أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - بضعة أعوام ريما: الخاتمة















المزيد.....

بضعة أعوام ريما: الخاتمة


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6645 - 2020 / 8 / 13 - 17:42
المحور: الادب والفن
    


في صيف عام 1976، عندما زرت بلدة رأس العين للمرة الأولى ( وكانت الوحيدة على أيّ حال )، لم يَدُر في خلدي أن خطى أسلافنا قد سبقتني إليها. بعد ذلك، وكنت في سنّ أنضج نوعاً، وقعَ بَصَري على صورة قديمة، محفوظة ضمن ألبوم الأسرة. عادةً، فإن الصوَر العائدة إلى ذلك الزمن كانت تؤخذ بكاميرا خال أمّي؛ وهيَ الكاميرا، التي بقيت محفوظة في منزله كما لو أنها آبدة أثرية. في الصورة، كان يبدو كلّ من جديَّ لأمي وهما محاطان ببعض الأولاد والأشخاص الغرباء.
" أهما هنا في عين الخضرة أم الزبداني؟ "، سألتُ والدتي. فكم أدهشتني، حينما أكّدت أن تلك الصورة مأخوذة في " الجزيرة "؛ أي المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد. مبعث الدهشة، هوَ ما أحاط أصحاب الصورة من مناظر مونقة، مخضوضرة، تشبه إلى حدّ بعيد ما ألفناه عن طبيعة ريفنا الشاميّ، الساحر. وما ضافرَ من فضولي عندئذٍ، أنّ الأمّ أعلمتني بحقيقة تملّك أبيها لمزرعة في تلك الأنحاء، لم تلبث أن دُعيَت باسمِهِ؛ " الصالحيّة ". أعوام قليلة، على الأثر، وحضرت امرأة من تلك القرية، المشرفة على نهر الخابور، لزيارة الجدّة ريما، المقيمة لدينا غالباً. برفقة تلك المرأة الغريبة، المُسنة نوعاً، كان ثمّة شابّ بمقتبل العمر قدّمته لي وهيَ تشير باحتفاء إلى ناحية مضيفتها: " هذا هوَ حفيدي، المفروز للخدمة العسكرية بدمشق. لقد أسميناه صالح، تيمناً باسم بافي أوسمان، رحمه الله ".

***
عامودا، كانت في زمن أسلافي هيَ حاضرة منطقة الجزيرة، الأكبر. بين هذه البلدة ومدينة حلب، فإنّ الحافلة الكبيرة ( الباص )، الوحيدة، التي عملت آنذاك في خدمة الأهالي، كانت من أملاك " صالح شملكي ". هذا الجدّ الوَجيه، الشهم والجواد، يبدو أنه اكتشفَ لاحقاً رأس العين ( أو سري كاني بالكرديّة ) عندما كان يتجوّل ذات مرّة في سيارته الخاصّة خِللَ تلك البلاد، البعيدة. سوء أعماله التجارية في الشام، جعلت جدّنا يقبل بمشورة أحد الأصدقاء عن فائدة الاستثمار في الجزيرة؛ لكون أراضيها خصبة ووفيرة المياه، وفوق ذلك شبه مشاعيّة. ثمّة، ما أسرعَ أن اهتدى إلى بقعة رائعة، شبيهة ولا مَراء بالفردوس الدمشقيّ، أين سيستهلّ رويداً بتأسيس مزرعته، المزدهرة. هوَ العليل بالروماتيزم ( ربما جرّاء العمل المُضني على حافلته الكبيرة )، كان قد استبشرَ بوجود عين الكبريت في ذات المنطقة والتي مياهها شفاءٌ للعليل؛ مثلما اشتهرت بذلك. اضطرار جدّنا للعمل بنفسه على الحافلة، كان مردّه طيش من اؤتمن عليها، وهوَ ابنه البكر. هذا الابن، سبق له أن رافق والدته إلى الجزيرة؛ هيَ من شاءت الخدمة في منزل أكرم جميل باشا وذلك نكاية ً بالجدّ الذي طلّقها بعدما تزوّج آخر نسائه الأربع؛ جدّتي ريما.
ولكن هيَ ذي أسرةٌ صديقة، تبادرُ بدَورها للخدمة في مزرعة الجدّ. إنّ عشير، المنحدر مثلنا من إحدى العشائر الدومليّة، كان آنذاك فقيهاً معروفاً في المنطقة. هذا الرّجلُ الطيّب والطريف، صارَ من أقرب أصدقاء صالح، وخصوصاً حينما شاء الانتقال مع امرأته وأولاده إلى المزرعة. من ناحيتها، كانت ريما شبه متوحّدة ثمّة، حيث لم يكن في معيّتها سوى فتاتين حَسْب؛ هما ابنتها الصغرى وحفيدتها من ابنتها البكر، التي كانت الثمرة الوحيدة لزواجها الأول. هاتان الصغيرتان، الأثيرتان جداً على قلب الجدّ، اعتادتا على الاندفاع إليه في كلّ مرة يحضر فيها من الخارج، لتصرخا به وهما تجذبان شعرَ رأسه بحنق ومَوْجدة: " نريد العودة إلى الشام، فما قعودنا في هذه البلاد الغريبة، الموحشة؟ ". جدّنا، ذو الطبع الودود والمرح، كان عندئذٍ يَعدهما بقرب الفرَج فيما هوَ يتضاحك بتسامح، مُماهياً ما يعتمل في داخله من قلق وهواجس: صالح، المطعون الكرامة بشدّة جراء تصرّف مطلقته، اللئيم، فإنه كان إلى ذلك مهموماً لعجزه عن تأمين المال اللازم للمضيّ قدُماً في استثماراته، الزراعية. إذ علاوة على أمواله المُشتتة بدمشق في مشاريع خاسرة، فإن جدّنا شعرَ بمرارة خيانة القريب. فلم تفِ شقيقته الوحيدة، الأصغر منه سناً، بما أقسمَت عليه من دفع بقية ثمن منزله الدمشقيّ، الكبير، الذي سبق واشترته منه في عام مضى.

***
على الرغم من أن اسمها يَعني " مباركة " بالعربية، غيرَ أنّ بيروزا أبصرَت نور الحياة قي عشيّةٍ من زمن الحرب والوباء والإبادة. أمّها ريما، فقدَت بوباء الكوليرا أبوَيها وأخواتها جميعاً، باستثناء شقيقتها الكبرى، الأثيرة؛ نظيرة. هذه الأخيرة، هيَ من كانت سببَ عودة أسرتها إلى الموطن الأول، المُستلقي في حضن " مازي داغ "؛ أيْ جبل العفص، نسبةً لأشجار الغابات هذه، المنتشرة فيه بكثافة. أما في اللسان المحليّ القديم، فإن التسمية كانت " ميقر " ( هيَ على الأرجح تحريف للكلمة المُركبّة " مي كار ": صنع الخمر ). هذه المنطقة، كما أشرنا مراراً، واقعة بين ماردين و ديريك، وكانت تضمّ عشيرتنا الدومليّة، ذات اللهجة الكردية المميّزة، والتي كان يتكلّم بها في سالف الأزمان سكانها المسلمون والنصارى على حدّ سواء. وإلى يومنا الحاضر، ما زال يقوم في البلدة أحد أعرق أديرة اليعاقبة. نحوَ تلك البلدة، البعيدة، اتجه علي آغا الصغير صحبة زوجته، ليلى وأولادهما. لقد تركَ مُرغماً الشامَ الشريف، مدينته الحبيبة، إثرَ خلافه مع أولاد عمومته: إنّ قريبه، الحاج حسن أفندي، زعيم الحيّ، كان قد أبدى بحضوره رغبة ابنه البكر، موسي،، في الاقتران بنظيرة.
" جدّكم، هوَ في تعنته وعناده مثل كلّ آل حج حسين. فما أن رفض أبي فكرة زواج ابنته، حتى جعلوا حياته جحيماً "، قالت لي ريما في إحدى أمسيات منتصف عقد السبعينات. إذاك كنت أقيم في حجرة منزلها، على إثرَ خلافي مع والدي بشأن الدراسة الثانوية، الصناعية. تحامل جدّتنا، الطريف، على آل جدّي لأبي، كان له داع آخر، مُحزن. وإذن، حينما جاز للشاب المتهوّر، ديبو، الاقتداء بوالده والتقدّم لخطبة بيروزا، فإن والدتها لم تشأ أن تكررَ مأساة الشقيقة نظيرة، الشقية؛ التي سبق وأجبرتهم ذيولها على النزوح من الشام.

***
مَواطيء أقدام رحلاتي إلى اقليم الجزيرة، المُستهلّة منذ أواسط عقد السبعينات، شاءت أن تمرّ على دروب القامشلي دونما أن تتركَ آثاراً بيّنة. المرّة الأولى، رأيتني فيها ألجُ هذه المدينة خِللَ مركزها، النظيف والأنيق، الذي وضع أساسَهُ مهندسو الإدارة الفرنسية، المنتدبة. إلا أن الخيبَة ما لبثت أن اعترتني، حينما قادني رفيق الرحلة نحوَ أحد الأحياء القريبة، أين تقيم أسرة خالته. ومثلما سألحظه في الأحياء الأخرى، ذات الأغلبية الكردية، فإن الطرقات هنا كانت في حال بالغة من الرثاثة؛ بلا تعبيد ولا أرصفة ولا أشجار من المفترض أن تنشر فيئها على المارّة.
" هل تدري أن أهلَ بسام، صديقنا، يقيمون قريباً من منزل الخالة..؟ "، توجّه إليّ مرافقي بالحديث فيما نحن نهمّ باجتياز الدرب المُترَب والمُكتنف بالغبار. شقيق صهري هذا، شاءَ إذن أن نمرّ على أقاربه ونحن في طريقنا من الحسكة، أين يقيم هوَ مع أسرته، إلى حيث بلدة عامودا. في هذه الأخيرة، سأعلمُ لاحقاً أن رفيق رحلتي ينوي خطبَة فتاة من ساكنيها، سبق له وتعرّف عليها في إحدى ضواحي بيروت؛ ثمّة، أين كان والدها يعملُ. من تلك الضاحية، أيضاً، سبقَ لبعض أفراد أسرة الأسعد أن قدموا إلينا في الشام، إثرَ امتداد نار الحرب الأهلية اللبنانية إلى تلك الضاحية. وإذن، لم نلبث أن حللنا في ضيافة الأسرة المَعروفة، الكريمة المحتد، والتي كان عميدُها، حسين آغا، قد بلغ من العمر عتياً حدّ أنه لم يكُ باستطاعته التحرّك من مجلسِهِ. بيْدَ أنّ ذاكرة الرّجل، بالمقابل، كانت ما تفتأ معافاة وأنارت له من ثمّ مَدارجَ العودةِ إلى الزمن الآفل.

***
كان اتفاقاً، بطبيعة الحال، أن يتلازمَ تزوّدي بذكريات الجدّة عن مَوطن أسلافها، الأول، مع حلول أحد مواطنيه لدينا في الشام. في خلال فترةٍ من منتصف السبعينات، كنت أقيم في حجرَة جدّتي ريما، المُنفردَة عن غرف الإيجار في بيتها. رأيتني أقضي عندها قرابة العام، إثرَ هجري لمنزل العائلة بسبب خلاف مع ربّها، المُصرّ على ضرورة إكمال دراستي في الثانوية الصناعية. ثمّة، إذن، اعتادت هيَ أن تقصّ عليّ حكايات طفولتها وصِباها، وكأنما لتسلوَ بومَة الليل البهيم، التي كان نعيقها يسبّب لها الأرق: " ميرات مايي..! " ( هذه المنحوسة..! )، تبدأ جدّتي عندئذٍ الكلام بلغتها الأمّ. ولتعبّرَ لي من ثمّ، بالعربية، عن مدى تطيّرها من صوت طائر الليل والخراب، المُتناهي ولا مَراء من تربة آله رشي، القريبة. في العام التالي، سيكون على الجدّة أن تتأكّدَ من صفة البومة، وبالتالي من طيرَتِها، حينما دفنت ابنتها البكر، بيروزا، في التربة نفسها.
" زاهد "، كان شاباً يكبرني نوعاً، شاءَ أن يَتوجّه إلى الشام لكي يتجنبَ سوقه إلى الخدمة الإلزامية، ثمّة في تركيا. آنئذٍ، كان قد مضى عقدٌ من الأعوام منذ أن لقينا آخر سليل للأسلاف، ممن يقيمون في تلك البلاد. إذ عرَّجَ علينا ذات يوم، كما أذكرُ، رجلٌ مُسن في طريقه إلى الحجّ، حيث استدلّ إلى عنوان الزقاق المَوْسوم بالإحالة لاسم بلدته؛ الكائنة في مقاطعة مازيداغ. من هناك، أيضاً، قدِمَ ذلك الشاب مُهتدياً إلى عنوان أقاربهِ بالطريقة ذاتها، على الأرجح، التي سبقه إليها مواطنه الحاجُ. إلا أن زاهد، في المقابل، حلّ ضيفاً على أحد سليلي آل لحّو، من المقيمين في زقاق وانلي. هذه السلالة ( التي اعتدنا على غمزها بلقب " زنكَليْ "، أيْ جرس الكنيسة )، لم تكن تمت لنا بقرابة حقيقية وبالرغم من تلبّسها كنيتنا: إنها من بقايا النصارى، الذين تحوّلوا إلى الإسلام في زمن ما، حينما كانوا بعدُ يُشاركون أسلافنا بالعيش في منطقة ميقر ذاتها.
الشاب زاهد، ما عتمَ أن عادَ سريعاً إلى عترَتِهِ، بعد مراسلة مَحمومة مع الأهل. قبلَ ذلك، أصيبَ بالإحباط على أثر علاقة مع إحدى فتيات العائلة تلك، المُضيفة، والتي انتهت برفضها الزواج منه. ربما أن حاجز اللغة، كان سبباً مَرْجوحاً في فشل علاقتهما. تأويلي المُفترَض، يعودُ إلى ما لحظته من تبرّم الشاب الغريب، حينما كان من حوله يشرعون بالحديث فيما بينهم باللغة العربية. وإذ رمقني ذاتَ مرّة شزراً، مُدمدماً ما يُعبّر عن عدم رضاه على ضعف معرفتي للغة الأمّ، فإنني ذكّرتهُ بأنه بنفسِهِ يكتب الرسائل للأهل بالتركيّة. " هذه هيَ اللغة الوحيدة، التي يتمّ التدريس بها هناك "، أجابني بجفاء. لاحقاً، حينما قدِمَ عمّ زاهد لكي يُقنعُهُ بالعودة معه إلى الوطن، فإنني اعتقدّت أن تبادلهما الحديث بالتركيّة إنما لِبَثّ مواضيع تخصّهما. خمس سنوات، على الأثر، وبدأ توافد الكثيرُ من كرد تلك البلاد إلى الشام، هرَباً من ملاحقة النظام العسكريّ، الانقلابيّ. عندئذٍ، تيقنتُ أن " أقاربنا " هؤلاء كانوا أقلّ حِرْصاً على لغتهم الكرديّة منا؛ نحن الذين نستوطن في أرض غريبة منذ نحو قرنَيْن من الزمن.
بين الشام والمَوطن الأول، كانت الطرقات حتى ذلك الوقت قد استوحَشت من ندرة السالك، إلى أن انقطعت نهائياً. زاهد، وكان آخرَ أولئك العابرين، سبق وأن أدهشني باستخدامِهِ اسم " شَمرَخ "، كدلالة على الموطن الأول؛ إذ اعتاد أهلنا على تسميَتهِ ميقر أو مازيداغ. بعدَ قرابة عقد من الأعوام، فإنّ أحدَ مواطني تلك الأنحاء ( وكان يدرس معي في موسكو ) شاءَ أن يُقدّمَ لي تأويلاً مُقنعاً عن مغزى الاسم الآخر: شمرخ، هوَ تحوير لكلمة كرديّة، مُركّبة من " شام " و " ريْ "؛ أيْ من مبتدأ ونعت، بمَعنى " طريق الشام ". لأنه في العهد العثماني كانت طريق ديار بكر، مركز ولاية كردستان، تمرّ من مازيداغ وصولاً إلى الولاية السوريّة. تلكم كانت مسالك الأسلاف، خلال هجرتهم إلى الشام الشريف؛ مدينة الله وقيامة البشر: " وإليها يُجتبى صفوة خلقِهِ "، كما وردَ في حديث شريف، مَنسوبٍ للنبيّ.

***
جدّتي ريما، في استعادتها لواقعة الرحيل، فإنها رّددت بصوت حزين: " يا حسَّرتي على أمي. ربما كانت تأملُ في كون مدّة الهجرة قصيرة، وأن كلّ شيء سيعود على ما يرام بين العائلتيْن، المتخاصمَتين "، قالت لي ثمّ استطردت مُتنهدة: " لم تكن تدري أنّ المَقدورَ سيتربّص بها في تلك البلاد الغريبة، وأنها لن ترى الشامَ من بعد أبداً ". الجدّة ما كانت تدري، بدَورها، أن ابتسامتي العفويّة التي شفعَتْ مُختتم حديثها، إنما كانت بسبب هذه المفارقة، المُتجلية في تأكيدها على " البلاد الغريبة ". من جهتِهِ، اعتاد أبي أحياناً على تنكيد حماته هذه، بأن يُعلن أمامها أن الوقت قد حان للعودة إلى " ولاتيْ مه "؛ أيْ بلاد الأسلاف. فلا يكون منها، عندئذٍ، إلا هز كتفها مُجيبة ً في لهجة تهكّم ومرارة: " ها هو..! لقد رأينا بلادك تلك، وليت أننا لم نرَها قط ".
" لم أعُد أذكرُ اسمَ الفتاة، المسكينة "، اختتمَت جدّتي حديثها ذات مرة عن فتاة أرمنية اضطر رجلها الأول للاقتران بها كي يجنبها القتل على يد المتعصبين وذلك في زمن الحرب العظمى. ثمّ أضافت الجدّة إثرَ هنيهة صمت: " لابدّ أنها أضحَت اليومَ عجوزاً، فيما إذا كان الله قد تعطفَ فأبقاها حيّة ". خلال الفترة تلك، التي كنت خلالها مقيماً بمنزلها، كانت الجدّة قد قاربت على بلوغ الثمانين. كانت فضلاً عن طيبتها طريفة الخلق، حدَّ أن يَحلو لها أحياناً التجديفَ على الخالق؛ على من تنذرُ لرحمَتِهِ صلواتها الخمس: " لا أدري، ماذا تجني أنتَ من إيقاظنا من هناءة النوم؟ "، تخاطبُ جدّتنا الظريفة ربَّها بالكرديّة. وتكون حينئذٍ قد بدأت تتململُ في فراشها مع تناهي صوتُ مؤذن المسجد، الداعي لصلاة الصبح.
ولكن ما أدهشني نوعاً، عندما شاءت هيَ اختتام حكايتها، أنها تكلّمت بطريقة مُغايرَة فيما يتعلق بإشكاليّة اسم تلك الفتاة، الأرمنية. لأنها لم تستخدم عندئذٍ تعبيرَ " ميرات ماييْ " ( أيْ: المَنحوسة )، الأثير لديها عادةً؛ خصوصاً، حينما يكون مَشفوعاً بذكرياتها عن مَوطن الأسلاف. إنه المَوطن البعيدُ، الذي فقدَتْ فيه ريما خلال فترةٍ وَجيزةٍ أهلها جميعاً تقريباً، ومن ثمّ زوجَها الأول والدَ ابنتها، البكر؛ الرّجل، الذي كانت تدعوهُ في كلّ مرّةٍ بحبّ: " بافي بيروزا ".

***
في عام 1988، وكانت الجدة ريما قد بلغت التسعين، رأيتني في صباح مبكر من أحد أيام الربيع أودّعها والدموع تملأ عيوننا. كنتُ في سبيلي إلى أرض المنفى، في أقصى شمال أوروبا؛ ذلك المنفى، الذي سيمتد لما يزيد عن الثلاثة عقود. قالت لي الجدة، باكية، وهيَ تعانقني للمرة الأخيرة: " ربما لن نلتقي ثانيةً، يا ولدي ". كانت ما تني محتفظة بصحتها وحيويتها. كذلك الأمر بالنسبة لذاكرتها، التي سبقَ أن غرفتُ منها الكثير.
أربع سنين ستمضي، وإذا بي ذات يوم أسمعُ نعيَ الجدة من خلال سماعة الهاتف. قيل لي، أنها كانت على ما يرام طوال تلك السنوات لحين أن سمعت بخبر وفاة سلطانة، شقيقة زوجها الراحل. عند ذلك، استبد بها الخوف من الموت حتى راحت تخسر ذاكرتها رويداً ومن ثم صحتها. ابنا زوجها، كما سمعتُ أيضاً، شرعا في بكاءٍ مرير في خلال جنازتها وكما لو كانت هيَ والدتهما الحقيقية.
إلى هنا، تنتهي أعوام ريما. لكن مثلما كان شأن والدتها، ليلى، التي عادت في هذا الجزء من السيرة لتظهر مجدداً؛ كذلك الأمر بالنسبة لريما، حيث سنراها في الجزء الأخير ، المنذور بشكل خاص لحكاية حياة بناتها الثلاث.

* يليه الجزء الأخير من هذه السيرة السلالية ـ الروائية، وهوَ بعنوان " زمن موناليزا الجزينة "



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بضعة أعوام ريما: الفصل الرابع عشر/ 5
- بضعة أعوام ريما: الفصل الرابع عشر/ 4
- بضعة أعوام ريما: الفصل الرابع عشر/ 3
- بضعة أعوام ريما: مستهل الفصل الرابع عشر
- بضعة أعوام ريما: الفصل الثالث عشر/ 5
- بضعة أعوام ريما: الفصل الثالث عشر/ 4
- بضعة أعوام ريما: الفصل الثالث عشر/ 3
- بضعة أعوام ريما: الفصل الثالث عشر/ 2
- بضعة أعوام ريما: الفصل الثالث عشر/ 1
- بضعة أعوام ريما: بقية الفصل الثاني عشر
- ثمنُ المكالمة
- بضعة أعوام ريما: الفصل الثاني عشر/ 3
- بضعة أعوام ريما: مستهل الفصل الثاني عشر
- بضعة أعوام ريما: الفصل الحادي عشر/ 5
- بضعة أعوام ريما: الفصل الحادي عشر/ 4
- بضعة أعوام ريما: الفصل الحادي عشر/ 3
- بضعة أعوام ريما: مستهل الفصل الحادي عشر
- بضعة أعوام ريما: بقية الفصل العاشر
- بضعة أعوام ريما: الفصل العاشر/ 3
- عصير الحصرم 78


المزيد.....




- نيكول كيدمان تصبح أول أسترالية تُمنح جائزة -إنجاز الحياة- من ...
- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...
- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...
- الفيلم اليمني -المرهقون- يفوز بالجائزة الخاصة لمهرجان مالمو ...
- الغاوون,قصيدة عامية مصرية بعنوان (بُكى البنفسج) الشاعرة روض ...
- الغاوون,قصيدة عارفة للشاعر:علاء شعبان الخطيب تغنيها الفنانة( ...
- شغال مجاني.. رابط موقع ايجي بست EgyBest الأصلي 2024 لتحميل و ...
- في وداعها الأخير
- ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
- عوالم -جامع الفنا- في -إحدى عشرة حكاية من مراكش- للمغربي أني ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - بضعة أعوام ريما: الخاتمة