|
مراجعات وأفكار ٢
محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن-العدد: 6751 - 2020 / 12 / 3 - 22:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الموقف في أوروبا وفي الكثير من بلاد العالم محزن للغاية وهناك بعض المظاهرات المناهضة لإجراءات الغلق التي بدأت الحكومات في تطبيقها من جديد بسبب الموجة الهجومية ألجديدة لفيروس الكورونا مع دخول فصل الشتاء. ولا أعتقد أن عمليات التطعيم ضد الفيروس التي ستبدأ خلال الأسابيع القادمة في أوروبا ستؤدي إلى رفع المعنويات بسرعة لأن الناس متوجسة ومتعبة وحالة القرف تسيطر على الجميع. الحكومات ترى أنها تحمي الناس من الموت بالكورونا ولكنها تنسى أنها تقتلهم بالبطالة وتدمير أرزاقهم ومستقبل أولادهم. وكنوع من الهروب المؤقت من هذه الأجواء الكئيبة رأيت أن أخصص هذا الجزء من سلسلة مراجعات وأفكار لموضوع ترفيهي ياخذ القارئ بعيدا عن الفيروسات ووجع القلب، ولكن الفقرة الأخيرة في المقال تحمل بعض الأفكار التي تستحق التأمل لإشغال البال وتحفيزنا على التفكير. المراجعة أرسل لي صديق من مصر نكتة سياسية تدعو للأسى ولكنها معبرة للغاية، النكتة عبارة عن رسم كاريكاتوري يظهر حمار يجر عربة كارو وكالعادة يتم تغطية عيون الحمار بشكل جزئي بحيث لا يرى إلا الأرض وهو يمضي بحمولته في مسيرته الأبدية، وعلى العربة الكارو يجلس جمل في وضع معكوس يجعله ينظر إلى الخلف فلا يرى الحمار. وكتب أسفل الرسم " الحمار لا يدري شو ساحب ولا الجمل يدري على وين رايح" أليس هذا هو حال العرب اليوم؟ الحمار هنا يرمز إلى القائد الذي ينطلق بشعبه "حمولته" إلى جهة غير معلومة لأحد وهو لا يدري بأحوالهم، والجمل أو الشعب الصبور لا يعرف إلى أين هو ذاهب وهو وحظه فقد تقع الحمولة في أي وقت أو تنتهي الرحلة بالسقوط في ترعة او الارتطام بمقطورة، المهم أن الحمار لن يتوقف إلا إذا ما حدثت كارثة وهكذا الحال مع قادتنا لا ينقذنا منهم ولا يوقفهم إلا الموت. ذكرتنى هذه النكتة بالمرة الأولى التي قمت فيها بقيادة عجلة نمرة ٣ أي بثلاث إطارات، كنت وقتها في السادسة من عمري وكانت معي أختي التي تصغرني بعامين وصديقتها ابنة جارتنا. استأجرنا العجلة على أن أقودها وهما يجلسان في المقعد الخلفي. ولكن عندما حاولت الانطلاق وجدت أن العجلة ثقيلة وهوما أستدعى أن يدفنا العجلاتي من الخلف في شارع منحدر قليلا، وبدأت العجلة في الانطلاق ولم أنجح في وضع قدمي على البدال الذي كان يدور بسرعة وفشلت في التحكم به وبدأت انظر إلى الاسفل فقط لمعرفة طريقة استعماله بشكل صحيح وتأصيل نظرية عمله ولم أعد أنظر أمامي إلى أن اصطدمنا برجل ضخم قام بإيقاف العجلة وقال لي انظر أمامك يا حمار. توقفت العجلة من جديد، طلبت من أحد المارة أن يدفعنا من الخلف، سألني أنت رايح فين بهذه البنات؟ فقلت له مش عارف. المهم انطلقنا أخيرا ونسيت مرة أخرى أن انظر امامي وبدأت انظر إلى البدال لحل لغزه وفهم نظرية عمله بعد أن نجحت في وضع أرجلي عليه، كل هذا وأختي وصديقتها يصرخان من الخلف "حاسب حاسب " وفجأة وجدتتني أدخل بالعجلة دكان جزمجي وارتطم بالمنضدة التي يعمل عليها، قام الرجل مفزوعا وبدأ يسبني ويصيح في وجهي ماذا تفعل بهذه العجلة هنا يا حمار؟ وبدأت صديقة أختي في البكاء من جرح صغير ألم بساقها. وكالعاده تجمهر عدد لا بأس به من المشاة للفرجة حتى تكتمل الفضيحة وهم يضحكون على خيبتي. قام الجزمجي بحجزنا في المحل حتى وصول العجلاتي لاستلام العجلة وتم ترحيلنا إلى البيت لاستكمال كورس الشتائم الموجهة لي من أمي ومن جارتنا أم صديقتنا الصغيرة لينتهي يوما كان من المفترض أن يكون سعيدا بهذا الكم من الإهانات لشخصي رغم إنني لم افعل سوى ما يفعله كل قادتنا من الانطلاق بعشوائية وبلا هوية. ومن يومها وأنا أتعاطف مع الحمير.
الأفكار في الأصل كان العامل يخترع معدته ويعمل بها لحسابه وما يجنيه من ثمار او أرباح بالطبع يكون له وحده. ولكن عندما يتمكن هذا العامل من تطوير معداته لزيادة الطلب على منتجاته ويبدأ في التوسع ويفتح محل صغير على سبيل المثال فإنه من البديهي أن يحتاج إلى عمال آخرين يعملون لديه مقابل اجر معين متفق عليه. ولكن بحسب نظرية ماركس يتحول هذا العامل إلى رأسمالي مستغل لأن من يعملون لديه لن يحصلوا على عائد العملية الإنتاجية بالكامل حيث سيحصل صاحب الورشة "العامل الأصلي" على جزء من العائد يتمثل في عدد معين من ساعات عمل من يعملون لديه أي نوع من فائض القيمة. وبناء على نظرية ماركس يكون من حق هؤلاء العمال الاستيلاء على كل وسائل الإنتاج التي وفرها لهم العامل الأصلي "الرأسمالي" واستبعاده تماما من الورشة التي أسسها بعرقه وخبرته كمورد رزق له ولمن يعملون معه. والمنطق البسيط هنا يقول إنه بدلا من عملية السطو هذه فإن بمقدور العمال إذا ما أحسوا بالظلم وأنهم لا يحصلون على أجور كافية وعادلة أن يتفاوضوا مع صاحب العمل لتحسين إحوالهم أو أن يتركوا هذا العمل ويبحثون عما هو أفضل. والفكر الغريبة هنا هي ما رأه ماركس من أن استغلال العمال هو المصدر الوحيد لتحقيق الربح للرأسمالي وهي فكرة غريبة راودتني وتستحق التأمل والتعليق من زملائنا المركسيين وياريت بدون عصبية وشتائم كالعادة. ويرتبط بهذه الفكرة سؤال آخر وهو لماذا تكون الثورة العنيفة والمدمرة كما رأى ماركس هي البديل الوحيد لحصول العمال على حقوقهم؟ وليس التفاوض كما أشرنا؟ وللتوافق مع مبادئ الماركسية في هذه الجزئية يتعين على العامل أن يظل أجيرا طوال حياته وأن يعمل لحسابه فقط ولا يسعى إلى تطوير عمله أو خلق وظائف جديدة للآخرين.. أليس كذلك؟! فكرة أخرى بدأت بشائر انفراج أزمة جائحة الكورونا بعد نجاح شركتي فايزر ومودرنا الأمريكيتين في التوصل إلى نوعين مختلفين من الفاكسين او اللقاحات لحمايتنا من الفيروس بنسبة نجاح لكل منهما تصل إلى 90% وهو شيء رائع لم يحدث أبدا في تاريخ علم الفيروسات التي تحتاج عادة إلى سنوات طويلة من البحث والاختبارات المعقدة. علما بأن هذه اللقاحات هي نتاج أبحاث أكاديمية وليس عمليات تصنيع. وقد ذكرني هذا النجاح العلمي الكبير بالحوارات الطويلة والمضنية مع بعض الزملاء الماركسيين في موقع الحوار. وهؤلاء ينفون أن تكون هناك أي قيمة مضافة لقطاع الخدمات عند قياس قيمة الناتج المحلي الإجمالي بدعوى ان ماركس قال إن القيمة لا تتحقق إلا من خلال عنصر العمل وعمليات التصنيع. وبناءا على هذا الرأي يرى هؤلاء الماركسيون إن قطاعات التعليم ومراكز الأبحاث والرعاية الصحية والسياحة والسفر والنقل والاتصالات والإنترنت وغيرها من الخدمات لا قيمة لها بالرغم من توضيحي لهم بأن قطاع الخدمات يمثل ما لا يقل عن ٦٠٪ من الناتج المحلي لمعظم دول العالم بما فيها الصين و روسيا ، وللعلم فإن هذا الحوار موثق في حواري الأخير مع القراء على صفحتي ولا مجال لإنكاره، وبالطبع ينطبق هذا التنظير الماركسي العجيب أيضا على اللقاحات التي يتم أنفاق البلايين للتوصل إليها في كل دول العالم تقريبا لإنقاذ أرواح الملايين من البشر. وبناءا عليه وكما اقترحت على أحد الكتاب المركسيين أنه يتعين علينا البدء في إغلاق الجامعات ومراكز الأبحاث والمدارس والمستشفيات وشركات الطيران وشركات النقل والإنترنت إلى آخره حتى لا يضيع الناس الملايين من اموالهم في خدمات لا قيمة لها وبدلا من هذا علينا أن نركز على إنتاج الأحذية والملابس والزيت والسكر والصابون إلى آخره. والحقيقة أن ماركس كان مفكرا ثوريا ومجددا في عصره ولو انه بعث اليوم بيننا فإنني لا أشك لحظة واحدة في أنه كان سيراجع الكثير من الأفكار الاقتصادية التي تبناها منذ قرنين لأنه سيدرك على الفور أنها لم تعد تصلح وأن كل الدول التي سعت بإخلاص لتطبيقها فشلت وانهارت وسببت الكثير من المآسي والمعاناة لشعوبها، ولكن هؤلاء الزملاء رغم سعة اطلاعهم يرفضون أي نوع من المراجعة أو السعي لتطوير أفكار ماركس لتناسب ما حدث من تطورات حياتية كبيرة وهم لازالوا يجترون ما قاله ماركس وإنجلز منذ قرنين. وأنا هنا لا أشتم ولا أتجنى على أحد لأنني أتحدث عما هو حاصل بالفعل وما ينشر على موقع الحوار شاهد على هذا. والموضوعية تقتضي هنا أن أذكر أن أكبر مرجعية ماركسية في موقع الحوار وهو الأستاذ عبد الحسين سلمان يختلف عن غيره في منهجيته الاكاديمية في مقالاته التي تتسم بالنقد البناء للماركسية وغيرها والشجاعة العلمية في طرح الأسئلة وهو ينادي دائما بقرأة ماركس وليس الماركسيين.
والخلاصة أن فكرة إمكانية وجود شيء يصلح لكل زمان ومكان فكرة خاطئة تماما ومنافية لطبيعة الحياة والوجود لأن الواقع في تغير مستمر وكذلك الأفكار باعتبارها انعكاس للواقع. العقل الأيديولوجي كما هو العقل الديني في أزمة كبيرة لأنه مقيد بأغلال الماضي التي حرمته من متعة الحرية والتأمل وكما أقول دائما إن من يحرم من متعة التأمل تتستطح أعماقه. إنه ينظر ولكنه لا يرى كما يقول المثل الفرنسي الذي تعلمناه من الفرنسيين.
محمود يوسف بكير مستشار اقتصادي
#محمود_يوسف_بكير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مشكلة الديون الحكومية في الفكر الاقتصادي
-
أمثلة للاشتراكية الديمقراطية والاستبدادية
-
مراجعات وأفكار
-
مفارقات محزنة فيما يحدث في فلسطين ولبنان
-
لماذا ننصح بالادخار في الذهب
-
أوهام وآمال الإصلاح الديني
-
نحن والعالم والأزمة النقدية القادمة
-
صالح كامل الانسان والمفكر ورجل الأعمال
-
كتاب اللامساواة لبيكيتي-ماركس الحديث
-
الديموقراطية وحقوق الإنسان ما بعد الكورونا
-
الكورونا ومستقبل النظام الاقتصادي العالمي
-
مستقبل الدولار وما يحدث حاليا
-
محمود يوسف بكير - كاتب وباحث في الشئون الاقتصادية والإنسانية
...
-
هل لازال هنآك أمل؟
-
من روائع الفكر الفلسفي
-
كيف تؤثر الثقافة في الاقتصاد
-
لماذا يكرهون المسلمين؟
-
ماذا يريد سفاح السودان الجديد
-
في نقد العقل الأيديولوجي
-
المشكلة الكبرى في الاقتصاد العالمي
المزيد.....
-
غزة: مقتل 10 أشخاص جراء غارة جوية إسرائيلية وسط -تطويق- مخيم
...
-
تظاهرات داعمة لفلسطين تعبر شوارع نيويورك وتدعو لوقف إطلاق ال
...
-
بوتين يبحث مع أردوغان الوضع في الشرق الأوسط
-
-حزب الله-: الجيش الإسرائيلي يستخدم قوات -اليونيفيل- دروعا ب
...
-
وزير الخارجية الفرنسي من القدس: القوة وحدها لا يمكن أن تضمن
...
-
لماذا ينبغي خلع الجوارب قبل النوم؟
-
إيران لمصر: لا نسعى وراء الحرب.. و-حزب الله- جاهز للمواجهة ا
...
-
احذروا.. -خطر خفي- وراء التهابات المسالك البولية
-
عاجل | هيئة البث عن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: البحرية ا
...
-
لماذا يعد -شات جي بي تي- سيئا جدا في الرياضيات؟
المزيد.....
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
-
الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ
/ ليندة زهير
-
لا تُعارضْ
/ ياسر يونس
-
التجربة المغربية في بناء الحزب الثوري
/ عبد السلام أديب
-
فكرة تدخل الدولة في السوق عند (جون رولز) و(روبرت نوزيك) (درا
...
/ نجم الدين فارس
-
The Unseen Flames: How World War III Has Already Begun
/ سامي القسيمي
المزيد.....
|