أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منهل السراج - كما ينبغي لنهر















المزيد.....


كما ينبغي لنهر


منهل السراج

الحوار المتمدن-العدد: 1597 - 2006 / 6 / 30 - 05:44
المحور: الادب والفن
    



تزنّ الحشرات السوداء في أذنها والإقياء الأصفر يغطي صباح يومها ومساءه. لوحات الغرفة المغبرة تنظر إليها بحياد، كذلك أشياء الرجال، سبحاتهم، وخناجرهم الميتة.. وهذه الزاوية، التي أودعتها هوياتهم، مازالت نائية منسية تنتظر من يوقظها.
يخترق المرض فطمة حتى العظم، والحشرات السوداء التي تتوهمها تنهش رقبتها وأذنيها، بفجاجة ووقاحة، دون حاجة لخداع أومراوغة.
رن الهاتف فجأة. فكرت:
"ستسألني أختي إن كنت محتاجة شيئاً ما"
ـ فطمة..
صوت حزين وشاكٍ، ترى هل ستلتقيه في الآخرة، كما يقولون؟ مات على درجات لقاءاتهما، بينما هي تموت من سرطان نادر تكاد تكون حاملته الوحيدة:
ـ من المتكلم؟
ـ أنا، من أعد شاهدات القبور للأحياء.
ـ كيف صحتك ؟
ـ أنا قلق عليك.. هل تتحملين الألم؟
ـ مايهمني هو مدى نشاطك في حفر اسمي على الشاهدة. أريد أن تضعها في الهواء والشمس إلى أن تصبح سمراء فلا تبدو الأحدث بين شاهدات القبور.
ـ فطمة، لك ما تريدين لكنني لن أتصل بعد الآن أبداً.

فركها الطبيب من أذنها..
فتحت جفنيها ببطء. كان أول ما شاهدت، حزام الطبيب. قال بحنان:
ـ نحن جميعاً نقدر رغبتك بالوحدة، ولكن كيف تتحملين آلامك؟.. أنت تحتاجين من يناولك الدواء، ويطعمك، ويسقيك و..
أشاحت بوجهها تراقب النافذة التي فُتحت واصطف عليها الحمام بازدحام منع عنها الهواء. كان هديله يعلو أكثر.
نهضت من سريرها متباطئة مصغية للأصوات المحيطة بها. "قرفصت" تلبس فردتي حذائها اللتين تباعدتا كل باتجاه معاكس للأخرى، فأدركت أن الجربوع مازال يسرح في طوابق البيت الكبير.

نامت أياماً عدة، أو كانت غائبة في مرضها وكوابيسها حين استيقظت على أصوات أخوتها وأقاربها ملتفين حول سريرها. شاهدت رقة وحناناً غريبين في وجه عبد الحكيم، وقلقاً في عيون جميل، أما لميس فقد كانت الدموع تبلل خديها، وليلى تربت على كتفها وهي تبكي أيضاً. رأت وجهاً جديداً: لا بد أنها الممرضة. فتحت عينيها من غيابها ورأتهم: ماذا هناك؟ منذ متى وأنا نائمة؟ ثم وجهت حديثها إلى الممرضة: ولمن هذه الحقنة؟
لم تنتظر أجوبتهم،كانت عيونهم القلقة تجيب. قال أخوها أحمد:
ـ اصبري.. إن الله مع الصابرين.
ردد عمها جميل:
ـ فطمة تحتاج جارتنا سميرة كي تعيش معها وتأخذ بالها منها.
قاطعه عبد الحكيم:
ـ يأخذها أحدنا إلى بيته، هناك تعتني بها نسواننا.
كان الحاج عمر يصرخ من داره:
ـ لن تبعثي يا فطمة.. خسارة يا فطمة.
فيما كان الأستاذ عاصم محتضناً ابنه. وصوت إزميل فارس وهو ينقر حجر الشاهدة يترجّع في رأسها.
رن الهاتف.. تذكرت بمشقة:
ـ الجنينة..
فجأة، دفعت غطاءها عنها، وتركت من جاء لعيادتها. وسط دهشة الجميع، بقوة غامضة، أبعدت كل ما يعيق طريقها، أزاحت الستائر، فتحت الأبواب والنوافذ. لهثت وهي تهرول، تعثرت، قامت لتعاود الركض نازلة الدرج حافية، ممسكة بالحائط والدرابزين، وبكل مايعنيها ويؤرقها: عند العتبة لميا، عند الدرجة الأولى عمر، عند الثانية عاصم، الثالثة رفيق الدرج، الرابعة فارس، السادسة لميس والسابعة كلهم.. وأووف من عيشتي. تعثرت. قطعت أرض الدار إلى درج القبو الأول، الأولى لميس، الثانية الجدة، الرابعة أم الحب والخامسة..
كانت تسحب يديها على الجدارين، وتسقط قدميها على الدرجات جاهدة كيلا تهوي برأسها الذي يسبقها. كم لعبوا على هذه الدرجات، صباح الصيف وعصر الربيع وهم ينتظرون العجة والبطاطا، ما الذي حدث؟ لقد نسيتْ، نسيتْ كل شيء. لا تعرف شيئاً سوى الاستعجال في المغادرة، كي ينتهي همّ البيت، والضفة، والحارة. قطعت الأدراج بسرعة، كانت شجرة الليمون تقلقها طوال الليل فقد امتدت جرائد النخل واشتبكت مع أغصانها حتى جعلت ثمارها منهكة وأوراقها ممزقة.
بطاقة، أدهشت الجميع، ثبتت سلماً حديدياً ثقيلاً وصعدته.
تلفتت يمينا وشمالاً، جالت بعينين غاضبتين، دالية العنب.ثم راحت بهيستيريا تسحب الأغصان وتعيد ترتيبها، ترميها على بعضها ثم تباعدها، تصففها، عبثاُ، إذ ما تلبث أن ترجع إلى وضعها الخطأ..
لم يروا فطمة يوماً غاضبة إلى هذا الحد.
تناولت عصا ضخمة كانت مرمية على تراب الحديقة وأخذت تضرب كل مزروعاتها، ثم تنتقل بينها وتصرخ. كانوا يرمقونها في قبوها وهم في شرفتهم حابسون أنفاسهم، إلى أن رأوها تتهاوى عند نخلتها.
ـ وقعت فطمة.
تزاحموا على الدرجات هابطين. أمسكوا بها وسحبوها صاعدين الدرج. كانت أقدامها تتلامس مع الدرجات في استجداء وتجريح. وهي من اعتادت أن تقطع هذا الدرج يومياً عشرات المرات.
طرق صوت لميس في رأسها منتحبة برقة، فيما كانت تبكي عجزها.
انتهت من مهمتها، أوأنهوا مهمتها. أعادوها إلى السرير وهي تلهث محاولة تذكر أي شيء دون فائدة. مدّت، باستسلام، ذراعاً حمراء دامية لحقنة الممرضة، وقد لطخت ساقيها ووجهها وكفيها خدوش عميقة. انتحبت لميس:
ـ أهذا ما كافأتها الحديقة به؟
لم تهدأ حتى وعدتها بنت خالتها أنها سوف تطلب من زوجها المهندس الزراعي أن يعتني بحديقتها.
بعد أن اطمأنت إلى وعد بنت خالتها طلبت من الجميع أن يغادروها، قالت بلطف وهي تلهث: أشكركم جميعاً لكني أريد أن أنام. اعترضت أختها قائلة:
ـ لن نتركك وحدك، قضيت عمرك وحدك، و نحن نقدّر طبيعتك، لكن وأنت في هذه الحالة لن نوافق..
قاطعتها برجاء:
ـ سوف أتصل بك عندما أصحو وأحتاجك.
سمعت صوت الباب الخارجي الكبير يغلق، فتحاملت على نفسها، وقامت إلى صندوقها الخشبي المغطى بالسجاد السميك، رفعت غطاءه ففاحت رائحة الغار..
أغلقته كما كان واتجهت إلى فراشها متعبة لاهثة:
ـ لابد من إيجاد وسيلة تحفظ هذا الصندوق.

تضخمت البكتريا حولها وتحولت إلى حشرات سوداء تطير وتحطّ على غطاء سريرها، رغم كل محاولاتها كي تغمض عينيها وتصم أذنيها، كانت هذه الكائنات قادرة على اختراق هــروبها.
تهاجمها النوبة اللعينة وكل شيء يتمرغ بإقيائها اللزج. فكرت في أن تطلب من بنت أختها أن تحفظ الصندوق لديها، لكن البنت صغيرة على هذه الأمانة.
نظرت حولها. كانت الكآبة تلف كل شيء: المصباح، الجدران، السقف المزخرف، الأرض الملونة والأثاث. رأت أنها تشبه تلك العلبة الكرتونية المهملة المتوضعة على ظهر الخزانة وتوشك على السقوط، فارغة إلا من بضع كتابات عشوائية لا تعبّر عمّا بداخلها، وبضع أسهم تأخذ كل الاتجاهات الممكنة إلا اتجاهها الصحيح. كانت العلبة تشبه كل أغراض البيت المتروكة، على أمل أن تحتاجها يوماً، ولم يحتجها أحد غيرها. أما رفيق الدرج فقد كانت ذكراه مثل ذلك المصباح الذي عجزت عن التحكم به، فهو إما معتم موحش، أو مبهر متعب لعينيها وقلبها وجسدها المتعطش.

طرق الباب..
نظرت فطمة إلى قدومه متلهفة، ربما جاء من سيعتني بالحديقة. وسارعت قائلة برجاء:
"إن الطيور تهاجم حديقتي، يجب مكافحتها، وهي توسخ لي كل شيء. العصفور يمص حبات العنب على الدالية، ولا يتركها إلا مزقاً مهترئة. والدودة عادت إلى أغصان الكرمة كي تكمل على أوراقها. تأكل الطيور نصف موسم الحنطة الذي سلقته ونشرته على السطح. أما النخلة فهي تكبر كأنها في آخر أيامها. كل سنة تحمل، ثم تسقط حملها..عليك بتثبيت أكياس نايلون بيضاء على شكل رؤوس بني آدم على قمم الأشجار، وفي الزوايا. ستبدو كحراس لزعيم بدائي. عندها تبتعد الطيور طيلة النهار. مع أني أشك بذلك فهي لن تلبث ان ترجع معتادة وجود هؤلاء الحراس".
تناولت حبة المسكّن. وتحاملت على نفسها، حتى وصلت إلى الشرفة. أطلّت على حديقتها كي تتأكد بنفسها من إنجاز ماكان عليهم إنجازه، فوجدت الطيور قد أوت كعادتها إلى أشجار الحديقة.
تأففت:
"تبدو الأكياس كرؤوس متطفّلة".
تقيّأت وأغلقت باب غرفتها. قضت الليل مع الطيور وهي تخفق مبتعدة ثم تعود كأسْهمٍ سوداء.
"رأت الرجال يصطفون بعضهم إلى جانب بعض، عراة إلا من سراويل داخلية بيضاء مبللة، كأن زوجاتهم قد انتهين للتو من غسيلها. وقد ارتدوها دونما اعتراض. رؤوسهم تغوص في أكتافهم المتهدلة، شعورهم طويلة تغطي عيونهم ذات الجفون المرتخية. كانت صورة أبو شامة كرة ملونة مضاءة بدون نور يشع عنها في ذلك الأفق الرمادي. جميع الرجال يحركون رؤوسهم التي لا رقاب لها حركة موحدة في وقت محدد. ينظرون نظرة وجلة إلى تلك الكرة، ثم ينكّسون رؤوسهم بسرعة. حطّ على الأرض أمام الرجال طائر صغير بجناحين عريضين، فرش ريشاته ناظراً إليهم بحذر، ثم عاود الطيران. لم يتحركوا ولم يكترثوا. رؤوسهم مدرّبة على النظر في اتجاه الكرة فقط.
تحول الطائر عند سريرها إلى طفلة رضيعة تلعب بأصابعها الطرية، وتبتسم ببراءة.
صوت مسنن يصرخ كأن عطلاً في محوره يعوقه عن الدوران ويصدر أصواتاً خشنة تجعل الأسنان تصطك. صف الرجال العاري إلا من سراويل مبللة لا يحرك ساكناً، فرؤوسهم المغطاة بالشعر ثابتة، وأيديهم مسبلة على الجانبين، براحة أبدية"

شاخت وتجعدت بشرتها، وتمكن الورم الخبيث من عنقها العالي، لحق بعروقها، رافق دمها، تكاثر بشكل مفزع.
دُفع باب غرفتها بهدوء. هجست: كأنه فارس..
دخل وهو يسحب رجليه بصعوبة. جلس بجانب سريرها وقال:
ـ اليوم تضعين رأسك وحيداً على وسادتك، لا تنتظرين خداً يلامس شعرك، ولا كفاً تضم أصابعك. تدفنين وجهك تحت غطائك، فينتفض عِرق بدءاً من قدمك عابراً قامتك المتعبة. تظل الدموع عالقة على أجفانك، مختلطة بالكحل المتبقي منذ زمن بعيد.
ـ في كل زاوية لطخة من إقيائي. لو سلطوا مكبرة مجهر على أرضي، أو هواء غرفتي لشاهدوا حياة كاملة للبكتريا، بكتريا إقيائي الأصفر المستمر، إقياء لا ينتهي. في كل دوار وألم وإقياء أظن أن الخبث خرج من جسدي إلى الأبد. أغيب ساعة، لتعاودني نوبة الدوار والغثيان، ثم الإقياء. أستيقظ في الخامسة صباحاً فأرى أن لا فائدة من وجودي وأن النوبة الملعونة ستهاجمني خلال دقائق، فأعجز عن أن أتحرك من سريري، لأعد قـهوتي وأبدأ يوماً جديداً، بإرادة أقوى.. كما لا أستطيع العودة لسكينة النوم وراحته.
ضغط بيده على كفها المرتجفة:
ـ استسلمي فطمة.
لثم كفها المغطاة بالشرشف ثم أجهش بالبكاء.

رن الهاتف بجانبها، فكرت بمن يمكن أن يتذكرها. هاهو الخبث في رقبتها ينتشر بصورة غريبة حسب شهادة الطبيب. رفعت السماعة وقالت لمن على الهاتف:
ـ ألم يمتد عبر رقبتي يحيط بصدري وظهري..
أغلقت الهاتف ولم تنتظر إجابة ممن اتصل بها.
يخترق الورم اللعين جسدها ليشمل العالم كله. تأملت في أنحاء الغرفة علها تجد فنجان قهوة شربه زائر، ثم غادر، أوزهرة ملونة في كأس، أو منديلاً أبيض يلم بضع ياسمينات.
رن الهاتف مرة أخرى. ستسألها أختها ليلى إن كانت بحاجة لشيء ما. كانت تريد دائماً أن تسألهم إن كانوا يلاحظون هذه البكتريا التي تحولت إلى حشرات سوداء تغطي كل شيء.

شحب وجهها، أصبح لونها أزرق يابساً، كما شفتاها. كانت الجدة تقول معجبة بلون وجهها: وجهك مثل فيء الشجر..
طرأت كل التغيرات دفعة واحدة. انتفخ بطنها انتفاخاً ناتئاً عن هزال جسدها، وانتشر الورم عبر دمها إلى الكبد والعظام.
همس الطبيب:
ـ إنها تمر بمرحلة الدنف السرطاني.
قالت بوهن:
ـ تظنون أن الموت هو المصاب الأكبر؟ أنتم واهمون.
ـ حالتك نادرة جداً، قال الطبيب ببطء ثم التفت إلى أقاربها: أقدر أنها غير كل المرضى الذين قابلت.. لكن عليها أن تخفف من عنادها وتبقي أحداً ما بجانبها..
قام بعيادته المعهودة لها مستخدماً أجهزته المعدنية الباردة والمعقمة.. شرح حالة الورم بلهجة طبية حاسمة وبصوت منخفض كأنه يشرح حالة التهاب حنجرة عادي..
إنها تريد أكثر، دائماً تريد أكثر، أكثر من هذا الحياد وأكثر من هذه العادية وغير هذا التعاطف المألوف.
لم تعد قادرة على الصمت بعد الآن. تريد أن تلحق بضعة أيام من هذا العمر وتقول ما لديها، حتى لو انصبت ثورتها المفاجئة على طبيبها أوأولاد أخوتها أوجيرانها.
ـ هكذا ينفجر صمام الصبر في أكثر الأوقات حرجاً وضعفاً. كنت تريدين فعل هذا منذ زمن بعيد لكنك آثرت الصمت والسكوت.. فات الأوان. قال فارس من بعيد.
سمعت أصواتاً هامسة تحاول ألا توقظها. فجأة غدا الهمس لغطاً. كانت أكواع أيديهم تعلو عنقها. شعرت بألم حاد:
ـ ماذا لو تكالبت أكواعهم الحادة على عنقي؟

"جلس الجمهور كل في كرسيه المعد له مسبقاً والمهيأ بكتابة اسمه على مسنده. جاء حاملاً بطاقة دعوته مرسوماً عليها خريطة تدله على مقعده، وبنود مكتوب فيها تعليمات ترشده لسلوكه المفروض عليه. مع كل هذا التوضيح، تاه كثير من الأميين المدعوين، احتاجوا معونة من الحراس الذين حملوا بطاريات تنير المكان المطفأة أنواره، المكتوم صوته. كانت صورهم تتوضح كل عشر دقائق في غيبوبتها أوصحوها، رأت كثيراً من وجوه أعضاء جمعية الحمار جامدة دون تعبير. يصفقون معاً، ويشيرون معاً، في مكان يشبه المسرح: جدرانه، وسقفه، وأرضه مغلفة بسجاد سميك.
سحب الستار، أطلّ أبوشامة جالساً على مقعد وثير، يسلّم على الحضور برجله. سمح لأحد ما أن يدخل من باب جانبي صغير كأنه باب سري. فجأة رأت عمها نذير يطل بقامة صغيرة، ويقف في مجلس أبو شامة رافعاً يده بتحية،كموظف صغير يستأذن المدير بإجازة ساعية. صافحه أبو شامة بيده وأجلسه بجانبه. تحدّثا بضع دقائق أمام الحضور الذي كان متشوقاً لمتابعة هذا اللقاء بعد كل هذا الغياب. تحدثا بكلمات السلام والسؤال عن الأحوال، ثم أسدلت الستارة.
خرج أبوشامة بعد ساعات، وحيّى الحضور لوقت غير قصير ثم سمح لهم بتقديم قوائم التماساتهم. كانت أوراقهم نسخاً مطبوعة مسبقاً يرجونه فيها أن يقلع عن العزوبية التي طالت، ويتزوج كي يشهدوا ذريته. قرأ السيد التماساتهم واحداً واحداً بتأن رغم تشابهها، ثم استغرق في تفكير طويل.
حبس الحاضرون أنفاسهم منتظرين بصبر لا نظير له أن يوافق على التماساتهم .
أسدل الستار ثالثة لمدة ساعة خرج بعدها أبو شامة، وأعلن شكره لثقة جمعية الحمار، وتقديره لرغبتهم في تزويجه، لكنه أسف لأنه لا يستطيع تحقيق هذه الرغبة، فهولا يثق بوجود امرأة تستحق أن تشاركه صبغياتها في تشكيل ابن له، لذلك لا بد أن يجد طريقة أخرى. كما أن تالولته الجديدة التي نتأت في رقبته تحت أذنه يعتني بها جيداً ويكبّرها، وربما يطلق عليها اسمه "أبوشامة". نمت شعيرات حولها ومنها، فهو يداعبها كل الوقت، مغمضاً عينيه نصف إغماضة. بات الجميع يبارك وجودها بشكل عجيب، ويتحدثون عنها أحياناً بالرهبة نفسها التي يتحدثون فيها عن أبو شامة".
ـ ماذا هناك؟
ـ لا شيء، نامي.
أغمضت عينيها، مازالت تحتاج أن تنبههم أن يكونوا لطفاء معها.
ـ يجب نقلها إلى المشفى، ردد صوت.
ـ لا يوجد فائدة، قال الطبيب.
بهدوء تدخلت:
ـ لا أحتاج مشفى، أريد أن أموت في البيت الكبير، ثم بعد تنهيدة وإغماضة، قالت:
ـ ما الذي ستفعلونه بالبيت بعد موتي؟
في الأيام الأخيرة باتت لميا تقلّص مشوارها الأبدي على الجسر بين الضفتين، وتخفف من ركضها وبصاقها، فقد جف ريقها وانكمشت عند مصطبة بيت فطمة منهكة من أعوام الركض التي قضتها قاطعة الجسر الصغير بين الضفة الأولى وبناء الخلية الذكية.
أما النهر فقد اعتاد لوحة إعلان الخلية الذكية، وبات يعكس صورتها أكثر من مئذنة أبي رحمون.
" مشت في رتل واحد مع المئذنة القديمة وهلال قبة الجامع، ترافقها النخلة العتيقة جداً والمتفرعة جذورها في ماء النهر. كان مسنن كابوسها يدور بسرعة هائلة ولميس تركض حاملة حقيبتها الملأى بأقراص " الكمبيوتر"، تلحقها الجدة بجلبابها منحنية تضرب الأرض بكرسيها الواطئ حاملة على ظهرها المطوي كتب أحفادها ودفاتر حسابات أبنائها، تلحقها كراسي الخيزران، وسبحات الرجال، وخناجرهم، وبيجامات الشباب الذين غابوا، ولم يعودوا. البيجامات رقيقة، والبرد شديد، والوحشة هائلة.
أمامها ثلاثة دروب.. في الدرب الأول رقدت تالولة أبو شامة في قبرها مكتوب على شاهدتها: هنا ترقد التالولة التي سقطت على غفلة منه. في الدرب الثاني، رقد أبوشامة، مكتوب على شاهدة قبره: "الميت الحي".. في الدرب الثالث، شاهدت "أبوسليم" الجربوع وأعضاء جمعيته، جميل النسونجي وعبد الحكيم كشاش الحمام، والمختار حاملاً دفاتره المدونة فيها أسماء من غابوا على أنهم ماتوا. كلهم جالسون على كراسي واطئة أمام أبواب بيوتهم لابسين جلابيتهم وأخفافهم المنزلية، مترقبين نهاية حلم فطمة، متوقعين في أية لحظة حدثاً يجعلهم يحملون كراسيهم، ويدخلون بيوتهم فارين ناجين.
تابعت سيرها إلى أن وصلت إلى مرج أخضر ندي زكي.. خلعت حذاءها وجلست عليه لترتاح تحت شمس ضحى ربيعية. كانت تشعر أنها طالبة في المدرسة الابتدائية، تملّصت من دروسها الصباحية الثقيلة، وظفرت بسكون أخضر هادئ غير معتاد، لكن حفّارة مزوّدة بأظافر بشرية هاجمت المكان وراحت تنزع وتمزق حشائش المرج الرطبة.
أخذت فطمة تبكي وتولول، إلى أن بان كل شيء:
حفرة هائلة تنطلق منها رائحة شجر الكينا الذي كان يظلل الضفة الثانية، ثم جماجم متناثرة على هياكل كانت بشرية، عرفتها فطمة من الأيدي التي كانت تلبس ساعات أصلية ما زالت تعمل بعد هذه الأعوام رغم توقف نبض اليد".
لم تحاول مرة معرفة سبب استخدام الجرافات. فإذا كانت تستخدم لنقل البقايا كما تعلم ، فلماذا نقلت بقايا أجساد وثياب رقيقة؟ نعم.. نعم الجرافات نقلت بقايا أجساد وثياب رقيقة، لكن الأرواح بقيت: كل روح بألف روح؟
وضعت إصبعها على عنقها، هنا مكان الغصات ومكان ابتلاع الدموع.
شدت بأصابعها على عنقها، إنها تختنق. انتحبت لميس:
ـ كأنها تسهل للموت عمله، إنها تتألم بشدة.
أطلقت فطمة صرخة واهنة:
ـ الزيت جاهز للقلي.. ما الذي يجعل صوت المدفأة هادراً؟

اختلطت الألوان في رأسها.. وجدت أن بركة الزيت المغلي عميقة، وأنها عادت بنت الثالثة عشرة، تركض برشاقة إلى البحرة الزرقاء،كي تلحق صلاة المغرب.
ارتفع صوت الأذان.
همست:
ـ ما هوالوقت الآن؟
جاءها صوت لميس:
ـ صلاة العصر يا خالتي.
مدّت لها كفها:
ـ افرحي بحياتك يا حبيبتي.
أجهشت لميس.
أغمضت فطمة عينيها ونامت مرة أخرى.
رأت دموعها تختلط بدمائها وبنهر الجدة الذي تحدثت عن هديره يوماً. غطى الماء وجهها، هبطت إلى القاع.. كان آخر ما شاهدت سماء حارتها تتعرج مع تموجات المياه، رأت الدود يأكل أصابعها، ورأت تمثالاً شامخاً ينبئها أن عظمها لن يتفتت، وأن عروقها عروق خشبية جافة. سوف تصادق التراب، وتصادق ظلاماً بلون بني خشن.
لوّحت بيدها غير مصدقة. وزفرت حياتها.
شهقت لميس مستجدية:
ـ هل..؟

طلعت شمس اليوم التالي، وقمر الليلة التالية. أذّن أبو رحمون كما كان يفعل. تراجع ماء النهر أو لم يتراجع. أسدلت ستائر شبابيك البيوت وبعضها أزيح. ذهب الطلاب إلى مدارسهم والناس إلى أعمالهم.
لكن شجر حديقة قبو القبو لم يورق بعد وياسمينة درج فطمة لم تزهر بعد والنباتات المتطفلة على أحجار الشرفة تكاثفت وأطلقت جذورها وهددت تماسك واجهة البيت.. غير أن لميس المراقبة لما أنجزت خالتها كبرت بسرعة وهي تعبر كل صباح بقامتها المشدودة الجسر القاصل بين الضفتين تتابع مايجري حولها، وفي عينينها الواسعتين تتلامح كل وقت فطمة التي تستلقي بجانب قلعة المدينة، كما ينبغي لنهر..

سوريا ـ حماه/ ربيع عام 2000
الفصل الأخير من رواية "كما ينبغي لنهر" الفائزة بالمركز الثالث لمسابقة الشارقة عام 2002 بعد منعها من النشر في سوريا.



#منهل_السراج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تمرين صعب من اجل السلام
- بين الضفتين
- حقيبة فاتح جاموس
- وصفة لشهرة. وصفة للسترة
- جمعيات سقط عتب
- ترى... من هو عريس الليلة!
- أما أنا فأفهمك يانجيب
- بترحلك مشوار؟
- بأي حق يغتالون الصداقة


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منهل السراج - كما ينبغي لنهر