أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد سمير عبد السلام - أرشيف الكتابة .. قراءة في ديوان النشيدة ل .. علاء عبد الهادي















المزيد.....


أرشيف الكتابة .. قراءة في ديوان النشيدة ل .. علاء عبد الهادي


محمد سمير عبد السلام

الحوار المتمدن-العدد: 1608 - 2006 / 7 / 11 - 09:34
المحور: الادب والفن
    



في ديوان النشيدة لعلاء عبد الهادي ، ينقسم ضمير الأنا في تعارض تدميري مبدع للوحدة الذاتية ، و بدائلها التي اكتسبت مصداقية في تاريخ الفن و الحضارة على حد سواء ، مثل الأنا و الثقافة و الصوت و الواقع و غيرها ، فالأنا يدمر سياقه المعرفي و الثقافي ليناهض وحدته المختزلة فيما يسمى بالصوت المدرك أو الهوية ، و لم يأت هذا التدمير إلا من خلال تكرار سحري و عصابي للأنا ضمن علاقات سردية محتملة دائما ، هكذا يزول التعارض البدئي بين الصوت أو الكلام و الكتابة / القرين ، لأن الصوت متورط من البداية في السرد المناهض لهويته ، و المشكل لها في آن ؛ فما يقع وراء لغة الإخبار حدثنا فلان بكذا سوى مراكمة لأرشيف الكتابة من خلال وقفات الصوت و عدم قدرته على إبراز هوية ما ، إنه تمثيل مستمر أو خيانة للذات ؛ فالسرد يحتمل الإضافة و الإمعان في كشف الالتباس المصاحب للرواية التي يتقنها علاء الراوية ليخرج من تاريخه و ثقافته الحكائية من داخل انفجار الحكي في تدمير مرجعيته ، كأنه يحاكي الأثر بوصفه فراغا مقدسا للامتلاء .
هل هو التناقض الأول ؟ أم أنه التكوين الذي يطارد الصمت كغياب للتاريخ / الأرشيف الوحيد لنتاج الصوت ؟
* الأنا خارج أي هوية .
* الأنا انتشار صاخب للطاقة .
ثمة حرب داخلية يستدعيها مفهوم القوة أو الهوية تنشأ للمخالفة و تؤسس لجذرية التعارض المتوازي بين الضمائر التي يولدها الأنا و تشوه ثقافته أو تنقحها ، و لأن منابع التأويل عديدة و متشظية ، فإنها تتنازعني مثلما تنازعت الصوت في النشيدة ، و أدخلته في إطار مفتوح من العلاقات بالمقدس / الذاتي و المدنس و الملتبس و الفارغ و الواقعي اليومي الذي لا يفهم أبدا ضمن واقعيته نفسها .
الذات هنا انقسمت بوعي و استشراف للإكمال من خلال ماض لم يأت كاملا أو مفهوما ، إنها تعرف نفسها من خلال تيمة الشك و الحنين في آن ، ومن ثم يتداعى مفهوم الذات بانقسام نواته الأولي و الوعي بالإنتاجية التنافرية للانقسام و إعادة التمثيل للوحدة كمفهوم مجازي أو أرشيفي يناهض انتصابه الميتافيزيقي ، إنه تكرار تمثيلي لذات نثرية في انتشارها دون نواة أو قصيدة أو تاريخ أو انتساب لمفهوم بنيوي عن الفن و الثقافة .
لقد وصف جان بودريار Jean Baudrillard مركز بوبور Beabourg وفق نفور ساخر من التحديد الثقافي أو الجمالي ، لكنه تشربه من خلال هذا الوصف نفسه ، من خلال الرفض المؤسس في الذات لتجاوز هويته الأولى (1) و قد قرأ بودريار المبنى نفسه في كتاب الأشياء الفريدة من خلال تجليه الفريد كمسخ ، مناوئ لما وضع له ، ووقوعه في إغواء الشر الكامن في قوة الثقافة أو الجمال أو الذات حين يستسلم لعدم وضوح العالم بشكل أولي دائما .
و قد وصف حديث بودريار السابق من قبل Marie Killiam بالمتحف النووي الذي تنتهي فيه حدود الثقافة حيث يمثل المبنى فضاء معوقا دائما و رادعا مثل العصر النووي نفسه بتمثيله للتناقضات كأنه حداد ثقافي بتعويقه المستمر لاستقلالية المتحف (2) هكذا تبدأ الذات في النشيدة تجريد الصوت من اكتماله ليعوق ضمن رحلته بتحريف مستمر لمركزه فيتورط في اختفاء أو نهاية لهويته الأولى ، الصوت يكتب صمته ليكشف عن انفجار الحرف في نفسه التي هي ليست نفسه ، بل هي فراغ لحدود المعرفة من خلال محاكاة شريرة للرواية و منطقها التأريخي الزائف و الفريد في آن .
الشاعر يستنزف متحف الماضي يفجره من خلال المعوق المعرفي في نص المواقف و المخاطبات للنفري ؛ إذ يخالف تنقيحية الحرف بالصمت الروحي للوقفة تلك التي تعوق المعرفة المولدة عنها بالعدم و احتمالاته المولدة عن غياب الحرف من خلاله ، لسنا أمام مفاهيم بل حرائق غير واضحة من التعارضات المتجاوزة للذات ، فهي تعدل نفسها بطاقة الانقسام و السخط النووي على بنيتها المعرفية ، هل ينفرط المركز في تأجيل القرين و الصوت معا ؟ أم يستبدل كينونته بملاحقتها المستمرة في سياقات غير محدودة للقبض على فرادة التشويه كمقدس و قابل للمحو في أرشيف لم يكتمل ، بل لم يكتب .
* أرشيف الصوت ، نسيان لذاكرته .
للصوت تاريخ من الروايات العديدة المصحوبة بأطياف شعراء العشق مثل المجنون و كثير و قيس بن ذريح و غيرهم ، هكذا يعمل علاء الراوية من خلال استعادة أرشيفية فاعلة و مناهضة للأرشيف الممثل لهويته ، إن الصوت يضخم موروثه و ذاكرته من خلال حشد كمية كبيرة من الوثائق و الروايات ذات التعارض الأفقي لا التاريخي ، فبوعي أو بغير وعي يدمر أرشيفه الخاص للخلاص من نواته كصوت أو انتمائه للذات .
الشعر أرشيف للرماد لحرائق متكلم طيفي متفاعل بما يناهض ذاكرة المتكلم ، فالرماد نسيان للتاريخ للذات التي تعتمده في الكتابة ، التي تعبث بأطيافه و روائحه الساخرة من مرجعية الصوت الرمادية لوقوعها فيما لايمكن أن يكون تاريخا حين يعكس عوامل تدميره .
يقرأ ديريدا Derrida غريزة الموت وفق فرويد من خلال النسيان أو إبادة الذاكرة أو الطمس الجذري للأرشيف الذي أوشك أن يكون طيفا في مفهوم الأرشيف نفسه غير القابل للأرشفة في التحليل النفسي الفرويدي و السياسة و القضاء ، فالتدمير بشكوله الكونية ثم رسائل البريد الإلكتروني تمحو نزعة الحفظ المكاني للأرشيف و تلحقه بالشبح (3)
تدمر الكتابة النشيد المحفوظ بحفظه في مكان يحاكي الماضي في مستقبل سردي غير معروف و هو الذاكرة كموقع للاستبدال لانعدام الحضور في القراءة الضالة للماضي الموضوع في مكان لا يمكن رؤيته أو تحديده.
لقد انتزعت الذات من الذات فانفكت في فوضى شبحية شريرة تمحو الأرشيف لحفظه في موقع انعدام وضوحه الإبداعي ، مثلما انتزعت القصاصات من أرشيفها الصوفي أو الغنائي لتوضع في رماد الكتابة .
الراوية يتعمد النسيان الكامن في ذاكرته و ينبئ ببعث الرواة و الشخوص من الأرشيف وفق مواجهة انتشارية للزمكان الأول خارج مجال الحفظ و هو الذاكرة ، ولكنه النسيان المولد للأرشيف الآخر المصحوب باستنزاف ذاتي للذاكرة / الحاملة للهوية في اتجاه اللعب بذرات الرماد التدميرية المرحة المتولدة عن استبدال أبوية الذات / الأرشيف .
* السرد .. إبحار في النفي التمثيلي :
* السرد لعب خارجي أو عبث بالممثل الأدائي .
تذوب حدود الداخل و الخارج داخل حدود الأنا في تمثيلاتها السردية المتنوعة ؛ فالانشطار الأول قداسة للسرد الخارجي / المفجر للداخلي الذي اكتفى بالمراقبة لما تحققه الكتابة المناوئة للهوية ؛ فانفصل فعل المراقبة عن الهيمنة القديمة على / الدماغ ؛ و استحال الصوت الممثل للهوية الروحية إلى كتابة دون تدخل أو تحقيق فعل مطابق للامتلاك الذاتي .
لم يحدثنا الصوت إذا عن نفسه أو عن هويته المقدسة ، و لكنه استسلم للإغواء اللاواعي للحكاية النصية التي لم يكتمل تحققها في كتاب العشق العربي الذي أنتجها ؛ فالصوت نص مكمل للسرد المتخيل بوصفه مرجعا غيريا للهوية ، لقد وضع الصوت في مواجهة نفسه بالكشف عن إمكانية استبداله بالفراغ كموقع لحكاية لم تحدث . إنه استباق للصوت و ليس الصوت نفسه ؛ فأشباح الحكاية و تأويلاتها الكامنة في إعادة سردها تلازم خصوصيته .
هكذا يحول السرد متكلمه إلى مؤد خارجي دائما بينما يكتفي الأول بمشاهدة اللعبة المناهضة للفعل السردي من خلاله ، لأن الأداء فيه مدمر للفعل الحقيقي المنسوب للسارد أو من يتمثله السارد ليهرب من كينونته و يصفها في آن ، كأنه يعبث في محراب الأب المقدس / الهوية مقتولا و مستبدلا بعمل يحرف استقلالية الأنا بانفجارها السردي النووي .
ما الحكي ؟
إنه الطاقة الاختلافية المحملة بالموت دائما في عمليات إعادة الإنتاج و التأويل فالصوت يحكي مقاطع مبتورة من المواقف و المخاطبات للنفري ليواجه النفري بالسرد كطاقة لاعبة بمرجعها ، مثلما أول حكايات الملك و العشق بإيحاءاتها الاستقبالية كأحداث شبحية مراوغة و مقاومة لوجودها بالعاصفة الكامنة في ديناميكية الحكاية نفسها إذ تحول المتكلم و البطل كليهما إلى أداء مجرد من الذاكرة في اتجاه الآخر / المولد من طاقة السرد الهاربة دوما مما بنته من مواقع .
يكتب بول ريكور عن علاقة المعرفة بعلوم الإدراك المعاصرة ضمن تداخلها مع الفلسفة و التأويل ، فيسائل نزعة الامتلاك المصاحبة للهوية الموضوعة في الدماغ ، فيسائل التفكير الدماغي في علاقته الملتبسة بالجسد الذي ينفصل عن إمكانية اعتماده في حدس أو دماغ في اتجاه لغة سردية narrative language و عمليات مراقبة للعلاقة المعقدة الحادثة بين الجسم و الأجسام الأخرى في حلة تمثيل نصي مغرقة في انعدام تحديد الأنا و الآخر معا ضمن تعبير ريكور :

. One s own body may belong to me or to another person (4)
حيث تستبدل الدماغ / المنتجة للصوت بالأداء التجسيدي لأرشيف الصوت المملوء بالمغاير و التكوين الطيفي الذي يجمع بين هنا و هناك في التراث و تأويله الآني و القرين / الجسم المنفلت من الأب / الذات أو الصوت أو الدماغ .
في مقام الحرف يضع الشاعر وقفة النفري في مواجهة الوقفة ليستلب الصمت في تداعيات الحرف الخفية فيذكر من كلام النفري :
" الحرف ناري ، الحرف قدري ، الحرف حتمي من أمري ،.. الحرف حجاب ، و كلية الحرف حجاب ، و فرعية الحرف حجاب . اخرج من بين الحروف تنج من السحر ، فالحرف فج إبليس ..الواقف لا يعرف المجاز ، و إذا لم يكن بيني و بينك مجاز ، لم يكن بيني و بينك حجاب " (5).
بينما يقول النفري ما نصه :
" ولن يقف الصوفي في رؤية الله حتى يخرج عن الحرف والمحروف. الحرف حجاب: والعلم حرف, والمعرفة حرف, ولن يفلح المتصوف ما لم يخلف الحرف وراء ظهره. لأن الشك يسكن في الحرف, والكيف يسكن في الحرف, فالحرف فج إبليس. الحرف لا يعرف الله, والله يخاطب الحرف بلسان الحرف, والحرف أعجز من أن يخبر عن نفسه, فكيف يخبر عن الله ? الحرف دليل إلى العلم, لكنه لا يلج الجهل: فالعلم في الحرف, ومن اجله ينحت الحرف في دهليز الله. والولي لا يسعه حرف. إذا ثبت الحرف للصوفي, فما هو من الله, ولا الله منه. والحرف لا يلج الحضرة " (6)
لاحظ هنا أن الشاعر استبدل القيمة الكامنة في مدلول " الصوفي " / العارف بالشك الذي يولده الحرف في الصوفي نفسه أو الواقف ، فهو أسير لما يطرده دوما من قداسة الوقفة ، بوصفه تأويلا حيا للوجود الحرف ينحت الذات خارج قيمة العارف من داخل حدود الوقفة نفسها ككتابة للأثر ، للمحو المقصود للفاعل / الصوفي ، الحرف ينتج الشك و لهذا لا يعرف الله في كلام النفري المحذوف من النشيدة ، و لكنه يكتب الأنت في تشكيلها الأدائي الخارج عن حدودها ؛ إنه تصوف للغياب لإقصاء القداسة عن الذات العارفة بالشك في فاعليتها ، فهي تصف نفسها لدى النفري دوما من خلال الوقفة خارج التكوين ، خارج الحرف و المعرفة و المجاز ، و من ثم فالفاعلية مطرودة منذ تكوينها الأول المكتوب بهيئة الفاعلية ، إنها تغرق في تقديس الحرف ، رغم أنه عدو هويتها الخارجية / الوقفة أو الرؤية .
يقول النفري :
باب الرؤية هي الوقفة, وإن خرج الواقف من رؤية الله احترق (7)
كيف يخرج الواقف / الفاعل من الرؤية ، هل يملك فاعلية الخروج أو الاندماج الكلي بالموضوع ؟ و كيف يحترق في الحرف ؟ إن الفاعل يمارس الإغواء خارج الوقفة بإثبات احتراقه القادم المشروط ، فهو مهدد بالعودة إلى الفراغ الأسبق في تكوينه و المستبدل وفق آليات الحرف المتغيرة بحالة الوقفة المقدسة .
و تتوالى تعارضات الوقفة في نص النشيدة نفسه في قول الشاعر :
" فاكتب من أنت / لتعرف من أنت / فالحق لا يستعير لسانا من غيره " (8)
كيف يكتب الكاتب نفسه ؟ هل يستبدل فاعلية الغياب الكامنة في الحرف ؛ ليقف في الكتابة ؟ هل يمحو الصوفي بالكاتب الذي يكتب ما هو غير قابل للتقديم سوى في الحرف المجرد من الفاعلية المعرفية ؟
إننا أمام سرد يمثل الهوية وفق سرد تمثيلي وفقا لريكور و يستعير الفاعلية في لسانه ليستنزفها في ذاته .
يقول " في البدء كنت / لما تقضى نهاري / و انفتح المدى ... تغضنت نافذتي و أنا أرجع البصر إلى غيمة شاردة " (9)
و في سفر التكوين :
" في البدء خلق الله السموات و الأرض وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور فكان نور رأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور والظلمة.
ودعا الله النور نهارا والظلمة دعاها ليلا.وكان مساء وكان صباح يوما واحدا
وقال الله ليكن جلد في وسط المياه. وليكن فاصلا بين مياه ومياه " (10)
إن استعادة لحظة البدء تؤسس لإعادة التسمية و النظر في لحظة الإدراك بوصفها لحظة أصيلة في وصف الذات التي اكتسبت الأولية أو البدء لتعلن خروجها من مرجعيتها من داخل حضورها الآني في المشهد فقد حضرت في ماض مضاد للمرجعية ، الذاتية الفاعلة ، إنها إيحاء بالأثر المستبدل دوما دون أن يفقد قداسة البدء ، إنها الكتابة التي تواصل تكوين الدال و الحرف في أسماء و تكوينات شبه ذاتية إذ تجمع الأنا بالأشياء اليومية و ما هو كوني أو بصري استقبالي لسرد الهوية الجمالية خارج منطق الجمال ، فالأنا نقطة للبدء في موقع البدء لا معنى البدء ، نقطة للتفاعل السردي بأي شيء مؤول لحضورها و فاعليتها السياقية المتجددة دون أصالة للفاعلية ؛ فهي تستنزف الضمير أنا من داخل تكراره العصابي التدميري :
" وحدي أنا / هذي يدي ، مسكونة بالريح / فأرف بين أصابعي و أدور / أخفي ملامحي / فتلمني و تطير " (11) الانعزال الأدائي للآثار الفاعلة باسم الأنا يدخل الهوية مجالا غائما فتعلو نزعة الخروج من الفعل الواعي في اتجاه اللعب بعمليات المراقبة لما يحدث من تمثيل باسم الأنا ، فاليد تكثف شاعرية الوجود بما يحمله من فراغ و مراوغة للاختفاء الحامل للأثر في طاقته الصاخبة / البديلة عن عدمية الحريق من داخلها ، فالأثر ينتج غياب الرؤية لا الأداء الحركي المغاير للوجود الأول .
" هذا هو جدل الفتى متجلد / و أنين شكواه صهيل في البراح / هل يفرغ الأعمى حين يحمل دهشة الرائي / من لا يرى / و يغيب طي سؤاله / كفن تراءى في الفراغ " (12) .
في مقام الحرف يضع الشاعر المحذوف في مواجهة المكتوب بوصفه قابلا لمحو آخر و هكذا ، فالمعرفة تساؤل دائم حول العمى ، وغياب صوت الهوية في جسد الآخر / الحصان أو الكفن الصارخ المعلق في طاقة الفراغ .
إننا بصدد علاقات لحجب الأنا في تداعيات الحرف ، لسنا بصدد قضايا وجود أو معرفة ، فقط مرح لعلاقات انتشارية تكوينية قيد التسمية و العمل في آن .
و في مقام العشق ، يوغل الصوت الشعري في علاقات عشق مكتوبة بصياغة إخبارية توحي بحدث يقاوم الحدوث ؛ إذ يرتد في مبتداه إلى الكتب و أحاديث الرواة ليكملها من داخل سردها التخيلي ، مما يعزز من زيف الرحلة بوصفها قراءة حية للوجود في العالم ، نحن بصدد تأويلات استبدالية للممكن و لو لم يحدث هذا الممكن قط ، فهو مستنزف و يعاد تشكيله بوصفه وجودا مخبرا عنه ، لقد استدعى الصوت الشعري عشيقات للشعراء من كتب التراث العربي ، محتلا موقع الشاعر / العاشق من خلال ما حفظه من تراث العشق ، فهو يحور كينونته العارفة بالإغراق التمثيلي في حكايات الرواة المشكلة لوعيه و لا وعيه ، فالكينونة تمثيل لما لم يعرف من الماضي و مازال في حالة عمل فيما يشبه مكتبة بابل لبورخيس و أدب الاستنزاف ما بعد الحداثي عند جون بارث ، وقد تجسد هذا المحور من خلال ثلاثة طرق هي :
1 – إكمال اللعبة من داخل منطق اللعبة :
عندما استدعي الشاعر كثير عزة من خلال إحياء محبوبته أكمل ما بدأه كثير من لعب بالعشق من خلال الإخبار و التحقق الموضوعي لما هو غائب ، لقد دمرت عزة العشيق بالعشق المولد من الحكايات لتنفي مركزيته من خلال عملية إكمال ساخر للعبة التي بدأها كثير ؛ و قد شارك الدكتور طه حسين في اللعبة المستنزفة للعشق عند كثير ، فذكر أنه يعده من الغزليين ليخرجه منهم لأنه تعاطى هذا الفن كتمرين شعري لا ممارسة لحب ما ، فهو متناقض في حبه مثلما في شكله و موقفه السياسي (13)
لم يكن كثير جادا و إنما أسس لزيف اللعبة من خلال التحوير الإبداعي لطه حسين و الممارسة الجنسنصية عند راوية علاء عبد الهادي إذ يقول :
"فجعلت أسامرها حتى لانت ، و بت عندها الليلة ، و لا أظن أن كثيرا قد رأى ما رأيت ، و خبر من غنجها ما خبرت ، فسألت نفسي كيف يكون حال كثير لو منحته ما لا يطيق البيان عن وصف حلاوته " (14) .
إن الصوت يقصي الفعل من خلال ما يحيطه به من هالة للغياب و الاختفاء و التكتم ، فهو يستبدل العشق بالأداء المخيل المولد من حكايات كثير نفسه في لعبة لا تنتهي .
2- العاشق البديل :
ما حدث مع عزة هو ما حدث بين الصوت و لبنى / محبوبة قيس بن ذريح ؛ و لكن الاختلاف جاء من خلال الخيانة البنائية للعاشق / البطل .
لقد احتل الشاعر موقع البديل عن قيس في مواجهة المحبوبة البديلة عن لبنى ، فأصبح جزءا من الحكاية نفسها لا اللعبة ؛ لقد دخل الصوت التراث و لم يرجع هذه المرة إذ استنزفته الحكاية في اتجاه أرشيف للكتابة لا الصوت من داخل رغبته في استنزافها ؛ فمن المعروف أن قيس بن ذريح تزوج – في حكايات الرواة – من شبيهة بلبنى فواجهته بزواج من آخر ، و يرى طه حسين أنها من أجمل ما أبدع الرواة النثريون من حكايات للعشق لتطابقها الزائف مع أحداث العشق في الواقع (15) .
3- النص المبجل يسخر من قداسته :
إن الدهشة التي يواجه بها الشاعر شخصيات التراث ، تنطوي على قداسة و تبجيل مصاحب لكينونة الصوت و رحلته التي ينكسر فيها الزمن لصالح الانتخاب المقدس لحكايات الشعراء العشاق ، و لكن الشاعر يحرص في كل مرة على السخرية من بطولة العاشق الأول ؛ فيشعرنا أنه أكثر فحولة منه و أنه قام بمغامرة تستعصي على الأول ، إن علاء عبد الهادي يستعير السخرية الفلسفية الحضارية من النموذج الثقافي اليوناني الكامن في وعيه وفق فعالية جديدة تؤسس لغلبة قصيدة النثر ضمن تراثه العربي بما يحمل من أزمة تنطوي على قداسة الإيقاع و هيمنته الثقافية على الكتابة النثرية المفتوحة .
و بهذا الصدد يرى ول ديورانت أن من المفارقات المضحكة في الإلياذة و الأوديسا أنهما كانتا موضع قداسة و إجلال رغم ما فيهما من صور هزلية للآلهة اليونانية ، ثم قضى ما هو هزلي فيهما على نزعة التبجيل (16) .
لقد سخر التراث من هويته و تحول للكتابة من داخله كما هو في الديوان .
و تعلو نغمة التجسد في مقام الكتابة ، ذلك الذي يقع في تناقضات التوقيع بالوجود و الفراغ المناهض للمادة الأولى يقول :
" تأخرت عن التوقيع قليلا / سيوقع لي صديقي صباحا جديدا / الوقت بعد الفجر بكثير / سيأتي القطار الذي لن يمر سريعا ... / ستمرق الأشجار سريعا / أما أنا فسأمر دون أن يلقوا علي تحية المساء " (17)
المرور يغير الأثر / موقع الذات خارج التوقيع المشبع بالحضور و الغياب معا .
وفي مقام البلاد تلتبس القوة السياسية التي تعتمد على الانتخاب و الإقصاء بالتحلل و الذوبان و تأجيل ما يمنحها هوية و حضورا ضمن المفهوم السياسي نفسه ، يقول :
" تحيا الشمعة دون حياة / قبل أن تمتد إليها ذراع النار / و حين تعيش تموت .../ أشعر بآلام خطاي / يجب أن تتوقف عن التدخين / كيف / و أنا لم أتوقف دقيقة عن الموت ؟ " (18)
الحريق قوة و ذوبان للقوة في اتجاه الطاقة المعلنة للاختفاء المناهض للإقصاء و الحماسة .
و في مقام القصيد يبعث الصوت الكتابة من مكمنها في داخله ، فتصير النشيدة / النشيد دالا مستبدلا بالاختلاف التفكيكي يقول :
" فلف روايتي في الشعر شك / كقد النار يرقص في الفؤاد
فخنت روايتي و كتبت شعرا / أعادي القوم أحلب في الرماد " (19) .
الشعر موقع للاختلاف و تدمير مدلوله الأول من داخله .
الهوامش :

1- راجع :

Jean baudrillard / vivisecting the 90 s / an interview with graham knight and caroline bayard on:
www.uta.edu/english/apt/collap/baudweb.htm

2- راجع :
Marie killiam / Baudrillard s nuclear museum and the end of culture on :
www.garnet.acns.fsu.edu

3- راجع :
Jacques derrida / mal d archive une impression freudinne in Galilee / Paris 1995.

4- راجع :
Paul ricoeur and jean Pierre changeux / what makes us think tan by m.b.debevoise on
http://pup.princeton.edu

5- راجع : علاء عبد الهادي / النشيدة / هيئة الكتاب 2005 / ص 13 و 14 .
6- راجع : النفري / المواقف و المخاطبات / ضمن مجتزأ بمجلة نزوى مصحوبا بمقدمة لجون آربري ترجمها سعيد الغانمي .
7- راجع : النفري / مصدر سابق .
8- راجع : علاء عبد الهادي / السابق / ص 15 .
9- راجع : السابق ص 16 و 17 .
10- راجع : التوراه / سفر التكوين / نسخة إلكترونية على الموقع :
www.onlinebible.net
11 – راجع : علاء عبد الهادي / السابق / ص 30 و 31.
12 - راجع / السابق / ص 48 و 49 .
13- راجع دكتور طه حسين / حديث الأربعاء / الجزء الأول / دار المعارف بمصر / سنة 1954 من ص 277 إلى 285 .
14 – راجع علاء عبد الهادي / السابق / ص 62 .
15 – راجع : دكتور طه حسين / السابق / ص 200 و ما بعدها .
16 – ول ديورانت / قصة الحضارة / م 3 ج 6 ص 384 .
17 – راجع : علاء عبد الهادي / السابق / ص 108 و 109 .
18- راجع : السابق / ص 141 .
19- راجع : السابق / ص 172 .



#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقاومة الهامش في ديوان المدخل إلى علم الإهانة ل ..مهدي بندق
- العقل يتجاوز إطاره
- ارتباك الواقع في مجموعة هشاشة عقول ل نبيل عبد الحميد
- جماليات الاندماج الكوني.. قراءة في الغزلان تطير ل محمد المخز ...
- هارولد بنتر .. و الاستعادة المقدسة لتموز
- فرح التفكيك .. قراءة في ديوان لك صفة الينابيع ل .. علاء عبد ...
- التسامح الحضاري في سيرة نجيب محفوظ و أحلامه
- الأدب يفجر أسئلة العمل و العمل الافتراضي
- عبد الرحمن منيف ... الوجه الجمالي للشخصية العربية
- ما بعد الحداثة... و جماليات التناقض..قراءة في الأشياء الفريد ...
- مطاردة الفراغ... قراءة في ما بعد الحداثة و ما بعدها و الملام ...
- الفكر النسائي من قضايا الهوية إلى تجاوز الواقع
- تحولات المألوف .... قراءة في رقصات مرحة ل محمد حافظ رجب
- صدمات سياسية ...قراءة في عرض مجاني للجميع لأحمد الشيخ
- قضايا النشر و اليسار في الحوار المتمدن
- موسيقى السرد .... قراءة في البغدادية لسعيد الكفراوي
- تجليات التداخل و التجاور- قراءة في نثار المحو لجمال الغيطاني
- الذاكرة و استشراف الحياة قراءة في عصافير النيل لإبراهيم أصلا ...
- سيمفونية الروائح و الأمكنة - قراءة في مجموعة أوتار الماء لمح ...
- الإنتاجية الإبداعية أهم شروط الإصلاح


المزيد.....




- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد سمير عبد السلام - أرشيف الكتابة .. قراءة في ديوان النشيدة ل .. علاء عبد الهادي