أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجواد سيد - كتاب أساطير الدين والسياسة-تأليف عبدالجواد سيد















المزيد.....



كتاب أساطير الدين والسياسة-تأليف عبدالجواد سيد


عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)


الحوار المتمدن-العدد: 6558 - 2020 / 5 / 8 - 12:57
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أساطير الدين والسياسة



الطبعة الأولى مايو 2017
رقم الإيداع2017/5435
الترقيم الدولى978-977-6751-77-8
طنطا بوك هاوس للنشر والتوزيع














إهداء/ إلى شركاء الحياة فى الشرق الأوسط


















شكر وتقدير/ إلى طنطا بوك هاوس ، على دورها التنويرى الكبير.


















المحتويات:
مقدمة
1-ملحمة جلجاميش وجذور الفكر الدينى
2-المسيحية من الإستبداد ، إلى الإصلاح ، إلى الثورة العلمانية
3-أساطير العهد القديم وأصل الإسلام
4-محمد والقبائل والرسالة المزعومة
5-مابعد الدين والقومية















مقدمة
إن هذا الكتاب هو مجرد تجميع وترتيب لبعض مانشرت من دراسات فى السنوات الأخيرة ، لقد كان المقصود من كل من هذه الدراسات ، التركيز على فكرة محددة ومساحة محددة من التاريخ ، لكنها ، وبالطريقة التى رتبت بها هنا ، جاءت ، ولو بالمصادفة ، وكأنها مختصر لتاريخ العالم ، كما أوضحت ، فى نفس الوقت ، مدى زيف أهم أساسين إستند عليهما هذا التاريخ ، الدين والسياسة ، إنها وبإختصار، توضح مدى وهم وضلال تلك الحياة التى مازلنا نحياها نحن أهل الشرق الأوسط ، ومدى الحاجة إلى أسس وأفكار جديدة ، أكثر عقلانية ، وأكثر إنسانية ، تجعل حياتناً أكثر آمنا وسعادة ، بدلاً مما يحدث حولنا من خراب اليوم . أرجوا أن يراها القارئ العزيز ، كما رأيتها ، وكما عشتها ، وكتبتها ، كما أرجوا أن تصل الرسالة.
عبدالجواد سيد
الإسكندرية 2017













1-ملحمة جلجاميش وجذور الفكر الدينى
أنتج العراق القديم ، والذى تجرى على أراضيه الآن، واحدة من أكبر المذابح الدينية فى تاريخ الإنسان، معظم الأساطير الدينية التى مازلت تعيش فى تراثنا الدينى ، اليهودى والمسيحى والإسلامى ، والتى هى كالماضى الحى الذى لايموت ، بل نموت نحن من أجله ، وهو ليس سوى مجرد ماض ، وسوى مجرد أساطير. ومن تلك الأساطير الشهيرة ملحمة جلجاميش أو إذ صح القول أسطورة جلجاميش ، أحد ملوك مدينة أوروك السومرية القديمة( حوالى الألف الثالث قبل الميلاد) التى تتحدث عن إستحالة خلود الإنسان ، وتفجع الروح الإنسانية أمام حقيقة الموت ، والتى تعد بحق أحد أكبر الإنجازات الحضارية للعراق القديم وأحد روائع الأدب الإنسانى على مر العصور، ولكنها أيضا ، وبصرف النظر عن قيمتها الأدبية والإنسانية ، تكتسب أهمية كبرى لدى المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا، لإنها تحتوى على تفاصيل أسطورة الطوفان الكبير، الذى إجتاح العراق القديم فى العصور السحيقة، والتى نقلها الكاتب العبرى فى العهد القديم بعد ذلك ، مع تغيير طفيف فى الأسماء والتفاصيل ، ثم إنتقلت إلى التراث المسيحى والإسلامى لتصبح من حقائق التاريخ الكبرى، التى تأسست عليها ثقافتنا هنا فى بلاد الشرق الأوسط ، تلك الثقافة التى أنتجت مجرمى العراق الحديث - موطن جلجاميش - الذين يخطفون الرهائن ويقتلون النساء والأطفال والجميع دون ذنب أومبرر ، ومازلت مرشحة لإنتاج مزيد من المجرمين.
تقول الأسطورة أو الملحمة فى نصها البابلى ، أن جلجاميش كان يتمتع بصفات بطولية غير عادية، وأنه كان ثلثى إله وثلث بشر، ولكن نبلاء مدينة أوروك إشتكوا للآلهة من غطرسته وجبروته ، وطلبوا منها أن تخلق مخلوقاً يضارعه فى القوة بحيث يمكن أن يعيشوا فى سلام، وبالفعل إستجابت الآلهة لرجائهم وخلقت لهم أنكيدو، وهو مخلوق بشرى متوحش يعيش فى السهول ويتمتع بقوة خارقة. وعندما سمع جلجاميش عن هذا المخلوق الوحشى أرسل إليه أحد غانيات المعبد ، حيث أغوته وعاشرته وعادت به إلى أوروك ، بعد أن غيرت قليلا من طبيعته المتوحشة. وفى أوروك يلتقى جلجاميش بأنكيدو، ويسعد به رفيقا قويا مثله ، ويتصارعا قليلا ، ثم يتعاهدا على صداقة خالدة. ويقترح جلجاميش على أنكيدو أن يقوما بمغامرة ذبح العملاق هواوا ، نافخ اللهب ، وذلك من أجل محو كل الشرور من الأرض، ولكن أنكيدو يرفض ويحاول إقناع جلجاميش بالعدول عن هذا المشروع الخطير، ولكنه يفشل ويرضخ لإصرار جلجاميش فى النهاية، وبعد صراع عنيف ينجحان فى ذبح هواوا وقطع رأسه. لكن هذا الإنتصار قد جلب عليهما الشقاء، فقد إنجذبت الآلهة عشتار إلى جمال وقوة جلجاميش، وحاولت إغرائه لكن جلجاميش رفض محاولاتها بإزدراء، فتوسلت إلى الإله آنو ان ينتقم لها بأن يخلق ثور سماوى ويرسله لتدمير مملكة جلجاميش. وبالفعل يُخلق ذلك الثور ويُرسل لتدمير مملكة أوروك، ولكن أنكيدو يتصدى له ويقتله، وهنا تحكم الآلهة على أنكيدو بالموت ، فيسقط مريضا وسرعان مايموت وسط جزع وخوف صديقه جلجاميش، الذى لم يستطع أن يتصور أن صديقه قد مات، وأنه هو نفسه سوف يموت يوما ما ، فيصمم على الذهاب للبحث عن الخلود لدى أوتانبشتم، الإنسان الوحيد الفانى الذى نال الخلود. إن أوتانبشتم البابلى هذا هو نفسه الذى يأتى ذكره فى النص السومرى الأقدم للملحمة بإسم زيوسدرا، وهو نفسه الذى سيأتى ذكره بعد ذلك فى سفر التكوين العبرى بإسم نوح.
ويبدأ جلجاميش رحلته للبحث عن أوتانبشتم، ويعبر سلسلة جبلية خطرة تسمى ماشو يحرسها رجل عقرب وزوجته ، ثم يصل إلى الإله شمس الذى يخبره بدوره أن مطلبه عبث وأن الإنسان فانى ولابد أن يموت ، لكن جلجاميش يصمم على المضى فى رحلته بحثا عن أوتانبشتم ويمضى حتى يصل إلى مياه وساحل بحر الموت ، وهناك يلتقى بالآلهة سيدورى التى تحاول بدورها جاهدة أن تثنيه عن عزمه فى محاولة عبور البحر الميت، وتطلب منه أن يتمتع بالحياة طالما هو فيها الآن فى كلمات تتشابه بشكل غريب مع كلمات الواعظ فى سفر الجامعة العبرى، وفى الآيات السابعة والثامنة والتاسعة من الإصحاح التاسع:

جلجاميش إلى حيث تذهب
فالحياة التى تبحث عنها لن تجدها
فعندما خلقت الآلهة البشر
فقد قررت عليهم الموت
وإستبقوا الحياة فى أيديهم فقط
أنت ياجلجاميش دع بطنك تمتلئ
وإمرح نهاراً وليلاً
وإجعل لنفسك عيداً للسعادة فى كل يوم
نهاراً وليلاً إرقص وإلعب
إجعل ملابسك متلألئة وجديدة
وإغسل رأسك وفى الماء وإستحم
وإهتم بالصغيرة التى تمسك يدك
وإجعل زوجتك تسعد فى حضنك
فهذه هى مهمة الجنس البشرى.

لكن جلجاميش يرفض الإستماع إلى النصيحة ، ويندفع فى إتجاه المرحلة الأخيرة من رحلته الخطرة، ويتمكن من عبور مياه الموت بمساعدة أورشانابى، الذى قاد قارب أوتانبشتم قبل ذلك ، ويصل فى النهاية إلى أوتانبشتم المخلوق الخالد الوحيد ، ويسأله بإلحاح كيف نال الخلود الذى يبحث عنه هو أيضاً فيجيبه أتانبشتم بقصة الطوفان فى تفصيل مشابه تماماً لقصة طوفان نوح ، المذكورة فى الكتب السماوية الثلاثة.
يقول أوتانبشتم لجلجاميش بأن القصة التى سيرويها له هى مسألة خفية ، وأنها سر من أسرار الآلهة ويصف نفسه بأنه كان رجلاً من (شورباك) أقدم مدن أكد ، وقد كشف له الإله إى من خلال جدار كوخه المصنوع من الغاب، بأن الآلهة قد قررت تحطيم بذرة الحياة بفيضان، رغم أن سبب هذا القرار لم يذكر. ثم يستطرد بأن إى قد أمره بأن يبنى سفينة ويجلب إلى داخلها بذرة كل الأشياء الحية، ويخبره بأبعاد وشكل السفينة والذى يبدوأنها كانت على شكل مكعب.
ويسأل أوتانبشتم الإله إى عن كيف يمكن له أن يشرح لسكان شورباك أسباب تصرفه ذلك، ويجيبه إى بأن عليه أن يقول أنه قد سبب غضب الإله إنليل وأنه قد نُفى من أراضيه، ثم يخبرهم بأنه إلى الأعماق سوف ينزل ليسكن مع سيده إى ، ثم يمضى ليخبرهم بعد ذلك بأن إنليل على وشك أن يمطرهم بفيض، بحيث يخدعون تماما عن نيات الآلهة. ثم يتبع ذلك رواية بناء السفينة وحمولتها:

ومن أى شئ ملكت حملته عليها
من فضة حملته عليها
من ذهب حملته عليها
ومن كل الأشياء الحية حملته عليها
وكل عائلتى وأقاربى جعلتهم يركبون السفينة
ومخلوقات الحقل الضارية وكل الحرفيين
جعلتهم يركبون السفينة
ثم يتبع ذلك وصف حى للعاصفة :

ويرعد الإله أدد ، وتحطم الآلهة نرجال أعمدة البوابات التى تحبس مياه المحيط الأعلى، وترفع الآلهة أنوناكى المشاعل جاعلة الأرض تتوهج، فتشعر الآلهة نفسها بالخطر وتنكمش مثل الكلاب على جدار السماء، أما عشتار التى حثت الآلهة على تدمير الجنس البشرى، فترفع صوتها وتندب فعلتها بينما تبكى باقى الآلهة معها، وتستمر ثورة العاصفة لستة أيام وست ليالى ثم تخفت فى اليوم السابع، وينظر أوتانبشتم فيرى أن الأرض قد إستوت كسطح البحر، وأن الجنس البشرى قد تحول إلى طمى، وتحط السفينة على جبل نيسير وينتظر أوتانبشتم سبعة أيام ثم يُرسل حمامة صغيرة فتعود حيث لاتجد لها مرتكزاً ، ثم يُرسل عصفور السنونو فيعود بنفس الطريقة وأخيراً يُرسل غراباً فيجد طعاماً ولايعود.
وبناء على ذلك يُطلق أوتانبشتم كل مافى السفينة ، ويقدم قرباناً وتشم الآلهة الرائحة الطيبة فتتجمع مثل الذباب حول القربان، وتصل عشتار وترفع عقدها اللازوردى، وتقسم بأنها لن تنسى أبداً ماحدث، وتوبخ إنليل على محاولات إهلاك البشر، ثم يصل إنليل إلى القربان غاضباً على أنه قد سُمح لإنسان بالنجاة. وتلوم الآلهة نينورتا الإله إى على خيانته لسر الآلهة، ويعترض إى على إنليل ويتشفع لأوتانبشتم فيهدأ إنليل ويبارك أوتانبشتم وزوجته، ويخلع عليهما الخلود مثل الآلهة، ويقرر أنه منذ ذلك اليوم فصاعداً فإن عليهما أن يسكنا بعيداً عند فم الأنهار. وهنا تنتهى قصة الطوفان. ويؤكد أوتانبشتم لجلجاميش بأن الآلهة قد إحتفظت بالخلود لنفسها وأنها قد قررت الموت على الجنس البشرى، وأنه لامهرب من الموت. ويتأهب جلجاميش للعودة خائب الأمل، لكن أوتانبشتم يخبره - كهدية وداع - أن هناك نبات له خاصية جعل العجوز يعود صغيراً مرة أخرى، ولكن من أجل الحصول عليه فإن عليه أن يغوص إلى قاع البحر، ويفعل جلجاميش ذلك ويُخرج النبات العجيب، ولكن فى طريق عودته إلى أوروك يقف بجوار بركة ماء ليستحم ويغير ملابسه، وبينما هو يفعل ذلك تشم الأفعى رائحة النبات فتأخذه بعيداً سالخة جلدها وهى تهرب. وهكذا يفشل مسعى جلجاميش وتختتم الملحمة بتصوير جلجاميش جالساً بجوار الساحل نادباً حظه ثم يعود فارغ اليدين إلى أوروك.
وهكذا تعرفنا - وبطريق غير مباشر من خلال ملحمة جلجاميش - عن أصل قصة طوفان نوح الواردة فى العهد القديم، بل وتعرفنا على مصدر بعض الآيات المذكورة فى سفر الجامعة العبرى أيضا، فكيف إنتقل هذا القصص الأسطورى إلى الكتب السماوية المقدسة ؟.
الإجابة ببساطة هى أن العبرانيين - أو اليهود كما نسميهم اليوم - هم فى الأساس شعب عراقى قديم، هاجر من العراق إلى فلسطين بقيادة إبراهيم فى حدود منتصف القرن الثامن عشر ق.م، ومن فلسطين إلى مصر ثم من مصر إلى فلسطين مرة أخرى بقيادة موسى فى حدود بداية القرن العاشر ق.م، حيث أسس له وطناً وملكاً، إستمر لعدة قرون قبل أن يقضى عليه الآشوريون خلال القرن الثامن ق.م، ومن بعدهم البابليون خلال القرن السادس ق.م، ليصبحوا بعد ذلك جزءً من الإمبراطورية الفارسية الفسيحة، التى شملت معظم الشرق الأوسط منذ أخريات القرن السادس ق.م حتى بدايات القرن الرابع ق.م، عندما غزا الإسكندر الأكبر بلاد الشرق الأوسط القديم وورث إمبراطورية الفرس.
إنه فى تلك الحقبة الفارسية أن عاد اليهود من فترة النفى فى بابل، وإستقروا فى أورشليم مرة أخرى، وأعادوا بناء معبدها وقرروا كتابة تاريخهم، منذ هجرة إبراهيم من العراق حتى تلك الساعة التى أمسك فيها الكاهن عيزرا بالقلم ليبدأ كتابة سطور العهد القديم، ولتتابع الأجيال اليهودية بعده كتابة فصول ذلك الكتاب الرهيب، الذى يغطى عملياً فترة حوالى ألف سنة منذ زمن موسى حتى زمن المسيح، ولكن الكاتب العبرى- سواء أكان عيزرا الكاهن أو غيره - أراد أن يبدأ كتابه بكتابة فصل عن أصل الخلق والخليقة وأن يضع سلسلة للنسب الإنسانى حتى يصل إلى إبراهيم، ولإنه ببساطة لم يكن يعرف أصلاً للخلق ولا للخليقة، فقد إعتمد على الأساطير العراقية القديمة، وطنه الأصلى، وسجل منها سفر التكوين، السفر الأول من أسفار التوراة ، أو أسفار العهد القديم. هذا ببساطة هو ماحدث وكما أوضحنا هنا أصل قصة الطوفان من أصل أسطورة جلجاميش، يمكن أن نوضح بنفس الطريقة أصل قصة الخلق الواردة فى التوراة من أصل قصة الخلق البابلية ( إينوما إليش) أو حينما فى العلى وبطلها الإله البابلى مردوك، الذى يساوى فى النص العبرى الإله العبرى يهوه ، الذى خلق العالم فى سبعة أيام كما فعل الإله مردوك، ثم كيف خلق يهوه جنة عدن ليعيش فيها الآلهة والخالدون من البشر، والتى هى ليست سوى أسطورة جنة ديلمون السومرية البابلية موطن الآلهة، والتى فيها خلقت الآلهة نينهورساج ثمانية آلاهة لشفاء الأعضاء المريضة الثمانية من أعضاء الإله إنكى، ومنها ضلعه ، والتى خلقت لمعالجته إلهة تسمى سيدة الضلع أو سيدة الحياة ، والتى إستلهم منها الكاتب العبرى قصة حواء ، التى خُلقت من ضلع آدم ، أما آدم نفسه فلم يكن سوى أدابا بطل ملحمة أدابا السومرية ، وأول البشر والذى رفض هدية الآلهة له بالخلود عندما رفض أن يقبل منها خبز وماء الحياة ، وقبل بدلاً من ذلك رداءً وزيتاً لمسح الجسد، فأنزلته من الجنة إلى الأرض ، وحرمته الخلود وكتبت عليه الموت كسائر البشر.
وهكذا يمكن تحليل عناصر رواية سفر التكوين عن أصل العالم والإنسان إلى أصولها الأسطورية العراقية القديمة بمنتهى البساطة ، لنصل بعد ذلك من قصة الخلق (إينوما إيليش) وسقوط الإنسان من الجنة (أدابا) إلى قصة الطوفان (جلجاميش)،وما أعقبها من خلق جديد للإنسان والشعوب حتى ظهور إبراهيم فى أور الكلدان ، لتنتهى الأسطورة ويبدأ تاريخ العبرانيين مع ظهوره وهجرته. إن هذا القصص التوراتى الأسطورى لايمكن أن يكون من عند الله، ولايمكن أن يكون مقدساً ولايمكن ولايجب أن يقتل الإنسان أخيه الإنسان من أجله ، لإنه إذا كان بعض مما جاء فى الكتب السماوية يعتمد على أساطير فإن الباقى منه لايمكن أن يكون من عند الله؟
ولكن فإذا كان اليهود وهم شعب عراقى قديم ، قد أخذوا تراث بلادهم القديمة وصنعوا منه تاريخاً أسطورياً عن خلق العالم والإنسان ، فلماذا إنتقل ذلك السرد الأسطورى إلى المسيحية والإسلام؟ وقبل أن ننتقل لتوضيح هذه النقطة لابد أن نؤكد هنا أن المسيحية والإسلام قد إحتويا على عناصر أسطورية كثيرة خاصة بهما تحتاج إلى دراسة منفصلة ، ولكن النقطة المركزية التى تعنينيا هنا هى توضيح كيف إرتبط التراث المسيحى والإسلامى باليهودية ، أو بأدب العهد القديم بالتحديد ، وليس دراسة الأساطير الخاصة بالمسيحية والإسلام ، ولذا وللإجابة على هذا السؤال يجب أن نلاحظ وأن نعرف أن المسيحية فى الأساس لم تكن سوى حركة تصحيح داخل اليهودية ، وأنها لم تكن ديانة منفصلة أبدأ من البداية ، وأن المسيح كان مصلحاً ومتمماً وليس ناقضاً لتعاليم موسى ، وأنه قد ظل يُشار إلى المسيحين الأوائل - وعلى مدى نحو قرن كامل - على أنهم فرقة من الفرق اليهودية الكثيرة، وذلك قبل كتابة الأناجيل وتأسيس النظم والطقوس العبادية الخاصة بالكنيسة ، وظهور المسيحية كديانة مستقلة عن اليهودية. وبموجب هذا الإدراك فلم يكن من الممكن لآباء الكنيسة الأوائل إهمال العهد القديم وأساطيره وأدابه بحيث تكون الكتاب المسيحى المقدس فى النهاية من جزأيه الطبيعين العهد القديم (عهد موسى) والعهد الجديد( عهد المسيح) وهكذا فقد تضمن التراث المسيحى على هذه المادة واضحة الجذور الأسطورية المذكورة فى سفر التكوين اليهودى، والتى يمكن لنا الآن إنكارها تماما على انها حقائق تاريخية أو معرفة منزلة من السماء.
ويبقى السؤال الأخير كيف إنتقل ذلك التراث اليهودى إلى الإسلام؟ وللأجابة على هذا السؤال يجب الرجوع إلى التاريخ ودراسة العلاقة بين العرب واليهود ، وهى فى الواقع علاقة قديمة جداً تبدأ بأسطورة هجرة إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز وبنائهما للكعبة ، ولكن العلاقة التاريخية الحقيقية ربما تكون قد بدأت بعد هدم الرومان لأورشليم سنة 70م ، وبداية تشتت اليهود وهجراتهم إلى المناطق المجاورة ومنها الجزيرة العربية، حيث عاشوا وإستقروا وتذكروا علاقاتهم القديمة بالعرب، والتى ترجع إلى أيام إبراهيم وإسماعيل. والواقع المؤكد أن العرب قد تأثروا بثقافة اليهود وديانتهم ، وكما تعرب كثير من اليهود فقد تهود كثير من العرب ، وبدأت الأفكار التوحيدية اليهودية تنتشر بين العرب الوثنيين حتى ظهرت العقيدة الحنيفية التوحيدية على دين إبراهيم، والتى كانت البداية الحقيقية لظهور الإسلام ، ثم ومع ظهور محمد تم نقل التراث اليهودى كله وبضربة واحدة من أبناء إسحاق اليهود إلى أبناء إسماعيل العرب ، كما تم نقل قبلة الدين الجديد من أورشليم ( القدس) إلى مكة ، وهكذا ورث العرب فى عقيدتهم الجديدة كل ذلك التراث الأسطورى المذكور فى أسفار التوراة، سواء فى قصة التكوين، أو قصة الخروج من مصر وحكايات موسى وفرعون وغيرها من حكايات ، كما ورثوا وجهة نظر اليهود فى المسيح والمسيحية، وحتى فى الطقوس والتشريعات لم يبتعد الإسلام عن اليهودية ، بحيث يمكن لنا أن نقول أن الإسلام لايعدو أن يكون فى الواقع سوى نسخة عربية من اليهودية.وهكذا أخذ العبرانيون أو اليهود كما نسميهم اليوم تراث وأساطير أجدادهم فى العراق القديم، وصاغوا بها روايتهم عن أصل العالم والإنسان فى كتابهم المقدس ، وهكذا أخذ منهم المسيحون نفس التراث ، ومن الإثنين أخذ الإسلام كل شئ.
























أهم المراجع:
1-أساطير شرق أوسطية - صموئيل هنرى هوك - ترجمة عبدالجواد سيد - مكتبة النهضة المصرية - القاهرة.
2-الكتاب المقدس - نسخة إنجليزية - مؤسسة الجيدوين العالمية - سنغافورة.

















2-المسيحية من الإستبداد، إلى الإصلاح، إلى الثورة العلمانية
هناك إعتقاد شائع بأن المسيحية قد تمكنت من البقاء والحياة فى سلام مع العالم لإنها إستجابت لحركة الإصلاح الدينى، التى فجرها مارتن لوثر فى بدايات القرن السادس عشر، ولإنها إستطاعت موائمة أفكارها ومبادئها الأساسية مع الأفكار الإنسانية العلمانية التى جاء بها عصر التنوير الأوربى بعد ذلك، وأن مثل تلك الإستجابة هى مايجب أن يتبناه الإسلام اليوم فى مواجهة تطورات العصر كى يتمكن من البقاء والحياة فى سلام مع العالم، فهل هذا حقيقى؟ وهل إستجابت المسيحية حقاً لحركة الإصلاح الدينى ولأفكار عصر التنويرأم أنها قد أُجبرت على ذلك؟ وأن ذلك الإجبار،وليس الإستجابة، هو مايجب أن يحدث مع الإسلام أيضاً كى يتمكن فعلاً من البقاء والحياة فى سلام مع العالم؟ دعونا نرى ماذا يقول التاريخ؟
المسيحية هى أكبر ديانة عرفها تاريخ الإنسان، وقد ظلت متربعة على عرش التاريخ الإنسانى لأكثر من عشرة قرون، حتى بدأت تتهاوى مع حركة مارتن لوثر الإصلاحية فى بدايات القرن السادس عشر، وحتى هزيمتها الأخيرة مع الثورة الفرنسية بعد ذلك بحوالى ثلاثة قرون. خرجت المسيحية من فلسطين على يد آخر أنبياء إسرائيل يشوع أو المسيح كما إشتهر فى التاريخ، وقد أرادا المسيح، الذى وصفه يوسيفيوس - المؤرخ اليهودى الرومانى الذى عاش فى القرن الأول الميلادى - بالرجل الصالح، أن يحدث بعض الإصلاحات فى شريعته اليهودية القاسية، فرفض إصلاحاته كثير من اليهود وأيدها كثير منهم أيضاً، وفى النهاية ضاق به الجميع، اليهود أصحاب الأرض، والرومان أصحاب السلطة، فحكموا عليه بالموت ورفعوه على الصليب بعد أن أذاقوه مر العذاب، وبمجرد أن لفظ أنفاسه الأخيرة وأسلم الروح إلى خالقه، تحول النبى اليهودى إلى مؤسس لدين جديد، ففى خلال القرن الأول الميلادى كُتبت قصة حياة يسوع وتعاليمه فى الأناجيل، وتحولت حركته الإصلاحية إلى ديانة مستقلة عن اليهودية، وهى المسيحية والتى قُدر لها أن تكتسح كل العالم الرومانى حتى إضطر الإمبراطور الرومانى قسطنطين الكبير إلى الإعتراف بها كديانة رسمية للإمبراطورية فى حدود سنة 325 من ميلاد المسيح.
لم تنحصر شهرة وإسهامات قسطنطين الكبير فى التاريخ فى مجرد إعترافه بالمسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية، ولكن كان هو أيضاً الذى أمر ببناء مدينة بيزنطة على ساحل البسفور فى الجزء الشرقى من الإمبراطورية، ونقل مقر حكمه من روما إليها فى حدود نفس التاريخ الذى إعترف فيه بالمسيحية، وذلك بسبب تهديدات القبائل الجرمانية البربرية التى كانت تتعرض لها الإمبراطورية من جهة الغرب. وكما إنقسم العالم الرومانى - بمرور الزمن - إلى شرقى وغربى، كذلك إنقسمت المسيحية الظافرة إلى شرقية أرثوذكسية وغربية كاثوليكية، وبينما ظلت المسيحية الأرثوكسية خاضعة لسلطة الدولة الرومانية الشرقية (البيزنطية) حتى سقوط بيزنطة على يد العثمانيين سنة 1453م، وتفرق مراكزها على أثر ذلك مع إستمرار خضوعها للدولة، مما لم يجعلها لاعباً رئيسيا فى أحداث تاريخ أوربا والعالم، فإن المسيحية الكاثوليكية كان لها شأن آخر وقصة أخرى. فبعد سقوط روما فى يد البرابرة الجرمان سنة 476م برزت البابوبة الكاثوليكية فى إيطاليا كالسلطة الوحيدة الباقية من تراث الإمبراطورية الرومانية، فكان من الطبيعى أن تتحول إلى دين ودولة وأن يلتف حولها الناس، ومن هنا بدأت المسيحية رحلتها فى التاريخ لتقود السياسات والحروب وتصارع على السلطة، وتتحول من عقيدة المظلومين إلى عقيدة الظالمين.
سيطرت البابوية على حياة أوربا على مدى نحو ثلاثة قرون، وذلك حتى تمكن شارلمان العظيم من إحياء الإمبراطورية الرومانية فى الغرب مرة أخرى سنة 800م تحت إسم الإمبراطورية الرومانية المقدسة (إمبراطورية العصور الوسطى)، التى شملت معظم مناطق غرب أوربا - بإستثناء إنجلترا وفرنسا التى إنفصلت عنها فيما بعد - لكن البابوية وبعد أن ذاقت طعم السلطة لم تستطع التخلى عنها بعد ذلك ولم ترغب فى أن تتركها للملوك يستمتعون بها وحدهم، فكان من الطبيعى أن تدخل فى صراع معهم لتأكيد سمو مركزها كالسلطة الأعلى فى العالم المسيحى، مستغلة مركزها الدينى الكبير، وماكانت تتمتع به من سلطان روحى طاغ على رعاياها بصفتها المؤسسة النائبة عن المسيح فى الأرض، وتعددت صور الصراع، وكان أبرزها ماحدث بين البابوات وبين بعض أباطرة الإمبراطورية الرومانية المقدسة من صراعات ومنافسات، فنرى البابا جريجورى السابع يصدر قرار الحرمان من رحمة الكنيسة على الإمبراطورالألمانى هنرى الرابع فى يناير سنة 1077م - بسبب الصراع على حق تعيين الأساقفة ورجال الدين - ويتركه راكعاً أمام قلعة كانوسا فى إقليم توسكانيا فى إيطاليا قبل أن يعفو عنه، ويكتب عن ذلك فى تجبر قائلاً (لقد جاء بشخصه إلى كانوسا فى إقليم تسكانيا، ورمى بنفسه بباب القلعة حافى القدين، يرتدى بدلة صوف رثة راجياً بخشوع العفو والغفران، وإستمر على ذلك لنحو ثلاثة ايام، فأخذت الشفقة مأخذها ممن حولنا، وتشفعوا له بالدعاء والخشوع، وأخيراً رفعنا عنه الحرمان وإستقبلناه إلى حضن الكنيسة الرؤوم). ومرة أخرى يقوم البابا إسكندرالثالث (1159-1181م) بإصدار قرار الحرمان من الكنيسة على الإمبراطور فردريك بارباروسا - قائد الحملة الصليبية الثالثة - وذلك بسبب الصراع على النفوذ على المدن اللمباردية فى شمال إيطاليا، وكان ذلك فى سنة 1177م حيث تكررت مهزلة كانوسا، فدخل الإمبراطور فردريك الأول بارباروسا على البابا إسكندر الثالث فى البندقية، حيث إرتمى بين قدميه باكياً مستغفراً طالباً الصفح، مثلما فعل سلفه هنرى الرابع مع البابا جريجورى السابع قبل قرن من الزمان. وبنفس الشكل قام البابا جريجورى التاسع بإصدار قرار الحرمان على الإمبراطور فردريك الثانى مرتين، مرة فى سبتمبر سنة 1227م بحجة تلكئه فى الخروج على رأس الحملة الصليبية السادسة، بينما كان الصراع على النفوذ فى إيطاليا هو السبب الحقيقى، ومرة أخرى سنة 1239م بسبب نفس النزاع المستمر بينهما على النفوذ فى إيطاليا، ولم ينحصر ذلك الصراع على السلطة والنفوذ مع أباطرة الإمبراطورية الرومانية فقط، لكنه إمتد إلى كل ملوك أوربا المستقلين عن الإمبراطورية وضد الشعوب أيضا، حيث قادت البابوية الحروب ضد المواطنين المسيحين فى جنوب فرنسا سنة 1209م، وقتلتهم وصادرت أملاكهم، وأصدرت قرار الحرمان على ريموند السادس أمير تولوز نصير الحركة الإلبيجنسية التى كانت تحاول التحرر من سيطرة وطغيان البابوية.وقد ظل ذلك الصراع بين البابوية والحكام الدنيويين ملمحاً أساسياً من ملامح تاريخ أوربا فى العصور الوسطى، إلى أن زعزعت حركة الإصلاح الدينى التى قادها مارتن لوثر فى بدايات القرن السادس عشر، من مركز البابوية وذلك قبل أن تقوضه الثورة الفرنسية نهائياً.
وعندما بدأت بشائر عصر النهضة الأوربى فى حدود القرن الثالث عشر بسبب ظهور الطبقة التجارية الثرية فى إيطاليا، وإنتشار المدن التجارية وتبنى هذه الطبقة لحركة إحياء التراث اليونانى الرومانى فيما عرف بحركة الإنسانيين، والمضادة بطبيعتها للأفكار الدينية المسيحية التى سادت فى العصور الوسطى الأوربية، كان رد الكنيسة غاية فى العنف، ووصل الأمر بإنشاء محاكم خاصة لمحاكمة أصحاب الأفكار والآراء الخارجة عن تعاليم الكنيسة عرفت بإسم محاكم التفتيش، والتى مثلت أهم مؤسسات الرعب الدينى على مر التاريخ، وقد إنشئت فى أوائل القرن الثالث عشر بقرار من البابا جرينوار التاسع وذلك سنة 1233م، وكان هدفها محاربة الهرطقة فى كل أنحاء العالم المسيحى، وقد كُلف بها رجال الدين فى مختلف البلاد، فكانت الناس تساق سوقاً عن طريق الشبهة أوعن طريق الوشاية، حيث كانوا يتعرضون للتعذيب الشديد حتى ينهارون ويعترفون بأفكارهم ،وعندئذ كان يحق للمحقق أن يعفو عنهم إذا تابوا أو يلقى بهم إلى النيران إذا رأى أنهم لايستحقون العفو. وقد قُتل خلق كثير بهذه الطريقة الوحشية التى أصبحت علامة على العصور الوسطى، ويُقال أن عدد الذين ماتوا بهذه الطريقة يتجاوز عشرات الألوف، ومن أشهر الذين ماتوا حرقاً المصلح التشيكى المشهور جان هوس حيث حُكم عليه بالموت حرقاً فى يوليو سنة 1415م ، وكذلك الفيلسوف الإيطالى جيوردانو برينو فقد أعدم حرقاً، ومن أهم الذين مثلوا أمام محاكم التفتيش أيضاً العالم الشهير جاليليو و كوبرنيكوس القائل بدوران الأرض حول الشمس، لكن الأخير نجا منها بسبب حذره وتأجيله نشر كتابه الذى يحتوى على نظريته الجديدة حتى يوم وفاته، بينما كان العالم الشهير جاليليو مهدداً بنفس المصير لولا أنه أستدرك الأمر فى آخر لحظة وقبل بالتراجع عن نظريته المشهورة، وهكذا عفوا عنه ولم ينفذوا فيه حكم الإعدام، ثم أحيل إلى الإقامة الجبرية فى ضواحى فلورنسا وأتيح له أن يكمل بحوثه وهو تحت المراقبة. وقد إستمرت محرقة محاكم التفتيش موقدة حتى إنطفئت مع عصر الأنوارخلال القرن الثامن عشر.
وفى ظل ذلك القمع والإستبداد، وكإمتداد للوعى الذى أثارته حركة النهضة ، كان من الطبيعى أن تنطلق حركة الإصلاح الدينى التى قادها مارتن لوثر فى بدايات القرن السادس عشرفى ألمانيا، قلب الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ضد إستبداد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وسيطرتها على حياة الناس الروحية والمادية معاً ، ضد الضرائب وإلإقطاع وضد صكوك الغفران وتهديدات الحرمان ومحاكم التفتيش وأغلال العبودية، وقد هاجم مارتن لوثر مفاسد الكنيسة الكاثولكية فى منشور علقه على باب كنيسة ويتنبرج سنة 1517م، عبر فيه عن عقيدته الدينية الجديدة والتى أطلق عليها تعبير(التبرير بالإيمان) أى أن الله وحده هو الذى يملك الحكم على إيمان الناس من عدمه، وأنه وحده من يملك الغفران لهم من عدمه وبدون الحاجة إلى واسطة رجال الدين، كماهاجم صكوك الغفران بقوة، ودعى إلى عدم الإستجابة للراهب تتزل، مندوب البابا، والذى أرسله لتسويق مزيد من صكوك الغفران من أجل المساهمة فى تجديد كنيسة القديس بطرس، ودعى إلى تأسيس كنائس قومية وإلى إخضاع الكنيسة للسلطة الزمنية ، وقد ردت الكنيسة الكاثوليكية على حركة لوثر بأن أصدر البابا ليو العاشر قرار الحرمان من الكنيسة ضده فى ديسمبر 1520م، وكان رد مارتن لوثر أن أحرق قرار البابا علانيةً أمام جميع الناس فى ساحة ويتنبرج، وتفاقم الأمر حتى طلب البابا من الإمبراطور شارل الخامس أن يلقى القبض عليه وينفذ قرار الحرمان الصادر ضده بإعتباره مارقاً خارجاً عن الكنيسة، وبالفعل إستدعى مارتن لوثر للمثول أمام مجلس يمثل الإمبراطورية فى مدينة فورمس لمحاكمته فى يناير 1521م، ولما ناقشه المجمع فى آرائه أصر على كل كلمة نطق بها أو كتبها من قبل، وعندئذ أعتبر خارجاً عن القانون وحُكم بإهدار دمه وحرمانه من الحقوق المدنية فى الإمبراطورية، إلا أن فردريك أمير سكسونيا وآخرين من أمراء شمال ألمانيا وضعوه تحت حمايتهم وبذلك نجا من العقوبة. وسرعان ماإكتسحت اللوثرية معظم الطبقات فى ألمانيا ومنها إنتشرت إلى معظم أنحاء غرب أوربا . ومنذ ذلك الوقت إنقسم العالم المسيحى الغربى إلى قسمين، قسم كاثوليكى يتزعمه البابا والملوك الكاثوليك وقسم بروتستانتى(أىمعترض) تتزعمه الشعوب الراغبة فى الحرية، ودارت بينهما المعارك والحروب على مدار نحو قرن ونصف، بدأت فى ألمانيا مع ظهور حركة لوثر ولم تنتهى مؤقتاً إلا بصلح أوجزبرج سنة 1555م، الذى أقر- نسبيا ً- بمبدأ الحرية الدينية للبروتستانت.
وقد كان لتلك الحروب الألمانية الأولى صداها فى بلاد الإتحاد السويسرى، الذى قاد حركة الإصلاح الدينى فيها أولريخ زونجلى متأثراً بأفكار لوثر وعارض بيع صكوك الغفران سنة 1519م وإنضم إلى حركته كثير من السويسريين، حتى إنقسمت مقاطعات الإتحاد السويسرى إلى بروتستانت وكاثوليك ونشبت الحرب بينهما سنة 1531م، حيث هُزم البروتستانت وقتل زونجلى وأحرق الكاثوليك جثته ثم عقد الصلح بين الفريقين عام 1532م، حيث تقرر أن يكون لكل مقاطعة ومدينة الحق فى الإحتفاظ بعقيدتها وتقرير مسائلها الدينية وإتباع المذهب الدينى الذى تختاره حسب إرادتها.
ثم تفجرت هذه الحروب مرة أخرى وبشكل أكثر عنفاً فى الأراضى المنخفضة (هولندا وبلجيكا) الواقعة تحت سيطرة التاج الأسبانى- الفرع الثانى من أسرة الهابسبرح حكام الإمبراطورية الرومانية - والتى كان يحكمها فيليب الثانى بوصاية أبيه شارل الخامس بعد إعتزال الأخير الحكم فى أعقاب صلح أوجزبرج، وكانت البروتستينية قد إنتشرت فى الأراضى المنخفضة على مذهب كلفن، وهو مصلح دينى سويسرى من أصل فرنسى تأثر بحركة مارتن لوثر فى ألمانيا، وعمل بدوره على التحرر من مظالم الكنيسة الكاثوليكية وحلفائها من الملوك الكاثوليك وتشجيع إقامة الكنائس القومية، وقد ساعدت ظروف القمع الوحشى التى كانت تعيش فيها شعوب الأراضى المنخفضة فى ظل محاكم التفتيش الأسبانية، التى أدخلها شارل الخامس، على إشتعال الثورة سنة 1566م، والتى عرفت بإسم ثورة الشحاذين، حيث وصف أحد رجال الحكم الأسبان النبلاء الذين تقدموا بطلب إلغاء محاكم التفتيش بالشحاذين، فأصبحت التسمية علماً على الثورة التى إستمرت حتى سنة 1609م، حين إضطرت الملكية الأسبانية إلى توقيع هدنة مع الثوار الذين كان يقودهم موريس أورانج ، إبن وليم أورانج الأول ، زعيم الثورة والذى إغتاله الأسبان سنة1584م، وذلك لمدة إثنى عشر عاما لم تلبث أن إشتعلت بعدها الحرب مرة أخرى والتى لم تنتهى فعلياً إلا مع صلح وستفاليا سنة 1648م، حيث تم الإعتراف بإستقلال الجزء البروتستنتى الشمالى من الأراضى المنخفضة عن أسبانيا الكاثوليكية، وهو ماأصبح جمهورية هولندا الحديثة، والتى ستصبح أراضيها منطلقاً لحركة التنوير الكبرى التى ستشهدها أوربا خلال القرن السابع عشر والثامن عشر. كانت ثورة الأراضى المنخفضة أحد أبشع فصول الحروب الدينية التى خاضتها الشعوب الأوربية من أجل حريتها الدينية والسياسية، ويكفى أن نذكر أن أول رد فعل لجماهير البروتستانت الغاضبة لرفض الحكومة الأسبانية طلب إلغاء محاكم التفتيش كان تحطيم حوالى أربعمائة كنيسة كاثوليكية فى أسبوع واحد، كما كان أول مافعله دوق ألفا، القائد الذى أرسله فيليب الثانى لقمع الثورة فى بداياتها، والذى إشتهر بإسم جلاد الأراضى المنخفضة، هو تشكيل هيئة قضائية عرفت بإسم(مجلس الدم)، والتى قام من خلالها بإعدام نحو 18600 بروتستنتى، بالإضافة إلى ألوف لاحصر لها ، سقطوا فى ميادين القتال، أو هربوا خارج البلاد.
وقد إمتدت الحروب الدينية إلى فرنسا حيث إنتشرت الحركة البروتستينية على مبادئ كلفن، وقد بدأت حركة الإضطهاد الدينى فى فرنسا فى عهد الملك فرانسوا الأول حوالى عام 1535م، عندما بدأ بطشه بالبروتستانت الذين عرفوا فى فرنسا بالهيجونوت، مما دفع كلفن إلى الفرار والإستقرار بسويسرا. وقد واصل الملك هنرى الثانى(1547-1559م) مابدأه أبوه فرانسوا الأول من إضطهاد البروتستانت بقصد القضاء عليهم قضاءً تاماً، فكان يأمر جنوده بمهاجمتهم وهدم منازلهم حتى حدثت مذابح راح ضحيتها آلاف منهم، كما حُكم خلالها على كثير من زعمائهم بالموت حرقاً، لكن ذلك لم يزد جموع الهيجونوت سوى إصراراً على عقيدتهم، وإنتشر المذهب الجديد بين طبقات الشعب من الفلاحين وأصحاب المهن والمثقفين وحتى النبلاء أنفسهم، الذين رأوا فى العقيدة الجديدة وسيلة للتخلص من إستبداد الكنيسة والملك على السواء. وبعد وفاة هنرى الثانى تولت زوجته كاترين ديميتشى السلطة الفعلية فى فرنسا بسبب صغر سن أبنائه، وفى عهدها إشتعلت الحرب بين أصحاب المذهبين بصورة رهيبة لم يسبق لها مثيل فى أوربا، وقد حاولت كاترين التوفيق بين أصحاب المذهبين خاصة بين أسرة جيز حامية الكاثوليكية وبين أسرة بربون حامية البروتستينية حفاظاً على وحدة البلاد، لكنها فشلت فى مسعاها، ففى سنة 1562م تعرض البروتستانت الهيجونوت لمذبحة كبيرة دبرها أعوان أسرة جيز فى مدينة فاسى، حيث هاجموا البروتستنت وقتلوا أعداداً كبيرة منهم أثناء أدائهم لصلواتهم فى أحد الأماكن الفسيحة فى المدينة، كما قام الكاثوليك فى الأٌقاليم الأخرى أيضاً بمهاجمة الهيجونوت وفتكوا بهم، ورد الهيجونوت على ذلك بمهاجمة الكنائس الكاثوليكية وتخريبها وقتل عدد كبير من رجال الدين الكاثوليك، فكانت تلك المذبحة هى الشرارة الأولى التى أشعلت الحرب الأهلية فى فرنسا بين الكاثوليك والبروتستنانت، والتى إستمرت لنحو ثلاثين عاماً بعد ذلك.
مرت الحرب الأهلية الفرنسية بمحطات رئيسية من السلام والعنف ، ففى سنة 1563م أصدرت كاترين ديميتشى مرسوم أمبواز الذى منحت بموجبه الهيجونوت حرية العبادة فى بلدة واحدة فى كل إقليم من أقاليم فرنسا، ومضت فترة سلام بعد هذا المرسوم إستمرت خمس سنوات ثم عادت الحرب من جديد سنة 1568م، ورغم هزيمة الهيجونوت فى تلك الحرب، فقد رأت كاترين ميديتشى مصالحتهم خوفاً من إزدياد نفوذ أسرة جيز الكاثوليكية، فمنحتهم فى مرسوم جديد عُرف بإسم مرسوم سان جرمان شروطاً أكثر تسامحاً من الشروط السابقة، حيث أصبح لهم حرية العبادة فى بلدتين وليس بلدة واحدة فى كل إقليم من أقاليم فرنسا، إلا أن كاترين ونتيجة لحساباتها السياسية الخاصة، وعندما تصورت أن إبنها الملك الشاب، شارل التاسع قد بدأ يميل إلى جانب البروتستانت، قررت أن تقضى عليهم وعلى زعمائهم بضربة واحدة، فدبرت لهم فى سنة 1572م ماأصبح يعرف فى التاريخ بمذبحة سان بارتلميو، والتى تمكنت فيها من قتل آلاف منهم، فى باريس والأقاليم، بواسطة أسرة جيز الكاثوليكية، كما تمكنت من قتل زعيمهم الميدانى الأدميرال كولينى، وإرسال رأسه إلى البابا فى روما، والذى أمر بدوره بنقش ميدالية تخليداً لتلك الذكرى. ومن تلك المذبحة الكبيرة، نجا هنرى نافار زعيم أسرة بربون البروتستينية، وزوج الأميرة مرجريت شقيقة الملك، والذى سيصبح هنرى الرابع ملك فرنسا فيما بعد، وذلك بعدما عُرض عليه أن يختار بين الإعدام أو العودة للكاثوليكية فإختار الكاثوليكية إنقاذاً لحياته. وكالعادة لم تزد تلك المذبحة الهيجونوت إلا إصراراً على عقيدتهم وعلى مواصلة الكفاح من أجل حريتهم الدينية والسياسية.
وفى عهد هنرى الثالث(1574-1589م)، الذى خلف شارل التاسع، تغير الموقف السياسى فى فرنسا لصالح البروتستانت، فقد رأى الملك الجديد وبرغم تعصبه الكاثوليكى وإشتراكه فى تدبير مذبحة سان بارتلميو، أسهم أسرة جيز الكاثوليكية فى إرتفاع شديد، كما رأى تعاطفها مع فيليب ملك أسبانيا الكاثوليكى ضد العرش الفرنسى، فقرر التحالف مع زوج أخته البروتستنتى والوريث المحتمل للعرش، هنرى نافار، الذى كان قد عاد إلى البروتستينية مرة أخرى، لكن الكاثوليك عاجلوا بإغتيال هنرى الثالث فى أغسطس 1589م، فأصبح هنرى نافار فى مواجهة الحلف الكاثوليكى وحده وبدأت الحرب بينهما.
لم يكن الطريق سهلاً أمام هنرى نافار لإعتلاء العرش الفرنسى، فقد كانت الكاثوليكية هى العقيدة الرسمية للبلاد، وكان معظم رجال البلاط من الكاثوليك، كما كان فيليب ملك أسبانيا يمد الحلف الكاثوليكى بالمساعدات العسكرية، ولذا فلم يكم أمام هنرى نافار سوى أن يعلن على الملأ إعتناقه الكاثوليكية ليضمن جلوسه على العرش، وبمجرد أن أعلن قراره هذا هدأت المقاومة فى باريس وفتحت له المدينة أبوابها سنة 1594م، وإنتهت الحروب الدينية فى فرنسا مؤقتا. وبتولى هنرى الرابع نافار العرش الفرنسى إنتقل الحكم من أسرة فالوا إلى أسرة بوربون التى ستحكم فرنسا حتى قيام الثورة الفرنسية، وقد عمل هنرى الرابع نافار على إنهاء الخلاف بين الكاثوليك والبروتستانت، فأصدر فى إبريل 1598م مرسوم نانت الشهير، والذى منح البروتستانت قدراً كبيراً من الحريات الدينية التى كانوا يطالبون بها، فقد سمح المرسوم للمدن التى تكون أغلبية سكانها من البروتستانت أن تزاول العبادة طبقاً لمذهب الأغلبية، كما منح البروتستنت حق التمتع بالحقوق المدنية والحماية القانونية التى يتمتع بها الكاثوليك، بحيث يكونوا معهم على قدم المساواة فى التعيين بالوظائف العامة والإلتحاق بالجامعات الكاثوليكية، وكان ذلك أكثر مما يمكن أن يسمح به الكاثوليك فقاموا بإغتيال هنرى الرابع نافار فى مايو 1610م.
وبعد إغتيال هنرى الرابع تولى إبنه القاصر لويس الثالث عشر بوصاية أمه مارى دى مديتشى، وفى عهده تحرك البروتستانت وقاموا بثورة عندما شعروا بنية الحكومة فى الإنتقاص من حقوقهم التى إكتسبوها فى مرسوم نانت الصادر فى عهد هنرىنافار ، لكن لويس قضى على ثورتهم وقام بالفعل بالإنتقاص من الحقوق التى حصلوا عليها فى مرسوم نانت ولكن بدون إلغائه. وفى سنة 1624م تولى الكاردينال ريشيليه الوزارة فأصبح هو الحاكم الفعلى للبلاد لنحو ثمانية عشرعام، وكانت أول عقبة رأى أن يبدأ بتذليلها فى سبيل تحقيق وحدة البلاد فى مواجهة أسرة الهابسبرج، حكام الإمبراطورية الرومانية الكاثوليكية، فى النمسا وأسبانيا وإيطاليا، هى القضاء على المركز المتميز الذى حصل عليه الهيجونوت بموجب مرسوم نانت، وعندما أدرك الهيجونوت ذلك حاولوا القيام بثورة سنة 1625م لكن ريشيليه تمكن من القضاء عليها، وفى سنة 1627م أمر ريشيليه بمهاجمة أهم معاقلهم فى فرنسا وهزمهم ووقع معهم صلح عرف بإسم صلح أليه سنة 1629م، وبموجب هذا الصلح إحتفظ الهيجونوت بحريتهم الدينية ولكنهم فقدوا إستقلالهم السياسى الذين كانوا قد حصلوا عليه بموجب مرسوم نانت، وهدأت الحروب الدينية فى فرنسا لفترة قصيرة، لكنها لم تلبث أن إشتعلت مرة أخرى بإشتراك فرنسا فى حرب الثلاثين عام التى كانت قد إجتاحت أوربا سنة 1618م.
بدأت شرارة حرب الثلاثين عام عندما أنتخب فرديناند أمير النمسا إمبراطوراً بإسم فرديناند الثانى، بوصاية أبيه شارل الخامس، وكان فى الوقت نفسه ملكاً على بوهيميا(جمهورية التشيك الحالية)، ومعروفاً بأنه من غلاة الكاثوليك، وقد أدرك البوهيميون - الذين كانوا قد تحولوا إلى البروتستينية - ذلك عندما أمر بهدم بعض الكنائس البروتستينية، فأعلنوا الثورة فى براج وإعتدى الثوار على ثلاثة من رجال الحكومة كانوا مبعوثين من قبل الإمبراطوروألقوا بهم من نافذة دار البلدية، فكان هذا الحادث فاتحة للحرب الطاحنة، حيث أرسل فرديناند قواته لقمع ثورتهم، وقام البروتستنت بدورهم بالإستنجاد بفرديك حاكم ولاية البلاتين الألمانية وأحد زعماء البروتستنت الألمان، فلبى دعوتهم وقبل التاج البوهيمى ولقب بفردريك الخامس وإستقدم قوات من الإتحاد البروتستنتى، الذى كان قد تشكل فى ألمانيا سنة 1608م أثناء هدنة أوجزبرج، وفى نفس الوقت تلقى فرديناند عوناً مالياً من البابا، وإستقدم قوات أسبانية من أخيه فيليب الثانى، وقام بإجتياح بوهيميا بجيش فى حوالى خمسين ألف مقاتل، وإلتحم بالبروتستنت الذين كان يقودهم فردريك الألمانى فى موقعة الجبل الأبيض بالقرب من براج وإنتصر عليها، بينما هرب فردريك، ونكل فرديناند بالبروتستنت لإرغامهم على العودة إلى الكاثوليكية، مما ترتب عليه هجرة آلاف الأسر منهم، وتدفق اليسوعيين الجيزويت زعماء حركة الإصلاح الكاثوليكية التى تكونت حوالى سنة 1534م على بوهيميا، وبدأت كثلكة بوهيميا من جديد، كما أخمدت أنفاس البروتستنت فى النمسا عندما ثار أهلها إنتصاراً لبوهيميا.
أدت هزيمة بوهيميا إلى إنحلال الإتحاد البروتستنتى عام 1621م وإنتقال زعامة البروتستانت إلى يد ملك الدنمرك كرستيان الرابع، والذى دخل الحرب معتمداً على تحالفه مع إنجلترا وأمراء شمال ألمانيا وعلى مابذله له الوزير الفرنسى(الكاثوليكى) ريشيليه من وعود بالمساعدة ، نكاية فى العرش النمساوى الكاثوليكى المنافس ، لكن الحرب إنتهت فى غير صالحه وإضطر إلى توقيع صلح لوبك مع الإمبراطور سنة 1629م، وقد إنتهز الكاثوليك فرصة هذا الضعف الذى حل بالحزب البروتستنتى فى أوربا وأجبروا الإمبراطور على إصدار مرسوم الإعادة، والذى خول فيه الكنيسة الرومانية إسترجاع كل الأملاك التى إنتزعت منها منذ معاهدة أوجزبرج سنة 1555م، وقد روع هذا المرسوم البروتستنت فى كل أنحاء أوربا، بل أنه قدأزعج ريشيليه رئيس وزراء فرنسا، الدولة الكاثوليكية الكبرى، والذى رأى فيه محاولة من فرديناند الثانى للسيطرة على كل أوربا، ولذلك فقد قام بتشجيع جستاف أودلف ملك السويد البروتستنتى على غزو ألمانيا.
قام جوستاف بإنزال قواته فى المانيا فى يونيو 1630م وتقدم لإنقاذ مدينة مجدبرج البروتستينية التى كان الجيش الإمبراطورى يحاصرها فى محاولة لتطبيق مرسوم الإعادة، إلا أن أميرا سكونيا وبراندنبرج رفضا السماح لقواته بالمرور عبر ولايتهما للوصول إلى مجدبرج، وكانت النتيجة أن إكتسحتها قوات الإمبراطور قبل أن يستطيع الجيش السويدى إنقاذها، وإرتكبت قوات الإمبراطور أكبر مجزرة فى الحروب الدينية الأوربية، حيث ذبحت بوحشية مالايقل عن عشرين ألف من سكان المدينة وأشعلت الحرائق فيها، ومن هناك تقدمت لغزو سكونيا وبراندبرج التى أدرك أميراها خطأ رفضهما التعاون مع جستاف فإنضما إليه، وتقدم الجميع بقيادة جستاف نحو ولاية ليبزج حيث أوقعوا هزيمة ساحقة بقوات الإمبراطور توغل على أثرها جستاف فى الأراضى الألمانية، مما أثار فزع الإمبراطور وجعله يستدعى قائد المرتزقة الشهير والنشتين ويعهد إليه بقيادة الجيوش، والذى سرعان ماإستطاع حشد أعداداً كبيرة من المقاتلين ومهاجمة جستاف وقتله عند منطقة لوتزن سنة 1632م، لكن الإمبراطورعزل والنشتين لتفاوضه سراً مع السويديين، ووضع إبنه فرديناند ملك المجر على قيادة الجيوش حيث تمكن من إيقاع هزيمة ساحقة بالسويديين فى نوردلنجن فى إقليم بافاريا حوالى سنة 1635م ترتب عليها تراجع الولايات البروتستينية عن تأييدها للتدخل السويدى، وقيام الإمبراطور كرد على ذلك بإلغاء مرسوم الإعادة وتهدئة روع البروتستنت وتأمينهم على حياتهم.
وهكذا بدا أن هذه الجولة من الحروب الدينية على وشك الإنتهاء، لكن فرنسا، بقيادة ريشيليه قررت بعد الهزيمة السويدية ومصرع جستاف أن تلبى طلب الوصى على عرش السويد بالتدخل سنة 1635م، ودعوة جميع أعداء أسرة الهابسبرج(النمساوية الأسبانية) للتدخل أيضاً. وهكذا دخلت حرب الثلاثين عام دورها الحاسم والأخير والذى لم يعد فيه الخلاف الدينى هو الدافع الوحيد فقد كان غزاة ألمانيا هذه المرة يتألفون من كاثوليك وبروتستانت، وكانت فى الواقع صراعاً على السيادة بين آل بوربون وآل هابسبرج. وبتوالى الكوارث والهزائم على الإمبراطور فى حربه مع القوات الفرنسية السويدية التى إجتحات بلاده إضطر إلى طلب الصلح، لكنه مات سنة 1637م قبل أن يحقق ذلك وخلفه على العرش إبنه فرديناند الثالث(1637-1657م) والذى شهد عهده هزيمة ألمانيا النهائية وتوقيع الصلح الشهير الذى عرف بإسم صلح وستفاليا سنة 1648م، والذى أكد على الحريات الدينية فى جميع أنحاء أوربا، وعلى إحتفاظ الكاثوليك والبروتستانت بما كان فى أيديهم من أملاك الكنيسة منذ عام 1624م، وعلى الإحترام الكامل لشروط صلح أوجزبرج الموقع سنة 1555م،وكذلك الإعتراف رسمياً بإستقلال هولندة وسويسرا عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
لكن الواقع أن صلح وستفاليا لم يكن سوى مجرد أكذوبة كبرى، فقد إستمرت الحروب الدينية الدموية فى أنحاء متفرقة من أوربا وخاصة فى إنجلترا وفرنسا، ففى إنجلترا كانت حركة الإصلاح الدينى قد بدأت فى عهد الملك هنرى الثامن (1509-1547) بداية سياسية أكثر منها دينية، وذلك عندما رغب الملك فى أن يصدر البابا قراراً يجيز به طلاقه من زوجته كاترين إبنة ملك أسبانيا كى يتمكن من الزواج من عشيقتة آن بولين وصيفة الملكة، وعندما رفض البابا كليمنت السابع ذلك إعتنق هنرى الثامن البروتستينية وإقتضى بالأمراء الألمان فى سعيهم للتحرر من سلطة البابوية وإنشاء كنائس قومية منفصلة عن كنيسة روما، وقام بتعيين توماس كرانمر أسقف لكانتربرى سنة 1533م، وهو أكبر منصب دينى فى البلاد ، والذى أصدر قراراً بإلغاء زواج الملك من كاترين والموافقة على زواجه من آن بولين دون الرجوع إلى البابا، فرد البابا بإصدار قرار الحرمان ضد هنرى فلم يعبأ هنرى بذلك وبدأ فى الإستيلاء على الكنائس والأديرة والأراضى الكنسية ومصادرتها لصالح الدولة، وقد وافقت البروتستينية ميول الشعب الإنجليزى فى الإستقلال والحرية الدينية ولذلك فقد إنتشرت سريعاً بين جموع الشعب الإنجليزى، وفى عهد إدوارد السادس إبن هنرى(1547-1553) تم تأكيد البروتستينية كعقيدة رسمية للبلاد، إلا أن الأمرإختلف عندما إعتلت العرش، أخت إدوارد السادس غير الشقيقة، مارى إبنة كاترين الأسبانية (1552-1558) وكانت كاثوليكية متعصبة بحكم منشأ أمها الأسبانى، فإرتدت عن مذهب الدولة البروتستنتى، وقامت بإضطهاد البروتستنت وأحدثت بهم مذابح رهيبة لدرجة جعلتها تشتهر فى التاريخ بإسم مارى السفاحة، ولم ينتهى عهد الرعب الذى أحدثته مارى إلا بإعتلاء أختها غير الشقيقة إليزابيث العرش (1558-1603)، والتى رفعت الإضطهاد عن البروتستانت وعادت إلى البروتستينية الإنجليكانية مرة أخرى. وبعد وفاة إليزابيث سنة 1603م خلفها جيمس الأول، ملك اسكتلندا، الذى وبرغم ميوله الإستبدادية، فقد حافظ على البروتستينية الإنجليكانية كعقيدة رسمية للبلاد، إلا أن الأمرقد إختلف بعد وفاته سنة 1625م وإعتلاء إبنه شارل الأول العرش، فقد سار شارل الأول على نهج أبيه الإستبدادى، إلا أنه قد قام سنة 1633م بتعيين وليم لود رئيساً لأساقفة كنتربرى، وكان لود ميالاً للعودة إلى المذهب الكاثوليكى فأخذ فى إجبار رجال الدين على العودة إلى الطقوس الكاثوليكية، كما حاول إجبار الشعب على القبول بتلك الطقوس، مما دفع بأعداد كبيرة من البروتستنت، والذين عرفوا بإسم البيوريتان، وعلى نحو ماحدث للهيجونوت فى فرنسا، إلى الهرب إلى هولندا وإلى أمريكا الشمالية، حيث إستوطنوا المستعمرات التى كانت تعرف بإسم (نيوإنجلند) والتى إستقلوا بها بعد ذلك عن إنجلترا فى دولة الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1776م، ووضعوا لها دستوراً قائماً على فصل الدين عن الدولة وعلى ضمان الحريات الدينية المطلقة تأثراً بأفكار فلاسفة عصر التنويرالأوربى.
وهكذا ونتيجة لسياستة الدينية من جهة، وطبيعته الإستبدادية ورغبته فى السيطرة على كل شئون الدولة من جهة أخرى، بدأت الحرب الأهلية الإنجليزية سنة 1642م بين شارل الأول وأنصاره من النبلاء الكاثوليك، وبين البرلمان وأنصاره من المواطنين البروتستنت بقيادة أوليفر كرومويل والتى إنتهت بهزيمة شارل الأول وإعدامه فى يناير سنة 1649م فى حادثة من أكبر حوادث التاريخ الأوربى الحديث، حيث مثلت إلهاماً لحوادث الثورة الفرنسية التى ستندلع بعد أكثر من قرن من ذلك التاريخ لتغير تاريخ أوربا والعالم. أعلنت إنجلترا جمهورية ولكن الواقع أن كرومر حكم منفرداً حتى وفاته سنة1658م وخلفه إبنه ريتشارد، الذى فشل فى إدارة البلاد، فقرر قادة الجيش إستدعاء شارل الثانى إبن شارل الأول من منفاه فى هولندة لتولى عرش أبيه وقبل شارل العرض وعاد إلى إنجلترا وتولى العرش سنة 1660م، لكن شارل الثانى كرر خطيئة أبيه فى حق الشعب الإنجليزى بمحاولة فرض الحكم المطلق عليه من جهة، وفرض الكاثوليكية كعقيدة من جهة أخرى، ومع ذلك فإن غضب الشعب الإنجليزى الكامن لم ينفجر فى عهده بل إنفجر فى عهد أخيه جيمس الثانى الذى خلفه بعد وفاته سنة 1685م وسار على نفس سياسته، فقررالبرلمان خلع جيمس ودعوة إبنته مارى وزوجها وليم أورانج حاكم هولندا البروتستنتى لتولى العرش وذلك فيما أصبح يعرف فى التاريخ بإسم الثورة المجيدة، حيث لبى وليم النداء ونزل أرض إنجلترا وزحف بجيشه على لندن سنة 1688م، وإستطاع القضاء على المقاومة الكاثوليكية بمناصرة الشعب البروتستنتى، وتولى عرش إنجلترا بإسم وليم الثالث، بينما هرب جيمس الثانى إلى فرنسا.
كرست الثورة المجيدة مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات، ولم يعد لحق الملوك الإلهى فى الحكم وجود فى تاريخ إنجلترا، وذلك لإن البرلمان هو الذى إستدعى وليم ومارى لإعتلاء العرش، وقد توج البرلمان إنتصاره بإصدار قانون أطلق عليه إعلان الحقوق سنة 1689م حدد فيه سلطات الملك وجعلها خاضعة لإشراف البرلمان، كما أصدر فى نفس السنة قانون التسامح الدينى، وهو القانون الذى سمح لغلاة البروتستنت الخارجين على نظام الكنيسة الإنجليكانية بمزاولة طقوسهم الدينية لكنه لم يسمح لهم بمزاولة الحياة السياسية والخدمة العامة، كذلك أصدر سنة 1701م قانوناً عًرف بإسم قانون التسوية ينص على أنه لايجوز لكاثوليكى أن يلى العرش، كما أصدر قانون الوحدة الذى أصبحت بموجبه إنجلترا وإسكتلندا مملكة متحدة بإسم بريطانيا العظمى. وهكذا وبرغم عظمة الثورة المجيدة وتأسيسها للديموقراطية البرلمانية، فقد كانت ثورة منقوصة، إذ أنها لم تقضى على الصراع الدينى حيث لم تتسامح مع الكاثوليك، وهو ماسينعكس فى كتابات جون لوك، مؤسس فكرة الحكومة المدنية، التى ينفصل فيها الدين عن الدولة، وكان كل ماأنجزته فى الواقع هو إزاحة الكاثوليك عن الحكم وإحلال البروتستانت محلهم، كما لم تقضى على الصراع الطبقى، فقد ظل البرلمان، ممثل الشعب، بمثابة حكومة أقلية يسيطر عيها الأغنياء حيث لم يكن فى إستطاعة الطبقات الفقيرة الإشتراك فى الإنتخابات ، وهكذا فلم تكن الثورة الإنجليزية المجيدة هى النموذج الذى تنتظره أوربا كى تحتذيه، وقد كان على الثورة الفرنسية التى ستندلع بعد نحو قرن من ذلك التاريخ، أن تعالج ذلك النقص، وتقدم النموذج الذى سيقود فرنسا وأوربا والعالم إلى معنى الحرية الكامل.
ففى فرنسا وبرغم حصول مواطنيها البروتستانت على حريتهم الدينية بموجب مرسوم نانت، الذى منحه لهم هنرى الرابع نافار سنة 1598م، وتوقيع لويس الثالث عشر على صلح وستفاليا سنة 1648م، فقد عمل لويس الرابع عشر الذى تولى العرش بعد أبيه لويس الثالث عشرعلى القضاء على رعاياه البروتستنت، فقرر سنة 1661م حرمانهم من مناصب الحكومة ومصادرة صحفهم و إغلاق مدارسهم وتحويل التعليم فيها إلى المبادئ الكاثوليكية، ووصل الأمر إلى إصدار أمره بتخويل الحكومة بجمع أطفالهم وتسليمهم لرجال الدين الكاثوليك لغرس مذهب الدولة فى نفوسهم منذ الصغر، وحاول الهيحونوت الهجرة لينقذوا أنفسهم من ذلك الإضطهاد، إلا أنه حرمها عليهم ليجبرهم على إعتناق الكاثوليكية، ثم كانت الطامة الكبرى التى نزلت بهم عندما ألغى مرسوم نانت عام 1685م، بحيث لم يعد أمامهم سوى الهجرة، وعلى الرغم من تحريمها عليهم قد إستطاع حوالى ثلاثمائة الف منهم الفرار من فرنسا والإستقرار فى دول أوربية أخرى تكفل لهم حرية العقيدة وخاصة هولندا وإنجلترا والولايات البروتستينية فى ألمانيا، كما هاجرت أعداد كبير منهم إلى العالم الجديد فى أمريكا الشمالية.
لم يؤدى الضغط الواقع على البروتستانت فى فرنسا إلى ثورة ذات طابع دينى أخرى على نحو ماحدث فى إنجلترا، ولكنه أدى هذه المرة إلى قيام ثورة علمانية بفكرعقلانى جديد وقيم جديدة أصبح فيها الإنسان بصفته الإنسانية وليست الدينية هو الفاعل الرئيسى، ثورة إشترك فيها الكاثوليك والبروتستانت معاً ليغيروا كل تاريخ أوربا والعالم، حيث تفجر فى الثورة الفرنسية كل الزخم الفكرى الكبير الذى شهدته أوربا على مدى القرنين السابع عشر والثامن عشر، والذى قاده الفلاسفة العقلانيون، الذين أعلنوا بشجاعة أن الوحى خرافة والعقل حقيقة، وذلك كرد طبيعى على فشل حركة الإصلاح الدينى التى قادها لوثر وكلفن وعلى الحروب التى أشعلتها فى أوربا، وعندما بدا واضحاً أن الفكر الدينى لايعرف المصالحة ولايولد سوى الصراع، وأنه لابد من أن يتقدم العقل ليحل محل الدين فى قيادة أوربا الصاعدة بطبقتها البورجوازية الطموحة، ومنجزاتها العلمية والأدبية وإقتصادها المتنامى. وهكذا كان القرن الثامن عشر الفرنسى هو تلك البوتقة التى إنصهرت فيها كل أفكار فلاسفة عصر التنويرالأوربى ، بدءً من سبينوزا ولوك حتى فولتير وروسو. والواقع أن القرن الثامن عشر كان قرناً إستثنائيا فى تاريخ أوربا والعالم، وبصرف النظر عن أنه ذلك القرن الذى شهد مولد وحياة تلك الجماعة الكبيرة من أصحاب الفكر والإبداع، فقد كان أيضاً هو القرن الذى إنتشرت فيه الجامعات والصالونات الثقافية التى قادتها شخصيات نسائية عظيمة فى التاريخ الإنسانى مثل مدام جيوفرين ومدام بمبادور، وظهرت فيه الحركة الماسونية العالمية بما كانت تعنيه من تمرد على الحواجز الدينية بين البشر، وكان أيضاً هو القرن الذى وضعت فيه موسوعة تاريخ العلوم والفنون والآداب الفرنسية، وأصبحت متداولة فى فرنسا وبين كل الشعوب الأوربية، بحيث أصبحت إلهاماً مشتركاً وحافزاً للمستقبل، لهم جميعاً ، وهكذا بدا القرن الثامن عشر بتلك الروح الوثابة والثقافة العقلانية الإنسانية الجديدة، التى تؤكد العقل وتنكر الوحى، وتساوى بين جميع الناس وجميع المذاهب والأديان، وتقر بضرورة فصل الدين عن الدولة ، وتؤكد مبدأ حرية العقيدة ، وهى منظومة الثقافة والقيم الجديدة التى أسماها الكاتب البريطانى جورج هوليوك فى إحدى مقالاته سنة 1851م بالعلمانية ، والتى أصبحت علماً عليها حتى اليوم ، كتتويج نهائى لعصر النهضة الأوربى الذى بدأت بوادره قبل نحو خمسة قرون من الزمان.
كان الاقتصاد هو المحرك للثورة الفرنسية لكن المبادئ كانت هى أهم ماخلصت إليه، فعندما إرتفع صوت الناس من الجوع والفقر، ومن إمتيازات النبلاء وطبقة رجال الدين التى تعفيهم من الضرائب، إضطر لويس السادس عشر لإستدعاء، البرلمان الفرنسى المعطل منذ عقود، والمسمى بمجلس طبقات الأمة، للإنعقاد، حيث كان يتصور أنه يستطيع ومن خلال المركز الممتاز الذى يحتله النبلاء ورجال الدين فى هذا المجلس، أن يفرض مايشاء من ضرائب وحقوق على شعبه، لكن الأمر إنقلب عليه عندما نجحت البورجوازية فى السيطرة على المجلس، وأشعلت الثورة الفرنسية وإقتحمت سجن الباستيل فى يوليو 1789م. كان إعلان حقوق الإنسان الذى أصدرته الثورة فى أغسطس بعد سقوط الباستيل مباشرة، والذى سيرفق فى مقدمة أول دستور تضعه الثورة بعد ذلك سنة 1791م، بمثابة عهد أوربا الجديد، حيث لاتمييز بين الناس على أساس الدين أو الطبقة الإجتماعية، وحيث أصبحت حرية العقيدة حقاً مكفولاً وأصبح فصل الدين عن الدولة أمراً واقعاً، وحيث أصبحت عبادة العقل وعبادة الخير بديلاً عن عبادة النصوص المسيحية، وهى نفس المبادئ التى كان المهاجرون البروتستانت قد أعلنوها فى دستور بلادهم الجديدة، الولايات المتحدة الأمريكية، بعد إستقلالهم عن إنجلترا سنة 1776م، تأثراً بنفس روح القرن الثامن عشر الأوربى الملهمة الخلاقة. لم يكن توقيع لويس على هذا الدستور صادقاً أو صادراً عن حسن نية، وإنما كان مجرد مجاراة لمطالب الثورة التى حددت إقامته فى قصر التويلرى فى باريس، ولذلك فعندما حاول الهرب للحاق بالنبلاء الفرنسيين الهاربين وحلفائهم الأوربيين المتجمعين على حدود ألمانيا، بمباركة البابا والكنيسة، وتم ضبطه، كان الإعدام نتيجة طبيعية. دخلت الثورة الفرنسية على أثر إعدام لويس فى يناير سنة 1793م فى أشد سنواتها ظلاماً فيما أصبح يعرف فى التاريخ بإسم عهد الإرهاب، حيث إضطرت وهى تقاتل أعداء الثورة فى الخارج أن تصفى أعدائها فى الداخل أيضاً، ثم إنتقل الصراع إلى صفوف الثوار أنفسهم من جيروند ويعاقبة، أى بين يمين البورجوازية ويسارها، ولم ينتهى إلا بإعدام روبسبير زعيم اليعاقبة وزعيم عهد الإرهاب فى يونيو سنة1794م. وفى سنة 1795م وضعت الثورة دستورها الثالث والأخير، وبموجبه تكون مجلس خمسمائة، وكان بمثابة مجلس نواب لايقل عمر العضو فيه عن ثلاثين سنة، ومجلس شيوخ يتكون من مائتى وخمسين عضواً لايقل سن العضو فيه عن أربعين سنة، وحكومة إدارة من خمسة أفراد يختارهم مجلس الشيوخ من قائمة يرشحها مجلس الخمسمائة، وعندما تعذر التعاون بين البرلمان والإدارة بسبب تنافر التيارات السياسية داخلهما، كان الحل هو الإنقلاب العسكرى الذى قاده نابوليون بونابرت سنة 1799م منهياً عهد الثورة .
ومع ذلك فقد كان نابوليون إبناً مخلصاً من أبناء الثورة الفرنسية، وبرغم أنه، وكأى ديكتاتور، قد وازن حساباته السياسية وهادن البابا والكنيسة الكاثوليكية مؤقتاً، لكنه وفى النهاية، وبعدما دان له حكم فرنسا أصدر قوانين نابوليون المدنية التى لم يعد فيها لقوانين الكنيسة أى مكان، وعندما غزا إيطاليا لم يجد حرجاً فى القبض على البابا ومصادرة أملاكه وسجنه فى مدينة سافوى، كما مزقت حروبه الإمبراطورية الرومانية المقدسة والتى أصبحت تسمى منذ ذلك الحين فصاعداً بمملكة النمسا فقط، وهكذا فقد قوض عملياً دعائم العصور الوسطى الأوربية المادية على الأرض، بعد أن قوضت الثورة الفرنسية دعائمها القكرية. لقد إنتهى ذلك الزمن الذى كانت الكنيسة وملوكها الكاثوليك يحكمون أوربا بموجب الحقوق الإلهية، وحتى بعد سقوط نابوليون فى وترلو سنة 1815م وعودة أسرة البربون للحكم فى فرنسا، فلم تنجح محاولات إعادة الزمن القديم التى تزعمها ميترنخ وزير خارجية النمسا، الإمبراطورية المقدسة سابقاً، ولم تنجح معه مساعى البابا والكنيسة، وتجددت ثورة الشعب الفرنسى ضد أسرة البوربون سنة 1830م وثارت معه كل شعوب أوربا، ثم تجددت سنة 1948م وثارت معه شعوب أوربا مرة أخرى، ضد كل تراث الزمن القديم، حيث أصبحت الثقافة العلمانية وقرينتها الديموقراطية السياسية - وبلا رجعة - هى دين أوربا العقلى الجديد، وذلك بعد قرون من الصراع مع كهنوت الدين وسلطة الملوك المستبدين.
إن المتأمل لأحوال أوربا العلمانية اليوم يستطيع أن يدرك ببساطة مدى التقدم والإستقرار الذى تعيشه هذه القارة العجوز، التى مزقتها الحروب الدينية والقومية عبر قرون طويلة، وذلك بعد أن نحت الدين عن القيادة، وهذبت روحها القومية وحققت وحدتها السياسية، بحيث أصبحت توصف، وبحسب مؤشرات الأمم المتحدة، بأسعد مجتمعات العالم، يستطيع أن يدرك أيضاً، أن التسامح الأوربى العلمانى مازال يحتفظ بمكان متميز للمسيحية برغم ميراث الدم الكثيف، وهو ماكان يمكن ان تسمح به المسيحية للعلمانية لو كانت هى الطرف المنتصر، وبالطبع مع فارق أن التسامح العلمانى يعنى مكان للمسيحية ولكل الأديان والمذاهب، وحتى لغير المتدينين، وهو أيضاً ماكان يمكن أن تسمح به المسيحية لو كانت هى الطرف المنتصر، يستطيع أن يدرك أيضاً أن كل محاولات البابوية فى التسامح والحرية ماهى إلا محاولات المهزوم لكى يبقى فى المشهد التاريخى، وأنها ماكانت لتفعل ذلك لو كانت هى الطرف المنتصر، يستطيع أن يدرك أيضاً، وهنا تكمن إجابة السؤال الذى طرحناه فى البداية ، أن الإسلام أيضاً، لن يرضى بأى مصالحات فقهية أو نظرية، ولن يكف عن سفك الدماء ولن يرضى أبداً بأن يعيش فى سلام وحرية، إلا إذا هُزم أولاً أمام، وعى وإرادة وتضحيات الشعوب الإسلامية، تماما كما هُزمت المسيحية.






أهم المراجع :

1-تاريخ أوربا فى العصور الوسطى- د.سعيد عبدالفتاح عاشور- دار النهضة العربية- بيروت
2-التاريخ الأوربى الحديث - د. عبدالحميد البطريق - د. عبدالعزيز نوار- دار النهضة العربية - بيروت
3-التاريخ المعاصرأوربا- د.عبدالعزيز نوار- د.عبدالمجيد نعنعى- دار النهضة العربية- بيروت
4-تاريخ أوربا والعالم فى العصر الحديث-د.عبدالعظيم رمضان -الهيئة المصرية العامة للكتاب-القاهرة
5-مابعد الدين والقومية-دراسة منشورة على صفحة الكاتب بموقع مصر المدنية فى مارس 2011م
6- جون لوك، أبو الأنبياء - مقال منشور على صفحة الكاتب بموقع مصر المدنية فى أكتوبر 2014م
7- توماس جيفرسون، مسيح العالم الجديد - مقال منشور على صفحة الكاتب بموقع مصر المدنية فى أكتوبر 2014م

















3- أساطير العهد القديم وأصل الإسلام
ربما يكون العهد القديم هو أخطر كتاب أنتجه العقل البشرى، وذلك لما تركه من أثر كبيرعلى الديانتين العالميتين الكبيرتين ، المسيحية والإسلام، وخاصة على الإسلام، ويتكون العهد القديم، الذى هو عبارة عن تاريخ اليهود الدينى والسياسى، من 24 كتاباً فى نسخته العبرية التى تسمى بالتناخ، وهى الحروف العبرية الأولى من كلمات، توراة وأنبياء وكتابات، حيث قُسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء منفصلة، هى التوراة، وكتب الأنبياء ، والكتابات أو كتب الحكمة ، أما فى نسخته المسيحية، والتى حملت تسمية العهد القديم، تمييزاً له عن عهد المسيح الجديد أو الإنجيل، فهو مرتب فى التوراة، ثم الأسفار التاريخية، ثم أسفار الأنبياء والحكمة، وذلك فى 39 كتابأ فى النسخة البروتستينية، و 46 كتاباً فى النسخة الكاثوليكية الأكثر إكتمالا، والتى يصل فيها تاريخ إسرائيل القديم منتهاه . وقد بدأ اليهود كتابة العهد القديم بعد العودة من النفى البابلى، ومع أول المجموعات التى حررها الفرس بقيادة الكاهن عزرا، ويرجح أن عزرا هو أول من بدأ تدوين هذه الأسفاربعد العودة إلى أورشليم، وإعادة تأسيس المعبد حوالى منتصف القرن الخامس ق.م، وذلك إعتماداً على الروايات الشفوية التى إحتفظت بها الأجيال، وأيضا على بعض كتابات ومدونات قديمة، ربما ظلت فى حوزة الكهنة ورجال الدين عبر العصور، ثم أكملت الأجيال التالية بعد عزرا الأسفار وصولاً بها إلى العصر المكابى أو العصر السلوقى اليونانى، ثم أكمل مصنف النسخة الكاثوليكية التاريخ مستعيناً بتاريخ يوسفيوس- المؤرخ الرومانى اليهودى الذى عاش فى القرن الأول الميلادى وشهد حادث تدمير أورشليم - وصولاً إلى نهاية تاريخ إسرائيل القديم بحادث تدمير أورشليم سنة 70م على يد الرومان، والنسخة الكاثوليكية من العهد القديم مرتبة كالآتى:
1-سفر التكوين 2- سفر الخروج 3- سفر اللاويين 4- سفر العدد 5- سفر التثنية أو تثنية الإشتراع -6سفر يوشع 7 - سفرالقضاة 8- سفر راعوث - سفر الملوك الأول ويعرف فى النسخة البروتستينية بإسم صموئيل الأول 10-سفر الملوك الثانى ويعرف فى النسخة البروتستينية بإسم صموئيل الثانى11- سفر الملوك الثالث ويعرف فى النسخة البروتستينية بالملوك الأول12- سفر الملوك الرابع ويعرف فى النسخة البروتستينية بالملوك الثانى13- سفر أخبار الأيام الأول14- سفر أخبار الأيام الثانى15- سفر عزرا 16- سفر نحميا 17- سفر طوبيا 18- سفر يهوديت 19- سفر إستر20- سفر أيوب21- سفر المزامير22- سفر الأمثال 23 - سفر الجامعة 24- سفر نشيد الأناشيد 25- سفر الحكمة 26- سفر يشوع بن سيراخ 27- سفر أشعيا 28 - سفر أرميا29 - سفر مراثى أرميا30 - سفر نبوءة باروخ 31 - سفر حزقيال 32- سفر دانيال 33- سفر هوشع 34 -سفر يوئيل 35- سفر عاموس 36- سفرعوبديا 37- سفريونان 38 سفر ميخا 39 - سفر ناحوم40 - سفر حبقوق 41- سفر صفنيا 42- سفر حجى43 - سفر زكريا 44 - سفر ملاخى 45- سفر المكابيين الأول 46- سفر المكابيين الثانى.
ومن بين هذه الأسفار، التى تختلط فيها الحقائق التاريخية بالأساطير، كان للأسفار الخمسة الأولى، والتى تعرف بإسم أسفار موسى أو بالتوراة، وتروى قصة خلق العالم والإنسان وأصل العبرانيين وقصة إبراهيم وأبنائه إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف والهجرة إلى مصر، وقصة الخروج منها، وتشريعات موسى فى الصحراء والوصول إلى مشارف فلسطين حتى وفاة موسى بشرق الأردن قبل دخول فلسطين أو أرض كنعان، تأثيراً حاسما على الإسلام، حتى أن معظم الباحثين باتوا يعتقدون أن الإسلام فى مجمله لم يكن سوىمحاكاة لتجربة شعب إسرائيل الدينية، وموسى وتوراته بشكل خاص، مما يفسر الإهتمام البالغ بشخص موسى فى القرآن، وإستحواذه على مساحات كبيرة منه، فعلى مستوى المقاربة الشخصية بين موسى ومحمد، نجد أن شخصية الرجل القوى صاحب المعجزات، الذى يوحد قبائل متناحرة ويؤسس لهم دين ودولة واضحة، كما أن الوسيلة التى يتواصل بها كلاهما مع الخالق بواسطة الملاك الأسطورى جبريل، ثم بالإتصال المباشرهى نفس الوسيلة، أما على مستوى الروح العام للنص الدينى فى كلتا الديانتين، نجد أن الروح العام للنص التوراتى فى عنفه وعنصريته، هى نفس الروح العام للنص القرآنى، والتى تظهر أكثر ماتظهر فى وداع موسى ومحمد لشعبيهما ، إذ يقول موسى فى الإصحاحات الأخيرة من سفر تثنية الإشتراع، أثناء وداعه لشعب إسرائيل قبل وفاته مباشرة( لقد بلغت مائة وعشرين عاما من العمر اليوم، ولم أعد بمقدورى التحرك، كما أن الله قد قال أنك لن تعبر هذا الأردن، إن إلهكم سوف يعبر أمامكم وسوف يدمر هذه الشعوب أمامكم ويخضعها لكم) ثم يمضى فى التأكيد على تشريعاته وتحذيراته من العصيان . ولايختلف وداع محمد كثيراً ، والوارد تفاصيله فى سورة المائدة عن نفس ذلك الروح والسياق، إذ يقول فى الآية الثالثة منها موجهاً كلامه إلى شعبه العربى، كما وجه موسى كلامه إلى شعبه العبرى، (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتى، ورضيت لكم الإسلام دينا)، ثم يمضى فى باقى الآيات مذكراً بشريعته، التى هى نفس شريعة موسى، وبقصة موسى وشعب إسرائيل وعصيانه لموسى، حتى يصل إلى الآية الثالثة والثلاثين فيختمها بقوله( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم)، وهو ختام لايقل عنفاً عن البداية التى بدأ بها موسى حجة وداعه لبنى إسرائيل.
أما بخصوص القصص التاريخى عن أصل الخليقة، والوارد فى السفر الأول من التوراة، والمعروف بإسم سفر التكوين، فهو نفسه القصص الأسطورى فى النص القرآنى، والذى نقله محمد عن التوراة ، أو الكتب المفسرة لها ، كالتلمود والمدراش ، دون أن يعرف شيئا عن أصله الأسطورى العراقى القديم، مدعياً أنه وحى من عند الله، إذ نجد قصة الخلق التوراتية والمنقولة عن قصة الخلق البابلية، الواردة فى ملحمة الإله مردوك البابلية، والتى نقلها الكاتب التوراتى ونسبها إلى إلهه الواحد يهوه، والتى تفيد بأن يهوه قد خلق النظام من الفوضى المائية بعد قتل التنين تيامات، ليتولى خلق العالم بعد ذلك فى ستة أيام، هى نفسها الواردة فى الآية السابعة من سورة هود(وهو الذى خلق السماوات والأرض فى ستة أيام، وكان عرشه على الماء، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، ولئن قلت أنكم مبعوثون من بعد الموت، ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين).
فإذا إنتقلنا إلى المرحلة الثانية من قصة الخلق، والخاصة بخلق الإنسان نفسه، نجد الكاتب التوراتى قد صاغها من أسطورتين من الأساطير السومرية، هى ملحمة آدابا، الرجل الذى رفض هدية الآلهة فطردته من الجنة، ثم أسطورة جنة ديلمون، التى حولها الكاتب التوراتى إلى جنة عدن، وجعل آدابا أو آدم يخلق فيها حواء من ضلعه، كما خلقت الآلهة نينهورساج آلهة من ضلع الإله إنكى تسمى سيدة الحياة لمعالجته من مرض ألم بهذا الجزء من جسده. وهنا أيضا نجد القرآن ينقل القصة التوراتية بحذافيرها فى الآية التاسعة عشر من سورة الأعراف تخصيصاً عن آدم(ياآدم إسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولاتقربا هذه الشجرة فتكونان من الظالمين) وفى الآية الأولى من سورة النساء عن حواء تخصيصاً(يأيها الناس إتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها - إ شارة إلى خلق حواء من آدم - وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء وإتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيباً)، ومن المعروف أن آدم سوف يعصى أمر ربه كما فعل آدابا السومرى برفضه هدية الآلهة، وأنه سوف يطرد من الجنة نتيجة لذلك، تماماً كما حدث لآدابا السومرى.
أما عن الجريمة الأولى على الأرض، والتى أشار فيها الكاتب التوراتى إلى الصراع البدائى بين الراعى والزراعى فى بدايات الحضارة الإنسانية، والمتمثلة فى قتل قابيل الزراعى لأخيه هابيل الراعى - والتى ستتكرر بشكل أقل عنفاً فى قصة إسحاق وعيسو إبنى إبراهيم فيما بعد - والواردة فى الإصحاحات الأولى من سفر التكوين بعد قصة آدم مباشرة، فهى أيضا منقولة بحذافيرها فى القرآن فى الآية 27 من سورة المائدة حتى الآية 30(وإتل عليهم نبأ إبنى آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين) إلى آخر الآيات.
أما عن ذرية الإنسان بعد آدم - والتى حاكى فيها الكاتب التوراتى قوائم لارسا السومرية الأسطورية التى تتحدث عن نسب زيوسدرا البطل الأصلى لقصة الطوفان السومرية - وهى (شيس بن آدم - آنوش بن شيس - قينان بن آنوش - مهلئيل بن قينان - يارد بن مهلئيل - أخنوخ بن يارد- متوشالح بن أخنوخ - لامك بن متوشالح - نوح بن لامك وأبنائه سام وحام ويافت) ووصل بها إلى قصة نوح والطوفان بعد أن حول بطل القصة الأصلى فى الأسطورة السومرية - التى تعرفنا عليها من خلال ملحمة جلجاميش - زيوسدرا السومرى أوأوتانبشتم البابلى فى النسخة البابلية إلى نوح العبرانيين وسفينته الخرافية ، فهذه الأسماء لم يعرفها محمد، ولم يذكرها فى القرآن، ربما لإنه لم يعرفها فعلاً، أو لأنه رآها غير ضرورية، حيث أن الشخصيات الرئيسية الثلاث فى ميثولوجيا النسب التوراتية هى آدم ونوح وإبراهيم وقصص هؤلاء كان يعرفها جيداً بالفعل كما سبق ذكره بشأن آدم، وكما يتضح من قصة نوح والطوفان المنقولة بحذافيرها فى سورة هود فى الآيات36 و37 على سبيل المثال (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون)37(وإصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولاتخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون) وإلى آخر الايات، وكما سيتضح من قصص إبراهيم بعد ذلك .
فإذا ما واصل الكاتب التوراتى سلسلة النسب الإنسانى الأسطورية بعد نوح ووصل بنا إلى أصل العبرانيين وقصة إيراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف والهجرة إلى مصر بعد أن رسم لنا تلك الصورة الأسطورية عن خلق العالم والإنسان قبل ظهور إبراهيم مستعينا بأساطير العراق القديم، موطنه الأصلى ،الذى تجددت معرفته به أثناء فترة السبى البابلى، فإننا نلاحظ مرة أخرى عدم معرفة محمد بسلسلة النسب التوراتية من نوح إلى إبراهيم معرفة تامة والتى يرد ذكرها فى التوراة كالآتى (أرفكشاد بن سام- قينان بن أرفكشاد- شالح بن قينان - عابر بن شالح - فالج بن عابر- أرعو بن فالج - سروج بن أرعو- ناحور بن سروج - تارح بن ناحور- إبرام بن تارح وهو إبراهيم) وأنه يشير إليها بشكل عام فى الآية 58 من سورة مريم (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا وإجتنبنا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً)، مما يؤكد الإفتراض الذى ذهبنا إليه سابقاً، وهو أنه لم يكن يعرفها أو لم يراها مهمة، خاصة فى ظل إرتباطها بتعقيدات أنساب الشعوب التوراتية.
ولكن عندما يصل إلى قصة إبراهيم وأبنائه يعود للنقل الحرفى عن التوراة مع بعض إضافات مدراشية وهى مدرسة التفسير التوراتى التى كان يتبعها يهود الحجاز، فمثلاً نجد عن إبراهيم وأبنائه فى سورة ص الآية 45، وذلك كله على سبيل المثال لا الحصر(وإذكرعبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الأيدى والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا من المصطفين)، وعن إبراهيم فى سورة إبراهيم الآية 35(وإذ قال إبراهيم رب إجعل هذا البلد آمناً وإجنبنى وبنى أن نعبد الأصنام) وكذلك الآية 39 ( الحمدلله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعاء)، وعن إسحاق ويعقوب فى سورة هود الآية1(فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب)، وكذلك الآية 84 فى سورة الأنعام (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدياً) وعن إسماعيل أخو إسحاق الأكبر وأمه هاجر وحادث طرد إبراهيم لهما بسبب غيرة سارة زوجته العبرانية الأثيرة فى سورة إبراهيم الآية 37( ربنا إنى أسكنت من ذريتى- يقصد إسماعيل وأمه هاجر- بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم- يقصد الكعبة- ربنا ليقيموا الصلاة فإجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)، وعن يوسف إبن يعقوب فى سورة يوسف آية رقم 1( الر تلك آيات الكتاب المبين، إنا أنزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون، نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين، إذ قال يوسف لأبيه ياأبت أنى رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين، قال يابنى لاتقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدو مبين)، وعن الهجرة إلى مصر وقصة نجاح يوسف هناك فى سورة يوسف الآية رقم 55(وكذلك مكنا ليوسف فى الأرض- يقصد مصر- يتبوأ فيها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولانضيع أجر المحسنين)، وهكذا وصولاً إلى شخصية موسى المحورية، ومعجزاته وتشريعاته المذكورة فى الأسفار الأربعة التالية والمنقولة أيضاً عن أساطير العراق القديم- حيث تبدو قصة طفولة موسى وحادث إلقائه فى النهر تكراراً لقصة الملك البابلى سرجون الأكدى، كما تبدو تشريعاته تكراراً لتشريعات الملك البابلى حمورابى، التى تلقاها مكتوبة على لوح من الحجر من يد الإله شمس، تماماً كما تلقى موسى تشريعاته مكتوبة بإصبع الإله يهوه - تلك المعجزات والتشريعات التى يمتلئ بها القرآن، حتى وإن بدأت تأخذ طابعاً تاريخياً مختلفاً نسبياً عن الطابع الأسطورى التام لقصص خلق العالم والإنسان وأصل العبرانيين المذكورة فى سفر التكوين، فإنها لاتنفى حقيقة أن محمد مازال ينقل عن التوراة والتلمود والمدراش نقل مسطرة وأن الوحى الإلهى الذى يتحدث عنه هو محض خيال.
وأخيراً وإذا مانظرنا إلى الشرائع فى النص التوراتى والمذكورة فى الأسفار الأربعة التالية لسفر التكوين، وهى أسفار الخروج واللاويين والعدد والإشتراع والمنسوبة إلى موسى، فسوف نجدها نفس الشرائع فى الإسلام ، والتى يمكن تلخيصها فى الختان وهو أهم رموز الطهارة والإنتماء إلى الديانة ، أحكام الصلاة فى الوضوء والركوع والسجود والتوجه نحو القبلة - القدس عند اليهود ومكةعند المسلمين - نفس شعيرة الحج إلى قبلة الديانة، ونفس صيام شهر بمناسبة الخروج من مصر عند اليهود وبمناسبة إنتصار بدر عند المسلمين، نفس عادة تقديم القرابين فى الأعياد ، نفس محرمات الطعام مع هوس خاص بتحريم أكل لحم الخنزير، نفس أحكام القصاص فى قطع يد السارق ورجم الزانية وغيرها، كالنفس بالنفس كالعين بالعين والسن بالسن المذكورة فى الإصحاح 21 من الفصل 19 من سفر الإشتراع والمنقولة بالنص فى الآية 45 من سورة المائدة(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)، وكذلك أحكام الغزو الإسلامية الهمجية والمذكورة فى نفس السفر وفى الفصل العشرين مباشرة فى الإصحاحات من 10 إلى 14 حيث يذكر المشرع التوراتى كيف يجب أن تعرض إسرائيل على الشعوب التى تهاجمها خيار الحرب أو الإستسلام، فإذا إستسلمت قبلت منها الجزية وعاشت تحت حكمها فى خضوع، وإذا رفضت ونصرها إله إسرائيل عليها، فلابد من قتل الرجال وسبى النساء والأطفال ومصادرة الأموال، نفس إعتبار الكلب نجس والربى محرم، ونفس عادات إثبات العذرية الهمجية، أو فض البكارة ليلة الزفاف، نفس إعتبار المرأة الحرة عورة والمرأة الحائض نجسة، نفس الفكرة الساذجة عن الجنة والنار، نفس التصور العنصرى عن المكانة الخاصة لأصحاب الديانتين عند الإله، فاليهود هم شعب الله المختار، والمسلمون هم خير أمة أخرجت للناس، نفس عادات الثأر البدوية، نفس تعدد الأزواج، نفس الطلاق، نفس تمييز الرجل عن المرأة فى أن للرجل مثل حظ الإنثيين، نفس تحريم زواج أقارب الدرجة الأولى، نفس عادة المبايعة بالرئاسة بوضع اليد على اليد، نفس الحث على تحرير العبيد(من اليهود) وهذه جعلها محمد تشمل كل العبيد، لكن عمر بن الخطاب عاد بعده وجعل الحث مقتصراً على تحرير العبيد من العرب فقط مثل العادة اليهودية الأصلية ، ضرورة أن يشهد على أحكام القصاص بالقتل شاهدين أو ثلاثة ورفض الأخذ بشهادة شاهد واحد، وهذه جعلها محمد أربعة شهود ، عادة تحريم قطع الأشجار، عادة معاملة السبية بشكل حسن ومنحها شهراً لنسيان أهلها قبل الدخول بها، وهذا الشرط لم يأخذ به محمد، فى أحكام السبية وكان الدخول بها يتم فورا، عدم القصاص من الآباء فى قتل أبنائهم ، ختام الدعاء بكلمة آمين، وغير ذلك من تشريعات وعادات ثانوية كثيرة متناثرة من سفر الخروج حتى سفر التثنية، لاشئ جديد أتت به شريعة محمد كلها نقل أعمى عن التوراة وشروحاتها ، بحيث أننا وفى النهاية لن نستطيع الهرب من حقيقة أننا أمام مجرد محاكاة عمياء لتجربة شعب إسرائيل الدينية، وتجربة موسى وتوراته بشكل خاص،أما كيف حدثت تلك المحاكاة فيمكن شرح ذلك بإستعراض المشهد التاريخى العام فى شمال الجزيرة العربية وفلسطين، منذ القرن الأول الميلادى وحتى القرن السابع، أى منذ أن هاجر اليهود إلى الحجاز بعد تدمير أورشليم، وحتى ظهور محمد والإسلام.
أننا حتى وبدون اللجوء إلى الخيال يمكن أن ندرك أن شعبين متشابهين فى اللغة والعادات البدوية وصلة نسب قديمة لابد أن يتفاعلا وأن يتأثر بعضهما ببعض إذا ماعاشا على أرض مشتركة، وأن يكون التأثير الأكبر فى النهاية لصاحب الثقافة الأقوى، فاليهود بعقيدتهم التوحيدية وبعشرين قرناً مكتوبة من التاريخ والخبرة والمعرفة بأحوال الشرق القديم، كان لابد أن يكونوا هم الطرف الأكثر تأثيراً فى العرب البدائيين وليس العكس، وهكذا كان من الطبيعى أن يؤمن عرب الحجاز وبمرور الزمن أنهم من نسل إسماعيل فعلاً، كما أشاع جيرانهم اليهود وكما يقول مدراشهم - والذى أنشاوا له مركزاً تعليميا فى أكبر مراكز إستقرارهم فى يثرب فى الحجازعرفت بإسم دار المدراش - عن نفى أبيهم إبراهيم لأخيهم إسماعيل وأمه هاجر إلى الحجاز، ونشأة إسماعيل بين قبائل الحجاز وإنتسابه إليها ، وبصرف النظرعما إذا ماكان اليهود قد أكدوا على هذه الواقعة التاريخية كمجرد حدث عادى من أحداث تاريخهم، أو أنهم قد بالغوا فى التأكيد عليها كصلة نسب تجمعهم بالعرب كى يستطيعوا العيش بسلام بين جيرانهم البدائئين، فإن العرب قد صدقوها فعلاً، وأصبحت من مسلمات تاريخهم أيضا، بحيث أنه وعندما بدأوا يشبون عن الطوق بسبب نمو تجارتهم وخبراتهم ويتطلعون إلى نظام دينى أفضل من نظامهم الوثنى، كان من الطبيعى أن يتبعون عقيدة جدهم الأكبر إبراهيم، أبو جدهم إسماعيل، وأخو إسحاق جد جيرانهم اليهود، وهكذا نشأت بينهم دعوة الحنيفية، والتى تعنى التوحيد على دين إبراهيم والتى لم تكن فى الواقع سوى البذرة الأولى للإسلام تماماً كما كان إيمان إبراهيم هو البذرة الأولى لليهودية، التى أكمل موسى أركانها بعد ذلك. هذه هى الأجواء التى ظهر فيها محمد وزملائه تجار قريش فى القرن السابع الميلادى، أجواء يهودية تماماً، حقيقة أن اليهودية كانت قد دخلت إلى جنوب الجزيرة العربية أيضا فى اليمن على يد ذى نواس الحميرى، ولكن هذه قصة مختلفة تماما، فقد إعتنق ذى نواس اليهودية وفرضها على شعبه تبعا للمثل القائل الناس على دين ملوكهم، أما يهودية الحجاز فقد إنتشرت تدريجيا، وأصبحت بمثابة ثقافة شعبية من خلال قصة إنتساب إسماعيل لأهل الحجاز، وهكذا ظهرت الحنيفية، وأصبح هناك خطوة واحدة بينها وبين الإسلام ، كما كان هناك خطوة بين إبراهيم و موسى، وهذه الخطوة هى التى قطعها محمد، فإذا كان إيمان إبراهيم قد أصبح إيماناً مشتركاً بين العرب واليهود، وإذا كان قد ظهر من أبناء إسحاق موسى يوحدهم ويشرع لهم ويغزو بهم فلسطين، فلماذا لايظهر من أبناء إسماعيل محمد يوحدهم ويشرع لهم ويغزو بهم العالم كله وليس فلسطين فقط، وبالطبع مع مايتطلبه ذلك من توقيع إلهى بسيط بمصادرة تاريخ أبناء العم اليهود(ماكان إبراهيم يهودياً ولانصرانياً ، بل حنيفاً مسلماً، وماكان من المشركين)، وتغيير قبلة إبراهيم من أورشليم إلى مكة، والسيف للمعترضين؟
أننا وبهذا التحليل وبرد الإسلام إلى أصله الموسوى التوراتى، ومحاكاته التامة لتجربة شعب إسرائيل الدينية، سوف نجد أنفسنا أمام أكبر سرقة فكرية حدثت فى التاريخ، تماما كماكانت الغزوات العربية التى حدثت فى أعقابها، هى أكبر سرقة مادية حدثت فى التاريخ، ولكن سيبقى سؤال أخير ألم تكن قريش - وفى ظل شيوع الثقافة اليهودية فى الحجاز- تعرف أن مايقوله محمد ليس سوى تكرار لأساطيروحكايات العهد القديم؟، بالطبع كانت تعرف وكما يقول هو نفسه فى الآية رقم 31 من سورة الأنفال( وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين) فلماذا قبلت به إذن؟ قبلت به وبصرف النظر عن قوة شخصية النبى وإستخدامه للسيف بحرية تامة، فقد قبلت به لإنه كان فى صالحها فى نهاية الأمر، فمن قبائل بدائية جائعة متناحرة أعطت لها عقيدة إبراهيم وتوراة موسى دولة ودين، والأهم من ذلك أعطت لها إلهاً يدمر الشعوب أمامها ويخضعها لهم، تماماً كما قال موسى لشعبه فى وداعه الأخير.
فماذا تبقى إذن من قصة الإسلام والوحى المزعوم سوى حكايات ووقائع محمد مع قومه العرب، مجرد أساطير وحكايات قديمة، منقولة عن أساطير وحكايات قديمة، والمنقولة بدورها عن أساطير وحكايات أقدم منها، آتية من أعماق طفولة البشرية فى الشرق الأدنى القديم، فهل من المنطق أن تظل القيم والتصورات البدائية التى تمثلها تفرض نفسها على واقع الإنسان بعد كل هذه الآلاف من السنين، وبعد كل ماحققه الإنسان من تطور علمى وفكرى عبر رحلة حياته الطويلة على ظهر الأرض، وكيف يعقل وقد تخلص معظم اليهود والمسيحيين - ممن عرفوا تجربة الحضارة الأوربية - من أساطير وحكايات وقيم العهد القديم، أن يظل المسلمون يعيشون على هذه الأساطير والحكايات والقيم والتصورات البدائية القديمة، التى مازلت تشعل حيانهم حرباً وخراباً، وتحرمهم نعمة الحياة المؤسسة على العلم والمعرفة، التى يعيشها العالم اليوم ؟

أهم المراجع:
1-تاريخ بنى إسرائيل- محمد عزة دروزة- المكتبة العصرية - بيروت
2-تاريخ الدولةالعربية-د.السيد عبدالعزيز سالم- دار النهضة العربية- بيروت
3-العرب فى العصور القديمة- د.لطفى عبدالوهاب - دار النهضة العربية- بيروت
4-أساطير شرق أوسطية - صموئيل هنرى هوك - ترجمة/عبدالجواد سيد عبدالجواد/مكتبة النهضة المصرية - توزيع/منشأة المعارف/الإسكندرية.
5-القرآن- مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف- المدينة المنورة
6-الكتاب المقدس- طبعة إنجليزية- مؤسسة الجيديون العالمية- سنغافورة











4-محمد والقبائل والرسالة المزعومة
ظهرت دعوة محمد الإسلامية فى خضم عاصفة من المتغيرات السياسية والإقتصادية والثقافية التى هبت على الجزيرة العربية قبل القرن السابع الميلادى، ففى خلال هذه السنين بدأ العرب يستشعرون قوتهم السياسية وهويتهم القومية بقوة، بعد أن أحاطت بهم القوى الدولية الكبرى لذلك الزمن، المتمثلة فى الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، من كل جانب، فى الشمال والجنوب والشرق والغرب، وبعد أن أغدقت عليهم طرق التجارة البرية بين الشرق والغرب، والتى تمر عبر صحراواتهم الشاسعة من الشمال إلى الجنوب ،وبالعكس، الوعى والثروة، وجعلت منهم رقما مؤثراً فى العلاقات الدولية لذلك الزمن، وعلى نحو مماثل لما أحدثه ظهور وتدفق الثروة النفطية فى بلادهم فى العصر الحديث، وذلك فى نفس الوقت التى أحدثت تلك الثروة هوة طبقية سحيقة بين سكان المدن التجارية الغنية وبين القبائل الجائعة الساكنة فى جوف الصحراء، مما سهل توجيه أنظارهذه القبائل نحو غزو المناطق الغنية المحيطة بهم فى أراضى الإمبراطورتين المتصارعتين المتهالكيتين ، بيزنطة وفارس.
كان ظهور مملكة كندة فى وسط الجزيرة العربية حوالى عام 480م، وتمكن أحد ملوكها وهو الحارث بن عمرو من السيطرة على إمارة الحيرة العربية الواقعة على حدود بلاد الرافدين الجنوبية والتابعة للفرس، هو أول تعبير سياسى كبير عن تطلع العرب للوحدة والتفوق على جيرانهم الأٌقوياء، فرغم أن المنذر الثالث ملك الحيرة التابع للفرس تمكن من إستعادة إمارته حوالى سنة 529م، وأعدام الحارث ونحو خمسين من زعماء مملكة كندة لينتهى بعد ذلك وجودها السياسى، فقد كان قيامها فى حد ذاته سابقة لإتحاد قبائل وسط شبه الجزيرة العربية فى وحدة سياسية واحدة، وضعت تصوراً للوحدة فى هذه المنطقة، ومثلت سابقة مهدت الطريق أمام توحيد المنطقة بعد ظهور الدعوة الإسلامية.
كان فشل الأحباش، الذين كانوا قد سيطروا على اليمن سنة 525م بدعم من البيزنطيين(الرومان الشرقيين) فى غزو مكة حوالى سنة 530م، وذلك فى محاولة منهم للسيطرة على طرق التجارة الدولية البرية، التى كانت تمر عبر الجزيرة العربية، والتى كانت مكة مفتاحها الرئيسى، هو الحدث الكبير الثانى الذى عبر عن قوة العرب السياسية التى إكتسبوها بسبب أرباح التجارة، ولم يكن من المصادفة أن يكون قائد مكة فى هذه الحرب هو عبدالمطلب بن هاشم جد محمد، أحد كبار طبقة التجار المكيين واسعى الثراء، وأن يكون أبوه هاشم بن عبد مناف هو المهندس الرئيسى للمعاهدات التجارية بين قبائل الجزيرة العربية، والتى أشار إليها القرآن بإسم (إيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف)، ورغم أن إنتشار مرض الجدرى الذى إجتاح المنطقة فى ذلك الوقت كان من أكبر أسباب فشل حملة أبرهة الحبشى، والتى فسرها القرآن بقوله(ألم ترى كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم فى تضليل،وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول)، فلاشك أن قوة وصلابة المكيين وحكمة وخبرة طبقتها التجارية كانت هى العامل الرئيسى فى فشل الحملة.
أما الحدث الكبير الثالث، الذى عبر عن تنامى قوة العرب السياسية قبل دعوة محمد مباشرة، فهو إنتصار عرب بنى شيبان وحلفائهم من قبائل العرب على الفرس فى موقعة ذى قار حوالى سنة 610م م، فى أول سابقة من نوعها فى تاريخهم، وقد إعتادوا أن يكونوا تابعين لهم أو لمنافسيهم البيزنطيين، تلك الوقعة التى علق عليها محمد بمقولته الشهيرة(هذا أول يوم إنتصفت فيه العرب من العجم وبى نصروا) ليعلن بذلك عن دوره القادم، وعن الطبيعة السياسية لدعوته تعبيراً قاطعاً واضحاً لاشك فيه.
بدأت دعوة محمد إلى الإسلام ووحدة وتوحيد الدين والدولة حوالى نفس السنة الى وقعت فيها موقعة ذى قار، وقدإرتكزت على عقيدة إبراهيم، ونص القرآن قاطع فى دلالته حين قال على لسان محمد(قل هدانى ربى دينا قيماً، ملة إبراهيم حنيفا، وماكان من المشركين)، فهنا نجد محمد ليس مؤسساً لعقيدة جديدة بقدر ماهو مهتدياً لدين جديد، هو الحنيفية على ملة إبراهيم، أى التوحيد على دين إبراهيم، مما يبدو وكأنه نتيجة طبيعية لحالة التفاعل والإنصهار الفكرىوالدينى التى شهدتها بلاد الحجاز مع التراث الإبراهيمى على مدى زمن طويل، وذلك بعد هجرة اليهود الغفيرة من فلسطين إلى شمال الجزيرة العربية وإستقرارهم بها - فى مدينة يثرب بشكل خاص- على أثر تدمير الإمبراطور الرومانى تيتوس لعاصمتهم أورشليم سنة 70م، حاملين معهم تراثهم الدينى الكبير، وقصة نفى أخيهم إسماعيل إلى بلاد الحجاز ونشأته بين العرب وبنائه لكعبتهم مع أبيه إبراهيم، ذلك التفاعل الذى وصل ذروته فى الإعتقاد الذى شاع بين عرب الحجاز حوالى زمن محمد بأنهم من نسل إسماعيل، وبنشأة العقيدة الإبراهيمية الحنيفية التوحيدية المجردة تقريباً من الشعائروالطقوس بينهم، والتى مثلت بذرة الإسلام الأولى، قبل أن يضع محمد بصماته عليها ليحولها إلى عقيدة متكاملة الأركان.
وعلى ضوء هذا الواقع السياسى والثقافى الجديد فى تاريخ العرب، وبعيداً عن التصور الميثولوجى الشائع، فلم يكن من المصادفة أن يكون محمد إبن الأرستقراطية المكية التجارية الطامعة فى خيرات بيزنطة وفارس هو مؤسس الإسلام، والقائد المنتظرلتوحيد العرب، وأن يكون من بنى هاشم بالتحديد، مؤسسى العلاقات التجارية بين العرب، والمسيطرين على الكعبة مركز عبادتهم الوثنية، كما لم يكن من المصادفة أن يكمل باقى أركان العقيدة الإبراهيمية الحنيفية الجديدة من التراث الإبراهيمى نفسه، وأن يجعل منها طريقاً لتوحيد الدين والدولة معا، وهو ماحدث بالفعل، فقد كان جبريل الذى حمل رسالة السماء إلى محمد هو نفسه الملاك الأسطورى الإسرائيلى الذى ساعد موسى فى صراعه مع فرعون، كما بشر زكريا بيحيى، وبشر مريم بالمسيح، وكانت قصة الخليقة فى القرآن هى نفس قصة الخليقة الأسطورية المذكورة فى التوراة والمدراش، من حواء وآدم إلى نوح والطوفان حتى ظهور إبراهيم وإيمانه بإلهه الواحد ،كما كان موقع موسى فى التجربة الإيمانية الإبراهيمية هونفسه موقع محمد ، فجهود موسى فى توحيد قبائل اليهود هى نفس جهود محمد فى توحيد قبائل العرب، وشريعة وعبادات موسى فى التوراة والمدراش هى نفس شريعة وعبادات محمد فى القرآن، ومعجزة إعراج موسى إلى السماء،هى نفس معجزة إعراج محمد، وهكذا لم يبق سوى وضع لمسات طفيفة لتتحول يهودية العبرانيين إلى إسلام العرب، فقصة ذبح إسحاق تتحول إلى قصة ذبح إسماعيل، وقصة الحج عند العرب تظل كما هى بتفاصيلها إلى مكة، مع إضافة قصة نزوح إسماعيل وأمه هاجر إليها، وأسماء ملوك وأنبياء اليهود تتحول كلها إلى أسماء عربية، وأخيراً تتحول قبلة الصلاة من القدس إلى مكة، لينتقل بذلك ميراث إبراهيم كله من أبناء إسحاق إلى أبناء إسماعيل، وهو ماتم بالفعل بعد هجرة محمد إلى المدينة.
وبإكتمال صورة العقيدة الجديدة بعد التأمل والمعاناة التى غالباً ماإقترنت بالتجربة الدينية فى حياة أنبياء العالم القديم، لم يعد أمام محمد سوى الإعلان لقومه المكيين عن عقيدته الجديدة، التى ربط فيها توحيد الدين بتوحيد الدولة ربطاً قاطعاً لالبس فيه، والذى عبر عنه أكثر من مرة تعبيراً صريحا فى رده على عمه أبى طالب حين كان ينهاه عن شتم آلهة قريش بقوله(ياعم إنى أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدى إليهم بها العجم الجزية)، وهو رد لايختلف كثيراً فى محتواه السياسى عن تعليقه على موقعة ذى قار حين قال(هذا أول يوم إنتصفت فيه العرب من العجم، وبى نصروا).
قضى محمد نحو ثلاثة عشر عاماً فى مكة يدعو فيها قومه إلى عقيدة إبراهيم الجديدة، كانت الدعوة سرية خلال السنوات الثلاث الأولى منها، حقق خلالها نجاحاً محدوداً حيث آمن به نفر قليل من المقربين إليه على رأسهم زوجته الثرية خديجة، أكبر المشجعين له على زعامة العرب، وصديقه المقرب أبوبكر، وإبن عمه الصغيرعلى، ومولاه زيد بن حارثة، ثم قررالجهر بالدعوة (فأصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) وخاصة داخل دائرة قبيلته من بنى هاشم (وإنذر عشيرتك الأقربين)، وبالفعل بدأ محمد بهم وإستطاع إقناع البعض منهم بجدوى دعوته الدينية السياسية، لكن معظمهم ظل على ديانته الوثنية، وإن لم يتخلى عن إلتزامه الأدبى بحماية محمد من أذى قريش بحكم العصبية القبلية، وذلك بإستثناء عمه أبو لهب الذى شارك معظم المكيين فى رفضهم لدعوته وإضطهادهم له، ومع ذلك فقد إستطاع محمد وفى خلال هذه السنوات القليلة ضم كثير من وجوه قريش، سواء من بنى هاشم أو من غيرها من بطون قريش، وعلى رأسهم عمه حمزة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان الأموى، وكثيراً من البسطاء الذين وجدوا فى دعوته سبيلاً للمساواة مع الطبقة الأرستقراطية التجارية الغنية، وبحلول العام الخامس من الدعوة كان عدد أتباعه قد إزداد بشكل ملحوظ، بحيث فكر فى توفير ملاذ آمن لهم بعيداً عن أذى قريش، وكالعادة فقد ربط بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وإختار الحبشة، التى تربطها بقريش مصالح تجارية قوية، وأمر أتباعه بالهجرة إليها طلباً للحماية من جهة، وفى محاولة لضرب تجارة قريش من جهة أخرى، فخرج إليها عدد كبير من أتباعه على رأسهم عثمان بن عفان وزوجته رقية، لكن المحاولة باءت نسبيا بالفشل، فقد أرسلت قريش سفارة بقيادة عمرو بن العاص، أحبطت مساعى المهاجرين لتعكير صفو العلاقات بين مكة والحبشة، ومع ذلك فقد قبل ملك الحبشة توفير الحماية التى طلبها المهاجرون،فظلوا فى بلاده حتى حصار(الشعب)الشهير، ثم عاد بعضهم إلى مكة بعد أن ظنوا أن محمد قد توصل لإتفاق مع قريش، بينما ظل البعض الآخر فى بلاد الحبشة إلى مابعد الهجرة إلى المدينة، ثم عادوا من هناك إلى المدينة مباشرة.
وفى حدود العام السادس من الدعوة صعدت قريش من تحديها لمحمد وكل بنى هاشم تصعيداً خطيراً وصل إلى حد المقاطعة الإقتصادية والإجتماعية التامة، والتى عرفت فى التاريخ بإسم حصار(الشعب)، حيث تعاهدت بموجب إتفاق مكتوب عُلق فى الكعبة، على حصاره بشعاب مكة هو وجميع أتباعه وكل من تعاطف معه من بنى عبدالمطلب، على أن لايتزوجوا منهم أو يتاجروا معهم بأى شكل من الأشكال، كادت محاولة قريش أن تنجح، وكاد محمد أن يستسلم ويعترف بآلهة قريش فى محاولة للتوصل إلى حل وسط معهم، ونطق بتلك الآيات التى إشتهرت فى التاريخ بإسم الآيات الشيطانية(واللات والعزى ومناة الثالثة، تلك الغرانيق العلى، إن شفاعتهن لترتجى) لكن محمد عاد وتراجع ورفض التنازل وقال بأن الشيطان هو الذى ألقى بتلك الآيات على لسانه.دلت حادثة الشعب على أن قريش لم تكن ترفض ديانة محمد الجديدة، لكنها كانت ترفض أن تكون هى الديانة الوحيدة، كما كانت ترفض تسفيهه لآلهتها وتحقيره لديانات العرب، والواقع أن قريش كانت ترى فى دعوته خطرأ على مركزها التجارى والأدبى بين العرب، فقد كانت مكة هى مركز التجارة الرئيسى فى جزيرة العرب، كما كانت كعبتها بمثابة معبداً لكل آلهة قبائلها، ولذا فقد كان من شأن التخلى عن النظام الدينى القائم، وتوحيده فى دين واحد أن يصرف أنظار العرب عن مكة كمركز لعبادتهم ومركز لتجارتهم، لم تكن قريش بعد - أو معظمها على الأقل - قد أدركت الهدف البعيد لدعوة محمد، بأن توحيد الدين سوف يزيد من مركز بلادهم ومركز كعبتهم، لا أن يقلل منها، وقد عزز من هذا الإعتقاد الخاطئ، المعارضة الشرسة لدعوة محمد التى أبدتها قبيلة أمية القوية، والتى كانت ترفض أن تؤول زعامة العرب على يديه إلى بنى هاشم وليس إليهم، وهو ماسيتضح فى الصراع الدامى الذى سينشب بينهم وبين بنى هاشم على ميراث محمد مستقبلاً.
إستغرق حصار الشعب حوالى ثلاث سنوات، لكنه فشل فى نهاية الأمر بسبب العصبية القبلية، فقد تعاطف بعض وجهاء قريش مع معاناة بنى عبدالمطلب بسبب روابط القرابة القرشية، وقاموا بتمزيق عهد المقاطعة المعلق فى الكعبة، وخرج محمد وأصحابه من الحصار سالمين، لكنه وفى حدود هذه السنة بالتحديد خسر أكبر سندين له، وهما زوجته الثرية خديجة وعمه أبوطالب، ولم يكن من المصادفة أنه وفى حدود هذه السنة التاسعة بالتحديد، بدأ يبحث جدياً عن حليف يمكنه أن يساعده فى صراعه الدموى القادم مع قريش. بدأ محمد بمدينة الطائف فزارها وعرض دعوته على وجهائها، لكن المحاولة باءت بالفشل، ثم بدأ يزور قبائل العرب فى منازلهم، ويلتقى بهم فى مواسم الحج والعمرة، فزار كندة وكلب وبنى حنيفة، لكن محاولته باءت بالفشل أيضاً، وعرض أحدهم عليه أن يؤول الأمر إليهم بعده فرفض وقال( يؤول لمن شاء الله أن يؤول إليه) ومرة أخرى قد يدلنا هذا التعليق على الطبيعة السياسية التى غلبت على دعوته ،وأن الدولة كانت الهدف قبل الدين، وأن الحلم الدائم بكنوز كسرى وقيصر كان حاضراً فى كل حديث.
وأخيراً وجد محمد ضالته فى يثرب القريبة المنافسة لمكة، بلد أمه آمنة بنت وهب من بنى النجار الخزرج ،والتى توفت فى طفولته عقب مولده مباشرة، وتبعها أبوه عبدالله بن عبدالمطلب بعد ست سنوات حيث دفن هناك مع أمه، كان المدخل طبيعياً وإنسانياً مع أخواله ومثوى أمه وأبيه، ولكنه كان أيضاً عملياً وسياسياً جداً، فبالإضافة إلى كون المدينة منافساً طبيعياً لمكة بين حواضر الحجاز الرئيسية، فقد كانت تعانى من مشاكلها الخاصة أيضا، حيث كان الأوس والخزرج القبيلتان العربيتان الرئيسيتان فيها فى حالة صراع مع بعضهما البعض أحياناً، ومع شركائهم اليهود سكان يثرب أحياناً أخرى، وكان من شأن القبول بشخص محمد القوى كمحلف بينهما، أن يزيل أسباب التوتر بين القبيلتين، كما كان القبول بأصحابه التجار الأغنياء بأموالهم وخبراتهم وإتصالاتهم، أن يزيد من مركز العرب فى مواجهة اليهود المسيطرين على يثرب من جهة، وأن يزيد من مركز يثرب فى منافسة مكة من جهة أخرى، أما ماكان يحتاجه محمد وأصحابه، فقد كان مزيد من الأنصار، وملاذ آمن وموطئ قدم يمكنهم من خلاله، أن يبدأوا حربهم الطويلة من أجل توحيد العرب. بدت المصالح مشتركة والصفقة مثالية، ولذ فقد تمت بهدوء وكللت بنجاح خلال السنوات الثلاث الأخيرة من عمر الدعوة فى مكة، ففى حدود العام العاشر، إلتقى محمد بحوالى ستة نفر من حجيج الخزرج وعرض عليهم دعوته، وفى العام التالى مباشرة إلتقى بنحو إثنى عشر منهم ومعهم بعض من الأوس، وتعاهدوا على الحلف فيما عرف بإسم بيعة العقبة الأولى أوبيعة النساء، لإنه كان عهد أدبى لايتضمن العهد على القتال، وفى هذه المرة أرسل معهم أحد رجاله المقربين، وهو مصعب بن عمير ليقرأ عليهم القرآن، ويعلمهم مبادئ الإسلام، ونجح مصعب فى مهمته ودخل كثير من سكان يثرب فى دين محمد، وعادوا فى العام التالى، وهم نحو سبعين رجل وإمرأتين، وتعاهدوا معه هذه المرة على بيعة الحرب، التى عرفت بإسم بيعة العقبة الثانية، والتى خرج على أثرها أتباع محمد تباعاً إلى يثرب - التى أصبحت تعرف بإسم المدينة المنورة بعد هجرته إليها- وسرعان مالحق بهم محمد مع صاحبه أبى بكر، ليبدأ الجزء الحاسم من دعوته، والتى كشف فيها الإسلام عن وجهه السياسى كشفا صريحاً واضحاً، حيث أعلن محمد الحرب على مكة وعلى العرب وربما على العالم كله بقوله (وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله)وليتحول بذلك الدين إلى دولة والنبى إلى ملك.
إن قصة محمد فى المدينة، وإذا مانحينا العاطفة الدينية والقناعات الموروثة جانبا، سوف تكشف عن وجه ملك قاسى القلب من ملوك العصور القديمة، ففى خلال شهور قليلة بنى فيها مسجده ومساكنه ووضع فيها دستوره - المختلف عليه - والذى لم يلتزم به فى كل الأحوال، فقد ظلت قريش طبقة متميزة عن أهل المدينة، كما كان التهجيروالإبادة نصيب الحلفاء اليهود - وبنى فيها بزوجته الطفلة عائشة، والتى أصبحت المرأة المفضلة لديه بعد وفاة خديجة، وهو أمر مبالغ فيه أيضا، حيث أصبح له بعد كل معركة حربية إنتصر فيها إمرأة جديدة، والتى غالباً ما كانت إبنة أو زوجة سيد القوم المهزومين، وذلك على عادة المنتصر فى العصور القديمة، وحتى بشكل أقسى مما كان معروفاً فى تلك العصور، فبينما كان اليهود الذى تعلم منهم الدين، يمنحون السبية شهراً كاملاً تنسى فيه أهلها المقتولين، لم يكن محمد يمنحها حتى لحظة واحدة، وهكذا أصبح السيف والقرآن والجهاد المزعوم هى الحقائق الوحيدة الثابتة فى حياة محمد فى المدينة .
بدأ محمد معاركه فى المدينة بإرسال ثلاث سرايا حربية على التوالى بقيادة عمه حمزه وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وسعدبن أبى وقاص، وكانت كلها لإعتراض قوافل قريش التجارية، وهو الهدف الذى ركز عليه فى البداية، إرباك تجارة قريش، مركز قوتها السياسية والاقتصادية تمهيداً للقضاء عليها، فأرسل حمزة إلى منطقة سيف البحر، وأرسل عبيدة إلى منطقة بطن راغب، وأرسل سعد إلى منطقة الخرار، ثم كانت السرية الرابعة هى سرية نخلة الشهيرة، التى قتل فيها قائدها عبدالله بن جحش ورجاله رجلين من قريش فى شهر رجب المحرم فيه القتال، وعادوا معهم بأسيرين وبغنائم القافلة الصغيرة، مما أوقع محمد فى حرج شديد بين العرب، إذ إنتهك حرمة أشهرهم الحرم وهى السنة التى وضعها أجداده أنفسهم بتحريم القتال فى أربعة أشهر محددة، يستطيع الناس فيها قضاء حوائجهم فى سلام ، لكنه فى النهاية عفى عن عبدالله بن جحش ورجاله، وقبض الأسيرين والغنائم، وإستن منذ ذلك اليوم عادة أخذ خمس الغنائم، على عادة ملوك العالم القديم، وكان القرآن حاضراً طوع بنانه كالعادة ، يبرر به ماشاء وينفى به ماشاء، فقال الآيات الشهيرة(ويسألونك عن الشهر الحرام، قتال فيه، قل قتال فيه كثير، إلى آخر الآيات).
وبعد حادثة نخلة مباشرة ضرب محمد ضربته الكبرى حيث ترصد قافلة كبيرة لقريش آتية من الشام بقيادة أبى سفيان، فأسرع بإعتراضها بهدف الإستيلاء عليها، وعندما علمت القافلة بذلك أرسلت إلى قريش تستنجد بها، بينما سلك بها أبى سفيان طريق آخر، وتمكن من الهرب من عيون محمد، لكن قريش وبعد أن أرسلت جيشاً كبير يربوا على الألف، رفضت العودة إلا بعد تأديب محمد ورجاله، فإلتقت بهم على ماء يسمى بدر، لكن محمد وأصحابه المدنيين إستطاعوا إيقاع هزيمة كبيرة بهم، قتل فيها صناديدهم وأشرافهم، شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة وإبنه الوليد، وأبى جهل الحكم بن هشام، والبخترى بن هشام، الذى كان قد توسط فى فك حصار الشعب عن محمد و بنى عبدالمطلب، وغيرهم من أشراف قريش، وكان جيش محمد قد إستطاع السيطرة على ماء بدر قبل قريش، كما كان لحماسة رجاله ورغبتهم فى الغنينمة أثر كبيرفى هزيمة قريش المنهكة، وهى الرغبة التى بدت فى تصارعهم الواضح على الغنيمة بعد المعركة بين من قاتل قتال مباشر، وبين من كان يحرس محمد فى عريشه، ذلك التصارع الذى تدخل خالق الكون - كالعادة- وحسمه بإنزال سورة الأنفال(ويسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لله والرسول،فإتقوا الله وإصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين - إلى آخر الآيات) وهكذا وكأن الله لم يعد لديه شاغل سوى تسوية منازعات هؤلاء البدو ، وكالعادة فقد فسر محمد ذلك الإنتصار بالملائكة التى أرسلها الله من السماء لتعينه على قتل المشركين، وليس بعناصرالقوة والتفوق التى توفرت له على أعدائه، تلك الملائكة التى سرعان ماستتخلى عنه فى معركته التالية مباشرة مع قريش، معركة أحد.
مضى محمد من بدر مباشرة ليقوم بالإجلاء اللاإنسانى ليهود بنى قينقاع عن المدينة، وكان يريد قتلهم بسبب رفضهم الدخول فى الإسلام ، وذلك لولا تدخل حليفهم عبدالله بى أبى بن سلول الخزرجى، ذلك الرجل المظلوم فى تاريخ المنتصر، والذى توصل معه - وبشق الأنفس - إلى إتفاق يقضى بإجلائهم ومصادرة أموالهم بدلاً من قتلهم. وهكذا توج محمد سنته الثانية فى المدينة بإنتصار ساحق على أعدائه، من العرب واليهود، ومضى قدماً فى مخططه بإخضاع العرب، وإجلاء اليهود عن الحجاز بعد أن رفضوا الإعتراف بنبوته أو بزعامته على شعب إبراهيم، فبدأ عامه الثالث بغزوتين ناجحتين أخريتين، فى ذى أمر وذى القردة، وبعمليتى إغتيال ناجحتين لقيادتين من كبار قادة اليهود، هما كعب بن الأشرف وأبو رافع اليهودى، لكنه سرعان ما واجه إنتكاسة كبرى لم تكن فى الحسبان فى موقعة أحد الشهيرة.
كانت موقعة أحد رداً على هزيمة بدر، فقد خصصت قريش أموال قافلة أبى سفيان للإنتقام من محمد والثأر لأشرافها، فحشدت نحو ثلاثة آلاف مقاتل، وتوجهت لمحاصرته فى المدينة، وهنا تخلى الوحى عن محمد، وإستجاب خطأً لإلحاح الشباب بالخروج للقتال، ورفض الإستجابة لنصيحة عبدالله بن أبى بالتحصن بأسوارالمدينة ومقاومة قريش من داخلها، وقال( ماكان لنبى أن يلبس لامته - أى يتجهز للقتال- ثم يتراجع عن الحرب) وخرج للقاء قريش فى بطن جبل أحد على رأس حوالى ألف من مقاتلى المدينة، إنسحب منهم عبدالله بن أبى، الذى أصر على موقفه، بنحو ثلاثمائة مقاتل، فكانت الهزيمة الساحقة، ثلث قتلى، منهم بعض كبار قادته، عمه حمزة وعبدالله بن جحش ومصعب بن عمير، وثلث جرحى، وثلث منهزم، كما أصيب هو نفسه وكاد أن يقتل فى المعركة، ولاشك أن تلك كانت أصعب اللحظات فى حياته السياسية كلها، وقد لونت سنته الثالثة فى المدينة بحزن كبير، وخاصة على مقتل عمه حمزة، والتمثيل بجثته على يد هند بنت عتبة بن ربيعة، الذى قتله حمزة يوم بدر، ومع ذلك فقد تماسك بعزم الجبارين، وظل قرآنه يسخر من عبدالله بن أبى ويصفه بالمنافق الذى قال(أيعصينى ويطبع الولدان)، ولم تكن تلك الهزيمة هى نهاية الهزائم، فقد بدأ عامه الرابع بمعركتين خاسرتين أخريتين، قتل فيها رجاله غدراً فى الرجيع وبئر معونة، لكنه إستعاض عن ذلك بإجلاء بنى النضير اليهود عن المدينة والإستيلاء على أموالهم، وذلك بحجة رفضهم المشاركة فى دفع دية قتيلين قتلهما رجاله خطأ، وفشلت محاولة عبدالله بن أبى تكوين حلف ضده من بعض الخزرج وبنى النضير وأشقائهم بنى قريظة، فقد تمسك كعب بن أسد، سيد قريظة بعهده مع محمد، وهو قرار سوف يكلفه حياته وحياة قومه فى المستقبل القريب. وهكذا وبرغم الهزائم القاسية الأخيرة، فقد بدا وكأن الأمور مازلت تسير فى طريقها المرسوم، فإذا كان قد عانى بعض الهزائم القاسية على يد قريش وحلفائها، فإن مخططه فى إجلاء اليهود عن جزيرة العرب كان مازال يسير فى طريقه المرسوم.
وفى السنة الخامسة من وجوده فى المدينة، واجه محمد أكبر تحدى قامت به قريش وحلفائها من العرب وبنى النضير اليهود للقضاء على حركته الدينية السياسية، فقد حشدت قريش نحو عشرة آلاف من جيوش العرب واليهود، وحاصرت المدينة فى وقعة الأحزاب الشهيرة، والتى عرفت فى التاريخ بإسم وقعة الخندق، حيث إستجاب خلالها لنصيحة أصحابه ولم يغامر بالخروج للقاء قريش مرة أخرى، وقام بحفر خندق حول المدينة وإتخذ موقفاً دفاعياً، مكنه فى النهاية من تحقيق الإنتصار على قريش وحلفائها، إذ تمكن بالخديعة من بث الفرقة بينهم وبين بنى قريظة الذين - وكما يقول تاريخ المنتصر- خانوا عهد محمد وتحالفوا مع الغزاة، ولو أنه لم يذكر كيف خانوا ولاماهى العمليات العسكرية التى قاموا بها فى ظهر جيشه، والتى بررت إتهامهم بالخيانة، فبعد حوالى شهر من الحصار المرهق والمحاولات الفاشلة التى قام بها فرسان قريش بقيادة خالد بن الوليد لعبور الخندق، هبت ريح عاتية بددت معسكرقريش وأجبرتها على الرحيل بعد حصار طويل خارت فيه نفوس المحاصرين من أهل المدينة حتى قال بعضهم ساخراً(كان محمد يعدنا بكنوز كسرى وقيصر، ونحن لانملك أن نذهب إلى الغائط - أى لانستطيع الخروج لقضاء حاجتنا)وهو القول الذى أكده القرآن حين رد على هؤلاء المرجفين بآياته التى تقول( وإذ يقول المنافقون، والذين فى قلوبهم مرض، ماوعدنا الله ورسوله إلا زوراً) وكأنه بذلك قد أكد أن وعد محمد لم يكن فى النهاية سوى كنوز كسرى وقيصر.
وحين رحلت قريش أدرك محمد أن تلك كانت آخر محاولاتها، وأن إنتصاره أصبح وشيكأً، وقال فى إحساس واضح بالقوة (اليوم نغزوهم ولايغزونا) وكان من شأن إحساس القوة هذا أن يجعل من بنى قريظة الهدف التالى مباشرة، ولكن بلارحمة هذه المرة، فبمجرد أن رحلت قريش صاح فى أهل المدينة (لايصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة)، فزحف جيشه وأصحابه على حصونهم، وحاصروهم لنحو شهر حتى نزلوا على حكمه، فحكم فيهم حليفهم سعد بن معاذ سيد الأوس، وكأنه يريد أن يتبرأ من تهمة إبادتهم الوشيكة، فقد كان يعرف رأى سعد بن معاذ فى حكم الأسرى، فهو الذى كان يريد قتل أسرى بدر بدلاً من قبول إستسلامهم، وهو الذى أيد القرآن موقفه بآياته(ماكان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض)، وبالفعل حكم فيهم سعد بن معاذ الدموى بالقتل وبسبى النساء والأطفال ومصادرة الأموال، ولم يكن منصفاً لحلفائه مثل عبدالله بن أبى، ذلك المنافق الإنسان، الذى أنصف حلفائه من بنى قينقاع، فشحنوا جميعاً فى مكان واحد موثقة أيديهم، وحفرت لهم خنادق فى سوق المدينة، ثم حملوا إلى هناك على دفعات لتضرب أعناقهم صبراً، فى واحدة من أبشع مذابح العالم القديم.
واصل محمد فى عامه السادس عملياته العسكرية، فقام بثلاث حملات رئيسية فى لحيان وذى القرد وبنى المصطلق، وهى الغزوة الشهيرة التى تزوج فيها جويرية بنت الحارث إبنة الحارث بن أبى ضرار زعيم بنى المصطلق، بعد مقتل زوجها فى المعركة، ثم مضى ليحقق قوله فى قريش يوم إنتصارالأحزاب(اليوم نغزوهم ولايغزونا)، فخرج فى إستعراض قوة فى نحو ألف وأربعمائة مقاتل من أهل المدينة، يريد دخول مكة وأداء العمرة، لكن قريش رفضت أن يشاع عنها بين العرب أن محمد قد إقتحمها بالقوة، فرفضت السماح له بالدخول، وجرت بينهم مفاوضات عرفت فى التاريخ بإسم صلح الحديبية، حيث كان يعسكر جيشه حول مكة، إتفق فيها على عشر سنوات من الهدنة، وعلى أن ينصرف هو ورجاله عامه ذاك ويعود لأداء العمرة فى العام التالى، وبرغم معارضة كثير من قادته لهذا الإتفاق وإصرارهم على دخول مكة بالقوة فقد قبله، حيث وجد فيه فرصة للتفرغ لإخضاع باقى القبائل، وبالفعل فقد أخذ بعد ذلك فى تكثيف حملاته العسكرية داخل الجزيرة العربية، فى كل إتجاه، من أجل إخضاع مزيد من قبائل العرب لسلطة دولته الناشئة فى المدينة، حتى زاد عدد الحملات التى قادها زيد بن حارثة وحده عن سبع حملات، منها حملة بنى فزارة الشهيرة، التى قتل فيها العجوز أم قرافة، بربط رجليها بين بعيرين، ثم بدأ فى توجيه رسائله التهديدية المختومة بعبارة (إسلم تسلم) إلى حكام الدول والممالك الواقعة على أطراف الجزيرة العربية، فراسل كسرى وقيصر والنجاشى وقيرس حاكم مصر، وملوك الحيرة وغسان واليمن وعمان والبحرين، فى إحساس واضح بالقوة واليقين من تحقق وعده القريب بكنوز كسرى وقيصر.
كانت السنة السابعة هى سنة اليهود، ففى هذه السنة، وبدون الحاجة إلى أى مبررات، واصل محمد إجلاء اليهود عن كل الجزيرة العربية، فغزاهم فى مراكزهم الرئيسية فى شمال الحجاز، فى خيبر ووادى القرى وفدك وتيماء، حيث أجلاهم وإستولى على أموالهم، وكالعادة، تزوج من إبنة القائد المهزوم، فتزوج من صفية بنت حى بن أخطب، زعيم بنى النضير، بعد تعذيب زوجها كنانة بن الربيع حتى الموت، لإقراره على الأموال.
وبعد الإنتهاء من إجلاء اليهود عن جزيرة العرب، بدأ محمد محاولته الأولى فى جس نبض الدولة البيزنطية بجنوب الشام، فأرسل قائده زيد بن حارثة على رأس نحو ثلاثة آلاف مقاتل إلى منطقة البلقاء بجنوب الشام، حيث إلتقى فى موقع قرية مؤته بجيش من الرومان وحلفائهم من قبائل العرب، لكن المغامرة إنتهت بهزيمة كبيرة ومقتل زيد بن حارثة ومن توليا القيادة بعده، جعفر بن أبى طالب وعبدالله بن رواحة، وفى هذه المعركة أدرك محمد قدرات خالد بن الوليد العسكرية، وقد كان قد قدم عليه مسلما فى المدينة هو وعمرو بن العاص فى تلك السنة، إذ تمكن خالد من الإنسحاب ببقايا الجيش فى سلام، فأطلق عليه لقب سيف الله المسلول، وإعتبره أحد قواده الرئيسيين، بعد أن كان من أشد خصومه عداوة، وعفى عن كل ماضيه، كما سيعفو عن جرائمه وتجاوزاته المستقبلية أيضاً.
لم تفل هذه الهزيمة من عزم محمد، فإنتهز أول فرصة سنحت له لنقض الهدنة مع قريش، وذلك عندما لجأ إليه حلفائه من خزاعة، لمساعدتهم فى الإنتقام من عدوان قبائل بكر، حلفاء، قريش. كان ذلك سبباً كافياً ليجعله يحشد عشرة آلاف من مقاتلى المدينة وقبائل العرب، يتبعهم مزيد من قبائل الأعراب الغير مسماة، الجندى مجهول فى حروبه وسبب معظم إنتصاراته، وقد صدقت وعده يكنوز كسرى وقيصر فتبعته فى كل حروبه طمعاً فى الغنينة. حاولت قريش إصلاح الخطأ ومد الهدنة ولكن بلاجدوى، فقد كان الوقت قد حان لغزوها وضمها إلى دولة المدينة، وإخضاع الحجاز كله بعدها، وقد عبر عن ذلك مبتهجاً فى قرآنه بقوله( إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك وإستغفره، إنه كان تواباً). حاصر محمد مكة وأرسل سراياه من عدة جهات، وكان على رأس إحدى هذه السرايا خالد بن الوليد، عدوالأمس وحليف اليوم، وهنا إرتكب خالد أولى جرائمه، فقتل بعض أسرى قبيلة جذيمة، حليفة قريش، رغم إعلانهم الإسلام ، لكن محمد عفى عنه، ولن تكون هذه الجريمة الأولى ولا الأخيرة لخالد بن الوليد، القائد الشهير فى التاريخ الإسلامى، والذى يتعلم أبناء المسلمين نموذج البطولة من سيرته، التى يدرسونها فى مدارسهم منذ نعومة أظفارهم.
وكذلك كان سعد بن عبادة، سيد الخزرج، على رأس سرية أخرى، ولكن عندما علم محمد أنه صاح وهو يدخل مكة( اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة) عزله عن القيادة، خشية على قومه منه، فقد كانت قسوة قلبه تعمل مع الغرباء فقط، أما أهله المكيين، وخاصة بنى هاشم، وعمه العباس، الذين نهى أتباعه عن قتلهم يوم بدر، فقد كان يميزهم عن جميع العرب، وقد إدخرهم للغد، وعندما خرج أبو سفيان زعيم قريش الأموى، وعدوه الأكبر، يفاوضه فى شروط التسليم، طلب تشريفه بشئ خاص، فأعلن محمد شروط الإستسلام( من إحتمى بالكعبة فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن) وهكذا منح أعدائه الأموين شرفاً عظيما، وذلك فى ذكاء وحكمة سرعان ما سيثبت التاريخ عدم جدواهما، حيث سينقلبون على أهله فى المدينة ويذبحونهم فى وقعة الحرة ذبح الأغنام، فى مستقبل قريب، ليس مفهوماً كيف غاب عن أعين النبى قارئ الغيب.
وهكذا دخل محمد مكة، وعفى عن أهلها، وقال لهم (إذهبوا فأنتم الطلقاء)، ولم يقتل منهم سوى عشرة نفر، ستة رجال وأربعة نساء، كان يكن لهم كراهية خاصة، ولم يكن هناك من يشفع لهم عنده، أما الأشراف فقد عفى عنهم، حتى عبدالله بن سعد كاتب الوحى السابق، والذى إرتد عن الإسلام وسخر منه وأشاع بين العرب أن محمد لايعرف ماذا يقول، فقد عفى عنه بشفاعة عثمان بن عفان أخيه فى الرضاعة، وذلك دون أن يدرك، وللمرة الثانية، أن هذا الرجل بالتحديد، سوف يكون من أسوء النماذج التى ستفرزها دولته، ومن أسباب الفتنة الكبرى التى ستنشأ بين قومه المسلمين فى المستقبل القريب. كما عفى عن فرسان قريش، عكرمة بن أبى جهل وصفوان بن أميه، وكانا قد هربا إلى سواحل البحر الأحمر كراهية فى الخضوع له، ولم يرجع صفوان إلا عندما قال له عمير بن وهب، الذى أرسلته قريش لإقناعه بالعودة، كلمات ذات دلالة خطيرة(إبن عمتك، عزه عزك، شرفه شرفك، وملكه ملكك) فهكذا فهمت قريش رسالة محمد فى نهاية الأمر، رسالة ملك وليست رسالة دين، وعندما تذوقت طعم الملك الذى جلبه لها لم تتخلى أبداً عنه بعد ذلك، فعندما إنتفضت جزيرة العرب كلها على دولته بعد وفاته، وقفت مكة ومدن الحجاز كلها صفاً واحداً وأخضعتهم بالسيف بلارحمة، ليس إيماناً بدين محمد، ولكن إيماناً بالملك الذى جلبه لهم على العرب، بل وعلى العالم كله. وهكذا عاد صفوان وعاد عكرمة بن أبى جهل وأصبحا من أكبر قادة جيوش محمد، وأخرج صفوان خزائن سلاحه وساهم فى غزو الطائف مساهمة كبيرة، كما لعب عكرمة دوراً كبيراً فى حروب الردة بعد ذلك.
قضى محمد خمسة عشر يوما فى مكة ومنها إنطلق مع جيشه ومعه نحو ألفين من المكيين وهزم قبيلة هوازن فى حنين وغنم أموالها، لكنه أعتق سبيها نظراً لقرابتهم من قريش، ومن هناك تقدم لحصار قبيلة ثقيف فى الطائف، لكنه لم يستمر هناك طويلاً، إذ رحل إلى المدينة وترك جزء من الجيش على حصارها، وقبل العودة قام بتوزيع غنائم حنين على رجاله، فخص المكيين وأشرافهم بالنصيب الأعظم منها، وخاصة أبى سفيان وإبنه معاوية، وعمه العباس، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية، وغيرهم، بحجة تأليف قلوبهم وتحبيبهم إلى الإسلام، مما أثار غضب جنود المدينة لدرجة جعلتهم يحيطون به ويجذبونه من ردائه طلبا لحقهم من الغنيمة، لكنه كالعادة، بقوة شخصيته ، وبوحيه الإلهى الجاهز دوما، تمكن من إقناعهم بأن ماقام به هو عمل ضرورى من أجل تأليف قلوب هؤلاء قريبى العهد بالإسلام، ثم عاد إلى المدينة حيث قدم عليه وفد ثقيف بعد فترة قصيرة معلنا الخضوع والدخول فى الإسلام، وكان سيدهم مالك بن عوف قد أعلن إسلامه قبل وصول الوفد، كما كان محمد قد إعتبره من المؤلفة قلوبهم ومنحه مائة بعير، وقد إنتهز محمد فرصة خضوع ثقيف لمداهنة غرمائه الأمويين مرة أخرى، فقام بإرسال كبيرهم أبى سفيان إلى الطائف لهدم أصنامها.
وبعد غزو الطائف إستراح محمد أشهراً قليلة، ثم قام فى السنة التاسعة ، بالتوجه على رأس جيش كبير قاده بنفسه لغزو المناطق الجنوبية من بلاد الشام مرة أخرى، وذلك فيما عرف بإسم غزوة تبوك، ورغم أن تلك الغزوة كانت إنتقاما لهزيمة مؤته، فقد كانت ضمن المخطط المرسوم بغزو أراضى الدولتين الفارسية والبيزنطية وتحقيق الوعد بكنوز كسرى وقيصر، لكنه لم يلتقى فيها بأى جيوش رومانية وإكتفى بإخضاع بعض القبائل العربية الحليفة لهم القاطنة على تخوم الشام، وعاد فى موكب نصر مهيب جعل مزيد من قبائل العرب تتوافد عليه فى المدينة معلنة خضوعها وإسلامها، وفى تلك السنة أرسل بيانه الشهير إلى العرب المتضمن فى سورة براءة أو سورة التوبة( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فسيحوا فى الأرض أربعة أشهر، وإعلموا أنكم غير معجزى الله، وأن الله مخزى الكافرين- إلى آخر الآيات)، وذلك فى موسم الحج الذى ترأسه أبو بكر، وأمر على إبن أبى طالب بتلاوة البيان نيابة عنه، حيث أعطى قبائل العرب مهلة أربعة أشهر للدخول فى الإسلام أو مواجهة الحرب، وهكذا فقد أرسى مبدأ القهر فى العقيدة بحكم قرآنى صريح ولم يعد هناك مفر أمام باقى القبائل التى لم تكن قد أعلنت خضوعها بعد سوى إعلان الخضوع ، فتوافدت عليه فى المدينة، من كل مكان فى الجزيرة العربية، معلنة خضوعها وإسلامها، كان العام العاشر والأخير فى حياة محمد فى المدينة هو عام الوفود، وإنتصاردعوته لتوحيد العرب فى دولة واحدة والتمهيد لتحقيق الوعد بكنوز كسرى وقيصر، وفى ذلك العام العاشر قام بحجته الأخيرة، والتى عرفت بإسم حجة الوداع، والتى ألقى فيها على الحجيج فى عرفة خطبة الجبل الخاصة به، والتى لخص فيها رسالته إليهم ، وذلك فى سورة المائدة التى قال فيها(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى، ورضيت لكم الإسلام ديناً)، وبمجرد عودته إلى المدينة مرض مرضه الذى مات به فى أوائل العام الحادى عشر، وكانت قبائل العرب وبمجرد أن علمت بمرضه قد بدأت بالتمرد والإنتفاض، لكنها وبمجرد أن تأكد نبأ وفاته، أعلنت ذلك التمرد صريحاً قاطعاً، فخرج مسيلمة فى بنى حنيفة باليمامة فى شرق نجد وأعلن النبوة بدوره ،كما خرج طليحة الأسدى فى بنى أسد وتبعتهم معظم قبائل نجد البدوية، كما كان الأسود العنسى قد خرج باليمن، وبدا أن كل الجهود التى بذلها محمد فى توحيد القبائل العربية تتلاشى، وأن دولته تنهار، ولكن خلفائه الأقوياء، أبو بكر وعمر، وبمساعدة قبائل الحجاز، تمكنوا من قمع تمرد القبائل العربية بمنتهى القسوة، وذلك فى الحروب التى عرفت فى التاريخ بإسم حروب الردة، وسرعان ماتماسكت دولة محمد من جديد، وبدأت رحلة تحقيق الوعد الذى لم يستطع إنجازه لهم فى حياته، وشرع خلفائه، فى تحقيقه نيابة عنه، وإكتساح أراضى الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية ونهبها والإستقرار بها، ليخلفوا لنا ذلك الحزام الأسود الذى يعانى منه العالم اليوم، حزام الإسلام، والممتد من أفغانستان حتى حدود المغرب.

أهم المراجع :
1-تاريخ الرسل والملوك – الطبرى - مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر- بيروت
2-تاريخ الدولة العربية - د. السيدعبدالعزيز سالم- دار النهضة العربية - بيروت
3-العرب فى العصور القديمة - د.لطفى عبدالوهاب يحيى- دار النهضة العربية - بيروت
4-صدر الإسلام والدولة الأموية - د. محمد عبدالحى شعبان - الأهلية للنشر والتوزيع - بيروت
5-الكتاب المقدس- طبعة إنجليزية - الجيديون العالمية – سنغافورة















5-مابعد الدين والقومية

ظاهرتان كبيرتان صنعت تاريخ الإنسان وتاريخ الإنسانية - على الأقل حتى اليوم - هما الدين والقومية. وإلى عهد قريب كان الإعتقاد الشائع هو أن كلاهما قد إرتبط بتطور اقتصادى وإجتماعى معين فى حياة المجتمع الإنسانى ، فقد إرتبط الدين بالمجتمع الإقطاعى العبودى، بينما إرتبطت القومية بالمجتمع البرجوازى الليبرالى ، لكن المراجعة الفكرية وتجربة التاريخ تثبت أن هاتين القوتين ، الدين والقومية ، كانت دائما ثقافتان تعملان فى حياة الشعوب بإستمرار، وبمعزل عن التطورات الاقتصادية والاجتماعية وإلا بماذا نفسر سيادة الفكر الدينى فى دول لها كل ملامح الدول الرأسمالية كإيران والسعودية مثلاً، وسيادة الفكر القومى الليبرالى لدى شعوب قديمة لها كل ملامح المجتمعات الإقطاعية العبودية كبلاد اليونان القديمة وروما مثلاً ؟
ففى البدء كان الدين للإجابة على السؤال الحاسم الخالد من خلقنا ولماذا نموت؟ وهو سؤال سيظل يطرح نفسه دائماً فى حياة الإنسان بصرف النظر عن طبيعة المجتمع الذى يعيش فيه قديماً كان أو حديثاً ، إقطاعياً كان أم رأسمالياً ، ولإن السؤال صعب والإجابة أصعب ، فقد إستولى الدين على حياة الإنسان منذ البداية لكنه - وبمرور الزمن - تحول من دين سلام إلى دين سياسة ، وبدلا من أن يمنح الإنسان السلام منحه الحرب والصراع ، وإستمر ذلك هو الحال حتى ثارت أوربا - قائدة التاريخ الإنسانى - على الدين وقدمت للإنسانية ديناً بديلاً هو الوطن - وهوعزيز على الإنسان أيضاً - لكن المشكلة لم تنتهى ، فقد كان الدين البديل دين سياسة بدوره ، وتصارعت دول أوربا فيما بينها وأفنت بعضها البعض بدافع التعصب القومى فى حربين عالميتين لم تعرف الإنسانية لقسوتهما مثيلاً.
عرفت الإنسانية ديانتان عالميتان هما المسيحية والإسلام ، أما باقى الأديان الآسيوية الكبرى كالبوذية والهندوسية والكونوفوشية ، فلم تتطور فى أى لحظة من لحظات تاريخها إلى أن تصبح ديانات عالمية، وظلت عبر تاريخها الطويل محتفظة بدائرة إنتشارها داخل البيئة الآسيوية فقط - بإستثنائات قليلة - كما أنها لم تتطور لتصبح ديانات سياسية تماماً ، كالديانات الإبراهيمية الشرق أوسطية الثلاث ، اليهودية والمسيحية والإسلام. ولسنا هنا بصدد الحديث عن لماذا أصبحت المسيحية والإسلام فقط ديانتان عالميتان، ولكنا نود الحديث عن ماذا حدث عندما أصبحت كذلك؟
فلنبدا بالمسيحية إذن لإنها الأقدم زمنياً. خرجت المسيحية من فلسطين على يد آخر أنبياء إسرائيل يشوع أو المسيح كما إشتهر فى التاريخ . شاب إسرائيلى شديد التدين عظيم الهيبة والتأثير - بلا شك - أراد أن يحدث بعض الإصلاحات فى الشريعة الموسوية، فرفض إصلاحاته كثير من اليهود وأيدها كثير منهم أيضاً. وفى النهاية ضاق به الجميع، اليهود أصحاب الأرض ، والرومان اصحاب السلطة ، فحكموا عليه بالموت ورفعوه على الصليب بعد أن أذاقوه مر العذاب. وبمجرد أن لفظ أنفاسه وأسلم الروح إلى خالقه تحول النبى اليهودى إلى مؤسس لدين جديد، ففى خلال القرن الأول الميلادى كُتبت قصة حياة يسوع وتعاليمه فى الأناجيل ، وتحولت حركته الإصلاحية إلى ديانة مستقلة عن اليهودية وهى المسيحية ، والتى قُدر لها أن تكتسح كل العالم الرومانى بمجرد أن إعترف بها الإمبراطور الرومانى قسطنطين الكبير ديانة رسمية للإمبراطورية فى حدود سنة 325م من ميلاد المسيح ، ومن ديانة مضطهدة تحولت المسيحية إلى ديانة ظافرة وبدأت تفرض نفسها على كل العالم الرومانى شرقاً وغرباً.
لم تنحصر شهرة وإسهامات قسطنطين الكبير فى التاريخ فى مجرد إعترافه بالمسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية ، ولكن كان هو أيضاً الذى أمر ببناء مدينة بيزنطة على ساحل البسفور، ونقل مقر حكمه من روما إليها فى الجزء الشرقى من الإمبراطورية فى حدود نفس التاريخ الذى إعترف فيه بالمسيحية. وكما إنقسم العالم الرومانى - بمرور الزمن - إلى شرقى وغربى ، كذلك إنقسمت المسيحية الظافرة إلى شرقية أرثوذكسية وغربية كاثوليكية ، وبينما ظلت المسيحية الأرثوكسية خاضعة لسلطة الدولة الرومانية الشرقية (البيزنطية) خلال العصور الوسطى ، وحتى سقوط بيزنطة على يد العثمانيين سنة 1453م ، فإن المسيحية الكاثوليكية كان لها شأن آخر وقصة أخرى. فبعد سقوط روما فى يد البرابرة الجرمان سنة 476م برزت البابوبة الكاثوليكية فى إيطاليا كالسلطة الوحيدة الباقية من تراث الإمبراطورية الرومانية ، فكان من الطبيعى أن تتحول إلى سلطة ودولة وأن يلتف حولها الناس ، ومن هنا بدأت المسيحية رحلتها فى التاريخ لتقود السياسات والحروب وتتحول من عقيدة المظلومين إلى عقيدة الظالمين.
وفى دراسة محدودة كهذه الدراسة ليس من السهل أن نتتبع رحلة المسيحية الغربية الطويلة مع السياسة والسلطة الدنيوية ، وحتى هزيمتها فى النهاية وبروز القومية كبديل لها. لكن القصة تستحق أن تروى أو أن تروى فصول منها - على الأقل - لنتذكر ماذا يحدث عندما يتحول الدين إلى سلطة وسلطان ، وكيف تضيع عندئذ الدنيا ويضيع معها الدين، ولنتذكر أيضا أن فى بعض الهزيمة إنتصار، فلعل المسيحية فى هزيمتها السياسية ضمنت عودتها الحقيقية إلى حياة الإنسان ، وضمنت لها بذلك دوراً محدوداً ولكن دائماً فى حياته ، وهذا مايجب أن يتعلمه الإسلام ، الدين العالمى الآخر ، الذى مازال يحاول أن يسيطر سياسياً على العالم.
برزت البابوية كقوة وأخذت مكانتها السياسية بعد سقوط الإمبراطورية فى الغرب ، وسيطرت على الحياة بمختلف جوانبها فى العصور الوسطى الأوربية ، ودخلت فى صراع ضارى على السلطة والسلطان كان أبرز مظاهره صراعها مع الإمبراطورية الرومانية المقدسة ( أى الجزء الغربى من العالم الرومانى الذى كان قد سقط سنة 476م وتم إحيائه على يد شارلمان سنة 800م).
كما قادت البابوية الحروب الصليبية وأراقت الدماء بإسم المسيح - رغم كل مانهى عنه المسيح من إراقة الدماء - فقتل الصليبيون حوالى مائة ألف إنسان فى معرة النعمان السورية ، أثناء الحملة الصليبية الأولى فى ديسمبر 1098م ، بل وأكلوا بعضهم أيضاً بسبب نقص المؤن ، ثم قاموا بذبح سبعين ألف إنسان بين مسلم ويهودى عندما دخلوا القدس سنة 1099م ، كما ذبحوا كل أسرى عكا بعد إستسلامها فى يونيو سنة 1191م أثناء الحملة الصليبية الثالثة ، ولم تكتفى البابوية بحروبها على العالم الإسلامى شرقاً وغرباً فى أسبانيا - والتى قد تبدو مبررة - بل أنها قادت الحروب الصليبية ضد المسيحين أنفسهم فى جنوب فرنسا سنة 1209م ، أثناء الحركة الإلبيجنسية وقتلتهم وصادرت أملاكهم وأصدرت قرار الحرمان على ريموند السادس امير تولوز نصير الحركة الإلبيجنسية التى كانت تحاول التحرر من سيطرة وطغيان البابوية.
وإضطهدت البابوية التنويريين وعذبتهم وقتلتهم أثناء عصر النهضة الأوربى ، ووصل الأمر بإنشاء محاكم خاصة بمحاكمة أصحاب الأفكار والآراء الخارجة عن تعاليم الكنيسة عرفت بمحاكم التفتيش، والتى مثلت أهم مؤسسات الرعب الدينى على مر التاريخ ، وقد إنشئت فى أوائل القرن الثالث عشر بقرار من البابا جرينوار التاسع وذلك سنة 1233م ، وكان هدفها محاربة الهرطقة فى كل أنحاء العالم المسيحى، ثم تحولت إلى آلة جهنمية للإبادة الجماعية ، حيث راحت تعاقب الناس حتى على مجرد أفكارهم ، وليس على أفعالهم فى الواقع ، فأصبح كل من يشتبه فى هرطقته يساق إلى المحرقة بلا رحمة ، للتعذيب أو للموت ، وقد قُتل خلق كثير بهذه الطريقة الوحشية التى أصبحت علامة على العصور الوسطى ، ويُقال أن عدد الذين ماتوا بهذه الطريقة يتجاوز عشرات الألوف ، ومن أشهر الذين ماتوا حرقاً المصلح التشيكى المشهور جان هوس ، حيث حُكم عليه بالموت حرقاً فى يوليو سنة 1415م ، وكذلك الفيلسوف الإيطالى جيوردانو برينو فقد أعدم حرقاً . ومن أهم الذين مثلوا أمام محاكم التفتيش أيضاً العالم الشهير جاليليو، وكوبرنيكوس القائل بدوران الأرض حول الشمس ، لكن الأخير نجا منها بسبب حذره وتأجيله نشر كتابه الذى يحتوى على نظريته الجديدة حتى يوم وفاته . وأما العالم الشهير جاليليو فقد كان مهدداً بنفس المصير، لولا أنه أستدرك الأمر فى آخر لحظة وقبل بالتراجع عن نظريته المشهورة ، وهكذا عفوا عنه ولم ينفذوا فيه حكم الإعدام، ثم أحيل إلى الإقامة الجبرية فى ضواحى فلورنسا ، وأتيح له أن يكمل بحوثه وهو تحت المراقبة. وقد إستمرت محرقة محاكم التفتيش موقدة حتى القرن السابع عشر بل وحتى القرن الثامن عشرأيضاً ، والمثال على ذلك تلك الحادثة الشهيرة التى حدثت فى عصر التنوير لشخص يدعى جان فرانسوا لابار (1747-1766م) ، فقد قطعوا يده لإنه كسر الصليب وإقتلعوا لسانه ثم أحرقوه ، وكان شاباً مراهقاً لايتجاوز عمره التاسعة عشرة. ومن الأمثلة الأخرى ماحدث للفيلسوف ميشيل سيرفيه الذى أحرقوه حياً فى جنيف بتهمة التشكيك بعقيدة التثليث ، وهى من العقائد ألأساسية فى المسيحية. فبمجرد أن شكك بصحتها ألقى طعمة للنيران بلا رحمة.
وبعد قيام حركة الإصلاح الدينى فى القرن السادس عشر أصبح هناك عدو جديد للفاتيكان غير التنويرين هو مارتن لوثر رائد حركة الإصلاح الدينى ، التى إنطلقت من ألمانيا ضد إستبداد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وسيطرتها على حياة الناس الروحية والمادية وضد صكوك الغفران بشكل خاص ، وقد هاجم مارتن لوثر مفاسد الكنيسة الكاثولكية فى منشور علقه على باب كنيسة ويتنبرج عبر فيه عن عقيدته الدينية الجديدة والتى أطلق عليها مصطلح (التبرير بالإيمان) ، أى أن الله وحده هو الذى يملك الحكم على إيمان الناس من عدمه ، وأنه وحده من يملك الغفران لهم من عدمه. وقد ردت الكنيسة الكاثوليكية على حركة لوثر بأن أصدر البابا ليو العاشر قرار الحرمان من الكنيسة ضده فى ديسمبر 1520م ، وكان رد مارتن لوثر أن أحرق قرار البابا علانية أمام جميع الناس فى ساحة ويتنبرج ، وتفاقم الأمر حتى طلب البابا من الإمبراطور شارل الخامس أن يلقى القبض عليه ، وينفذ قرار الحرمان الصادر ضده بإعتباره مارقاً خارجاً عن الكنيسة. وبالفعل إستدعى مارتن لوثر للمثول أمام مجلس يمثل الإمبراطورية فى مدينة فورمس لمحاكمته فى يناير 1521م ، ولما ناقشه المجمع فى آرائه أصر على كل كلمة نطق بها أو كتبها من قبل، وعندئذ أعتبر خارجاً عن القانون وحُكم بإهدار دمه وحرمانه من الحقوق المدنية فى الإمبراطورية، إلا أن فردريك أمير سكسونيا وآخرين من أمراء شمال ألمانيا وضعوه تحت حمايتهم ، وبذلك نجا من العقوبة. وسرعان ماإكتسحت اللوثرية معظم الطبقات فى ألمانيا ومنها إنتشرت - ولو فى أشكال جديدة - إلى معظم أنحاء غرب أووربا .
وبدءً من تلك اللحظة إنقسم العالم المسيحى فى غرب أوربا إلى قسمين ، قسم كاثوليكى وقسم بروتستانتى ( أىمعترض) ودارت بينهما المعارك والحروب على مدار مائتى سنة تقريبا ، وهى حروب الأديان الشهيرة والتى إختلط فيها الدين بالسياسة ، وذهب ضحيتها مئات الآلاف من القتلى. وبلغت هذه الحروب ذروتها فى الأراضى المنخفضة الواقعة تحت سيطرة التاج الأسبانى آنذاك ، وفى فرنسا فى الفترة الواقعة بين عامى 1562-1598م ، فقد هاجت الجماهير الكاثوليكية على أفراد الأقلية البروتستانية فى مختلف المدن والأرياف الفرنسية، وكان أن حصلت المجزرة الشهيرة بإسم مجزرة سانت بارتيليميو، التى ذهب ضحيتها أكثر من خمسة آلاف شخص. وكذلك شهدت بريطانيا موجة إضطهاد كبيرة للبروتستانت فى عهد الملكة مارى إبنة هنرى الثامن (1552-1558م) ، والتى لُقبت بمارى السفاحة لكثرة ضحاياها من البروتستانت. وقد تجددت تلك الحروب الدينية الرهيبة فى حرب الثلاثين عاماً التى إجتاحت أوربا سنة 1618م( فى بوهيميا والدانمرك والسويد وفرنسا)، وراح ضحيتها مئات الآلاف من الناس قبل أن تنتهى بصلح وستفاليا سنة1648م. وكان من أبشع المذابح التى شهدتها تلك الحروب مذبحة مدينة مجدبرج الألمانية، التى حاصرها جيش الإمبراطور الألمانى الكاثوليكى فرديناند الثانى، ثم إكتسحها وقتل نحوعشرين ألفاً من سكانها البروتستانت. ومن ضحايا الإضطهاد الدينى من بروتستانت فرنسا وإنجلترا، هاجرت الموجات الأولى من الأوربيين ، الذين إستعمروا أمريكا الشمالية وأسسوا الولايات المتحدة الأمريكية على قيم ومثل عليا إنسانية جديدة ، تم فيها فصل الدين عن الدولة وإرساء مبدأ حرية العقيدة.
وظلت البابوية فى سعيها المحموم نحو السلطة والتسلط تدفع بأباطرة وملوك أوربا إلى إضطهاد البروتستانت ، وكل من يجرؤ على الخروج عن سلطانها حتى قيام الثورة الفرنسية (1789-1799م) ونشرها للقيم المدنية فى المجتمعات الأوربية من خلال حروب نابليون فى أوربا ، حتى تمكن العالم الغربى - فى نهاية الأمر - من إزاحتها عن المشهد السياسى ، ونفيها فى دولة الفاتيكان الصغيرة سنة 1929م ، بعد أن إختار له مثلاُ أعلى جديداً فى الحياة ، إنبثق من الثورة على إستبداد البابا الكاثوليكى فى روما ، هو الوطن والقومية ، ولم يعد الإنسان الغربى يجتمع تحت راية المسيح مرة أخرى ، ولكنه أصبح يجتمع تحت راية الأرض التى ولد وعاش عليها ، وهكذا تخلقت فكرة القومية التى صاغت تاريخ الإنسان الغربى فى العصر الحديث من رحم ثورة الإصلاح الدينى .
حققت القومية طفرة كبرى فى حياة الشعوب الأوربية وتطورها ، فقد إرتبطت بتطور النظم الديموقراطية وفصل الدين عن الدولة ، وحكم القانون ، وإنتشار مبادى العدل والمساواة ، وحرية الفكر والعقيدة ، وأضعفت من روح الكراهية الدينية ، ووحدت الشعوب الأوربية وحفزتها على النهضة والتقدم ، وألهمتها مثلاُ علياً ونظماُ أكثر واقعية وأكثر فائدة من المثل الدينية إلا أنها - ومع ذلك - وفى تطرفها على المدى البعيد ، وتماماً كما حدث فى عصور الدين ، قد أثارت النزاعات والحروب الدولية والتى سقط فيها من البشر أكثر مما سقط منهم فى الحروب الدينية، ولم يتحقق السلام فى أوربا بل إتسعت الحروب الأوربية القومية لتشمل العالم كله بعد ذلك.
ويمكن تحديد بداية الحروب القومية الأوربية فى العصر الحديث بحرب المائة العام بين إنجلترا وفرنسا ( 1337-1453م)، وألتى أعقبتها سلسلة من الحروب المستمرة الطويلة - عبر القرون - بين مختلف القوى الأوربية ، من أجل التوسع والإستعمار وفتح الأسواق وحراسة الأمن القومى ، حتى وصلت ذروتها فى الحربين العالميتين الأولى(1914-1918م) والثانية (1939-1945م) ، والتى ألحقت بالبشرية شقاءً لم يسبق له مثيلاً ، بسبب التطور العلمى الذى حققته أوربا وإنعكس على صناعة الأسلحة المتطورة الفتاكة وخاصة سلاح الطيران ، فهدمت فيهما كثير من المدن وسقط ملايين من القتلى وخسرت الحضارة الإنسانية كثيراً من منجزاتها وثرواتها.

ومن الحرب العالمية الأولى والثانية ، إنتقلت أوربا إلى الحرب الباردة فى أثر سيدها الجديد ، الولايات المتحدة الأمريكية التى أنقذتها من العدوان النازى ، وظلت تدافع عنها بعد ذلك ، أمام العدوان الشيوعى السوفيتى ، لكن أوربا وبعد أن حلت بها تلك الكوارث ، التى أزهقت أرواح أبنائها ودمرت منجزاتها وثرواتها وأفقدتها مركز الزعامة فى العالم لصالح القوى الصاعدة الجديدة ، الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتى، أخذت تراجع نفسها وأخذت دول أوربا الغربية تسعى لحل مشكلات مابعد الحرب بأسلوب مختلف هذه المرة ، فقررت التعاون بدلاً من الصراع . وفى سنة 1949م تكون المجلس الأوربى وكان الهدف منه ترابط الدول الأعضاء ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، وإنشئت المجموعة الأوربية للفحم الحجرى والفولاذ سنة 1951م ، بهدف تطوير صناعة الفحم الحجرى والحديد والفولاذ فى بلجيكا وفرنسا وإيطاليا ولوكسمبرج وهولندا وألمانيا الغربية، وفى عام 1957م كون الأعضاء الستة لهذه المجموعة الجماعة الاقتصادية الأوربية بهدف إزالة الحواجز والقيود التى كانت تعوق حرية حركة السلع والعمالة ورأس المال والخدمات بين الدول الأعضاء ، وهى الجماعة التى عُرفت بالسوق الأوربية المشتركة فيما بعد. وفى عام 1973م إنضمت إلى السوق كل من بريطانيا والدنمارك وإيرلندا ، وفى عام 1981م إنضمت اليونان ، وفى عام 1986م إنضمت البرتغال وأسبانيا ، وفى سنة 1990م إنضمت ألمانيا بعد توحيد شطريها، وفى ديسمبر سنة 1991م تم إعلان تسمية الإتحاد الأوربى بدلاً من السوق الأوربية المشتركة بموجب معاهدة ماسترخت، وفى عام 1999م إتخذ الإتحاد من اليورو عملة مشتركة للدول الأعضاء، وتم تداول اليورو رسميا بدءً من عام 2002م، وفى عام 2004م إنضمت عشر دول أخرى للإتحاد الأوربى.
وأخيراً هدأت أوربا وخفتت روحها الدينية، وهدأت نزعتها القومية ، وعمها السلام والرخاء والحريات الدينية والفكرية وإتحد أبناؤها فى كيان واحد كبير، يتحركون بحرية بين أرجائه دون حواجز أو قيود أو مخاوف ولم يعد سوى حادث هنا أوهناك فى يوغوسلافيا السابقة أوإيرلندا أو إقليم الباسك أودعوات اليمين المتطرف فى بعض الدول الأوربية، مجرد صحوة الموت لنزعات الدين والقومية ، وإكتمل مسار التاريخ فى القارة العجوز، وأصبح كتاباً مفتوحاً للبشر يتعلمون منه عبثية التاريخ الإنسانى وعبثية الصراع والكراهية بين البشر، فأين هؤلاء الذين تحاربوا وتقاتلوا أمس على الدين والحدود والمستعمرات وصنعوا أكبر المجازر فى تاريخ البشرية ، فهاهم يقفون اليوم تحت راية الإتحاد الأوربى وطنهم الواحد الرحب الجديد يفتحون للعالم آفاقاً جديدة نحو ثقافة مابعد الدين القومية ، وأساطير الدين والسياسة ، نحو ثقافة إنسانية واعدة بالسلام والحرية .

كان هذا عن العالم المسيحى ، أما العالم الإسلامى فقد كانت رحلته - ومازلت - أشد شقاءً وأكثر بؤساً . ولد الإسلام منذ البداية فى بيئة قبلية عنيفة ، ولم يستغرق طويلاً قبل أن يكشف عن طبيعته السياسية، فبعد ثلاثة عشر عاماً فقط من الدعوة السلمية فى مكة ، وبمجرد هجرته إلى المدينة تحول إلى عقيدة عسكرية ، راحت تحاول فرض نفسها على العالم بالقوة ، منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم. وربما يمكن تفسير الطبيعة السياسية للإسلام بنمو الشعور القومى لدى قبائل الجزيرة العربية ، وبرغبة محمد وتجار مكة ، بعد أن ملكوا الثروة وإطلعوا على ميراث اليهودية والمسيحية ، فى توحيد عرب الجزيرة العربية فى دولة قومية واحدة وغزو العالم، فهو دين ودولة فى آن واحد ، ورغم مافى ذلك القول من بهاء ظاهرى يتباهى به المتشددون الإسلاميون ، ففى هذا القول نفسه تكمن نقطة ضعفه ؟.
ومنذ البداية كان هناك فارق أساسى بين المسيحية والإسلام ، فلم تكن المسيحية ديانة سياسية ، بل أنها قد إكتسبت تلك الصفة فقط عندما إعترفت بها الإمبراطورية الرومانية ، وإتخذت منها ديانة رسمية، ومن ثم سخرتها لتحقيق أهدافها السياسية ، وكان من الطبيعى أن تحاول المسيحية وراثة الإمبراطورية الرومانية بعد سقوطها. إن ذلك قد يفسر لماذا كان من الممكن تنحية المسيحية عن المشهد السياسى حينما حان الوقت بسهولة نسبية ، بينما مازال ذلك صعباً على الإسلام ، الذى خُلق منذ مولده سياسياً، فطبع الشرق الأوسط كله بصبغة ثقافة دينية سياسية يصعب التخلص منها .
إن قصة الخلافة الإسلامية منذ نشأتها فى المدينة حتى نهايتها فى الآستانة ، يمكن أن تروى تاريخ الإسلام السياسى العنيف. كانت الخلافة الإسلامية تجربة فريدة فى التاريخ ، فقد كان الخليفة المسلم حاكماً دنيوياً ودينياً فى آن واحد ، وبعكس البابوية التى إحتكرت السلطة الروحية بينما تصارعت على السلطة الدنيوية مع الملوك والأباطرة ، فقد كان الخلفاء بابوات وملوكاً فى وقت واحد منذ البداية، وبدون منازع.
عمل الخلفاء الأوائل فى المدينة ، على إكمال محاولة غزو العالم ، التى كانت قد بدأت فى عهد محمد ، فأكمل الخليفة أبوبكر وعمر بعده تلك المهمة، وتم فى عهدهما إكتساح العرب لمنطقة الشرق الأوسط القديم شرقاً وغرباً ، مع ماصاحب ذلك من آلام وشقاء حلت بسكان تلك المناطق. ومن مصر إنساح العرب إلى المغرب ، ومن المغرب إنساحوا إلى أسبانيا ، ومن أسبانيا حاولوا إختراق أوربا ولكنهم فشلوا ، وتم ردعهم بشكل نهائى فى جنوب فرنسا ، على يد شارل مارتل فى معركة سهل بواتييه ، التى يسميها العرب معركة بلاط الشهداء ، وسُحق الجيش العربى عن آخره ، وقُتل قائده عبدالرحمن الغافقى سنة 732م ، ولولا ذلك ، وكما قال جيبون ، لكان القرآن يدرس فى مدارس أوربا اليوم ، بدلاً من الإنجيل ، وكما فشلت محاولاتهم إختراق أوربا غرباً ، فقد فشلت شرقاً كذلك ، بسبب وقوف الإمبراطورية البيزنطية عائقاً صلباً أمامهم ، إلا أنهم كانوا قد نجحوا فى التقدم بإتجاه الشرق حتى وصلوا إلى حدود بلاد الترك فى أواسط آسيا، والذين قاموا بدورهم بعد ذلك بمد حدود الإسلام من خلال حروب ومذابح تشيب لها الولدان. إستغرقت تلك المرحلة حوالى قرن من الزمان، وشغلت كل عصر الدولة الأموية ، والتى سقطت سنة 750م ، وإنتهى بسقوطها عصر الغزوات العربية الإسلامية الكبرى ، وهجرة وإستقرار العرب على جانبى جزيرة العرب شرقاً وغرباً ، ونجاحهم فى تعريب وأسلمة تلك المناطق ، سواء بسب دخول الناس فى الإسلام من جهة ، أوبسبب إختلاط وتزاوج القبائل العربية مع شعوب تلك المناطق من جهة أخرى. لم تكن تلك رحلة سهلة أو بسيطة ، فبالإضافة إلى عداء العرب للعالم المحيط بهم، ونزف الدماء الهائل الذى تسببوا فيه آنذاك ، فقد كانوا قد إنقسموا بدورهم إلى ثلاثة مذاهب رئيسية ، أخذت تصارع بعضها البعض منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم تقريباً ، وهى السنة والشيعة والخوارج. ظل الصراع والحرب هو السمة المميزة لكل عصور الخلافة التى تلت خلافة الأمويين، كالعباسيين فى بغداد - الذين ورثوا الخلافة من الأمويين فى ثورة دموية - والفاطميين فى مصر، والأيوبيين والمماليك بعدهم، حتى خلافة العثمانيين فى بدايات القرن السادس عشر الميلادى، وذلك بالإضافة إلى الممالك الصغيرة التى إنشقت عن الخلافة العباسية ، وتكونت فى بلاد المغرب العربى وفى غرب آسيا.
كان ذلك زمناً من الحرب التى لاتهدأ، حرب على المخالفين فى الدين، وحرب على المخالفين فى المذهب، وحرب على المنافسين على السلطة ، وحرب حتى على الأعداء المفترضين. ففى مصر والشام والعراق وبلاد المغرب مثلاً، لجأ العرب إلى سياسة التسامح فى بادئ الأمر، لكنهم سرعان ماكشفوا عن وجههم الحقيقى، فبعد أن إستتب الأمر للأمويين وقضوا على منافسيهم، راحوا يحكمون قبضتهم على تلك البلاد، وتشددوا فى طلب الجزية والخراج من الأهالى، وبالغوا فى ذلك أى مبالغة ، وإتبع الحجاج بن يوسف الثقفى، واليهم على العراق سياسات فى غاية القسوة تجاه الموالى، فرفض وضع الجزية حتى عمن أسلم منهم، وإعتبرهم عبيداً ومنعهم من مغادرة أراضيهم، حتى يسهل إحصائهم وتقدير الجزية المستحقة عليهم، وكذلك فعل عبدالله بن الحبحاب، واليهم على مصر والمغرب . وإستمر ضغط الولاة الأمويون - ومن بعدهم الولاة العباسيون - على الأقباط ، حتى بدأوا فى الثورة منذ سنة 107هـ وحتى سنة 216هـ ،وهى السنة التى قمع فيها المأمون ثورتهم فيما يشبه مذبحة جماعية، خضعوا بعدها وإستسلموا لتيار العروبة والإسلام. وكذلك كان الحال فى المغرب ، فقد إشتد ظلم الولاة الأمويين للسكان من ذبح قطعانهم وسبى بناتهم ، حتى إشتكوا إلى الخليفة هشام فى دمشق، ولما لم يستطيعوا مقابلته، ولم يستجب أحد إلى توسلاتهم ، ثاروا وأوقعوا بالعرب فى وقعة الأشراف بالقرب من طنجة سنة 122 هـ ، حيث قُتل معظم الجيش العربى، ومرة أخرى أوقعوا بهم فى موقعة بقدورة على وادى سبو بالقرب من تاهرت سنة 124هـ ، وكانت تلك الهزائم من أكبر الهزائم التى لحقت بالعرب أثناء عصر الغزوات الإسلامية، ومع ذلك فقد تمكن العرب من الإنتقام بعد ذلك فى معركة الأصنام، التى قادها حنظلة بن صفوان والى مصر، وقتلوا من البربر نحو مائة وثمانين ألف نفس. وهكذا إستسلم البربر أيضا فى نهاية الأمر لتيار العروبة والإسلام ، مثلهم مثل غيرهم من شعوب الشرق الأوسط.
وبعدما عبر العرب إلى أسبانيا فى أخريات العصر الأموى، قاموا بنفس أعمال القسوة، من خطف النساء، وهدم الكنائس وسرقة كنوزها ، مما حدا برهبان أسبانيا إلى القيام بعمليات إنتحار جماعى ، إحتجاجاً على الظلم الذى ألحقه بهم العرب، وذلك دون أن يلتفت أحد إلى شكواهم . لكن أسبانيا لم تستسلم لتيار العروبة والإسلام، فقد كانت بلادهم بعيدة عن جزيرة العرب، فلم يستطيعوا أن يطبعوها بطابعهم، وظلت أسبانيا محتفظة بطابعها الأوربى المسيحى، حتى تمكنت من طرد العرب من غرناطة سنة 1492م، وبدأ العرب بعد ذلك ينزحون إلى شمال إفريقيا، وأخذ تاريخ العالم كله يدخل مرحلة جديدة، أخذ فيها العالم المسيحى زمام المبادرة.
لم تكن الخلافات الإسلامية، التى تلت خلافة الأمويين، إستثناءً فى تعسفها وفى حروبها الدينية الشرسة، فقد أنشأ الخليفة العباسى المهدى، ديواناً يشبه محاكم التفتيش المسيحية، يسمى بديوان الزنادقة، كان الهدف منه محاربة وقتل الثائرين من الفرس على السلطة العباسية، بحجة خروجهم على الدين ، وحتى مع الإقرار بالطبيعة المتسامحة للخلافة الفاطمية، فإن مافعله الحاكم بأمر الله الفاطمى بمسيحيى مصر، يكفى لوصم تلك الخلافة بالقسوة مثل سائر الخلافات الأخرى، وقد فعل المماليك بعدهم أكثر، وفعل الخوارج والقرامطة المسلمون بالمسلمين أنفسهم أكثر وأكثر. لقد كانت عصور الدين الإسلامية مجرد حروب ودماء ليس أكثر.
لقد كانت الحروب الدينية الإسلامية المتواصلة، هى التى جلبت الحروب الصليبية المدمرة إلى الشرق المسلم، فبسبب الهجوم المتواصل للأتراك السلاجقة فى بغداد على أراضى الدولة البيزنطية، وأسرهم للإمبراطورالبيزنطى رومانوس الرابع بعد معركة ملاذكرت سنة 1071م ، قام البيزنطيون بالإستنجاد بالعالم المسيحى الغربى، الذى إنتهز الفرصة وأرسل جحافله على الشرق المسلم، فى سلسلة حروب طويلة مدمرة ، جلبت على العالم الألم والشقاء لقرون طويلة ، ومازال موروثها النفسى يعيش بيننا حتى اليوم. وبعد سقوط بغداد أمام جحافل المغول سنة 1258م، إنتقلت زعامة العالم الإسلامى إلى مماليك مصر، الذين واصلوا سياسات الحروب الدينية فى الخارج، والعسف مع رعاياهم من مسلمين وأهل ذمة فى الداخل.
وعندما وصل العثمانيون إلى حكم العالم الإسلامى، بعدما تمكنوا من إسقاط القسطنطينة عاصمة الدولة البيزنطية سنة 1453م، وإسقاط دولة المماليك سنة 1517، وإنساحوا إلى داخل أوربا ، فقد ساروا على نفس طريق العنف والدماء، فجلبوا معهم الخازوق، وسياسة خطف الأطفال من أحضان أمهاتهم، لتجنيدهم فى جيوش السلطان، وسواء كان الطرف الخاضع مسيحياً أوربياً، أو مسلماً شرقياً ، فلم يعرف الحكم العثمانى معنى للرحمة مع المغلوبين، وأجلس الجميع على الخازوق. وكما لم يعرف الحاكم العثمانى معنى للرحمة مع رعاياه، فلم يعرف معنى للرحمة حتى مع أهل بيته نفسه، فإستن أسوء عادات السياسة فى التاريخ، وهى سياسة قتل الأخ والأقارب، فبمجرد إعتلاء أى سلطان للعرش، كان يقوم بالقبض على جميع إخوته وأقاربه ، ممن يجد فيهم منافسين محتملين ، ويقوم بقتلهم - أو سجنهم على الأٌقل - تجنبا للفتنة ، هكذا كانت عصور الإسلام السياسى مجرد حروب ودماء ، ليس أكثر. لكن الزمن بدأ يتغير بوصول طلائع الإستعمار الأوربى إلى الشرق المسلم فى العصر الحديث ، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بأفكاره الليبرالية القومية الجديدة، والتى بدأ العالم الإسلامى يتأثر بها، ومن ثم بدأ ينتقل تدريجياً من عصورالدين إلى عصور القومية، مثلما حدث فى أوربا المسيحية.
كانت الدولة العثمانية مركز العالم الإسلامى نفسها، هى أول من بدأ يأخذ عن العالم الأوربى المسيحى الأوربى أفكاره ونظمه الجديدة، وذلك بالتحديد فى عهد السلطان المصلح محمود الثانى( 1808- 1839م)، وفى نفس الوقت تقريباً كانت مصر- مركز الثقل الثانى - تسلك نفس الطريق، بعد أن وصل محمد على إلى حكم مصر سنة 1805م، ومنذ ذلك التاريخ فصاعداً، ومع الإنفتاح المستمر على العالم الأوربى، بدأت الأفكار العظيمة للقرن التاسع عشرالأوربى، فى القومية العلمانية ، والنزعة الليبرالية ، وفصل الدين عن الدولة، والحرية الدينية، وتحرير المرأة، تخترق العالم الإسلامى ، وأثبت الشرق الإسلامى أنه قادر على التطور أيضاً، فبدأ يتغير، وبرغم أنه قد ظل متمسكاً بإيمانه العقيدى الإسلامى القوى، فقد بدأت روحه الدينية العنيفة فى الخفوت تدريجياً. إستمر ذلك الإتجاه طوال القرن التاسع عشر، وفى بدايات القرن العشرين كان قد أتى ثماره، والذى تمثل فى إلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة الإسلامية، وإعلان تركيا جمهورية قومية علمانية سنة 1924م ، وفى قيام ثورة 1919م بمصر وإعلان مبدأ الدين لله والوطن للجميع، وتحرير المرأة، وصدور دستور 1923م، ووصول حزب الوفد الليبرالى إلى رئاسة الحكومة، فى أول إنتخابات تشريعية فى تاريخ مصر الحديث ، وبإكتساح تام ، للحزب الوطنى ذو النزعة الإسلامية. قطعت تركيا الرحلة إلى آخرها، وإجتازت القرن التاسع عشر والعشرين بقيم الغرب القومية العلمانية، وبروحه الليبرالية ، حتى خرجت على العالم فى بدايات القرن الحادى والعشرين، أمة قوية تستعرض نهضتها ، قبل أن تنتكس على يد نزعة أردوغان الإسلامية فى السنوات الأخيرة ، وكذلك الحال فى مصر، فقد إنتكست القومية الليبرالية المصرية بظهور أفكار القومية العربية الفاشية فى الثلاثينيات من القرن العشرين ، وبدأت مصر تتشرب تلك الفكرة الفاشية العنصرية ، وتعود معها وبها - دون أن تدرى - إلى عصور الدين السياسى مرة أخرى.
لم ترتبط فكرة القومية العربية ، بأى مثل إنسانية عليا، كما كان الحال بالنسبة للقومية الليبرالية الأوربية ، ولكنها إرتبطت بالتاريخ والأمجاد العربية، وبالعداء الهستيرى للعالم الغربى، فكانت وكأنها مجرد صورة محدثة للإسلام السياسى، وعدائه الهستيرى للعالم المسيحى . وبدأ فكر الإنسان المصرى يتغير مرة أخرى فى الإتجاه إلى عداء وكراهية العالم ، بعد أن كان قد بدأ يتعلم التسامح أثناء الحقبة الليبرالية، وكان من الطبيعى أن تكون أفكار القومية العربية الفاشية ، هى العباءة التى إرتدتها الأنظمة العسكرية، التى ورثت الحكم فى أعقاب خروج الإستعمار من العالم العربى، سواء فى مصر، أو فى معظم الدول العربية الأخرى، لتبرر بها وجودها على رأس السلطة ، كمدافع وحيد عن شعوبها، ضد الإستعمارالغربى ، تماما كما كان الخلفاء يبررون سلطانهم المطلق، بأنهم كانوا المدافعين الوحيدين عن الإسلام ضد المسيحيين الكفرة ، ولم يبقى لكى يكتمل مشهد الإنتكاسة الحضارية، التى مثلتها تجربة القومية العربية الفاشية ، سوى أن تتلقى ضربة موجعة ، كى تنتكس إلى عصور الدين السياسى مرة أخرى، وكانت تلك الضربة هى نكسة يونيو 1967م فى الحرب مع الدولة العبرية الصغيرة فى فلسطين، وكان من السهل أن تنقلب العملة على وجهها الآخر، من القومية العربية الفاشية إلى الإسلام السياسى الفاشى ، فبدلاً من أن تدرك الشعوب العربية أن سر إنتكاساتها العروبية، كان هو الغياب الكامل للديموقراطية والإعتدال والتسامح ، فى قيم وممارسات القومية العربية ، فإنها قد فسرت ذلك بالإبتعاد عن الدين، وإختارت العودة إلى فكرة الدولة الإسلامية مرة أخرى، كطرح بديل فى مواجهة فشلها الحضارى المزمن. هكذا عاد الإسلام السياسى إلى الوجود مرة أخرى، بعد أن كان قد هدأ وخفت طوال الحقبة الإستعمارية، وربما يمثل ذلك التفسير، الخلاف الجوهرى الكبير، بين التاريخ المسيحى والتاريخ الإسلامى ، فالأول يسير إلى الأمام دائماً، منتقلاً من عصر إلى عصر أعلى ، من الدين السياسى إلى القومية ، ثم إلى الوحدة الإنسانية ، بينما ينتكس الثانى ويدور فى حلقة مفرغة، فمع الإنتكاسة الحضارية من عصور القومية إلى عصور الدين السياسى، بدأت إنتكاسة أخرى إلى عصور الطائفة والقبيلة ، وبدأ العالم العربى والإسلامى ينقسم إلى قبائل وطوائف ، وأصبح وكأنه عرضة للزوال والتفكك.
لقد تضافرت عدة عوامل أخرى، عدا فشل تجربة القومية العربية ، فى خلق ذلك المد الإرهابى المدمر ، ربما كان أهمها إطلاق أنور السادات لقيادات جماعة الإخوان المسلمين من سجون عبدالناصر، وإعطائهم حرية العمل السياسى مرة أخرى، وكذلك ثورة النفط ، وماجلبته من ثروة إلى المملكة العربية السعودية ذات الفكرالإسلامى الوهابى المتشدد، والثورة الإسلامية فى إيران- أكبر خطأ فى التاريخ - وغزو الإتحاد السوفيتى لأفغانستان، وما أثاره من رد فعل جهادى فى العالم الإسلامى، وتعثر الوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، وماأثاره من غضب فى نفوس الشعوب العربية ، وعوامل أخرى، خلقت معاً مأساة إرهاب الإسلام السياسى ، والسقوط الحضارى للعالم العربى والإسلامى، إلى ذلك المأزق فى التاريخ، ففى نفس القرن الذى يتجه فيه العالم المسيحى ، ومعه العالم كله، إلى تحقيق طفرة كبرى للإنسان والإنسانية، بالإنتقال من عصور القومية إلى عصر العولمة والوحدة الإنسانية ، متجاوزاً أساطير الدين والسياسة ، وجد العالم العربى والإسلامى نفسه ، ينزلق تدريجياً ، عائداً إلى عصور البربرية ، الدين، والطائفة، والقبيلة.




أهم المراجع :

1.تاريخ أوربا فى العصور الوسطى/ د. محمد محمد مرسى الشيخ
رقم الإيداع بدار الكتب المصرية 13356/1999
2.التاريخ الأوربى الحديث/ د. عبدالحميد البطريق ود. عبدالعزيز نوار
دار النهضة العربية - بيروت
3.تاريخ أوربا المعاصر/ د. عبدالعزيز نوار ود. عبدالمجيد نعنعى.
دار النهضة العربية – بيروت
4. موسوعة الخطط/ المقريزى
دار الكتب العلمية - بيروت
5- موسوعة النجوم الزاهرة/ أبو المحاسن بن تغرى بردى
دار الكتب العلمية - بيروت
6. تاريخ الإسلام/ د. حسن إبراهيم حسن
مكتبة النهضة المصرية - القاهرة
7. تاريخ الدولة العربية/ د. السيد عبدالعزيز سالم
دار النهضة العربية - بيروت
8. تاريخ المغرب والأندلس/ د. السيد عبدالعزيز سالم
دار النهضة العربية - بيروت
9. تاريخ المغرب والأندلس/ د. مختار العبادى
دار النهضة العربية - بيروت
10. العصر العباسى والعصر الفاطمى/ د. مختار العبادى
دار النهضة العربية - بيروت



#عبدالجواد_سيد (هاشتاغ)       Abdelgawad_Sayed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة شادى حبش إلى الأجيال
- كورونا وصراع الحضارات
- حرروا وزارة الخارجية الإسرائيلية من الحجر الصحى- نمرود جورن ...
- خطة ترامب ليست الطريق لدفع السلام الفلسطينى الإسرائيلى-معهد ...
- كورونا ونهاية التاريخ
- الجذور التاريخية والسياسية للصراع المصرى الإثيوبى
- حسنى مبارك بين السياسى والديكتاتور
- حسنى مبارك فى ميزان التاريخ
- الدور المصرى الغائب وتأجيج الصراع الإقليمى فى الشرق الأوسط و ...
- الحرية للمعتقلين
- مقتطفات من كتابى قصة مصر فى العصر الإسلامى/ العصر العثمانى
- كل عام وأنتم بخير
- ثورة العراق ولبنان، وداعش الكبرى إيران
- المصادر الأصلية للقرآن -كلير تيسدال - الفصل الثالث - مؤثرات ...
- الحرب الأهلية اللبنانية - ذكريات ومؤشرات
- جامعة دمنهو ومقالى المغدور
- حراك مصر والسودان وحزب فرعون
- الأستاذ طارق حجى - رؤية غير محايدة
- تاريخ الإسلام بين الوعى الزائف والصهر القسرى
- الشرق الأوسط بين الصفويين والعثمانيين والوطنيين المزعومين


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجواد سيد - كتاب أساطير الدين والسياسة-تأليف عبدالجواد سيد