصبح، من دون شك، أشرس وأخطر؛ فنحن نرى محاولات الشرطة الاسرائيلية ونشطاء المستوطنين حسمها ميدانيًا، وذلك عن طريق مضاعفة التنكيل اليومي بالمتظاهرين من جهة، وترهيب أصحاب البيوت من جهة أخرى؛ وما حصل مع عائلة المواطنة جنان الكسواني، ابنة السادسة عشر ربيعًا، واصابتها مع والدها، وهم داخل منزلهم، بعيارت نارية اطلقتها عليهم عناصر الشرطة عن عمد ومن غير وجود أي سبب، يشكل دليلًا على ما يخطط له المستوطنون وعلى موقف الشرطة الاسرائيلية الداعم لهم. كذلك فإن قيام الشرطة باستغلال الحادثة التي هاجم فيها سائق عربي بعضًا من عناصرها الذين تواجدوا على حاجز هناك، من أجل اغلاق المنطقة والسماح لسكانها فقط بدخولها، يدل على مخططها لعزل المنطقة وسكانها، وابعاد المتظاهرين عن المكان بهدف تيئيسهم وارهاقهم.

لقد خاضت مجموعات من المقدسيين مواجهات لافتة في دفاعهم عن المسجد الاقصى وحققوا فيها انجازات نسبية ومحصورة في تلك الجبهة الوحيدة؛ وفي المقابل لم نرَ مثل تلك الوقفات في بؤر التماس الأخرى، وهي كثيرة جدًا، حيث ما زال الاستيطان اليهودي ينتشر ويتغول في أحياء كثيرة من المدينة؛ ولا زالت اسرائيل تسجل، بالتوازي مع عملية التهويد، نقاطًًا كبيرة في إحكام سيطرتها على عدد كبير من قطاعات حياة المقدسيين، ما كانت لتسجل في عهد فيصل ..

القدس تبكيك ايها الباقي فيها، ومعها تبكيك فلسطين ..

فالسلام لروحك



#جواد_بولس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة الى رئيس وقادة جهاز المخابرات العامة، - الشاباك-
- ماذا بعد ان استردت الهوية روحها؟
- مواطنة بين زغرودة وصاروخ
- الهوية بين اغواءات المصالح وتعدد الولاءات
- ماذا لو رُشّح مواطن عربي لرئاسة اسرائيل؟
- من أجل اقامة جبهة:مواطنون ضد الفاشية
- ويبقى السؤال أمامنا ، ما العمل؟
- الحركات الإسلامية بين نداءات المقاطعة والدعوة للاندماج
- نصر يعادل هزيمة
- كيف ومتى أصبح نتنياهو ناصر العرب؟
- التحية لشباب أم الفحم والعزاء لجلجولية
- مرة أخرى انتخابات، فهل سيجزينا آذار
- هل يحلم عماد بالزنابق البيضاء
- أنشهد نهاية اليسار في انتخابات فلسطين؟
- الحركة الأسيرة الفلسطينية وبشائر القاهرة
- قرانا ومدننا تبكي، فلا تصدقوا وعودهم
- ما كانت الحركة الاسلامية لتُقدم، لو كان في سائر الأحزاب حياة
- ليس بالقائمة المشتركة وحدها يحيا الكفاح
- لنصنع ربيعنا في آذار المقبل
- عندما سألني مرسيل: كيف استقبلت فلسطين عامها الجديد


المزيد.....




- أثار مخاوف من استخدامه -سلاح حرب-.. كلب آلي ينفث اللهب حوالي ...
- كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير ...
- جهاز التلقين وما قرأه بايدن خلال خطاب يثير تفاعلا
- الأثر الليبي في نشيد مشاة البحرية الأمريكية!
- الفاشر، مدينة محاصرة وتحذيرات من كارثة وشيكة
- احتجاجات حرب غزة: ماذا تعني الانتفاضة؟
- شاهد: دمار في إحدى محطات الطاقة الأوكرانية بسبب القصف الروسي ...
- نفوق 26 حوتا على الساحل الغربي لأستراليا
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بها
- الجيش الأمريكي يختبر مسيّرة على هيئة طائرة تزود برشاشات سريع ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - في - الشيخ جراح- يبكون فيصل الحسيني