أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - عبدالله بنسعد - العولمة والتعليم في تونس : سلعنة المدرسة خدمة لرأس المال ، منظومة -إمد- نموذجا















المزيد.....


العولمة والتعليم في تونس : سلعنة المدرسة خدمة لرأس المال ، منظومة -إمد- نموذجا


عبدالله بنسعد

الحوار المتمدن-العدد: 3898 - 2012 / 11 / 1 - 23:35
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


لا يمكن الحديث عن المدرسة (المقصود هو المؤسّسة التعليميّة : مدرسة/معهد/جامعة) بمعزل عن نمط الإنتاج السّائد (إقطاعيّة ، رأسماليّة أو إشتراكيّة). فالمدرسة (إلى جانب مؤٍسّسات أخرى) تقوم بإعادة إنتاج وشرعنة نمط الإنتاج السّائد. وهي بالتّالي جهاز من أجهزة الدولة ومن ثم فان كل محاولة للتعرف على طبيعة "المؤسّسة التعليميّة" ووظيفتها لابد أن ينطلق من معرفة علمية بطبيعة الدولة ووظيفتها. فالدولة ، حسب التحديد الماركسي اللينيني هي أداة سيطرة طبقية تقوم على احتكار وسائل العنف والحق في استخدامه من اجل تأبيد سيطرة الطبقة السائدة.
وليست الدولة البرجوازية إلا أداة سيطرة الطبقة البرجوازية وتأبيد تلك السيطرة على الطبقة العاملة وباقي الكادحين وهي تقوم بوظيفتها تلك عبر العديد من الأجهزة والمؤسّسات (البرلمان، الجيش ، الشرطة ، المحاكم ، المؤسسة الدينية ، الإعلام ، المدرسة...). وإذا كان دور بعض تلك الأجهزة (الجيش، الشرطة ، المحاكم ، السّجون...) يتمثّل في استخدام القمع المادي المباشر ، فان دور بقيّة الأجهزة (البرلمان، الإعلام ، المؤسسة الدينية ، المدرسة...) هو القمع الإيديولوجي المقنع (تبرير السيطرة الطبقية وتأبيدها ، محاربة الفكر الثوري ، الترويج للثّقافة الرجعيّة التي تعمل على تكريس التخلّف وتبليد الفكر وتعطيل ملكة النقد والإبداع...). لكن إذا خصّصنا أكثر على المدرسة/الجامعة في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي نقول بأنّ لها وظيفة مزدوجة ، فهي من جهة مسؤولة عن ضمان استمرارية تزويد الدولة البرجوازية بالإطارات اللاّزمة و العمال المؤهلين لتسيير دواليب إقتصادها (وكذلك بالأساتذة والمعلمين الذين تتمثّل مهمتهم في إعادة إنتاج تلك العملية). ومن جهة أخرى فإنّ المدرسة/الجامعة مسؤولة عن تسويغ إيديولوجية الطبقة/الطبقات الحاكمة (الكمبرادور والإقطاع بالنسبة لقطرنا) وتبريرها وغرسها في عقول المتلقين من التّلاميذ والطلبة مع التركيز خاصّة على خوض حرب ضارية ضد الفكر الثوري النقيض. ففي المستعمرات وأشباه المستعمرات ، جسّدت الطبقات السائدة هذا الخيار عبر تكريس سياسة إنتقائيّة صارمة (معاهد نموذجيّة ، تكاليف تعليم عالية جدّا...) تمنع بموجبها أبناء الجماهير الكادحة من مواصلة تعليمهم.
كما عملت بالتوازي مع هذا على تسعير حربها الايديولوجية عبر إفراغ جميع البرامج من أي مضمون علمي وصل حد المحاربة السافرة لبعض التخصصات كعلم الإجتماع والفلسفة من جهة ، ومن جهة أخرى تشجيع الفكر الظلامي الرجعي ، مع تسليط القمع المباشر على أي مقاومة لهذه المخططات (الأمن الجامعي ، مجالس التأديب ، ضرب أو تدجين الحركة الطلاّبيّة...). نفس الشيء يمكن قوله حول الإقتصاد هذا الإقتصاد اللاّوطني واللاّشعبي والهش الذي يتميّز بتضخم قطاع الخدمات (قطاع السمسرة باليد العاملة) على حساب باقي القطاعات في الوقت الذي تظل فيه الزراعة متخلّفة وبعيدة كلّيا عن المكننة وإستخدام التجهيزات والطرق الحديثة والإطارات الكفأة من مهندسين وتقنيين فدورالجامعة يقتصر على إنتاج أطر متوسطة وصغيرة متدنية التكوين وقليلة العدد للقطاعات المنتجة وإنتاج جيوش من الموظفين المتوسطين والصغار ليكونوا في خدمة شريحة البيروقراطيّة حتّى تحقّق أهداف الكمبرادور والإقطاع.
وقد مرّت إقتصاديّات المستعمرات وأشباه المستعمرات بمرحلتين إرتبطتا بتطوّر أزمة الرأسماليّة. المرحلة الأولى (إلى حدود أواسط الثّمانينات) تمثّلت في استيعاب عدد كبير من الوافدين عليها من المدارس والجامعات حيث كانت إقتصاديّات تلك البلدان مدعومة من الإمبرياليّة (في إطار الحرب الباردة ضدّ خطر المدّ الشّيوعي) أمّا المرحلة الثّانية (التي نؤرّخ لها بظهور العولمة الليبراليّة بعد سقوط جدار برلين) حيث بلغت الأزمة الاقتصاديّة أقصاها بتكثّف النهب الإمبريالي عبر تشبيك كلّ إقتصاديّات العالم مع بعضها البعض حيث أصبحت البورصات والشركات المتعدّدة الجنسيّات هي التي تتحكّم في تلك الإقتصاديّات ، فقد شهدت عجز الإقتصاديّات الحاليّة التي أنتجتها العولمة الليبراليّة على إستيعاب حتّى الحدّ الأدنى من خرّيجي الجامعات. فكان لا بدّ من إصلاح هذه المؤسّسة (المدرسة/الجامعة) لتواصل الإضطلاع بوظيفتها في خدمة الطبقات الحاكمة (سواء في البلدان الرأسماليّة أو في المستعمرات وأشباه المستعمرات) وهو ما يفسّر في إقدام البنك العالمي منذ أواخر الثّمانينات على تكثيف برامج إصلاح التعليم في كلّ أرجاء العالم.
ولو عدنا إلى السّياسة التعليميّة في القطر لقلنا بأنّ مشروع مدرسة الغد يمثّل إحدى هذه البرامج التي كان لا بدّ أن يكون لها إمتداد في الجامعة فجاء إصلاح منظومة "أمد" كحلّ لذلك ليدفع في إتّجاه مزيد سلعنة التعليم وجعله في خدمة رأس المال. إذ لا تمثّل منظومة إصلاح التعليم «التعليم الأساسي ، التعليم الإعدادي ، التعليم العالي ثمّ أخيرا وليس آخرا منظومة أمد» سوى تتويجا لسيرورة طويلة شكل فيها الحق في تعليم مجاني وديمقراطي مجالا للصراع بين الطبقات الحاكمة (الكمبرادور والإقطاع) التي عملت جاهدة للانقضاض عليه في سعيها الدائم لتوجيه المدرسة (المقصود هو المؤسّسة التعليميّة ككل) لخدمة الإمبرياليّة ومن ورائها لخدمة مصالحها بإعتبارها وكيلا للإمبرياليّة وبين أبناء الشعب الكادح التواقين لتجسيد هذا الحق في كامل أبعاده. ولكن إذا عدنا قليلا إلى الوراء نرى بأنّ بناء دولة الإستعمار الجديد إستلزم توسيع دائرة المستفيدين من التعليم وتشغيل خريجيه لتلبية حاجاتها إلى الكوادر (الإدارة والقطاع العام) مما جعله سبيلا للإرتقاء الاجتماعي لدى شرائح من الطبقات الكادحة ، لكنّ مستهل عقد الثمانينات شكّل نقطة انعطاف بالتدخل السافر للمؤسّسات الماليّة العالميّة والمتمثّل خاصّة في تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي بداية من سنة 1986 وما ترتّب عنه من خطوات لضرب مكتسبات التعليم وأهمّها مجانيّته. ففي كل مناطق العالم (من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها) سارعت البرجوازية إلى وضع مشاريع "إصلاح التعليم" بانسحاب الدولة ودخول الرأسمال بحثا عن الربح وقد عبّر عن هذا التوجّه جاك اتالي مستشار الرّئيس جاك شيراك (رئيس فرنسا الإمبرياليّة) قائلا: " لا تستطيع الجامعات ان تبقى أمكنة للمعارف ونقلها بل يجب ان تصبح أداة للمردودية وان تصبح الأبحاث ذات منفعة ومربحة ان أمكن". وقد طال هذا الإصلاح مجموع جوانب النظام التعليمي الجامعي البيداغوجية والإدارية والتنظيميّة وانطلاقا من المرتكزات التي تحدد الإطار الإيديولوجي العام ، يتبين بأن الحلقة الأساسية في نظام التعليم هي ذات طابع مهني-تقني الشيء الذي يستجيب للطّلبات المباشرة لرأس المال. وغنيّ عن التذكير بأنّ هذه الإصلاحات إتخدت منذ منتصف التسعينات ومع إنشاء المنظة العالمية للتجارة بعدا جديدا حيث وضعت هذه الأخيرة هدفا رئيسيّا يتمثّل في إصلاح مايسمى بقطاع الخدمات سواء كانت اجتماعية (صحة ، تعليم ، تغطية اجتماعية ، أنظمة تقاعد...) أو عمومية ( ماء ، كهرباء ، إتصالات...) عبر الإتفاقية العامة لتجارة الخدمات (AGCS ) الموقعة في أفريل 1992 التي ترمي إلى خوصصة قطاع الخدمات عبر تحريره وتفكيك القوانين المنظمة له والتي تعتبر من وجهة نظر النيوليبرالين مجرد عوائق أمام الإستتمار أي أمام سلعنته وهو ما يجعلنا نتحدّث عن سلعنة التعليم.
فالرأسمال الجشع والباحث عن مجالات جديدة لإستثمار أمواله في ظلّ العولمة الليبراليّة الشّرسة يرى في التعليم ميزانية عالمية سنوية تقدر بألف مليار دولار وقطاع هام يشغّل حوالي 50 مليون عامل وقبل كل شيء مليار زبون مفترض من التلاميذ والطلبة.
هكذا إذا تتنزّل منظومة "إصلاح التعليم " التي تمثّل الإستجابة الواضحة لوصايا البنك العالمي ولمقتضيات الإتفاقية العامة للتجارة في الخدمات ، وتتلخص هذه الإستجابة في النّقاط التالية :
النظر إلى التعليم من منظور اقتصادي بحت : إنه مجرد سلعة وبالطبع فكل سلعة تفترض بيعا وشراء وسوقا وبالتّالي فهو ملزم بالتلائم مع متطلبات المحيط الإقتصادي ( السوق عموما وخاصة سوق الشغل يتجسّد ذلك على مستوى القطر في التركيز على الشعب التقنية وذلك ببعث معهد عالي للدراسات التكنولوجيّة في كلّ ولاية).
 الدفع في إتّجاه أن يكون الهدف من التربية والتكوين هو :
* تكوين عمال المستقبل عبر التركيز على تكوين يد عاملة مؤهلة لشغل مراكز العمل التي تتطلّبها الآليّات والتجهيزات الحديثة دون التمكّن من التكنولوجيا أي خلق ما يسمّى بـ «كوادر الأزرار».
* إعداد مستهلكين قادرين على التّأقلم مع البضاعة التي يطرحها رأس المال في السّوق وذلك عبر إجادة المستهلكين للقراءة والكتابة (بما ان أغلب المنتوجات أصبحت اليوم تستدعي بعضا من الأبجدية قراءة وكتابة : من قراءة تاريخ صلاحية السلع وعلامتها التجارية إلى قراءة كيفية ااستعمال الهاتف الجوّال...).
* جعل المدرسة نفسها سوقا والتلاميذ زبناء فرأس المال في ظلّ العولمة الليبراليّة الشّرسة لم يعد يكتفي بإمتالاك المصانع والبنوك والعقّارات والأراضي بل نهمه تعدّى ذلك إلى ملكيّة المدارس والمعاهد والجامعات. من المنظور النيوليبرالي أصبح بمقدور رأس المال بيع خدمة هي التعليم لمن يستطيع إليه سبيلا. بل أصبح بإمكان رأس المال التحكم في وضع البرامج التعليميّة و المناهج البيداغوجيّة خدمة لمصلحته (بل أصبح يتحكم في كلّ شيء ، في المدرسة ، في المدرسين ، في التلاميذ ، في النقل المدرسي ، في المطاعم ، في السّكن الجامعي ، في كلمة أصبحت المدرسة مستباحة من قبل رأس المال) .
هذا ما يبشّر به منظّروا العولمة الليبراليّة الشّرسة.
منظومة أمد في خدمة الرأس مال الجشع
في الظاهر تهدف منظومة إمد إلى توحيد الشّهادات العلميّة وتنظيرها بالشهادات العالميّة التّي أصبحت تقريبا نسخة من الشهادات الأنقلوساكسونيّة.
لكن في الباطن هي إستجابة مثلما أكّدنا ذلك فيما سبق لتوصيات البنك الدولي والمنظّمة العالميّة للتّجارة. إذ نقرأ في الوثيقة التوجيهيّة الصّادرة عن وزارة التعليم العالي ما يلي : «يواجه قطاع التعليم العالي في تونس تحدّيات عديدة نتيجة تبعات العولمة ومقتضيات بناء مجتمع المعرفة وضرورات الإعداد الأفضل للحياة المهنية مع التركيز على الإعداد لمهن الغد، لمواكبة التغيرات الاقتصادية العالمية واستباق النسق المتسارع للتطورات التكنولوجية والعلمية. وقد سعت بلادنا إلى تطوير نظام التكوين في مختلف المستويات بما يُيسّر التفاعل بين المؤسسة الجامعية والمؤسسة الاقتصادية، مستفيدة في ذلك من النماذج الناجحة في الدول الأكثر تقدما وخاصة منها دول الاتحاد الأوروبي. وتم ذلك بإدراج المزيد من المرونة بين الشعب وبتنويع مسارات التكوين وباستهداف القطاعات الواعدة في إطار تنفيذ استراتيجية قطاعية دقيقة تقوم على المحاور الرئيسية الثلاث التالية :
* دعم التشغيلية وبث ثقافة المؤسسة
* بناء مجتمع المعرفة
* تحسين جودة أداء المؤسسة الجامعية».
فهل هناك وضوح أكثر ممّا نقرأه في هذه الأسطر.
إنّ الحقائق والنّتائج المسجّلة في مختلف بلدان العالم في هذا الخصوص تجعل مقولة ربط التعليم بمتطلّبات السّوق مقولة جوفاء فارغة المحتوى فعلى مستوى القطر تمثّل المؤسّسات العائليّة المعروفة بسوء التصرّف وعدم الإختصاص وقلّة التأطير نسبة 75 % من المؤسّسات الخاصّة ناهيك عمّا يتهدد هذا النسيج الهشّ من مزاحمة مع البلدان الأوروبيّة بفعل تركيز منطقة التبادل الحر المنتظرة حيث تدلّ التقديرات التي قامت بها وزارة الصّناعة أن 30 % من المؤسّساتت تعوزها شروط الاستمرار و 30 % في حاجة إلى إعادة هيكلة و30 % فقط قادرة على المزاحمة. وبالتّالي فإنّ الدور المنوط بعهدة الجامعة هي خدمة الشركات متعددة الجنسية التي ستنتصب في القطر عند بداية تركيز منطقة التّبادل الحرّ مع الإتّحاد الأوروبي. لكن حتّى هذا الهدف الذي يركّز على جلب الإستثمارات الأجنبيّة ويرهن الجامعة لخدمته ليس مضمونا فكلّ الدّلائل تشير إلى أنّه لن يتحقّق مهما قدّم النّظام العميل من تسهيلات وتشجيعات وإغراءات ومهما تشدّق بالأمن والأمان. فالدّلائل تؤكّد بأنّ نمو الاستثمارات الخارجية المباشرة يجري ما بين أقطاب الثالوث الإمبريالي : أمريكا- اليابان-الاتحاد الأوربي ، مع تهميش المستعمرات وأشباه المستعمرات. ففي سنة 2005 تركزت 73 % من الاستثمارات و المبادلات و الإنتاج في البلدان الصناعية و 14 % في البلدان الشبه مصنعة (البرازيل ، الأرجنتين ، كوريا ، ماليزيا ، تايلاندا...) بينما لم يكن نصيب بقيّة البلدان ومن بينها تونس إلاّ 13 % فقط من الإستثمارات.
بل وتظهر بوضوح الآثار السلبيّة للاستثمار الأجنبي إن وجد على التعليم والتشغيل وإليكم في المكسيك أحسن مثال. فهذا البلد يقدمه تقرير البنك الدولي سنة 2005 على أنّه رائد في حسن تدبير "الموارد البشرية"، وهو من اكبر مستقبلي الاستثمارات الأجنبية لتوفره على عناصر "الجذب" الكافية : خوصصة فائقة و بورصة محررة ، نسبة فائدة مرتفعة ، يد عاملة رخيصة جدّا ، مواد أولية و طاقية وفيرة...
لكن رغم كلّ ذلك لم يستفد اقتصاد المكسيك من إستثمارات منتجة حقيقية و لا من خفض لنسبة البطالة ، ولا من تطوير خدمات التعليم بل هزته أزمة خطيرة عام 2004 لكون الرّساميل "الطيارة" تستثمر بالدرجة الأولى في المضاربات و تنسحب فور ظهور بوادر الأزمة. بل إنّ نفس السيناريو شهدته بلدان أخرى اعتبرت تجاربها نماذج مثالية طالما تغنت بها البورجوازية العالمية و ضرب بها المثال بدورها في تقرير البنك العالمي مثل كوريا و ماليزيا والأرجنتين وغيرها. فما بالك بلد صغير مثل تونس الذي يريد أن يجلب الرساميل العالمية عبر تدمير المكتسبات المتعلّقة بتشريع الشغل (أنظر اللاّئحة الإجتماعيّة لمؤتمر منظّمة الأعراف) و عبر تجنيد نظامه التعليمي لتفريخ جيش احتياطي متوسط التأهيل أمام واقع ضعف شديد لسوق داخلي مرتهن ومرتبط بمشاريع عالميّة وبرامج نهّابة.
إنها حقائق تعري شعار "ربط الجامعة بمحيطها الاقتصادي" وتؤكد حرص الطّبقات الجاثمة على رقاب الشعب الكادح على خدمة أسيادها الإمبرياليين وتحقيق مآربها الشخصيّة التي يسمح بها أسيادها.
وزارة الدّخليّة على الخطّ
لا نستغرب في ظلّ نظام بوليسي أن تتحكّم وزارة الدّاخليّة وتتدخّل في كلّ الأنشطة من التشغيل إلى توزيع رخص التّجارة والخدمات إلى سحب وتوزيع جوازات السّفر وغيرها من الأعمال التأطيريّة لكلّ مجالات الحياة لكن ان يمتدّ تدخّل وزارة الدّاخليّة إلى تحديد عدد ساعات التدريس في الجامعة فذاك يعتبر قمّة في دكتاتوريّة البوليس وإليكم الدّليل : الوثيقة التي أصدرتها وزارة التعليم العالي أغلب محتواها مترجم من نصوص فرنسية لكن ما يسترعي الإنتباه هي التغييرات التي قامت بها الوزارة لأسباب ليس لها أيّ علاقة بالضرورات البيداغوجيّة وهو ما يمكن أن تنتج عنه مضرّة كبيرة بمستوى التعليم. فالوثائق الفرنسية الأصلية تقول بأن السداسية تدوم بين 12 و14 أسبوعا بينما وثيقة الوزارة تقول : تدوم السداسية 14 أسبوعا على الأقلّ ، الوثيقة الفرنسية تقول : يبلغ عدد ساعات التدريس في السداسية 300 ساعة ، الوزارة تقول : يبلغ عدد ساعات التدريس في السداسية 360 ساعة على الأقل ، الوثيقة الفرنسية تقول : الرصيد يتطلب 10 ساعات دراسة حضورية ، الوزارة تقول : الرصيد يتطلب 12 ساعة دراسة حضورية على الأقل ، الوثيقة الفرنسية تقول يبلغ عدد ساعات الدراسة 21 ساعة ونصف في الأسبوع على الأكثر، الوزارة تقول : يبلغ عدد ساعات الدراسة 26 ساعة ونصف في الأسبوع على الأقل ، إلى غير ذلك من المتضادّات.
إنّ هذا النفخ في ساعات التدريس وفي السّداسيّات الذي يضر بمستوى التعليم من الناحية البيداغوجية ويخفـّض من مستوى الشهادات ليس له من هدف سوى إرهاق الطّالب أكثر ما يمكن وسجنه بين أسوار الجامعة لأطول وقت ممكن حتّى لا يجد الوقت الكافي لاستعمال المكتبة ولا يتثقف ولا يتعلم حتى كيف يفكـّر وخاصّة لا يشارك في أيّ نشاط نقابي أو سياسي وسرّ التضخيم موجود طبعا لدى وزارة الداخلية عبر التوصيات أو الأصح الأوامر التي تفرضها هذه الوزارة "التي هي فوق كل الوزارات" على وزارة التعليم العالي.
فملء الأسبوع بساعات التدريس سوف يجعل متابعة دروس المواد الاختيارية مستحيلة ماديا ويجعل مشروع الوزارة غير قابل للتطبيق من الناحية العملية وذلك لأن اختيار مواد مختلفة خارجة عن نطاق القسم في الكلية يتطلب جدول أوقات مرن يمكـّن الطالب من إيجاد ساعة ونصف لكل مادة اختيارية لحضور الدرس ونصف ساعة قبلها أو بعدها للتنقل من كليته إلى الكلية التي فيها الدرس الاختياري وهو شيء مستحيل في ظلّ التوزيع المقترح لساعات التدريس خاصّة وأنّ الجامعات بعيدة عن بعضها والتنقّل بينها يتطلّب وقتا طويلا هذا دون الحديث عن مصاريف التنقّل بين هذه المؤسّسة وتلك.
لكن تدخّل وزارة الدّاخليّة لم يقف عند هذا الحدّ بل تدخّلت الوزارة منذ سنوات للإيعاز برفض تجهيز المكتبات الجامعيّة وتوفير ما يلزمها من المراجع إمعانا في فرض سياسة التجهيل من ناحية وإثقالا لكاهل الطّالب من ناحية أخرى. فالطّالب الذي لا يجد المراجع اللاّزمة متوفّرة بالجامعة يجبر على شرائها من المكتبات الخاصّة أو نسخها وهو ما يثقل جانبه المادّي بل لا يتمكّن من ذلك إلاّ الطلبة الميسورين.
أما بقيّة الطلبة فسيضطرون إلى الإلتجاء لمؤسسات تقديم القروض لمتابعة دراستهم وتأمين "مستقبلهم" ، غير ان هذا المستقبل لن يكون في نهاية المطاف إلا السقوط تحت نير المديونية (يسهر البنك العالمي في شراكة مع البنوك التّجاريّة على صرف قروض للطلبة سواء لتمويل تعليمهم أو لشراء الحواسيب ومستلزمات الدّراسة الأخرى وبما أنهم واعون بان استردادها أمر غير مؤكد ، في بلدان يصعب فيها العثور على شغل ، لذلك فإنّ البنوك تعمد إلى مطالبة المقترض أو عائلته بضمانة تمكنهم من استرداد ذلك الذين).
علما وأنّ هذا التدخّل السّافر في المسائل التعليميّة من طرف وزارة الدّاخليّة أدّى إلى إعادة جزء من القروض التي حصل عليها النّظام من البنك العالمي (حوالي 40 مليار ردّت إلى البنك) لتوفير مثل هذه المكتبات لأنّه لم يصرف الأموال كما اتفق مع البنك العالمي على ذلك.
الملاءمة مع حاجات السّوق
الجديد في هذه المنظومة هو خلق مفهوم إكتساب الوحدات. ويعني أن كل وحدة مستقلة بذاتها تصبح مكتسبا للطالب ويحتفظ بها كيفما كانت نتائج الوحدات الأخرى. وتبني هذا النّظام ليس له سوى مغزى واحد : فهو يعتبر مدخلا لتفكيك نظام الشهادات القديم ، حيث الهدف من ذلك واضح كامل الوضوح ويتمثّل في مسايرة المتطلبات الجديدة والمتغيرة للنظام الرأسمالي. ففي سياق دوران سريع لليد العاملة تفرضه بيئة إنتاج متغيرة باستمرار(التطور التكنولوجي المتسارع ، إعادة الهيكلة وإعادة التنظيم تؤديان إلى استبدال مناصب الشغل ، تغير المنتجات…) يدفع الأعراف في إتّجاه إضفاء المرونة اللاّزمة على سوق الشغل. وبحكم أنّ هذه الأخيرة مضبوطة حاليا وبشكل قوي بواسطة نظام التأهيل والشهادات الذي يتيح مفاوضات جماعية ضامنة للأجور ولشروط العمل وللحماية الاجتماعية ولتدمير هذا النظام الصلب يطرح الأعراف على الدولة (الجهاز المسخّر لخدمتهم) ضرورة اعتماد شهادات مبنية على الوحدات التعليمية. ولهذه الأخيرة -الشهادات المبنية على الوحدات التعليمية- ميزة مزدوجة فهي ، من جهة ، تسمح باستخدام أكثر ليونة لليد العاملة وبضغط أكثر على الحقوق الاجتماعية ، ومن جهة أخرى ستحفز المتعلمين ليفضلوا من الوحدات التعليمية كل ما له مردود فعال من زاوية قابلية التشغيل. وهذا ما يهدد بزوال الأهداف المعرفية والشمولية للمنظومة التعليمية ، حيث ستصبح الوحدة هدفا بحد ذاتها ، وسينتقى الطالب الوحدة التي تمنح له أكبر إمكانية لولوج سوق "الشغل".
سيؤدي إذا إخضاع التعليم العالي لمنطق حاجيات الرأسمال إلى تعميق الاستلاب الفكري للطلبة بمعنى أنه سينعدم أي هامش لاختيار التوجهات والتخصصات تبعا للميول والملكات الشخصية للطلبة حيث سيسعى الطلبة وراء الشهادات التي لها قيمة في سوق الشغل وتشتدّ عمليّة تجزئة المعارف ووقف تطور الفكر النقدي بتصفية بعض الشعب أو إفراغها من محتواها مثلما ذكرنا آنفا ولنا في تغيير برامج مواد العلوم الإنسانيّة (الفلسفة ، علم الإجتماع ، التّاريخ والجغرافيا...) خير دليل على ذلك واختزال مضمون البرامج في تحصيل تكوين تقني سريع وبسيط. أي أنّ منظومة أمد تهدف في الأصل إلى التضحية بالأهداف المعرفية أو وضعها في مرتبة ثانوية لصالح كفاءات ومهارات تتيح إعدادا سريعا ومرنا لليد العاملة. وهو ما يستجيب لمطلب دائم للرأسماليين. وهكذا سيكرس الإصلاح وظيفة المدرسة ، كآلة "لإعادة إنتاج التفاوت الطبقي" حسب تعبير بيار بورديو Pierre Bourdieu. إنّه ببساطة مشروع يهدف إلى مزيد تفقير أبناء الكادحين مادّيا وفكريّا.


تعليم للفقراء وتعليم للأغنياء
أخيرا نؤكّد على أنّ عدم تعميم نظام إمد على كل اختصاصات التعليم العالي كما هو الحال في البلدان التي طبّقته قبلنا ، حيث وقع إستثناء بعض الإختصاصات المعروفة بإجتذابها لأبناء البورجوازيّة الكمبرادوريّة والبورجوازيّة الصّغيرة مثل الطبّ ، سوف يجعل هذا الإصلاح خاصّا بأبناء الكادحين أما أبناء الأثرياء فنظام دراستهم سيبقى مختلفا وخارجا عن المنظومة وهذه العقلية سوف تزيد في تعميق الهوّة الطبقيّة. إنّه تكريس للفقر بجانبيه المادي والمعرفي وذلك بوضع حواجز أمام ولوج أبناء الكادحين لبعض الإختصاصات وتعميق البؤس الثقافي بواسطة السياسة الانتقائية.
ما العمل؟
رغم أنّ ضحايا السياسة التعليمية النيوليبرالية يعانون من افتقاد أدوات نضال فعالة رغم هامش الحريّة الذي منحته إنتفاضة 14 جانفي. إذ أدت عقود من القمع الشرس من ناحية وتمكنّ القيادات الطلابيّة الإصلاحيّة بتسهيل مباشر ومفضوح من النّظام إلى القضاء على كفاحيّة الحركة الطلابيّة . وهو ما أدّى إلى إنقطاع خيط الاستمرارية النضالية مع تجدد أفواج الطلاب مفضيا إلى فراغ ساحة النضال الجامعي ما عدا بعض المواقع (سوسة ، تونس ، صفاقس ، قفصة ، جندوبة ...).
أما المعطى المستجد ، قياسا بسنوات نضال اليسار الماركسي بالجامعة والمعاهد الثانويّة والجمعيات الثقافية (نوادي السينما ، السينمائيين الهواة...) فيتمثّل في صعود التيارات الظّلاميّة التي خدمت النظام القائم بتوجيه جهودها ونشاطها وإمكانيّاتها لإجتثاث اليسار من الجامعة بحملات الإرهاب المادّي والفكري عبر ما توفّره لها عشرات المحطّات التلفزيّة ذات المحتوى الرجعي المعادي لكلّ فكر تقدّمي التي زاد تفريخها خلال السّنوات الأخيرة وخاصة بعد صعود الحكومة الرجعية العميلة التي أطلقت العنان لجناحها السلفي للتحرّك على كلّ الأوجه وفي كل القطاعات بما فيها قطاع التعليم وخاصة التعليم العالي من أجل ضرب كلّ محتوى نيّر لبرامج التعليم (العولم الاجتماعية والفلسفة أساسا) وكل الاختصاصات التي لها علاقة بملكة النقد والابداع (الفنون التشكيلية ، الموسيقى ...) وكذلك من أجل فرض نمط تعليمي قروسطي يرتكز على عدم الاختلاط بين الذكور والاناث من ناحية وعلى الترويج للباس أفغاني خارج الذوق العام وتقاليد شعبنا.
وإذ يرتدي الهجوم الذي تقوده الطبقات الرجعية الحاكمة (البورجوازية الكمبرادورية والاقطاع والشريحة البيروقراطية) بتعاون مع الإمبريالية طابعا شموليّا يستهدف المكاسب الطفيفة في مجال الخدمات العمومية (تعليم ، صحّة ، تغطية إجتماعيّة..) والتشغيل والأجور وغيرها. يترتب عن تلك الشمولية لزوم تضافر جهود كلّ القوى الطليعية في الحركة الطلاّبيّة والتلمذيّة بدعم مباشر من الأحزاب الثورية المنحازة لجماهير شعبنا الكادح للدّفاع عن جامعة شعبيّة وتعليم ديمقراطي وثقافة وطنيّة.
إنّ هذه الوضعيّة ليست قدرا إلا بقدر ما نظنها كذلك ، لابد من المقاومة ولا شيء غير المقاومة. أمامنا أهدافهم مشاريعهم وأمامهم صمودنا ومقاومتنا فامّا إشتراكية أو بربرية.



#عبدالله_بنسعد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في الذكرى 56 لإصدار مجلة الأحوال الشخصية بتونس : المطلوب مسا ...
- ميزانية 2012 : ميزانية تفقير المفقّرين والتخلي عن -السيادة ا ...
- على هامش الإنتخابات الرئاسية الفرنسية : لا علاقة لفرنسوا هول ...
- المشروع الفلاحي السويسري بالصحراء التونسية : هل هو حقا لإنتا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- غرّة ماي مابين سنتي 1886 و1889 من إنتفاضة العمّال بشيكاغو إل ...
- الأهداف الإستراتيجية للحرب على الإرهاب
- الأهداف الإستراتيجية للحرب الإمبرياليّة على العراق (الجزء ال ...


المزيد.....




- -بأول خطاب متلفز منذ 6 أسابيع-.. هذا ما قاله -أبو عبيدة- عن ...
- قرار تنظيم دخول وإقامة الأجانب في ليبيا يقلق مخالفي قوانين ا ...
- سوناك يعلن عزم بريطانيا نشر مقاتلاتها في بولندا عام 2025
- بعد حديثه عن -لقاءات بين الحين والآخر- مع الولايات المتحدة.. ...
- قمة تونس والجزائر وليبيا.. تعاون جديد يواجه الهجرة غير الشر ...
- مواجهة حزب البديل قانونيا.. مهام وصلاحيات مكتب حماية الدستور ...
- ستولتنبرغ: ليس لدى -الناتو- أي خطط لنشر أسلحة نووية إضافية ف ...
- رويترز: أمريكا تعد حزمة مساعدات عسكرية بقيمة مليار دولار لأو ...
- سوناك: لا يمكننا أن نغفل عن الوضع في أوكرانيا بسبب ما يجري ف ...
- -بلومبرغ-: الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض عقوبات على 10 شركات تت ...


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - عبدالله بنسعد - العولمة والتعليم في تونس : سلعنة المدرسة خدمة لرأس المال ، منظومة -إمد- نموذجا