حول خطاب العلم في ثلاثية نجيب محفوظ

محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا

الحوار المتمدن-العدد: 6760 - 2020 / 12 / 13 - 17:01
المحور: الادب والفن
    

لا يمكن أن تقوم حداثة بدون روح علمية، فالمجتمع الحديث قام على قاعدة العلم _ التكنولوجيا التي سرعت تطوير البنية الاجتماعية _ الاقتصادية بحيث أصبحت الحداثة قضية علمية. وفي كتابه " ما هي النهضة " يقول سلامة موسى: " الحضارة الأوروبية الحاضرة هي حضارة العلم الذي ينهض على التجربة. وقوة أوروبا هي قوة الصناعة التي تنهض على العلم. والأمة العربية في عصرنا الحاضر قد تخلفت عن أوروبا لأنها أهملت العلم والصناعة، ولن تستطيع أن تستعيد مكانتها في قافلة الارتقاء البشري إلا إذا أخذت بالعلم والصناعة ". لأن العلم " هو وسيلة التمدن، ولا تمدن ولا قوة بلا علم ". ونجيب محفوظ، تلميذ سلامة موسى، هو الروائي الأبرز في الدعوة إلى العلم كمقال حضاري. فقد كانت الدعوة إلى العلم والروح العلمية هاجسه الروائي منذ مرحلته الفرعونية. فنجيب محفوظ، كروائي، لم ينج من المرحلة الفرعونية التي طبعت الفكر المصري في العشرينات والثلاثينات، لأنها كانت كما يقول " العصر الوحيد المضيء في مقابل المهانة والانحطاط الذي كنا نعيش فيه وقتها، مهانة الاستعمار الانكليزي وسيطرة الأتراك ". وقد كتب في مشروعه الروائي عن تلك المرحلة ثلاث روايات، دعا مقاله الحضاري في واحدة منها " كفاح طيبة _ 1944 " إلى مدينة فاضلة تنهض على العلم والعدل الاجتماعي. وهو في روايته هذه تتجاوز التاريخ الفرعوني، ويجعل بطل الرواية يوزع الأرض على الفلاحين حالماً ب " مملكة عظيمة متعددة الأجناس واللغات والأديان "، حيث " العزة _ القومية _ والشبع والرغد والعلم " (ص216). وسوف يتابع نجيب محفوظ مقاله الحضاري هذا في جميع رواياته. وقد تم اختيار الثلاثية كرواية، باعتبارها نموذجاً للبحث عن مقال العلم، وهو مقال نجيب محفوظ الحضاري لحداثة الأمة العربية.
تستوعب الثلاثية المجتمع المصري قبل ثورة 1952 على الشكل التالي:
بين القصرين 1917 _ 1919
قصر الشوق 1924 _ 1927
السكرية 1935 _ 1944

بين القصرين
وهي رواية عن الزمن (المجتمع في الزمن)، إنها تصور مجتمعاً في حالة تغير مستمر. رغم أن التغير يتسرب ببطء في رواية " بين القصرين _1956) إلى أسرة السيد أحمد عبد الجواد، النموذج الحقيقي للأب في المجتمع البطركي، حيث تخالف زوجته أمينة أوامره وتزور " سينا الحسين "، كما يخالف فهمي أوامره وينخرط في النضال الوطني (ثورة 1919) باعتباره عضواً فعالاً في لجنة الطلبة. إلا إن ذلك لا يؤدي إلى تغير جذري في شخصيات الرواية، فالأب يبقى هو المسيطر حتى بعد اكتشاف حياته المزدوجة. وليست صورة الأب هي التي بدأت تهتز فقط، بل وأيضاً صورة المجتمع وأخلاقه. إن كمال يتساءل بعد صدم والدته من قبل سيارة في طريق عودتها من زيارة سيدنا الحسن " كيف أمكن أن يقع لها هذا الحادث بعد تبركها بزيارة سيدنا الحسين ".
إن السيد أحمد عبد الجواد نموذج للأب البطركي روائياً واجتماعياً، وهو يرفض تزويج ابنته إذا لم يكن دافع الرجل إلى الزواج هو رغبته الخاصة " في مصاهرتي أنا، أنا، أنا، أنا "(ص142). وحين يرفض فهمي طلب السيد بأن يقطع كل صلة بينه وبين الثورة ينفجر " الكلمة هنا كلمتي أنا، أنا، أنا، أنا " (ص376). هذا الرجل المستبد يسمح لنفسه بحياة أخرى بعيدة كل البعد عن حياة البيت، حياة لاهية بين العوالم. وحين تحدث ثورة 1919 فإن السيد يصبح ذا قابلية لعدوى الأشواق الوطنية والسياسية، فبات على حال من الانتظار والتوقع جعله يقبل بانفعال على قراءة الجرائد " (ص290). ورغم إنه يوقع على توكيل من توكيلات الوفد ليكون دليل الأمة في المفاوضات مع الانكليز، ورغم تبرعه بمبلغ كبير من المال فإنه " قنع دائماً من وطنيته بالعاطفة والمشاركة الوجدانية دون الإقدام على عمل يغير وجه الحياة " (ص193). لكن فهمي (ولده الأوسط) يقدم على ذلك العمل الذي يغير وجه الحياة من خلال اشتراكه في ثورة 1919، ثورة المجتمع بجميع فئاته " حتى النساء خرجن في المظاهرة " (ص331)، والتي فاجأت فهمي بزلزالها وبهرته بنورها (ص231) فانخرط في قلب معركة الوطن كعضو في اللجان الطلابية. وإذا كانت أمينة خالفت أوامر السيد من خلف ظهره، أثناء سفره إلى الإسكندرية، فإن فهمي يواجهه ويرفض أوامر السيد بالابتعاد عن الثورة " لأن قوة في الوجود لا يمكن أن تحول بينه وبين واجبه الوطني " (ص374).
في هذا الجو نشأ كمال بطل الثلاثية. لقد تأثر بالثورة، وأصبحت أسماء " سعد زغلول، الانكليز، الطلبة، الشهداء، المظاهرات من القوى المؤثرة الموحية في أعماقه وإن وقف منها موقف المستطلع الحائر " (ص322). ورغم أنه يخرج في مظاهرة ضد الاحتلال الانكليزي ويهتف ليحى سعد، لتسقط الحماية، ليحى الاستقلال (ص224)، ولكن هذه التجربة لا تجعله يتجاوز عمره. وحين يعسكر الانكليز في شارعهم يعجب كمال بهم لدرجة أنه يجدهم أجمل من سعد باشا (ص356). والصدمة الأساسية له وللعائلة كانت موت فهمي في مظاهرة سلمية سمحت السلطة الانكليزية بقيامها.
رواية " بين القصرين " تركز على الوطنية، وهذه الوطنية عند فهمي ليست مرتبطة بالاستقلال السياسي فقط، ولو أنه هدف عظيم بحد ذاته في مرحلة الاحتلال الانكليزي لمصر، بل ومرتبطة أيضا بنظرية اجتماعية _ فلسفية. إن فهمي يريد التخلص من الانكليز لكي تعود الخلافة إلى سابق عظمتها حيث يصبح الطريق ممهداً لحداثة مصر (ص52). إن عاطفة فهمي الدينية عدا عن صدقها تمتاز بقدر من الاستنارة لا بأس به " استمده من آراء محمد عبده وتلاميذه " (ص363). وإذا تذكرنا أن سعد زغلول هو من تلاميذ الإمام محمد عبده، وكان يسعى مثله لإصلاح أوضاع البلاد الداخلية عن طريق التربية والقانون، وعرفنا لماذا كانت الأحاديث الوطنية تثير أكبر الأحلام في نفس فهمي، ففي " دنياها الساحرة تتراءى لعينيه دنيا جديدة، ووطن جديد، وبيت جديد، وأهل جدد ينتفضون جميعاً حيوية وحماساً " (ص289).
لقد ورث كمال الوطنية من أخيه فهمي، وفي رواية " قصر الشوق " تظهر وطنيته. فهو يوصف من قبل أصدقائه بأنه " مجنون الوطنية "، و" الوطنية بالنسبة له هي فضيلة، وهي أيضاً إنسانية محلية " (ص449). والوطنية لا تعني لكمال المقال السياسي: إجلاء المستعمر الانكليزي فقط، بل وأيضاً تعني المقال الحضاري: " ربط مصر المتأخرة بركب الإنسانية " (ص449)، ولكن كيف؟

قصر الشوق
في رواية " قصر الشوق _ 1957 " يتقدم المجتمع مع تقدم الزمن، والجديد الذي كان يطل برأسه على استحياء في رواية " بين القصرين " أصبحت له كلمته التي تقف في وجه القديم. صحيح إن القديم لم يفقد سيطرته كلياً، لكن الجديد يتقدم بلا خوف ويفرض نفسه. إن كمال " يؤمن أن حياة الفكر أسمى غاية للإنسان " (ص36)، ولهذا يسعى إلى مدرسة المعلمين العليا لأن " في نفسه أشواقاً تحتاج إلى عناية وتأمل حتى تنضج أهدافها.. أشواق تهزها مطالعات شتى لا تكاد تجمعها صفة واحدة: مطالعات أدبية، واجتماعية، ودين، وملحمة عنترة، وألف ليلة، وحماسة، والمنفلوطي، ومبادئ الفلسفة " (ص63).
ومدرسة المعلمين العليا هي التي تقدم علوم الفكر تلك، والتي هي برأي كمال " تحوز أكبر التقدير في الأمم الراقية. إن الأوروبيين يقدسونها، ويقيمون التماثيل للنابغين فيها " (ص65). وكان رد السيد، الذي يريد لولده الالتحاق بمدرسة الحقوق " مالنا نحن وأوروبا؟! في رأسك أفكار لا أدري كيف اندست إليه " (ص65). وتلك الأفكار سيطرت على كمال من خلال اطلاعه على الفكر الأوروبي، ذلك إن الالتقاء مع أوروبا فكريا فتح عقله على روح العصر، روح العلم الذي ليس له قيمة خارجة عن ذاته. يبكي كمال حين يخبرهم مدرس التاريخ الإسلامي " إن ضريح الحسين رمز لا شيء غير ذلك " (ص86)، ذلك إن هذا التصريح يترك وحشة وخيبة في قلبه. وينقلب كمال من متدين عنيف إلى ملحد عنيف، وفي خضم الموج العاتي يعثر كمال على صخرة النجاة " صخرة مثلثة الأضلاع.. صخرة العلم والفلسفة والمثل الأعلى " (ص449).
وأصبح مطلب كمال في مرحلته الأخيرة هو البحث عن الحقيقة، وكان أول مقال علمي كتبه عن " أصل الإنسان "، وقد كتبه بعد صراع طويل مع نفسه، وبعد أن هوت قبضة العلم الحديدية على عقيدته فكانت القاضية (ص394). وفي حواره مع والده حول أصلاً الإنسان يتجدد صراع القديم والجديد..
السيد: ماذا أردت بهذه المقالة؟
كمال: أني أشرح نظرية علمية.
السيد: لقد لفت نظري عبارات غريبة تقول إن الإنسان سلالة حيوانية، أحق هذا؟!
كمال: هذا ما تقوله هذه النظرية.
السيد: وآدم أبو البشر الذي خلقه الله من طين ونفخ فيه من روحه، ماذا تقول عنه هذه النظرية العلمية؟!
كمال: دارون صاحب هذه النظرية لم يتكلم عن سيدنا آدم.
السيد: لقد كفر دارون ووقع في حبائل الشيطان، وإذا كان أصل الإنسان قرداً أو أي حيوان آخر، فلم يكن آدم أبا للبشر.. هذا هو الكفر بعينه.. خبرني أهو من أساتذتك في المدرسة؟
كمال: دارون عالم انكليزي مات من زمان طويل.
السيد: لعنة الله على الانكليز مجتمعين.
وهكذا يحدد المقال الروائي موقفين من العلم:
الموقف الأول: موقف السيد أحمد عبد الجواد: موقف القديم _ الأصالة: ويتلخص بتوجيه السيد لولده " إذا وجدت في دروسك ما يخالف الدين، واضطررت إلى حفظه كي تنجح في الامتحان، فلا تؤمن به، ومن باب أولى لا تنشره في الصحف وإلا حملت وزره. ليكن موقفك من علم الانكليز كموقفنا من احتلالهم، وهو عدم الاعتراف بشرعيته ولو فرض بالقوة الجبرية " (ص397).
الموقف الثاني: موقف كمال عبد الجواد: موقف الجديد _ الحداثة: ويلخصه كمال " لن تعبث بي الأوهام بعد اليوم، النور، النور، أبونا آدم! لا أب لي، ليكن أبي قردا أو لا يكون إذا شاءت الحقيقة.. القرآن أما أن يكون كله حقاً أو لا يكون قرآناً " (ص393).
ويعتبر نجيب محفوظ أن كمال " في تحرره من الدين أقرب إلى الله مما كان في إيمانه به، فما الدين الحقيقي إلا العلم، هو مفتاح أسرار الكون وجلاله، ولو بعث الأنبياء اليوم ما اختاروا سوى العلم رسالة لهم " (ص397). وهكذا تسجل رواية " بين القصرين " الرحلة من العالم السماوي إلى العالم الأرضي. إن شخصية كمال نموذج لجيل كامل في صراعه الشخصي بين الدين والعلم، والذي هو امتداد لصراع حضاري، صراع حضارة الشرق مع حضارة الغرب، وكمال هو محصلة ذلك الصراع الحضاري في مرحلة من مراحله التاريخية.

السكرية
في رواية " السكرية _1957" يتابع كمال رحلة الحياة، وإذا كان المقال الروائي ركز في رواية " قصر الشوق" على نظريته الفلسفية، فإنه في رواية " السكرية " يركز على نظريته الاجتماعية. ففي الاحتفال بالعيد الوطني (عيد 13 فبراير) وهو العيد الثامن الذي يحضره، يؤجل كمل التفكير في " مشكلات المادة والروح والطبيعة وما وراء الطبيعة "، ويفكر بقضايا المجتمع لأن " قلبه لا يستطيع أن يتجاهل حياة الشعب، إنه يعيش دائماً معه " (ص40). ويفكر بتلك " السلسلة من الطغاة التي تمتد إلى ما قبل التاريخ" (ص45) التي حكمت مصر. ويعترف أن الاستبداد هو مرض مصر المتوطن، ولذلك فإن " قومه بحاجة إلى الثورة ليقاوموا موجات الطغيان التي تترصد سبيل نهضتهم، في حاجة إلى ثورات دورية تكون بمثابة التطعيم ضد الأمراض الخبيثة " (ص44). ويعتبر أن " التجاوب الحار بين الرجل _ مصطفى النحاس _ والشعب ظاهرة جديرة بالنظر، وهي بلا شك قوة خطيرة تلعب دورها التاريخي في بناء القومية المصرية " (ص43). إن كمال ما يزال يدور في فلك حزب الوفد على المستوى السياسي، لكن المقال الروائي للثلاثية يتجاوز حزب الوفد، هنا تظهر فضيلة نجيب محفوظ الروائي (لم يتخل نجيب محفوظ أبداً عن إيمانه بأفكار حزب الوفد السياسية) على المستوى الروائي، إنه لا يسجن مقاله الروائي في حدود مقاله الفكري، ويتابع في رواية " السكرية " رصد حركة المجتمع الاجتماعية _ السياسية ولا يقولبها حسب مقاله الفكري. إن الزمن يتقدم والمجتمع يتطور، وأفراد عائلة السيد أحمد عبد الجواد يمثلون اتجاهات ذلك التطور الاجتماعي _ السياسي. وفي رواية " السكرية " يطرح نجيب محفوظ إمكانيتين لتغيير المجتمع:
1_ الثورة الإسلامية.
2_ الثورة الشيوعية.
الثورة الإسلامية يمثلها حسب المقال الروائي عبد المنعم ابراهيم شوكت حفيد السيد أحمد عبد الجواد، ويتحدد برنامجها الفكري من خلال الشيخ علي المنوفي حيث يتحدد مقال الحضاري الإسلامي " يجب أن يبعث الإسلام كما بعث أول مرة.. فلنعد إلى الكتاب، هذا هو شعارنا: العودة إلى القرآن " (99). وبرأي الشيخ علي أن الإسلام هو " عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية ومصحف وسيف "، ويتابع عبد المنعم إن هذه الدعوة ليست " موجهة إلى مصر وحدها. لكن إلى كافة المسلمين في الأرض، ولن يتحقق لها النجاح حتى تجمع مصر والأمم الإسلامية على المبادئ القرآنية، فلن نغمد السلاح حتى نرى القرآن دستوراً للمسلمين أجمعين " (ص351).
أما الثورة الشيوعية فيمثلها حسب المقال الروائي أحمد ابراهيم شوكت، الحفيد الآخر للسيد أحمد عبد الجواد، ويتحدد برنامجها الفكري من خلال سوسن حماد حيث يتحدد المقال الحضاري الأوروبي " قد يكون في الإسلام اشتراكية، ولكنها اشتراكية خيالية.. إنه يبحث عن حل للظلم الاجتماعي في ضمير الإنسان بينما الحل في تطور المجتمع نفسه، إنه لا ينظر إلى طبقات المجتمع ولكن إلى أفراده، وليس فيه بطبيعة الحال أية فكرة عن الاشتراكية العلمية " (ص310). ويكمل الاستاذ عدلي كريم (وشخصيته الروائية تستعيد شخصية سلامة موسى ودوره التاريخي في الحركة الاشتراكية) إن الماركسية و" إن تكن ضرورة تاريخية إلا أن حتميتها ليست من نوع حتمية الظاهرات الفلكية. إنها لن توجد إلا بإرادة البشر وجهادهم، فواجبنا الأول ليس أن نتفلسف كثيراً ولكن أن نملأ وعي الطبقة الكادحة بمعنى الدور التاريخي الذي عليها أن تلعبه لإنقاذ نفسها والعالم جميعاً " (ص352). وحين يواجهه أحدهم بأن الإخوان المسلمين أصبحوا يشكلون عقبة خطيرة، يجيب الاستاذ عدلي " لا أنكر هذا، ولكنهم ليسوا بالخطورة التي تتخيلها، ألا ترى إنهم يخاطبون العقول بلغتنا فيقولون اشتراكية إسلامية.. لكنهم لن يوقفوا حركة الزمن المتقدمة إلى هدفها المحتوم، ثم أن نشر العلم كفيل بطردهم كما يطرد النور الخفافيش " (ص354).
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: أين يقف نجيب محفوظ، بعد أن قدمت الثلاثية ثلاثة أجيال من مفكري الحداثة العربية، أين هو مقاله الحضاري لتحديث المجتمع العربي، أين هو مقاله الفكري من مقاله الروائي؟
يجيب نجيب محفوظ في إحدى مقابلاته الصحفية عن سؤال حول التطابق بينه وبين كمال " الأزمة الفكرية الخاصة بكما هي أزمتي.. فالتطور العقلي لكمال أذكر إنني مررت به تماما خطوة خطوة "، أي أن المقال الفكري للرواية هو مقال كمال الذي يؤمن بالعلم والعدل الاجتماعي، الرافض للديكتاتورية، والمؤمن بحرية الإنسان الفرد. والمقال الروائي يصوره قريباً من أحمد (المقال الشيوعي)، وكمال يعترف لنفسه " إن التصوف هروب، كما إن الإيمان السلبي بالعلم هروب، ولا بد للعمل من إيمان، والمسألة هي كيف نخلق لأنفسنا إيماناً جديراً بالحياة " (ص391) وبين الاشتراكية العلمية والاشتراكية الإسلامية نجده أقرب إلى الشيوعية، فهو يفكر في نفسه " الشيوعية، أليست تجربة جديرة بالاختيار " (ص175). ولكنه رغم ذلك (مثله مثل نجيب محفوظ) يترك مسافة بينه وبين الشيوعية، إن الاشتراكية العلمية بالنسبة لهما هي دعوة اجتماعية (أخلاقية) وليست سياسية، إن مقالهما الفكري يقوم على الليبرالية سياسياً واقتصادياً وليس على الماركسية. إن الإيمان الوحيد في قلب نجيب محفوظ (وفي قلب كمال) هو الإيمان بالعلم والمنهج العلمي، وهذا هو مقال الثلاثية الحضاري، وهو يتكرر في أعمال نجيب محفوظ الروائية بشكل أو بآخر، وخاصة في رواية " أولاد حارتنا ". إن الاستاذ عدلي كريم ينصح أحمد في الثلاثية بأن يكون له " حماسة أهل الدين، ولكن ينبغي أن تذكر إن لكل عصر أنبياؤه، وإن أنبياء هذا العصر هم العلماء " (ص109)، وهذا ما ترمي إليه رواية " أولاد حارتنا " حيث أن مقالها الحضاري هو مقال الأنبياء _ العلماء.
كتب نجيب محفوظ رواية " أولاد حارتنا " عام 1959 كرد فعل على فشل التجربة الناصرية بتحولها عن طريق الأنبياء إلى طريق الفتوات، بحيث أن الحلم الذي ازدهر بفعل الثورة انهار أمام جبروت الدولة وسيطرتها على المجتمع المدني ومؤسساته. ويقدم المقال الروائي للرواية أربع مصلحين على الشكل التالي:
مقال جبل: وهو مقال القوة العادلة.
مقال رفاعة: وهو مقال الرحمة وتطهير القلوب من العفاريت الكامنة في الأعماق (ص229، 245).
مقال قاسم: وهو مقال القوة العادلة غير الباغية والمحبة (ص364 ،388)، ويلاحظ أنه يشمل المقالين السابقين.
مقال عرفة: وهو مقال السحر، العلم (ص484).
ومقال عرفة هو الأمل، ولو خير الناس بين الجبلاوي والسحر (العلم) لاختاروا السحر (العلم) (ص551). فقد أصبح العلم هو الدين الجديد (ص514)، وهو الذي سيحقق الحياة الجديدة (ص484)، الحداثة. إن مقال عرفة هو المقال الحضاري لرواية " أولاد حارتنا ".
وفي رواية " الكرنك _1974" يلخص خالد صفوان مبادئه من أجل التقدم الحضاري على الشكل التالي:
_ الكفر بالاستبداد والديكتاتورية.
_ الكفر بالعنف الدموي.
_ يجب أن يطرد التقدم معتمداً على قيم الحرية والرأي العام واحترام الإنسان وهي كفيلة بتحقيقه.
_ العلم والمنهج العلمي هو ما يجب أن نتقبله من الحضارة الغربية دون مناقشة، أما ما عداه فلا نسلم به إلا من خلال مناقشة الواقع متحررين من أي قيد قديم أو حديث ".
وهذه المبادئ التي تقوم على صخرة العلم هي المبادئ التي يكررها نجيب محفوظ في كل أعماله الروائية كمقال حضاري لتحديث المجتمع العربي المتخلف.

#محمد_علي_سليمان (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات