أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالله بنسعد - تعقيبا على تصريحات المشيشي في قطر : الفلاحون الشبّان أولى بالأراضي الدولية من القطريين والرأس مال الجشع في تونس















المزيد.....



تعقيبا على تصريحات المشيشي في قطر : الفلاحون الشبّان أولى بالأراضي الدولية من القطريين والرأس مال الجشع في تونس


عبدالله بنسعد

الحوار المتمدن-العدد: 6917 - 2021 / 6 / 3 - 18:17
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


1. كيف تشكّلت الأراضي الدولية وما هو حجمها الحقيقي ؟
أ. للتاريخ : "هنشير" النفيضة أكبر الأراضي الدولية ومنه إنطلقت عملية الإستعمار المباشر
يمسح هنشير النفيضة حوالي 96 ألف هكتار وكان من أملاك الباي ، منح لأولاد سعيد سنة 1843 ثمّ إفتكّه أحمد باي سنة 1850. وأوكل الباي إلى صهره العروسي بن حميدة جمع الضرائب وتأجير الأراضي والمراعي. وقبل بعد ذلك الباي مقايضة خيرالدين باشا الوزير الأول (1873 – 1877) الهنشير مقابل تخلّيه عن المنحة السنوية التي كانت تصرف له وإستغلّ خيرالدين الهنشير لمدة 4 سنوات قضاها في الحكم بصفته وزيرا أولا لكن بإعفائه من الوظيفة في 22 جويلية 1877 قلّت مداخيله من الهنشير وأصبح متخوّفا من مصادرة أملاكه ففكّر في بيعها بعد أن رهنها لدى شركة مرسيليا الفرنسية للقروض مقابل حوالي 600 ألف فرنك فرنسي ولعب دور الوسيط بين خيرالدين وشركة مرسيليا أحد أفراد عائلة "لومبروزو" المقرّبة من الباي وقد جرت الإتصالات الأولية منذ شهر ماي 1879 وفي 5 أفريل 1880 قبل خيرالدين بيع الهنشير إلى الشركة الفرنسية ولكنّ البيع إلى شركة اجنبية أثار ردود فعل مناوئة لخيرالدين كما أثار شهية الوزير الأول الجديد مصطفى بن إسماعيل ولإسقاط حقوق الشركة لجأ هذا الأخير إلى حق "الشفع" وإستعمل يهوديا له جنسية أنقليزية إسمه "يوسف ليفي" وكان غرض بن إسماعيل جرّ الشركة الفرنسية إلى تقديم شكوى إلى القاضي التونسي والمحاكم الشرعية التونسية إذ كان مدركا أنّ الحكم سيكون لصالحه. وسمح "ليوسف ليفي" بأن يسبق شركة مرسيليا إلى الهنشير ويشرع في إستغلاله وهو ما أدّى إلى إندلاع صراع معه حتى جانفي 1881 دون أن تتمكّن الشركة الفرنسية من تسلّم الهنشير الذي إشترته. وأمام فشل كل الطرق القانونية لم يبق غير إستعمال القوّة فإستعملت الشركة كل نفوذها المادي لجرّ الحكومة الفرنسية إلى تبنّي مشاريعها وإقرار الإحتلال العسكري لتونس وذلك بإمضاء ما سمّي بوثيقة "الحماية" في 12 ماي 1881 والتي لم تكن في حقيقة الأمر إلاّ إستعمارا مباشرا بشعا دام 75 سنة ليتحوّل بإمضاء بروتوكول 20 مارس 1956 إلى إستعمار غير مباشر.
ب. حجم الأراضي الزراعية التي إستحوذ عليها الإستعمار
إستحوذ المستعمر الفرنسي منذ دخوله إلى تونس سنة 1881 على حوالي 715 ألف هكتار من جملة 500 7 ألف هك من الأراضي الصالحة للزراعة في القطر وزّعت على 4500 مستعمر. وإضافة إلى ذلك إستحوذ حوالي 350 إيطالي وغيرهم من الجنسيات الأخرى على حوالي 70 ألف هكتار وبذلك تبلغ جملة الأراضي المستحوذ عليها حوالي 785 ألف هك وهو ما يمثّل حوالي 10 % من مجمل الأراضي الفلاحية.
لكنّ هذه النسبة الضعيفة لا يجب أن تخفي مسألة مهمّة وهي أنّ الأراضي التي وضع عليها الإستعمار يده هي من أخصب الأراضي الفلاحية في القطر وهي موجودة في أغلبيتها الساحقة بالمناطق الرطبة وشبه الرطبة.
2. كذبة تأميم الأراضي الزراعية في تونس
خلافا لما كان يروّج له العميل بورقيبة وأتباعه وهو ما يتواصل لحدّ اليوم ، فإنّ ما حصل في تونس بعد سنة 1956 هو في أغلبه عمليّة شراء للأراضي الفلاحيّة التي إغتصبها المُستعمر وليس عمليّة تأميم مثلما هو معمول به في مثل هذه الحالات ومثلما حصل في المغرب والجزائر وليبيا وغيرها من البلدان التي وقع إستعمارها سابقا. وقد مرّت عملية "تونسة" الأراضي الفلاحية بأربعة مراحل :
 البيع الطوعي للأراضي من طرف المستعمرين : بدأت هذه العملية خاصة بعد إمضاء ما سمّي بإتفاقية "الإستقلال الداخلي" وكذلك بعد إحتداد حرب التحرير في الجزائر حيث وقع إمضاء أول بروتوكول تونسي فرنسي في 8 ماي 1957 يهمّ المستعمرين القريبين من الحدود الجزائرية ويتمثّل في تسهيل عملية بيع أراضيهم إلى الدولة التونسية أو إلى الخواص مقابل ثمن جزافي وقد بلغت المساحة التي فوّت فيه المستعمرون الفرنسيون بالبيع إلى الدولة التونسية حوالي 127 ألف هك ولكبار الملاكين في تونس حوالي 000 40 هكتار بين سنوات 1956 و1960.
 إفتكاك الأراضي المهملة تطبيقا لقانون 7 ماي 1959 : مثّل إمضاء بروتوكول 20 مارس 1956 صدمة لعديد المستعمرين الذين كانوا يمنّون النفس بالإستيطان في تونس فهاجر بعضهم إلى موطنه الأصلي وتخلّى البعض الآخر عن نشاطه الفلاحي كليا او جزئيّا فتقلّص الإنتاج الفلاحي نتيجة لذلك بحكم أنّ ضيعات المستعمرين كانت ذات إنتاجية عالية جدّا وبها أعلى نسبة مكننة في العالم في ذلك الوقت. هذه الوضعية دفعت بالحكومة التونسية إلى إصدار القانون عدد 48 لسنة 1959 المؤرّخ في 7 ماي 1959 وهو يتعلّق بـ "حجز العقارات الفلاحية المهملة أو الناقصة إستغلالا" والذي ينصّ في فصله الأول على ما يلي : "يمكن إئتمان الأراضي الصالحة للفلاحة التي يملكها الأشخاص المعنوية أو الذاتية إذا كانت مهملة أو ناقصة الإستغلال وذلك قصد إستثمارها أو حفظها" ويفسّر الفصل الثالث معنى الإهمال حيث نقرأ ما يلي : "تعتبر مهملة لتطبيق هذا القانون كل أرض فلاحية لم يقع بها إجراء الأعمال الفلاحية العادية في الإبان طيلة السنة الفلاحية كما تعتبر ناقصة الإستغلال كل أرض فلاحية لا يستخرج منها صاحبها أو شاغلها او مستغلها مهما كان وجه إستغلاله كل الإنتاج المستطاع بالنظر إلى طبيعتها الفلاحية". لكن مع الأسف الشديد لم يقع تطبيق هذا القانون إلاّ على نسبة صغيرة جدا من أراضي المستعمرين لا تفوق 75 ألف هكتار فقط بعد تدخّل الحكومة الفرنسية لحماية منظوريها حيث سارعت بإمضاء بروتوكولين إضافيين لتقنين عملية تحويل أراضي المستعمرين إلى الدولة التونسية بفرض تعويضات لهم وهكذا سقط قانون 1959 في الماء.
 شراء أراضي المستعمرين من طرف نظام العميل بورقيبة : سارعت الحكومة الفرنسية إذا وحتّى تحمي المستعمرين من قانون الحجز لسنة 1959 بإجبار الحكومة التونسية على إمضاء بروتوكلين لنقل ملكية "الأراضي الفلاحية للفرنسيين" إلى الدولة التونسية (Protocole de cession à la Tunisie des terres des agriculteurs français) وقد أمضي البروتوكول الأول بتاريخ 13 أكتوبر 1960 والثاني بتاريخ 2 مارس 1963. وقد إشترت الدولة التونسية من 1960 إلى 1964 حوالي 150 ألف هك بمبلغ يساوي مليون وخمس مائة ألف دينار (10 آلاف د للهكتار الواحد بينما كان معدّل ثمن الهكتار الواحد السقوي في شمال تونس في ذلك الوقت لا يتجاوز ألف دينار فقط أي باع المُستعمرون الفرنسيون أراضي بعشرة أضعاف ثمنها الحقيقي) كـ "غرامة جزافيّة دفعتها الحكومة التونسية للحكومة الفرنسية" التي ستعوّض بها المستعمرين الفرنسيين لإعانتهم على إعادة إنتصابهم بمناطقهم الأصلية في فرنسا. وقد إقترضت الدولة التونسية هذا المبلغ من الدولة الفرنسية. أي انّ تونس حصلت على قرض من فرنسا لشراء أراضيها من الفرنسيين المغتصبين لها !!! وهو أوّل قرض لجأت له الدولة التونسية الناشئة (وبذلك يصحّ أن نقول بأننا متعوّدون على التداين).
 "تونسة" ما تبقّى من الأراضي بإصدار قانون 12 ماي 1964 : بعد حرب بنزرت أصدرت الحكومة التونسية القانون عدد 5 المؤرّخ في 12 ماي 1964 يتعلّق بملكية الأراضي الفلاحية في تونس وسمّي بقانون "الجلاء الزراعي". وقد نصّ هذا القانون في فصله الأوّل على ما يلي : "إبتداءا من صدور هذا القانون لا يمكن أن يملك الأراضي الصالحة للفلاحة إلاّ الأفراد من ذوي الجنسية التونسية أو الشركات التعاضدية التي يقع تأسيسها طبقا لأحكام القانون عدد 19 لسنة 1963". غير أنّ هذا الفصل الذي يوحي من الوهلة الأولى بتوجّه "وطني" يخفي وراءه عمالة النظام التي تفتضح بما ورد في الفصل السادس من تعويض مادّي (إنسجاما مع ما ورد بالبروتوكولين المذكورين أعلاه) لمن إستعمر أراضينا وإستنزف خيراتها ودمّر خصوبتها إذ ينصّ الفصل المذكور على ما يلي : "ينشأ من الإحالة المنصوص عليها بالفصل الثالث المتقدّم حقّ في التحصيل على تعويضات تقدّر مبلغها لجنة تكون بجانب كاتب الدولة للرءاسة وتراعي اللجنة المذكورة في تقدير ذلك بالخصوص نوع الأراضي وأصل التملّك ومدّة الإستثمار وما وقع إستهلاكه كما تراعي ايضا الحالة الموجودة عليها الأراضي الفلاحية يوم تسليمها". تطبيق هذا القانون مكّن من إسترجاع حوالي 300 ألف هكتار عبر الشراء مرّة أخرى وليس التأميم. هكذا إذا تنتفي مقولة تأميم الأراضي الفلاحية في تونس فقد كان بورقيبة طيّعا جدّا بيد المُستعمر الفرنسي الذي فرض عليه شروطه كما أراد.
3. الحجم الحقيقي للأراضي الدولية بين الأمس واليوم
في البداية يجب التأكيد على ضرورة التفريق بين الأراضي الدولية في المطلق والأراضي الدولية الفلاحية. فمن ناحية الكم تعتبر حوالي نصف مساحة تونس (حوالي 8 ملايين هك) أراض دوليّة موزّعة كما يلي :
- حوالي 6 ملايين هك صحاري وسباخ وجبال
- حوالي 1 مليون هك غابات
- حوالي 1 مليون هك أراض فلاحية وغير فلاحية منها حوالي 500 ألف هك أراض تحت تصرّف أو إشراف ديوان الأراضي الدولية والبقيّة إمّا مسندة إلى الإدارات المحلّية والجهوية والمركزية أو تتصرّف فيها دون تسوية (أراض غير فلاحية وتعدّ ببضعة الآلاف من الهكتارات) أو مسندة إلى الخواص حسب أمر سنة 1948 وقانون سنة 1970 (عشرات الآلاف من الهكتارات) أو مستغلّة بطريقة عشوائيّة من الخواص (مئات الآلاف من الهكتارات).
وإذا خصّصنا على الأراضي الفلاحية ومن خلال ما سبق فإنّ الأراضي الدولية مثّلت بعد خروج الإستعمار مساحة تساوي حوالي 828 ألف هكتار (حوالي 745 ألف هكتار "متونسة" وحوالي 83 ألف هك من أراضي الأحباس) وقع التفويت أو البيع في حوالي 40 % منها من طرف نظام بورقيبة سنة 1970 وبالتالي لم يتبقّى إلاّ حوالي 500 ألف هكتار (497 ألف هك بالضبط حسب أرقام وزارة الفلاحة) موزّعة كما يلي :
* أراض مهيكلة
- 90 الف هك شركات احياء وتنمية فلاحية
- 68 الف هك مسترجعة وفي عهدة ديوان الاراضي الدولية بصفة ظرفية
- 54 الف هك مقاسم فنية موزّعة على 866 مهندس فلاحي
- 30 الف هك مقاسم فلاحون شبان ومتعاضدون موزّعة على 5900 فلاح
- 32 الف هك قطع مشتتة مسوغة للخواص
- 33 الف هك غابات وأراضي تعويضات ومتفرقات
* أراض غير مهيكلة
- 157 الف هك تحت تصرف ديوان الاراضي الدولية منها 54 في المائة مراعي وغابات
- 18 الف هك تحت تصرف الوحدات التعاضدية للانتاج الفلاحي
- 15 الف هك تحت تصرف هياكل البحث والارشاد والتكوين المهني الفلاحي والتعاضديات المركزية
لكنّ الشيء الذي يجب التأكيد عليه أنّ كلّ هذه الأرقام هي أرقام تقريبية لأنّه لم يقع إلى حدّ اليوم التأكّد من الحجم الحقيقي لملك الدولة الخاص إضافة إلى تضارب الأرقام بين وزارتي الفلاحة وأملاك الدولة وهذا يطرح إشكالية أخرى تتعلّق بإزدواجية الإشراف على المسائل العقارية سنتعرّض لها في آخر هذا المقال. إضافة إلى ذلك فإنّه يجب التأكيد على أنّ ملك الدولة الخاص يحتوي على وضعيات جدّ متشعّبة تتمثّل خاصّة في :
- أراض على الشياع بين الدولة والخواص في عديد الجهات مثل أرض شط الفريك بقابس.
- أراض دولية غير مشمولة بالجرد ولم تكتشف الدولة أنّها على ملكها إلاّ بعد إنتفاضة 17 ديسمبر/14 جانفي مثل هنشير سيدي الهاني بسوسة.
- أراض دولية غير مسجّلة ومستغلّة من طرف الخواص مثل القطعة رقم 10 بقفصة التي تمسح 17 ألف هك.
- أراض دولية لم يتمكّن ديوان الأراضي الدولية من التحوّز بها إلى اليوم مثل هنشير راس المرج بالمنستير بسبب إستغلاله عشوائيا من طرف الخواص.
- أراض دولية مسجّلة ومستحوذ عليها من طرف الخواص دون تسوية سواء بالبناء (آلاف الهكتارات بكل المدن التونسية تقريبا) أو بالإستغلال الفلاحي (مئات الآلاف من الهكتارات منها على سبيل الذكر لا الحصر 80 ألف هك بصفاقس تعرف بأرض السيالين).
- ولاية توزر التي تمسح 287 559 هكتار (منها 061 326 هك أراضي صالحة للزراعة و226 233 هك صحاري وسباخ) تمثّل فيها الأراضي الدولية حوالي 97 % بالتمام والكمال أي أنّ الأراضي الخاصة بها لا تمثّل إلاّ حوالي 17 ألف هك فقط منها 9000 هك واحات ولم يقع إلى اليوم حلّ هذا الإشكال العويص الذي يعيق التنمية بالجهة وهي وضعية تدعو إلى الإستغراب الشديد. وللتذكير فإنّ وجود ملك دولة غير مسجّل هو ممارسة واعية كرّسها النظام العميل عن سوء نيّة ليسهل له التصرّف فيه إمّا بالتفويت في تلك العقارات لكسب الأنصار مثلما فعل العميل بورقيبة سنة 1970 أو لتوزيعه على العائلة المافيوزية مثلما فعل العميل بن علي فيما بعد.



4. تمكين الرأس مال المحلّي والمُستثمرين الأجانب من الأراضي الدوليّة خطر كبير على الأمن الغذائي للتونسيين
لسائل أن يتساءل لماذا لا تتعض مختلف الحكومات المتعاقبة من مساوئ هذه السياسة أو تلك ؟ ثمّ هل تقوم تلك الحكومات بتقييم التجارب التي تلجأ لها في كلّ مرّة ؟ وخاصة لماذا الإصرار على تطبيق سياسات أثبت فشلها الذريع ؟ والجواب أراه فيما يلي :
أوّلا ، إنّ ذلك ناتج عن تمسّك النظام الرجعي العميل بالسياسات النيوليبرالية المفروضة من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والإتحاد الأوروبي خاصة وثانيا ، التمسّك بمنوال تنموي يرتكز على الإقتصاد الريعي أي على السمسرة أكثر من الإنتاج والذي تسيطر عليه دزّينة من العائلات المتنفّذة أو لنقلها بوضوح دزّينة من عصابات المافيا التي تقبض بين يديها على عنق الاقتصاد في تونس مثلما أكّده البنك العالمي والإتحاد الأوروبي في عديد التقارير. وقد عبّر عن ذلك وبكل وضوح الأستاذ الحبيب الجنحاني عندما قال «يحدّد الليبراليّون الجدد مهمّة الدولة في عصر العولمة بأنّها مضيّفة للشركات المتعدّدة الجنسيّة وما يقترن بالضيافة من كرم وترحيب وفرش البسط وتزيين الطرقات وغيرها من الخدمات ولكن المشكلة أنّ هذه الخدمات أصبحت باهضة الكلفة وتحمّل الدولة أعباء ماليّة مرهقة لإنجازها وهي مضطرة في الوقت نفسه لإعفاء الشركات العالميّة من الضرائب أو التخفيض فيها على الأقل وهو ما يؤدّي حتما إلى تقليص الإنفاق الحكومي على الرعاية الإجتماعيّة والخدمات العامّة من نقل ومدارس ومستشفيات وجامعات ومؤسّسات ثقافيّة وترفيهيّة. هذا وضع الدولة في البلدان الصناعية الغنية أمّا في البلدان النامية فحدّث عن البحر ولا حرج ، فقد تدهورت مؤسّسات كثير من الدول وهياكلها لتصبح مجرّد نظم رسالتها الأساسيّة حراسة أرخبيل أثرياء الداخل والخارج فلم يعد الحديث عن الدولة بل عن أجنحة المافيا المتصارعة والمؤثّرة في القرار السياسي ولم يعد الحديث عن المجتمع بل عن هذه الجماعة أو تلك». شخصيّا لا أرى وضوحا أكثر من هذا الوضوح فيما يتعلّق بما يجري في تونس.
1.4. التجربة الفاشلة لإستغلال الأراضي الدوليّة من طرف شركات الأحياء والتنمية الفلاحية أو عندما تحوّلت الأراضي الدولية من خدمة الشعب إلى فريسة للمافيا
لقد أكّدنا في دراسات سابقة بأنّ إصدار القانون الخاص ببعث شركات الإحياء والتنمية الفلاحيّة حوّل الأراضي الدوليّة من خدمة الشعب إلى فريسة سهلة للمافيا فلماذا تصرّ الحكومة الحاليّة على مواصلة هذا النهج الذي أثبت فشله الذريع.
رغم أنّ بعث أوّل شركة للإحياء والتنمية الفلاحية حصل سنة 1982 تطبيقا لمجلة الإستثمارات الفلاحية فإنّ الإطار القانوني لبعث مثل تلك الشركات لم يظهر إلاّ بصدور الأمر عدد 226 المؤرّخ في 4 مارس 1983 المتعلّق بضبط شروط إحياء الأراضي الدولية الفلاحية من طرف شركات الإحياء والتنمية الفلاحية لكنّ النقلة النوعية حصلت بعد إصدار الأمر عدد 1172 المؤرّخ في 18 جوان 1988 والمتعلّق بشروط إستغلال الأراضي الدولية من طرف شركات الإحياء والتنمية الفلاحية والذي أعطى إمتيازات جديدة للمستثمرين وسهّل في إجراءات الإنتصاب وهو ما إستغّله نظام العميل بن علي ليوزّع الأراضي الدولية على حاشيته والعائلات المافيوزية التي كانت تحيط به حيث كان يشرف بنفسه على عمليات الإسناد تلك وقد وضعت المافيا يدها على 30 شركة من ضمن 240 شركة سنة 2010 على مساحة تقدّر بـ 12000 هك. ومرّت بذلك مساحة الأراضي الدولية الموضوعة على ذمة شركات الإحياء من حوالي 87 ألف هك سنة 1995 إلى أكثر من 250 ألف هك سنة 2010.
ويمكن القول أنّ أكبر إجرام حصل للأراضي الدولية هو عند بعث تلك الشركات التي إستفاد منها كبار الموظفين المدنيين والعسكريين وأفراد العائلة المالكة والباحثين عن الربح السهل والذين لا شيء يربطهم البتّة بالفلاحة ولا يملكون أدنى خبرة زراعية.
فقد مثّل التطبيق الدغمائي للسياسات الليبرالية المملاة من طرف صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بعد تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي (PAS) في جوان 1986 وبرنامج الإصلاح الهيكلي الفلاحي (PASA) في جويلية 1986 دليلا آخر على عمالة النظام وإستخفافه بالملك العمومي. فبعد أن كانت الأراضي الدولية تمثّل دخلا قارّا للدولة وتلعب دور المعدّل لأسعار الغذاء الأساسي بالإنتاج الذي كانت توفّره (لحوم بيضاء وحمراء ، زيوت ، حبوب ، حليب ، بطاطا...) أصبحت اليوم عبئا كبيرا على الدولة فلا الدخل أصبح مضمونا (ديون كبيرة جدّا متخلّدة بذمّة أصحاب تلك الشركات) ولا الإنتاج ظلّ متوفّرا بل لا تنتج الشركات التي بقيت نشيطة إلاّ ما هو معدّ للتصدير (خضر ، غلال ، ورود...) وهو ما أدّى إلى إرتفاع مهول في أسعار الخضر والغلال خاصة في السنوات الأخيرة. كما لا يجب أن ننسى بأنّ "خوصصة" تعاضديات الإنتاج بتحويلها إلى شركات إحياء تسبّب أيضا في طرد عشرات الآلاف من المتعاضدين والعمّال الفلاحيين وهو ما حصل تماما للمؤسسات العمومية التي وقعت خوصصتها بداية من سنة 1986.وقد شهد بهذا الفشل شاهد من أهلها كما يقال إذ أعلن الناطق الرسمي بإسم الحكومة يوم 20 ماي 2015 بعد مصادقة مجلس الوزراء على قانون جدولة ديون المتسوّغين لعقارات دولية فلاحية أنّ عدد شركات الإحياء والتنمية الفلاحية النشيطة اليوم يبلغ 180 شركة فقط من جملة 366 شركة أي 49 % فقط.
لكن لكي تتّضح أكثر الصورة حول الوضعية الحقيقية لهذه الشركات التي دمّرت الأراضي الدوليّة وأبعدتها عن دورها الحقيقي في خدمة جماهير شعبنا الكادح بتوفير الغذاء الأساسي بأسعار مقبولة ولكي نبيّن لأصحاب القرار الذين لا زالوا يصرّون على جدواها فشل خياراتهم ، فسأقدّم في ما يلي من الأسطر ملخّصا لدراسة قمت بها سنة 2009 لعيّنة من هذه الشركات تمثّلت في 46 شركة (حوالي 25 % من الشركات الموجودة آنذاك) موزّعة على 5 ولايات (نابل ، أريانة ، زغوان ، بن عروس والقيروان). فقد بلغت المساحة الجملية لهذه الشركات 42801 هك أي بمعدّل 930 هك لكل شركة أمّا المساحة المروية فقد بلغت 10190 هك أي ما يمثّل حوالي 25 %. النتائج بيّنت أيضا أنّ 64 % من هذه الشركات هي شركات عائليّة وأنّ 58 % منها لا تملك مخطّطا فلاحيّا سنويا و28 % منها لا تملك موازنة مالية بالمرّة. وبالنسبة للشركات التي تملك موازنة مالية فإنّ 57 % منها لها موازنة سلبيّة وهو ما يعني بأنّ هذه الشركات لم تحقّق أيّا من أهدافها الإقتصاديّة لا في التنمية ولا في إحياء الأراضي. لكنّ الأخطر من كلّ ذلك هو أنّ كلّ الشركات بدون إستثناء (100 %) لم تلتزم بمخطّط التنمية المضمّن بكراس الشروط دون أن تقوم الإدارة بأي إجراء ضدّها ولا حتّى التنبيه عليها بإحترام إلتزاماتها وهذا السكوت عن تطبيق القانون دليل على أنّ أصحاب تلك الشركات هم من المقربين من النظام الذين لا يجب الإلتفات إليهم مهما أجرموا. مسألة أخرى يجب الإشارة لها وتتعلّق بغياب النشاط الخدماتي لدى 63 % من الشركات وهو ما يعني عدم تحقيق أحد أهمّ الأهداف المرسومة لها (النقطة 3 من الفصل 2 من الأمر عدد 1172 لسنة 1988) والمتمثّل في الإشعاع على الفلاحين المجاورين ولعب دور الدافع للقطاع الفلاحي في الجهات التي تتواجد بها. أمّا عن مردوديّة الإنتاج فحدّث ولا حرج حيث أنّها ضعيفة لدى 41 % من الشركات ومتوسّطة لدى 37 % وممتازة لدى 22 % فقط.
مع العلم أنّ مستوى المردودية قورن بمردودية الإنتاج على المستوى الوطني وهو ما يعني بأنّ المردودية المسجّلة تعتبر ضعيفة جدّا لمثل هذه الشركات بالنظر إلى الإمكانيات الموضوعة على ذمّتها والمواصفات العصرية التي تتمتّع بها. بالنسبة للتشغيل لم تحقّق الشركات المعنية إلاّ نسبة 72 % من تشغيل اليد العاملة الفنّية (مهندسون أو تقنيون) المبرمجة (101 إنتداب مقابل 141 مبرمجة) كما لم تحقّق إلاّ نسبة 53 % من اليد العاملة الفلاحية المبرمجة (488 إنتداب مقابل 920 مبرمجة). ونختم بالمسألة الماليّة لنكتشف حجم الجريمة التي إرتكبها من إبتدع مثل هذه الشركات فقد بلغ معلوم الكراء للشركات المشمولة بالدراسة مبلغ 10,752 مليون دينار لم يقع خلاص إلاّ مبلغ 2,4 مليون دينار (أي 22 % فقط) ووقع إسقاط مبلغ 0,9 مليون دينار (حوالي 8 %) ليكون المعلوم الذي لم يقع خلاصه وأصبح دينا لدى تلك الشركات يساوي 7,452 مليون دينار. لكن إذا إحتسبنا أنّ هذا الدّين هو دين ربع الشركات فقط (المشمولة بالدراسة) فمعنى ذلك أنّ دين كلّ الشركات يمكن أن يصل أو يفوق 30 مليون دينار سنويّا بالتمام والكمال ، فماذا ربحت الدولة من هذه الشركات غير الخسائر المالية والخسائر في الإنتاج ؟ هذا من ناحية الكم أمّا من ناحية الكيف فإنّ أهمّ ما يجب التأكيد عليه هو قيام هذه الشركات بالإستغلال المفرط للأراضي وتلويثها بإستعمال المبيدات والأدوية الفتاكة وتدمير الموروث الجيني المحلّي بالتركيز على الأصناف المستوردة وإستنزاف الموارد المائية دون التفكير مطلقا في مستقبلها فالذي يهمّ المستثمر هو الإنتاج الوفير وبكل الطرق والوسائل دون التفكير في ديمومة التربة.
2.4. لماذا لم تتّعض الدولة من الجريمة التي إرتكبها أحد المستثمرين الأجانب في الأراضي الدولية بالنفيضة ؟
لن أتحدّث هنا ولن أُعدّد الجرائم التي إرتكبها المُستثمرون الأجانب منذ فتح الأبواب واسعة أمامهم بداية من السبعينات عبر ما يُعرف بقوانين 72 و74. لن أتحدّث عن المستثمر الذي دهس بسيارته ذات يوم عاملاته ببن عروس كردّ فعل عن تنفيذ إضراب شرعي ولن أتحدّث عن المستثمر الذي فرض على عاملاته المرور صباح كل يوم إلى مكتب رئيسة العملة لتتفقّدهن إن كنّ في حالة حيض أم لا (والتي تكون في حالة حيض يقع طردها لمدّة أسبوع) وهو ما يُعتبر إهانة ما بعدها إهانة ولن أتحدّث عن المستثمر الذي رفع ذات ليلة علم الكيان الصهيوني في أحد نزل الحمامات وغيرها من الممارسات التي يندى لها الجبين وتدلّ على العقليّة العبوديّة التي يحملها أغلب المستثمرين الأجانب كما أنّ ما حدث أخيرا في القيروان حين إعتدى أحد المستثمرين الأجانب على العاملات بالضرب المبرّح دليل قاطع على تواصل إهانة العملة التونسيين دون أن تُحرّك الحكومة ساكنا. ما سأتحدّث عنه هو ما أتاه أحد المستثمرين الفرنسيين الذي وقع تمكينه من تسويغ أرض دولية بالنفيضة تبلغ مساحتها حوالي 400 هك ووقع السماح له بجهر 10 آبار إرتوازية بالتمام والكمال بينما يُمنع على الفلاحين الفقراء جهر مثل تلك الآبار. وقد كان هذا المستثمر ينتج "السلطة" المعدّة كلّيا للتصدير. علما وأنّ هذا النوع من الخضراوات يحتوي على 90 % من الماء أي أنّ هذا المستثمر لم يقم إلاّ بإستخراج ملايين الأمتار المكعّبة من الماء من باطن الأراض (الذي نحن في حاجة أكيدة إليه) ليصدّرها إلى أوروبا أمام مرأى ومسمع من مسؤولينا الميامين. لكن أخطر ما قام به هو رفضه إعادة الأرض إلى الدولة بعد إنتهاء عقد التسويغ في شهر مارس 2015.
وبقي بالتالي يستغلّ تلك الأرض بطريقة عشوائية وبدون أن يدفع مليما واحدا للدولة التي لم تقدر على إسترجاع الأرض إلاّ بعد سنوات.
3.4. توجيه الإنتاج نحو التصدير زاد في إختلال الميزان التجاري : تونس تُصدّر المُحلّيات والمُفتّحات وتستورد الغذاء الأساسي
لا يختلف إثنان أنّ تونس كانت بحق مطمورة روما طيلة حكم الرومان لقرطاج ثمّ خلال فترة الإستعمار المباشر أسرع المُستعمر الفرنسي إلى وضع يده على أخصب الأراضي الفلاحية في الشمال الغربي (أراضي فريقة) وأصبحت تونس بين الحربين العالميتين تملك أعلى نسبة مكننة في العالم لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أنّ تونس كانت مُصدّرة للحبوب إلى حدود سنة 1969 أي إلى آخر أيّام تجربة التعاضد (التي لم يقع تقييمها بصفة علميّة إلى اليوم). أقول هذا الكلام لأؤكد أنّ الإكتفاء الغذائي الذاتي مُرتبط شديد الإرتباط بالسياسات الفلاحية المُتّبعة وليس بشيء آخر. فإصرار الدولة على توجيه الإنتاج نحو التصدير بتعلّة الحصول على العُملة الصعبة هو كذب على ذقون التونسيين لأنّ الحقيقة غير ذلك تماما. إصرار النظام الرجعي العميل على توجيه الإنتاج نحو التصدير سببه الحقيقي الحفاظ على منوال تنموي يرتكز على الاقتصاد الريعي لتمكين عصابات المافيا التي تسيطر على القطاع من تكديس الأموال في حساباتها البنكية على حساب قوت الشعب. وسآخذ المبالغ المُتحصّل عليها من العُملة الصعبة سنة 2020 كمثال على ذلك والمُتأتّية من بيع الخضر والغلال مُقابل الأموال التي وقع صرفها لتوريد الحبوب أي الغذاء الأساسي. فقد دفعت تونس في تلك السنة مبلغ 2153.8 مليون دينار لتوريد الحبوب (القمح اللين والقمح الصلب والشعير فقط دون إحتساب الحبوب الأخرى التي تدخل في صنع الأعلاف المُركّبة) بالمقابل تحصّلت تونس على مبلغ 183.9 مليون دينار فقط مقابل بيعها للخضر والغلال عدى زيت الزيتون والتمور اللذان لا نرى مانعا في مواصلة إنتاجهما خاصّة وأنّهما ليسا تحت سيطرة عصابات المافيا على مستوى الإنتاج.
النتيجة صادمة ، إذ أنّ الدولة دفعت حوالي 12 مرّة مبلغا من العملة الصعبة مُقابل شراء الحبوب مقارنة بالمبلغ الذي حصلت عليه من تصدير الخضر والغلال والذي ذهب لجيوب المستثمرين الخواص. أفليس هذا دليلا على أنّ تونس تُصدّر المُحليات والمُفتحات وتستورد الغذاء الأساسي ؟ La Tunisie exporte l’hors d’œuvre et le dessert et importe le plat de résistance.
4.4. الأراضي الفلاحيّة تنهشها الرأسمالية المتوحّشة (المستثمرون الخواص تونسيون وأجانب) عبر الإستحواذ العشوائي على أخصب الأراضي ممّا يُنذر بمستقبل مخيف جدّا
مثّلت أزمة الغذاء العالمية سنة 2007 التي شهدت إرتفاعا مهولا في أسعار الغذاء الأساسي لمختلف شعوب العالم (حبوب وأرز بالأساس) مُنعرجا حاسما في السياسات الفلاحية التي تتبعها عديد البلدان ذات الإمكانيات المادية الكبيرة مثل الدول النفطية من ناحية والشركات متعدّدة الجنسيات من ناحية أخرى. فقد وجّهت تلك الدول والشركات قسما كبيرا من إستثماراتها في المجال الزراعي للإستحواذ/الإنتزاع العشوائي (Accaparement des terres agricoles) على الأراضي الفلاحية في مختلف بلدان العالم. وهذه الوضعية غير المسبوقة أجبرت البنك العالمي ، الذي كان منذ إنشائه في بريتون وودز سنة 1944 وراء كل السياسات الليبرالية في العالم ، على إطلاق صيحة فزع بإصدار تقرير خاص بهذه المسألة يوم 7 سبتمبر 2010 أكّد فيه أنّ حجم الأراضي التي وقع الإستحواذ عليها بالشراء خاصة من طرف الدول والشركات المتعدّدة الجنسية بلغ بين أكتوبر 2008 وجوان 2009 حوالي 47 مليون هكتار موجودة أغلبها بالدول الإفريقية.
وتُستعمل الأراضي المستحوذ عليها (التي يقع إنتزاعها من مالكيها الحقيقيين بتواطئ من حكّام تلك الدول) في إنتاج الغذاء الأساسي لكن خاصة لإنتاج الوقود الحيوي وهو ما يُمثّل خطرا على الأمن الغذائي على مستوى العالم.
وقد سجلنا في تونس (التي لم تشذ عن هذه القاعدة) تواجد ثلاث أطراف تدفع في هذا الإتجاه ممّا يجعلنا نتخوّف أكثر فأكثر على الأمن الغذائي في القُطر بحكم ما نلاحظه من توسّع في مجالات نشاط الأطراف المذكورة وهي كالتالي :
 المجامع الكبرى للصناعات الغذائيّة : حيث إنبرت العصابات المتنفّذة والمُتحكّمة في القطاع الفلاحي المالكة لتلك المجامع من الإنطلاق في شراء أخصب الأراضي الفلاحية في الشمال الغربي بعد "الثورة" وتحويل وجهة إنتاجها من إنتاج الغذاء الأساسي المُتمثّل في الحبوب إلى إنتاج بعض أنواع الغلال وخاصة منها الكروم المُعدّة للتصدير (الذين يُسافرون عبر الطريق السيارة الرابطة بين تونس العاصمة وباجة يمكنهم مشاهدة مزارع الكروم على مساحات شاسعة جدّا على يمين ويسار الطريق) بالشراكة مع الرأس مال الأجنبي. وتقدّر المساحة التي وقع الإستحواذ عليها من طرف الرأس مال الجشع في تونس بحوالي 200 ألف هكتار.
 المُستثمرون الأجانب : حيث إنتصب عديد المسُستثمرين في أماكن عديدة من تونس سواء عبر كراء الأراضي الدولية أو الأراضي الخاصة لإنجاز مشاريعهم المُعدّة لإنتاج إمّا الخضروات أوالأشجار المثمرة المعدّة للتصدير أو خاصة (الأخطر من ذلك) لإنتاج الوقود الحيوي مثل المشروع الإيطالي الذي وقع تركيزه سنة 2016 بالقيروان وتحصلت على إثره الشركة المعنية على مساحة 12500 هك لإنتاج "القصب" المُعدّ لإنتاج الوقود الحيوي.
ولسائل أن يتساءل هل تونس في حاجة اليوم إلى الغذاء الأساسي لإطعام شعبها أم إلى الوقود الحيوي ؟
 العمّال التونسيون بالخارج : أعتقد بأنّه لا جدال حول إستثمار العمال التونسيين بالخارج سواء الذين لازالوا مباشرين في بلدان المهجر أو الذين عادوا نهائيّا إلى أرض الوطن في القطاع الفلاحي. لكن على الدولة توجيههم للأنشطة التي لا تضرّ بالأمن الغذائي مثلما هي فاعلة الآن. فهناك عدد كبير من هؤلاء يستثمرون في الغراسات المضرّة بالأمن الغذائي مثل غراسات "الجاتروفا" و"الكولزا" أو "السلجم" و"السوجا" وهي غراسات مُعدّة إمّا لإنتاج الزيوت (وكأنّ تونس ليست أوّل بلد في العالم في إنتاج زيت الزيتون) أو لإنتاج الوقود الحيوي لصالح الشركات المتعدّدة الجنسيّات.
هذا الإستغلال العشوائي للأراضي الزراعية في تونس تسبّب في مسألتين خطيرتين.
أوّلا ، تقلّص المساحات المُعدّة لزراعة الحبوب. فمن خلال أرقام المرصد الوطني الفلاحي نجد بأنّ المعدّل السنوي للمساحات المزروعة بالحبوب خلال عشريّة 2000/2010 يساوي 1.4 مليون هكتار غير أنّ المُعدّل نزل إلى 1.2 مليون هك (نقص بمائتي ألف هك) خلال العشرية الأخيرة (2011/2021). طبعا تقلّص المساحات يعني نقص في الإنتاج وهو ما يؤّدي بالضرورة إلى التوريد أكثر فأكثر وهذه هي المسألة الخطيرة الثانية حيث مرّت الكمّيات المورّدة من الحبوب من 2.525 مليون طن سنة 2017 إلى 3.087 مليون طن سنة 2020. ففي الوقت الذي كان من المفروض أن تتقلّص كمّيات الحبوب المورّدة بإتباع سياسات وطنيّة نجد بأنّ الزيادة المُتعلّقة بتوريد الحبوب فاقت 18 % خلال 3 سنوات فقط. لذلك أصبح ينطبق علينا المثل القائل "لا خير في شعب يأكل من وراء البحار".


5.4. هل يستطيع المشيشي تطبيق ما وعد به القطريين ؟
كثر الحديث خلال الأيام الأخيرة وخاصة في فضاءات التواصل الاجتماعي وحُبرت عديد المقالات بيع الأراضي الدوليّة للأجانب. وحتّى نضع حدّا لهذا الجدل أريد أن أؤكّد بأنّ بيع الأراضي الفلاحي ، دولية أم خاصّة ممنوع منعا باتا بالنص القانوني.
فالتشريع التونسي ومن خلال نصين قانونيين إثنين يمنع ذلك. إذ ينصّ الفصل الأوّل من القانون 5 لسنة 1964 المُؤرّخ في 12 ماي 1964 على ما يلي : «إبتداءا من صدور هذا القانون لا يمكن أن يملك الأراضي الصالحة للفلاحة إلاّ الأفراد من ذوي الجنسية التونسية أو الشركات التعاضديّة التي وقع تأسيسها طبقا لأحكام القانون عدد 19 لسنة 1963». طبعا هذا القانون يهمّ الأراضي الخاصة والدوليّة في نفس الوقت لكنّ القانون عدد 21 لسنة 1995 المُرّخ في 13 فيفري 1995 والمُتعلّق بالعقارات الدوليّة أكّد على منع التفويت في الأراضي الدولية حيث نقرأ في الفصل 2 ما يلي : «لا يمكن التفويت في العقارات الدولية الفلاحية إلاّ في حالات التسوية والمعاوضة» (والتسوية تعني حالات تمليك الخواص والجماعات العمومية المحليّة للأراضي التي أقاموا فوقها بناءات وعقارات أو تسوية بعض الحالات الخاصة مثل أراضي السيالين في صفاقس أمّا المُعاوضة فتعني تبادل الأراضي بين الدولة والخواص أو المؤسسات العمومية في حالات خاصة جدّا). وبالتالي فإنّ النصوص واضحة ولا يقدر لا رئيس الحكومة ولا رئيس الدوية ولا أي مسؤول آخر التفويت في الأراضي الفلاحية لأي كان مهما كانت جنسيته. لكن حريّ بنا أن نذكّر بأنّ منظرّي الليبرالية الشرسة والمتوحشّة حاولوا سنة 2016 تمرير فصل في قانون الإستثمار (أعدّ مشروع القانون مكتب دراسات أمريكي تابع للبنك العالمي) يتيح للأجانب تملّك الأراضي الفلاحية غير أنّ ممثّلي الجبهة الشعبية في البرلمان من ناحية ومكوّنات المجتمع المدني وخاصة القوى الثورية في تونس تجنّدوا كلّهم لإسقاط ذلك الفصل وهو ما تمّ فعلا حيث صدر قانون الإستثمار في 30 سبتمبر 2016 دون ذلك الفصل.
ومهما حاول وكلاء الإمبريالية من قوى رجعية دينية وليبرالية الذين باعوا ذممهم للإستعمار فإنّ الوطنيين الذين لا زالت تزخر بهم تونس سيكونون لهم بالمرصاد وسيتصدون لكل محاولاتهم البائسة. لكن أقصى ما يمكن أن يقوم به المشيشي وغيره من المسؤولين هو تغيير بعض النصوص القانونية المُتعلّقة بكراء الأراضي الدولية لتسهيل إنتصاب المستثمرين الأجانب وهذا أيضا ليس بالأمر الهيّن.
بالمناسبة أريد أن أذكّر منظّري الليبرالية الشرسة والمتوحّشة والذين سمّاهم "بول نيزان" بـ "كلاب الحراسة" (Les chiens de garde) ، الذين يدافعون دائما عن سياسات وبرامج وخيارات النظام ، ألم تتّعظوا من الرسالة التي أمضاها أكثر من 30 عالم إقتصاد ليبرالي (أغلبهم من أمريكا) ومنهم 5 حائزين على جائزة نوبل للاقتصاد وأرسلوها سنة 1990 إلى ميخائيل غورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفياتي وعنوانها "حذار من الرأسماليّة العقّارية" (Gare au capitalisme foncier). إذ عبّر أولائك العلماء الذين يتبنون الفكر الليبرالي ويدافعون عنه عن دعمهم للرئيس غورباتشوف حيث أبدوا تثمينهم لما يقوم به من "دمقرطة" الحياة السياسية في الإتحاد السوفياتي لكنّهم نبّهوه إلى عدم السقوط فيما سقطت فيه الأنظمة الرأسمالية الأخرى بلبرلة الأراضي الدولية وخصخصتها قائلين له "إيّاك ثمّ إيّاك أن تبيع الأراضي الدوليّة للخواص مثلما فعلت أنظمتنا الغربية وبالتالي وضع الريع العقّاري بين أيدي الخواص. فالدولة يجب أن تحافظ على الأراضي الدولية لكي تضمن مداخيل قارّة من الريع العقّاري من أجل تقديم خدمات الصحة والتعليم والنقل وغيرها لأفراد شعبها إضافة إلى توفير البنية التحتية اللازمة من أجل دعم الإقتصاد". فهل أصبح "خبراء الاقتصاد" عندنا ليبراليين أكثر ممن تحصّل على جائزة نوبل في الاقتصاد ؟
5. الفلاحون الفقراء والمُعطّلون عن العمل أولى بالأراضي الدولية من "الرأس مال الجشع" ومن المستثمرين الأجانب
قبل تقديم مقترح عملي لإنقاذ هذه الأراضي من براثن "الرأس مال الجبان" (مثلما سمّاه كارل ماركس) أريد الإشارة إلى حالة الهستيريا التي تنتاب حكّام البلدان الإمبريالية وكذلك منظّري الليبرالية الشرسة والمتوحشّة في عالمنا اليوم عندما يستمعون إلى كلمة الاشتراكية فتراهم يتسابقون لإختيار أشنع النعوت لسبّ الاشتراكية وتشويهها ويمطرون من إبتدعها (أنجلز وماركس) ومن طبقها وطوّرها (لينين وستالين) بأبشع أنواع الشتيمة. لكنّهم عندما يكتشفون أنّ كلّ الآليات الرأسمالية التي إبتدعها آدام سميث ودافيد ريكاردو وغيرهم من منظّري الليبرالية قد وصلت إلى طريق مسدود ولم تستطع إنقاذ رأس المال من السقوط يسرعون إلى الإستنجاد بالآليات الاشتراكية (ياكلوا الغلّة ويسبّوا الملّة) وتذكّروا جيّدا ما فعله بوش ثمّ أوباما في أمريكا عندما قاما بضخّ حوالي 1500 مليار دولار (من أموال دافعي الضرائب خدمة للرأس مال) في السوق المالية الأمريكية بعد أزمة الرهن العقاري التي ضربت امريكا سنة 2007 وتحوّلت إلى أزمة عامّة للرأسمالية ضربت كل العالم وخاصة أوروبّا ثمّ قام حكّام أمريكا بتأميم أقدم شركتي رهن عقّاري وهما "فرادّي ماك" و"فانّي ماي" وكذلك إحدى أكبر شركات التأمين في العالم "أميريكان إنترناشيونال غروب" (AIG) وهو ما حدى بالمسؤولين في فرنسا وألمانيا وبلجيكيا وأنقلترا وغيرها من البلدان الأوروبية بإستعمال نفس آلية التأميم لإنقاذ رأس المال المالي من الإندثار بتأميم عديد البنوك الخاصة.
أليس "التأميم" آلية إشتراكية ؟ أوليس في تطبيقه إعتراف بقدرة الاشتراكية على إنقاذ الإنسانية خلافا لما تروّج له أبواق الدعاية الإمبريالية ؟ وللتذكير أيضا فقد كذب فوكوياما يوم أصدر كتابه "نهاية التّاريخ والإنسان الأخير" والذي يصوّر فيه نهاية للتّاريخ بإنتصار اللّيبراليّة بقيادة أمريكا على الشّيوعيّة (حسب زعمه طبعا) وكأنّ الشّيوعيّة سادت في يوم ما حتّى يقيّمها ويحكم عليها. لكنّ صيرورة التاريخ كذّبته وظهرت أكبر أزمة رأسمالية عرفها تاريخ البشرية في قلب أمريكا سنة 2007.
هذا يجرّنا ، في حالتنا التونسية ، إلى الحديث عن العقدة التي أصبحت ساكنة في رؤوس "أصحاب القرار" في السياسات الفلاحية في تونس (Les décideurs) عند الحديث عن التعاضديات كشكل من أشكال هيكلة المستغلات الفلاحية فهم يتأفّفون عند الحديث عنها بل تراهم يرفضون حتّى نطقها بينما قانون التعاضد في تونس لازال ساري المفعول إلى اليوم والوحدات التعاضديّة للإنتاج الفلاحي لازالت قائمة إلى اليوم وليعلم هؤلاء "المقرّرين" أنّ عديد الدول الرأسمالية اليوم تجنح إلى هذا النمط الإنتاجي وخاصة فرنسا التي تتواجد فيها التعاضديات في كل قطاعات الإنتاج الفلاحي. أكثر من ذلك فقد قرّرت منظمة الأمم المتحدة أن تكون سنة 2012 هي "سنة التعاضد" حيث عُقدت عديد الندوات والتظاهرات العلمية ونظّمت إجتماعات عامة مع الفلاحين في مختلف بلدان العالم لتحسيسهم بضرورة التنظم في تعاضديات فلاحيّة من أجل تحسين الإنتاج والإنتاجية. لكن مع الأسف الشديد كانت بلادنا سنتها ترزح تحت حكم إخوان الظلام الذين كانوا منشغلين وقتها بإستقدام "دُعاة الإرهاب" وبنصب "الخيمات الدعوية" وبـ "تسفير الشباب إلى سوريا" وبالتالي لم يطبّقوا قرار الأمم المتحدة.
1.5. وضع حدّ لتجربة شركات الإحياء والتنمية الفلاحية وتوزيع الأراضي على من يستحقّها
لقد سبق وأن ذكرت أعلاه بأنّه لم يتبقّى بعد 14 جانفي إلاّ 180 شركة ناشطة من جملة 366 (حسب بلاغ مجلس الوزراء يوم 20 ماي 2015) وهو دليل على فشل هذا الشكل من إستغلال الأراضي الدولية الذي بدا منذ سنة 1982. فقد خسرت الدولة مئات المليارات (ديون لم تدفعها هذه الشركات) وهي مجبرة دائمة على إلغاء جزء من تلك الديون في كل مرّة وآخرها ما حصل في مجلس الوزراء المذكور. كما خسرت الدولة الدور التعديلي الذي كانت تقوم به عبر الإنتاج الفلاحي للغذاء الأساسي الذي كانت تقوم به تلك الأراضي إذ حوّلها المستثمرون الخواص للإنتاج المعد للتصدير. وخسرت الدولة خاصّة في مجال التشغيل فكلّ الشركات التي وقع تمكينها من مقاسم لم تشغّل العدد المطلوب من العمال ولم تبلغ نسبة التأطير فيها (تشغيل الإطارات) النسب المنصوص عليها في كراس الشروط. فكل الدراسات التي أنجزت حول هذه الشركات أثبتت فشل هذه التجربة فلماذا الإصرار على التمسّك بها ؟ أليس ذلك تمسّكا دغمائيا بنهج ليبرالي فاشل ؟
أنا من موقعي كمختصّ في هذا المجال أطالب وبكل وضوح بإلغاء الأمر عدد 226 المؤرّخ في 4 مارس 1983 والمتعلّق بضبط شروط إحياء الأراضي الدولية الفلاحية من طرف شركات الإحياء والتنمية الفلاحية وكذلك إلغاء الأمر عدد 1172 المؤرّخ في 18 جوان 1988 والمتعلق بضبط شروط إحياء الأراضي الدولية الفلاحية من طرف شركات الإحياء والتنمية الفلاحية وكلّ الفصول التي تتحدّث عن تلك الشركات والمنصوص عليها بالقانون عدد 21 المؤرّخ في 13 فيفري 1995 ووضع حدّ نهائي لهذه التجربة الفاشلة والتي مثّلت طيلة عقود مدخلا لتفشّي الفساد وسوء التصرّف في ممتلكات الشعب. أمّا الحل فيكمن في تسويغها للفلاّحين المفقّرين وللشباب المُعطّلين عن العمل وليس بيعها تحت أي ذريعة كانت (فالأراضي الدولية يجب أن تبقى ملكا للدولة) وذلك بإعتماد الحل التالي :
تكوين تعاضدّيات للإنتاج الفلاحي مثلما ينصّ عليه القانون عدد 28 المؤرّخ في 12 ماي 1984 الذي لازال ساريا إلى اليوم. إذ ينصّ الفصل 11 على ما يلي "يجب أن يكون أعضاء الوحدات التعاضديّة للإنتاج الفلاحي أشخاصا مادّية من ذوي الجنسية التونسية أعمارهم دون 45 سنة عند الإكتتاب وليس لهم موارد أخرى غير فلاحية قارّة وكافية وممّن لهم أحسن المؤهلات لمباشرة النشاط الفلاحي". ويمكن أن تتكوّن هذه التعاضديّات من الفلاحين المفقّرين الذين يملكون مستغلّات صغيرة جدّا (أقلّ من 20 هك) وتكون قريبة من الأراضي الدولية المعنية بالكراء وبذلك نكون قد ساهمنا في تقليص نسبة المساحات الصغرى والإقتراب من المساحة الدنيا التي تكون إقتصاديّا قابلة للنموّ (Surface minimale économiquement viable SMEV) والمحدّدة بخمسين هكتارا للفلاحة البعلية. ولكي نكون عمليين ونقدّم حلولا قابلة للتطبيق فإنّنا سننطلق من الأرقام التي كانت متداولة قبل 14 جانفي حول شركات الأحياء والمساحات المستغلّة وهي 240 شركة تستغلّ 250 ألف هك (ربعها سقوي وثلاثة ارباع بعلية) أي بمعدّل 1042 هك للشركة الواحدة وهو ما يساوي مائة مرّة معدّل المستغلات الفلاحية في تونس (حوالي 10 هك فقط للمستغلّة الواحدة). نحن نفترح أن يقع تخصيص ثلاثة أرباع المساحة (أي كامل الأراضي البعلية) للفلاحين المفقّرين الذين يملكون أراض قريبة من تلك الأراضي الدولية ليقع تجميع القطع مع بعضها البعض. أي 188 ألف هك يقع تقسيمها على مستغلات تمسح الواحدة 120 هك فقط تصبح لدينا 1567 قطعة وليس 240 كما هو الحال الآن. وبعمليّة حسابية بسيطة وإذا ذهبنا في حلّ تكوين التعاضديات الفلاحية مثلما نقترحه وكل تعاضديّة بها 4 فلاحين يساهم كلّ منهم بقطعة تمسح 20 هك حتّى يصبح كلّ منهم وكأنّه يتصرّف في 50 هك (20 هك ملك خاص و30 هك أراض دولية) يصبح عدد المنتفعين يساوي 6268 فلاحا بالتمام والكمال وليس 240 رأسمالي ليس له أي علاقة بالفلاحة كما هو الحال سابقا. أمّا الربع السقوي المتبقّي أي 62 ألف هك فيقع توزيعه على الفلاحين الشبان (الذين يبلغ عددهم حاليا 5900 شخص يستغلّون 30 ألف هك وهو ما يعطي معدّلا بخمس هكتارات لكل واحد منهم بإعتبار وأنّها مستغلات تعتمد الفلاحة السقوية) والمعطّلين عن العمل في شكل مقاسم فلاحيّة. وبعملية حسابية يكون عدد الفلاحين الشبان والمعطّلين عن العمل المنتفعين بمقاسم فلاحية يساوي 12400 (دون إحتساب الـ 5900 الحاليين).
وبالتالي نساهم بهذه الطريقة في تشبيب المُستَغلّين الفلاحيين من ناحية والرفع من المستوى التعليمي لهم من ناحية أخرى إذ تعتبر نسبة كبار السن والذين لهم مستوى دراسي ضعيف حاليا نسبة عالية جدّا (43 % من الفلاحين سنهم فوق 60 سنة و86 % مستواهم الدراسي لا يتعدّى الإبتدائي) مع ما يعنيه ذلك من صعوبة تطبيقهم للتقنيات الحديثة أو الإستثمار في المستقبل. ونكون بذلك ضربنا عصفوران بحجر واحد فمن ناحية ساهمنا في الحد من بطالة الشبّان ومن ناحية أخرى ساهمنا في عملية التشبيب والرفع من المستوى العلمي للفلاحين.
في المحصلة نكون قد مكّنا 18668 بين فلاحين كادحين وفلاحين شبان وعاطلين عن العمل عوضا عن 240 "رأسمالي جشع" كانوا ولازالوا يمثّلون عبئا على الدولة.
لكن فوائد مقترحنا لا تقف عند هذا الحدّ فتشغيل اليد العاملة والفنّيين الفلاحيين كبير جدّا مقارنة بما تستوعبه شركات الإحياء والتنمية الفلاحية حاليّا والتي تشغّل حوالي 12 ألف عامل وفني فقط (تراجع هذا العدد كثيرا بعد 14 جانفي). فإذا طبّقنا المعايير الفنّية الخاصة بعدد العمّال في الهكتار السقوي يُمكن أن يُصبح عدد العمّال المشغّلين حوالي 600 20 عامل يضاف لهم حوالي 800 18 عامل بالنسبة للفلاحة البعلية ليصبح العدد الجملي للعمّال 400 39 عامل بالتمام والكمال عوضا عن 12 ألف عامل حاليّا (منهم حوالي 000 4 فني بإعتبار نسبة تأطير تقدّر بـ 10 %) فشتّان بين الأرقام في الحالتين. لكن حريّ بنا التأكيد على نجاح هذه التجربة التي يمكن أن تمثّل منطلقا لإصلاح زراعي جزئي لكنّه فعّال من المفروض أن يقترن بتوفير وسائل الإستغلال والإنتاج الضرورية للفلاحين مثل المعدّات والبذور والأسمدة والأدوية وغيرها والتي لا يجب أن تبقى تحت رحمة رأس المال مثلما هو الحال الآن. لذلك يجب دعم تعاضدّيات الإنتاج بتعاضديّات خدمات تلعب هذا الدور مثلما كانت تلعبه في السابق.
وعلى أصحاب القرار في تونس أن ينظروا خاصّة إلى ما يقوم به الإتحاد الأوروبي للفلاحين هناك حيث سطّر سياسة فلاحيّة تخدم ذلك الفلاح وتقيه تقلبات السوق وهو ما يعرف بـ "السياسة الفلاحية الموحّدة" (La politique agricole commune : PAC) فلماذا تتدخّل الدولة الرأسمالية في أوروبا لحماية الفلاح هناك ونمنع نحن من فعل نفس الشيء ؟
كما أنّه من الضروري أن لا تقتصر سياسات الدولة في الريف على موضوع الإنتاج الزراعي فحسب بل يجب أن توفّر الخدمات الضرورية والأساسية مثل الصحة والتعليم والبنية الأساسية ووسائل الترفيه والثقافة بمستوى لا يقلّ عمّا يتمتّع به سكّان المدن لتشجيع الشباب على الإستقرار هناك. ولنرى كيف يمكن أن يكون ذلك.
2.5. الهيكلة الضروريّة لإنجاح هذا التمشّي
الهيكلة يجب أن تشمل كلّ من ديوان الأراضي الدولية من ناحية ووزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية من ناحية أخرى. فبالنسبة لديوان الأراضي الدولية يجب تغيير إسمه ليصبح "ديوان الأراضي الدوليّة والإصلاح الزراعي". وبالطبع تتغيّر مهامّه ليصبح ، إلى جانب التصرّف في الأراضي الدولية والنهوض بها بإستعمال أحدث التقنيات والتكنولوجا من أجل أن تصبح ضيعات مثالية يُحتذى بها ، مهتمّا أساسا بدعم الفلاحين الصغار والعمل على التقليل من تشتّت الملكيّة ومن حجم القطع الصغيرة بتشجيع الفلاحين على تجميع قطعهم (Remembrement) وهي العملية التي لم تلقى طريقها إلى التنفيذ رغم التشريعات المتوفّرة وذلك بسب عدم وجود هيكل مختص بذلك (في البرازيل على سبيل المثال هناك وزارتان للفلاحة منهما وزراة تهتمّ فقط بصغار الفلاحين وبالفلاحين بدون أرض Les sans terres). أمّا النشاط الثاني الهام للديوان فيتمثّل في التطبيق الفعلي للقانون عدد 48 لسنة 1959 الذي تعرضنا له آنفا والمتعلّق بحجز العقارات الفلاحية المهملة أو الناقصة إستغلالا حيث يمكّن هذا القانون الدولة من إئتمان تلك الأراضي المهملة من أجل إستغلالها. وبهذا الإجراء يمكن الرفع من المساحات المستغلّة بصفة فعلية وتمكين صغار الفلاحين عبر الكراء من مساحات إضافية تمكّنهم من الوصول إلى المساحات الدنيا. لأنّه ليس من المعقول ولا من المقبول في دولة تستورد حوالي 60 % من حاجياتها من الغذاء الأساسي أن تبقى مساحات شاسعة بدون إستغلال لمجرّد أنّ الإقطاعي صاحب تلك الأرض لا يعنيه تكثيف الإنتاج بها. وإذا عدنا إلى الإحصائيات نجد بأنّ 4000 إقطاعي في تونس (يملكون أكثر من 100 هك) وهم يمثّلون 1 % فقط من الفلاحين يملكون 1 مليون و127 ألف هك من الأراضي بينما لا يملك 281 ألف فلاّح مفقّر (يملكون أقل من 5 هك) وهم يمثّلون 54 % من الفلاحين إلاّ 556 ألف هك.
فهل يعقل أن يتواصل هذا الأمر وقانون الحجز موجود منذ سنة 1959 ولا يطبّق ؟ (علما وأنّ هذا القانون لا يؤدّي إلى نزع ملكيّة المالك الأصلي وإنّما إلى إحياء الأرض حتى تصبح منتجة خدمة للصالح العام). هذا فيما يتعلّق بإستصلاح الأراضي لكن على الديوان القيام بمهام أخرى إذ يجب أن تتوفّر له كلّ الإمكانيات اللازمة (البشرية والمالية) ليلعب الدور الذي لعبته سابقا دواوين المناطق السقوية والتي ساهمت في تطوير الفلاحة السقوية خاصة لكن وقع تفكيكها بطلب من البنك العالمي وصندوق النقد الدولي بعد تركيز برنامج الإصلاح الهيكلي الذي أتى ليدفع إلى الأمام بالنمط الفلاحي الرأسمالي ويدمّر النمط الزراعي العائلي. لذلك على الديوان أن يقوم بدوره في الإرشاد الفلاحي وتوعية الفلاحين لإعتماد الأساليب العلمية للزراعة وإستعمال التقنيات الحديثة إذ أصبح الإرشاد الفلاحي شبه غائب منذ سنة 1987 خاصة بعد أن فشل فشلا ذريعا ما سمّي "بالمشروع الرئاسي النموذجي للإرشاد الفلاحي" الذي إنطلق سنة 1998 وكلّف إتحاد الفلاحين بالقيام بعملية الإرشاد. كما على الديوان تشجيع الفلاحين على التجمّع لبعث "تعاضدّيات للخدمات الفلاحية" التي تتدخّل قبل الإنتاج (en amont) وبعد الإنتاج (en aval) وذلك بتسهيل وتوفير المستلزمات الضرورية للإنتاج الفلاحي وكذلك تسهيل ترويج المنتوجات الفلاحية والقيام بعمليات التجميع والخزن والنقل والتحويل والتصدير بأرخص الأثمان حتى يقع الضغط على تكلفة الإنتاج ويتخلّص الفلاحون الصغار من جشع رأس المال الذي يتحكّم في كل تلك المسالك حاليّا. كما يمكن لهذه التعاضديّات أن تبني مصانع تحويلية في كل الجهات حسب نوعية الإنتاج لتحويل المنتوجات على عين المكان وليس مثلما يحدث حاليّا حيث يقع تحويل على سبيل المثال 80 % من إنتاج التمور خارج مناطق الإنتاج. لكن حريّ بنا التوضيح بأنّ تكوين مثل هذه التعاضديّات لا يمكن أن يحصل إلاّ بعد تنقيح القانون عدد 94 المؤرّخ في 18 أكتوبر 2005 لقطع الطريق أمام رأس المال للتغلغل داخل تلك التعاضديّات وخاصة الفصول 5 وذلك بالإقتصار على الأشخاص الطبيعيين دون المعنويين والفصل 7 بالتنصيص على المستغلين الفلاحيين والصيادين البحريين دون مسديي الخدمات الذين هم في الأصل من الرأسماليين وكذلك الباب الرابع المتعلّق بالأحكام المالية وإضافة فصل يتعلّق بمساهمة الدولة في هذه التعاضديّات حتى تقوم بدورها من أجل الدفع بالقطاع الفلاحي إلى الأمام.
أمّا بالنسبة لوزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية فإنّني أرى بأنّه لم يعد لها مجال للوجود نظرا لتضارب مهامها مع مهام وزارة الفلاحة في كلّ ما هو عقار فلاحي. وأقترح أن يقع حل هذه الوزراة وإلحاق أملاك الدولة الغير فلاحية (العقارات غير الفلاحيّة) بالوزارة الأولى تحت إشراف إدارة عامّة وإعادة الشؤون العقاريّة إلى إشراف وزارة الفلاحية مثلما كان معمول به سابقا. وبهذه الطريقة يصبح من السهل على وزارة الفلاحة المعنية أساسا بالأراضي الفلاحية (دولية كانت أم خاصة أو إشتراكية أو أراضي أحباس) القيام بالإصلاحات اللازمة خاصّة وأنّ لها التجربة اللازمة والمهندسين والفنيين العارفين جيّدا بهذه الإشكاليات.
هذه إذا رؤيتنا لحلّ مشكل الأراضي الدولية لا من موقع الإختصاصي في الميدان الذي قضّى أكثر من 42 سنة في الخدمة والذي يقود حاليّا فريق البحث الوحيد حول المسائل العقارية الفلاحية في تونس وإنّما أيضا من موقع الوطني الغيّور على تركيز برامج خاصة بالتنمية الفلاحية خدمة لمصالح الكادحين في الريف التونسي لتحقيق ولو القليل من العدالة الإجتماعية في ظلّ نظام رجعي عميل لم يتغيّر منذ سنة 1956 ولم تفعل إنتفاضة 17 ديسمبر/14 جانفي إلاّ تغيير الوجوه وأسماء الأحزاب الحاكمة لكنّ الطبقات الرجعية بقيت مسيطرة على أجهزة الدولة./.
"أمامنا أهدافهم ومشاريعهم وأمامهم صمودنا ومقاومتنا فإمّا إشتراكيّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة أوبربريّة".



#عبدالله_بنسعد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة مفتوحة من شيوعي تونسي إلى رئيس دولة الإستعمار الجديد ا ...
- ردّا على توصيات وفد صندوق النقد الدولي لشهر مارس 2019 : كُفّ ...
- لا فتح لا حماس حرب الشعب الثورية هي الحل الوحيد لتحرير فلسطي ...
- كيف يعمل يوسف الشاهد على تطبيق مقولة -آدام سميث- : «لا يمكن ...
- التعدّدية النقابيّة آليّة بورجوازيّة لضرب وحدة الحركة العمّا ...
- تبادل حرّ أم تبادل لا متكافئ : -إتّفاق التّبادل الحرّ الشّام ...
- كيف السبيل لإعادة هيكلة الأراضي الدولية خدمة لجماهير الكادحي ...
- هل تعب -اليسار- في تونس من النضال حتّى يبحث عمّن يدافع عنه ب ...
- من جنون البقر إلى أنفلونزا الطّيور : مسار العولمة الليبراليّ ...
- هل إنتهى حزب البعث في العراق ؟ : لماذا يرفض حزب البعث التندي ...
- بين حزب البعث في العراق و-داعش- وبين الحقائق على الأرض والتض ...
- دستور 2014 : خدعة جديدة للعمّال وعموم الشعب وإنقلاب على مطال ...
- العولمة والتعليم في تونس : سلعنة المدرسة خدمة لرأس المال ، م ...
- في الذكرى 56 لإصدار مجلة الأحوال الشخصية بتونس : المطلوب مسا ...
- ميزانية 2012 : ميزانية تفقير المفقّرين والتخلي عن -السيادة ا ...
- على هامش الإنتخابات الرئاسية الفرنسية : لا علاقة لفرنسوا هول ...
- المشروع الفلاحي السويسري بالصحراء التونسية : هل هو حقا لإنتا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...


المزيد.....




- فيديو يُظهر ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت ...
- شاهد كيف علق وزير خارجية أمريكا على الهجوم الإسرائيلي داخل إ ...
- شرطة باريس: رجل يحمل قنبلة يدوية أو سترة ناسفة يدخل القنصلية ...
- وزراء خارجية G7 يزعمون بعدم تورط أوكرانيا في هجوم كروكوس الإ ...
- بركان إندونيسيا يتسبب بحمم ملتهبة وصواعق برد وإجلاء السكان
- تاركًا خلفه القصور الملكية .. الأمير هاري أصبح الآن رسميًا م ...
- دراسة حديثة: لون العينين يكشف خفايا من شخصية الإنسان!
- مجموعة السبع تعارض-عملية عسكرية واسعة النطاق- في رفح
- روسيا.. ابتكار طلاء مقاوم للكائنات البحرية على جسم السفينة
- الولايات المتحدة.. استنساخ حيوانين مهددين بالانقراض باستخدام ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالله بنسعد - تعقيبا على تصريحات المشيشي في قطر : الفلاحون الشبّان أولى بالأراضي الدولية من القطريين والرأس مال الجشع في تونس