أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد علي سليمان - المفكر والسلطة















المزيد.....

المفكر والسلطة


محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا


الحوار المتمدن-العدد: 6700 - 2020 / 10 / 11 - 14:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يقول الروائي ماريو فارغاس يوسا " حين يواجه القراء عالم الواقع، فإن التذمر الذي يثيره الأدب الجيد يمكن أن يترجم أحياناً إلى تمرد ضد السلطة أو المؤسسة أو المعتقدات السائدة ".
ويرى الدكتور محمد عناني في مقدمة كتاب " صور المثقف " أن الدكتور إدوار سعيد يتكلم عن " المثقف والسلطة "، وإن دوائر السلطة تتعدد صورها في الكتاب: صاحب العمل الذي يمارس المثقف مهنة لديه، الشركات التجارية التي تسعى للربح دون غيره ولا يعنيها في سبيل ذلك ضحايا الربح من الفقراء والمحرومين، إلى صورة الحكومة التي تسخر جهازاً بل أجهزة كاملة للحفاظ على مواقعها، إلى صورة الأيديولوجيات الجذابة الخادعة التي قد لا تدري العامة من وراءها. ويقع على المثقف عبء تمثيل العامة ومقاومة أشكال هذه السلطة جميعاً لا يدفعه إلا ما يؤمن به من قيم ومبادئ إنسانية عامة. وكما يقول الدكتور إدوار " ينبع تصويري للمفكر في صورة المنفي والهامشي والهاوي، وفي صورة مؤلف لغة تحاول أن تنطق بالصدق في وجه السلطة ".
إن المفكر لا يقدر أن يوجد كمفكر اجتماعي فاعل بشكل كامل على المستوى الفني والاجتماعي إلا في مناخ الحرية بعيداً عن مناخ السلطة، فقد بدأ الشكلانيون الروس قبل الثورة، وكانوا يتمردون على السلطة المستبدة، ولهذا كانت تعتبر الوجه الآخر للثورة الروسية. ثم وصلوا إلى قمة نشاطهم في بداية الثورة حيث كانت هناك الحرية، وكانت نظريتهم الأدبية تقوم على أدبية الأدب، أي ما يجعل الأثر الأدبي أدبياً، وكانت ترفض الأيديولوجيا. إن الشكلانيين الروس هم أبناء ثورة الحرية وليسوا أبناء ثورة الدولة البلشفية، ومعروفة نظرية لينين حول الأدب الحزبي، لا أدب خارج الحزب الشيوعي، وللكاتب أن يكتب ما يريد وللحزب أن يطرد من جنته من يريد. إن المفكر لن يزدهر في ظل السلطة، رغم أنه قد يبدع فردياً لا اجتماعياً، بل في ظل الحرية. وهكذا اصطدم الشكلانيون الروس مع الدولة، وقوبلوا بالبرود وقت تشكلت السلطة مع لينين، ثم توحشت تلك السلطة ضدهم مع ستالين. وحسب حنة أرندت في كتاب " أسس التوتاليتارية " فقد قارن بوخارين ستالين بجانكيز خان، وبلغت به القناعة أن سياسة ستالين تقود البلاد إلى الجوع، والدمار، وإلى نظام بوليسي. وهذا ما حدث فعلاً في عمليات التطهير التي أدت إلى اتهام آلاف من كبار الوجه السياسية والأدبية وإعدامهم. وإذا كان هتلر قد اقترح " سوف تقتل "، وحمل نخبة الحزب النازي على تطبيقه. فقد كان إعلان ستالين يقضي بأن " يشهد كل امرئ شهادة زور ". ويلخص كتاب " أدباء أمام المحاكم " هذه العملية " حينما ترفع دعوى على أحد المواطنين، يتحول كافة أصدقائه، بين ليلة وضحاها إلى ألد وأخطر أعدائه، وذلك لأنهم فقط، بوشايتهم به وبتقديمهم العون النافع لإثراء إضبارة الدعوى التي يعدها ضده جهاز الشرطة والمدعي العام، سيستطيعون إنقاذ أنفسهم، ولأن التهم تقوم، في الحالات العامة، على جرم مزعوم لا وجود له لذا فإن الحاجة إلى هؤلاء الناس على وجه الخصوص أمر ضروري جداً لإقامة الدليل وتقديم البينة. ففي سياق حملات التطهير الواسعة ثمة وسيلة واحدة فقط يمكن للمرء من خلالها أن يثبت ولاءه، إنها الوشاية بالأصدقاء ".
وفي أمريكا كان الوضع كارثياً على المفكرين والكتاب الذين غردوا خارب السرب الرأسمالي، حيث ظهرت المكارثية ووصلت على قمة توحشها في الفترة بين 1947 و1957، حيث بدأت انتصارات الاتحاد السوفييتي، ثم العالم الشيوعي، تخيف أمريكا والشعب الأمريكي. واستثمر عضو الكونغرس الأمريكي مكارثي ذلك للقيام بحملة ضد الشيوعيين من المفكرين باتهامهم بعدم الولاء لأمريكا وإن ولاءهم هو للاتحاد السوفياتي، وخاصة الحزب الشيوعي الأمريكي، بدون دليل، وكان يطلق على ضحاياه " جواسيس "، وينشر عنهم وثائق مزورة تتهمهم فيها بالخيانة دون الاهتمام بالأدلة، ثم كان يطردهم من وظائفهم، ثم كان يعمل على طردهم من أمريكا يساعده في ذلك مكتب المباحث الفيدرالية. والفرق بين حملات التطهير السوفيتية وحملات التطهير المكارثية: أن الاتحاد السوفييتي كان دولة من دول الاستبداد الشرقي، ولذلك كانت الحملات تأخذ طابعاً تدميرياً على المستوى النفسي والجسدي، وبدون محاكمة عادلة أو غير عادلة. أما أمريكا فكانت من الدول الديمقراطية، ولو من الناحية الشكلية، فقد كانت هناك محاكمات للمفكرين المغضوب عليهم، ولكنها محاكمات مسيسة وغير عادلة وعلى المتهم أن يبرئ نفسه من جريمة لم يرتكبها، ولكن النتيجة كانت هي هي، تحطيم المفكر إما عبر القتل، أو السجن، أو المنفى الداخلي أو المنفى الخارجي.
وفي البلاد العربية كانت هناك مكارثية أيضاً، مكارثية الاستبداد، وانعدام حرية الرأي، وأن الإنسان، وخاصة المفكرين الذي يغردون خارج سرب الأنظمة يتعرضون للمضايقة أو المنفى، أو السجن، ويشير طه حسين إلى أنه في أوج فترة الرجعية عام 1933 حاولت الحكومة المصرية بناء على طلب من الأزهر أن تحظر نشر كتاب قديم في التاريخ بدعوى أن في الكتاب إساءة إلى الإمام أبي حنيفة، ولكنها لم تحقق ما أرادت، وكان الرأي العام أقوى من الحكومة والأزهر مجتمعين. ثم أن هناك معركة كتاب طه حسين " في الشعر الجاهلي " لأنه اعتبر أنه تعرض للمقدسات الإسلامية، واتهم بالإلحاد. ووقف سعد زغلول ضد طه حسين في القضية، واعتبره مثل رجل مجنون يهذي في الطرقات، ولن يؤثر في الدين. ولكن النيابة العامة حفظت قضية في الشعر الجاهلي لعدم توفر القصد الجنائي. ومعركة كتاب علي عبد الرازق " الإسلام وأصول الحكم " حول قضية الخلافة الإسلامية، إذ أنه رفض فكرة الخلافة، مؤكداً أن الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، واعتبر أن الإسلام أقر الدولة المدنية لا الدولة الدينية في وقت كان الملك المصري فؤاد يطمح لخلافة المسلمين، ولذلك واجه الشيخ علي السلطة الدينية والسلطة السياسية، وطرد من هيئة علماء الأزهر، ومن كل وظائفه. وإذا كانت مؤسسات المجتمع المدني في المرحلة الليبرالية مع المفكر، فقد تغير الوضع الاجتماعي في مرحلة الثورة حيث أصبح المفكر يتعامل مع المجتمع السياسي، وتحولت مؤسسات المجتمع المدني إلى المجتمع السياسي، وحاول عبد الناصر أن يسيطر على المفكرين، وكان هناك مرحلة جزر تعقبها مرحلة مد في تلك العلاقة، ففي زمن كان عبد الناصر يزج الشيوعيون في السجون، وفي زمن آخر كان يخرجهم من السجون ويسلمهم أعلى المناصب في الإعلام، حتى منصب الوزارة. ولكن المشكلة بعد عبد الناصر أن المفكر لم يعد يواجه مؤسسات السلطة السياسية، بل أصبح يواجه أيضاً مؤسسات المجتمع المدني التي أصبحت في يد القوى الدينية المحافظة وحتى المتطرفة في مرحلة سيطرة البترو دولار، زمن قيادة السعودية للمجتمع العربي، عبر التهديد بالقتل أو القتل كما حدث، كمثال، مع المفكر فرج فودة، أو محاولة قتل نجيب محفوظ. وإذا كانت مؤسسات السلطة السياسية قد أرعبت المفكر العربي وأوصلته إلى الهجرة الداخلية أو الخارجية في أحسن الأحوال، وفي أفظعها إلى السجن أو الجنون، فإن المجتمع المدني الذي تسيطر عليه القوى الدينية المحافظة وحتى التكفيرية الجهادية منها، وليس بعيداً عن السلطة السياسية، وعبر هذه السيطرة على المجتمع المدني تحاول تلك القوى المتوحشة، أن تمارس تهديداً ضد المفكر العربي لا يقل عن تهديد مؤسسات السلطة السياسية.
لم تعد الأنظمة الحاكمة العربية بعد أن كثر الحديث الأمريكي والأوروبي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان تباشر سلطتها الأمنية مباشرة على المفكر إلا في أضيق الحدود، ولكنها من جهة أخرى أطلقت مؤسسات المجتمع المدني وخاصة المؤسسات الدينية المحافظة، عبر مؤيدين لها من القوى الدينية في حركة التفاف ضد الحكومات الغربية التي تطالبها باحترام الإنسان وحقوقه المدنية، ضد المفكر الذي يوحي فكره بالتمرد على السلطة السياسية، أو حتى بنقد " الدين " ولو من منطلق إصلاحي _ اليسار الإسلامي تكفير الدكتور حسن حنفي، وذلك عبر هؤلاء المؤيدون من القوى الدينية التكفيرية الذين استغلوا هذا المناخ المغلق وأصبحوا يعتبرون أنفسهم القيمين على الفكر والمفكرين وأكثرهم ينتمون إلى السلطة الدينية الراديكالية التي هي غير بعيدة عن السلطة السياسية الاستبدادية، ولذلك كثرت قضايا التكفير على الكتاب والمفكرين والتي تقام عبر مؤسسات المجتمع المدني على المفكرين التقدميين وممارسة الإرهاب الفكري ضدهم: أقيمت دعاوى ضد الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي والروائي جمال الغيطاني والباحث الدكتور جابر عصفور والكاتب عزت القمحاوي وآخرين حتى أنه تم الحصول على حكم قضائي بحجب جائزة الدولة عن الشاعر حلمي سالم، ولم يسلم من ذلك الهجوم حتى الوزراء مثل وزير الثقافة بسبب رأيه بالحجاب ووزير الصحة والدكتورة مشيرة خطاب بسبب منع الختان في مستشفيات وعيادات وزارة الصحة، بالإضافة إلى الدعاوى ضد الفنانين. وكذلك حسب الجرائد المصرية فإن عامل مطبعة يمكن أن يتسبب بوقف طباعة أي كتاب لا ينال رضاه رغم موافقة الجهة الرسمية المسؤولة عن إصدار ذلك الكتاب، كما حدث من منع رواية للروائي الجزائري رشيد أبو جدرة أو الأعمال الكاملة للشاعر اللبناني أنسي الحاج. وليس مصر إلا كمثال، فهذه الحالة قد تحدث في أي بلد عربي حتى أن أحد نواب البرلمان الكويتي منع دخول الدكتور نصر حامد أبو زيد من دخول الكويت لإلقاء محاضرتين عن تجديد الخطاب الديني ووضع المرأة في الإسلام، وقال " لن نسمح له بنشر فكره الإلحادي ونستغرب ما الفائدة المرجوة من محاضرات شخص لا يعترف بقدسية القرآن ". كما يمكن أن نشير إلى ما حدث مع الكاتب السعودي عبدالله الغذامي بعد نشره كتاب " الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية " وهو كتاب عن النقد التفكيكي، والدكتور الغذامي يسرد حكايته مع الحداثة في كتابه " حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية " الذي يقول عنه أنه " نموذج لحوادث أخرى في بيئات أخرى ". ولقد سرد الغذامي حكاية الهجوم العنيف عليه والذي نتج عن كتابه " الخطيئة والتكفير "، فقد شنت عليه حملة عبر مؤسسات المجتمع المدني، ويقول الدكتور الغذامي: " جاءني الدكتور فهمي حرب، وقال لي: ستجد من كتابك هذاـ الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحيةـ ما وجده طه حسين من الشعر الجاهلي. ولم أتصور قط سبباً لقوله، ولكن الأيام أثبتت أن الأمر أفدح من ذلك.. وكلهم يتفقون على نغمة واحدة مضادة وشرسة في رفضها، مع التشكيك بكل شيء بدءاً من ذمم الحداثيين وصاحب الخطيئة والتكفير واتهامه بشخصه وعلمه ووطنيته وعقيدته، ثم التشكيك بالنظريات مع التركيز على تنبيه المجتمع إلى هذا الخطر وتحريض الدولة ورجال الدين ضد هذا الطارئ الخطر.
كانت حرباً نفسية وعقلية واجتماعية امتدت خمس سنوات تصاعدت فيها من مقالات في جريدة الندوة إلى خطب في الجوامع وحروب منزلي ".
إنه " التفكير في زمن التكفير " وهي تجربة أخرى حصلت للدكتور نصر حامد أبو زيد لا تختلف كثيراً عما حدث للدكتور عبدالله الغذامي، وبدأت القضية على خلفية ترقية جامعية تقدم بها الدكتور نصر حامد أبو زيد للحصر على الاستاذية عن إنتاجه العلمي. لكن الدكتور عبد الصبور شاهين اتهم في تقريره الدكتور حامد بالكفر. ثم مضى الدكتور عبد الصبور إلى مسجد عمر بن العاص وألقى خطبة تدور حول الدكتور حامد، مردداً اتهامه بالكفر. ثم انتقلت القضية إلى كل مساجد مصر، وكانت الخطب تكفر الدكتور حامد، ثم انتقلت القضية إلى قاعة المحكمة بدل أن تبقى في نطاق الحوار الفكري. ثم رفعت قضية ضد الدكتور حامد للتفريق بينه وبين زوجته على أساس أنه مرتد. ثم هاجر الدكتور حامد مع زوجته إلى المنفى الاختياري في هولندا بعد صدور قرار التفريق.
وهكذا انتقل " الترغيب والترهيب " من مؤسسات المجتمع السياسي الأمنية إلى مؤسسات المجتمع السياسي المدنية، انتقل من أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية: الأمن والمخابرات.. إلى أجهزة المجتمع المدني والأهلي: المساجد، والصحافة، والجامعة، والمحاكم.. حيث بدا وكأن المجتمع السياسي هو الذي يحمي المفكرين العلمانيين من بطش القوى الدينية التكفيرية، بحيث تبدو أجهزة الدولة الأمنية وكأنها هي الحامي في وجه التكفير، والطريف أن الغذامي يتذكر لطف رجل الأمن السعودي الذي دخل حياته كطالب علم، طبعاً دون أن ننسى ما يحدث في مصر الآن، ورعب المثقفين المصريين من أجهزة المجتمع المدني التي تحولت إلى اللوياثان.
هذه المواقف تذكر، مرة أخرى، بالمواقف التي صدرت ضد طه حسن وكتابه " في الشعر الجاهلي " مع العلم أن طه حسين تعرض للحملة ضده من خارج الجامعة، من الأزهر. فقد تقدم شيخ الأزهر ببلاغ إلى النائب العام ضد طه حسين، وضد كتابه " في الشعر الجاهلي " وفيه طعن على النبي وعلى القرآن الكريم. على عكس ما حدث مع الدكتور حامد أبو زيد الذي تعرض للحملة ضده من داخل الجامعة، وأيضاً ضد علي عبد الرازق وكتابه " الإسلام وأصول الحكم " وكيف استغلت السلطة السياسية مؤسسات المجتمع المدني ضد المفكرين ومارست ضدهما الإرهاب الفكري والاجتماعي حتى تراجع طه حسين عن كتابه، وأعاد طبعه تحت عنوان " في الأدب الجاهلي "، في حين التزم علي عبد الرازق الصمت ورفض إعادة طبع كتابه في حياته. كما يمكن أن نذكر محاكمة كتاب الدكتور صادق جلال العظم " نقد الفكر الديني " وكتب أخرى كثيرة منعت تحت تأثير مؤسسات المجتمع المدني بتحريض من مدعي الحفاظ على المعتقدات الدينية، والتي فتحت لهم السلطة السياسية الطريق لمحاربة كل فكر لا ترغب به بحيث تبدو بعيدة عن ممارسة القهر الاجتماعي والسياسي والفكري، فالسلطات السياسية السعودية لم تطرد الكاتب عبدالله الغذامي ولكنها تحت ممارسة الضغط المستمر عليه، واستمر أكثر من خمس سنوات، كانت تدفعه للهجرة الخارجية، كما حصل في مصر مع الدكتور حامد أبو زيد والدكتورة نوال السعداوي اللذين اضطرا أيضاً للهجرة الخارجية، ودفعت الدكتور سيد القمني إلى الهجرة الداخلية والاعتذار عن ما كتب في نفس المجلة التي كان يكتب، مجلة روز اليوسف، فيها بعد تهديد القوى الدينية التكفيرية باغتياله، وكان أن التزم بما طلب منه، واعتذر ولزم الصمت حتى مرت العاصفة. لقد دفعت مؤسسات المجتمع المدني والقوى الدينية التكفيرية التي تسيطر على تلك المؤسسات المدنية بمباركة السلطة السياسية حتى المثقفين الحالمين بمجتمع العدالة الاجتماعية إلى العيش في رعب القلق على مصيرهم وحياتهم. وكما يقول طه حسين، حسب الدكتور محمد الدسوقي في تأريخه للفترة التي قضاها قارئاً للعميد " موقف السلطة من حرية الفكر في كل زمان ومكان لا يدعو للارتياح تماماً.. اتهمت أنا بالمساس بالمقدسات، واتهم العقاد بالعيب في الذات الملكية، واتهم سلامة موسى (وضحك طه حسين من كل قلبه) بإلقاء قنبلة في سينما مترو. الفكر لا يمكن مصادرته والعقيدة يستحيل سجنها.. لا سبيل لتخطئة الفكر بالعنف، وإنما الفكر في مواجهة الفكر ".
ومن الضروري قول كلمة عن محاولة الدكتور سعد الدين إبراهيم حول " تجسير الفجوة بين المفكر والحاكم "، والدكتور سعد الدين لا يأخذ بنصيحة الغزالي في كتابه " أيها الولد ": " والثالث مما تدع: أنه لا تخالط الأمراء والسلاطين ولا ترهم لأن رؤيتهم ومجالستهم ومخالطتهم آفة عظيمة.
والرابع مما تدع: ألا تقبل شيئاً من عطاء الأمراء وهداياهم وإن علمت أنها من الحلال. لأن الطمع فيهم يفسد الدين، ولأنه يتولد عنهم المداهنة، ومراعاة جانبهم والموافقة في ظلمهم ". الدكتور سعد الدين يقترح لتجسير الفجوة بين المفكر والحاكم من خلال ثلاثة جسور:
* تجسير الفجوة عبر الجسر الذهبي، وهو أسلوب التحاور بين المفكر والأمير بتجاوز الفجوة من أجل إصلاح المجتمع عبر حرية الفكر.
* تجسير الفجوة عبر الجسر الفضي، وهو أسلوب حد أدنى من حرية الفكر من قبل الحاكم الذي يقدم الحد الأدنى من العدالة، وبالمقابل على المفكر تقديم الحد الأدنى من احترام سلطة الحاكم.
* تجسير الفجوة عبر الجسر الخشبي، وهو أسلوب إضفاء نوع من الشرعية على سياسة الحاكم بحيث يكون من حق الحاكم تحديد السياسات، وما على المفكر سوى الطاعة.
ولكن يظل توصيف ابن خلدون للعلاقة بين المفكر والحاكم (القلم والسيف) هو الذي يتحكم بالعلاقة بين المثقف والسلطة، وعلى امتداد التاريخ العربي الإسلامي كانت الغلبة للحاكم في مواجهة المثقف، فالمثقف بنظر الحاكم ليس أكثر من مهرج البلاط.
ويبدو أن الطريق الخشبي لتجسير الفجوة بين المفكر والحاكم هو الذي يفرض نفسه اجتماعياً بسبب سطوة الحاكم وضعف المفكر.
لقد خلخلت قوى التغيير العربية النظام العربي الديكتاتوري بعد أحداث " الربيع العربي ط 2011، وأصبحت حقوق الإنسان والمجتمع المدني، مجتمع الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية محور حراك الشعوب العربية، ذلك أن أي نظام استبدادي لا يستمد شرعيته من قوته القمعية وحدها، بل وأيضاً من خضوع الشعب، والذي حدث أن الشعب تحرر من خوفه، وغادر عبوديته الطوعية، وطالب في الشوارع بحقوقه في الحرية والعدالة، تلك الحقوق التي كانت ستؤمن للمفكرين العرب حياة اجتماعية كريمة. لكن الرياح أخذت سفن الأحلام بعيداً في البحر الهائج، بحيث لم تستطع تلك السفن أن تصل إلى شاطئ النجاة. والأحلام لا تتحقق دائماً، وهكذا أجهض " الربيع العربي " بواسطة قوى عربية خليجية خلعت جلدها العربي، وقوى إقليمية استثمرت ذلك " الربيع العربي " لتحقيق أحلامها الإمبراطورية، وقوى عالمية أمريكية وأوروبية أرادت إعادة تقسيم جديد للعالم العربي. وكان أن انتصرت الثورات المضادة، وعادت الديكتاتوريات من جديد إما عبر الديمقراطية وإما عبر الجيش، وعاد الشعب إلى عبوديته الطوعية، وعاد المفكر إلى العزلة والصمت والمنفى الداخلي.



#محمد_علي_سليمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أيديولوجيا أيديولوجيا
- الأفكار وتغيير المجتمع


المزيد.....




- إماراتي يرصد أحد أشهر المعالم السياحية بدبي من زاوية ساحرة
- قيمتها 95 مليار دولار.. كم بلغت حزمة المساعدات لإسرائيل وأوك ...
- سريلانكا تخطط للانضمام إلى مجموعة -بريكس+-
- الولايات المتحدة توقف الهجوم الإسرائيلي على إيران لتبدأ تصعي ...
- الاتحاد الأوروبي يقرر منح مواطني دول الخليج تأشيرة شينغن متع ...
- شاهد: كاميرات المراقبة ترصد لحظة إنهيار المباني جراء زلازل ه ...
- بعد تأخير لشهور -الشيوخ الأمريكي- يقر المساعدة العسكرية لإسر ...
- -حريت-: أنقرة لم تتلق معلومات حول إلغاء محادثات أردوغان مع ب ...
- زاخاروفا تتهم اليونسكو بالتقاعس المتعمد بعد مقتل المراسل الع ...
- مجلس الاتحاد الروسي يتوجه للجنة التحقيق بشأن الأطفال الأوكرا ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد علي سليمان - المفكر والسلطة