حامد الحمداني
الحوار المتمدن-العدد: 1568 - 2006 / 6 / 1 - 11:24
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
يتصاعد التدهور الأمني في العراق بشكل خطير، وتتعمق الأزمة السياسية جراء الصراع الذي تخوضه الأحزاب الدينية الطائفية الشيعية منها والسنية على حد سواء ، بالإضافة إلى القوى الموالية للنظام الدكتاتوري الصدامي المسقط عن السلطة ، وعناصر القاعدة التي يحتضنها البعثيون أعوان صدام حسين ، ويوفرون لهم كل ما يلزم من مأوى وسلاح وأموال وتوجيهات لتنفيذ جرائمهم البشعة في البلاد ، وتتصاعد المحنة القاسية التي يعيش في ظلها الشعب بشكل رهيب ، مما حول حياة المواطنين إلى جحيم لا يطاق، بعد أن استشرت جرائم التفجيرات ، والخطف والقتل على الهوية والاسم ، والتهجير تهديداً بالقتل ، على خلفية الانتماء الطائفي الشيعي والسني ، وعلى خلفية الانتماء الديني ، كما هي الحال تجاه المواطنين المسيحيين والصابئة والأيزيدية، وعلى خلفية الانتماء العرقي كما هي الحال مع المواطنين الأكراد والتركمان ، مما اضطر جموع غفيرة من هؤلاء المواطنين إلى ترك مساكنهم ، وأعمالهم ومصالحهم ومدارس ابنائهم، هرباً من الموت الذي يترصدهم على أيدي القتلة من العناصر الطائفية المجرمة ، من الطائفتين الشيعية والسنية على حد سواء ، وعلى أيدي العصابات البعثية المجرمة الموالية للنظام الصدامي المقبور ، وعلى أيدي عصابات الجريمة المطلق سراحها من السجون من قبل دكتاتور العراق صدام قبيل إسقاط حكمه الكريه .
إن الهجرة الجماعية التي يشهدها العراق اليوم تمثل كارثة إنسانية كبرى ، حيث يعيش المهجرون حياة قاسية لا مثيل لها ، يهيم جانب منهم في شوارع عمان ودمشق والمدن السورية والأردنية الأخرى ، والجانب الآخر في المدن العراقية التي تظم أكثرية من تلك الطائفة في حالة مزرية ، وجانب ثالث يمتلك الإمكانية المادية ، ويدفع مبالغ طائلة للمهربين بغية الوصول إلى دول اللجوء في أوربا وأمريكا .
وتمارس الميلشيات الموالية لإيران جرائم القتل بحق الضباط في الجيش العراقي السابق ، والطيارين بوجه خاص ، وكذلك أساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين ، الذين يمثلون ثروة البلاد العلمية التي لا غنى عنها ، مما اضطر أعداد غفيرة منهم إلى الهجرة خارج العراق ، حيث شكل خسارة جسيمة للعراق لا تعوض .
وفي ظل هذه الظروف القاسية والمعقدة والتي تهدد بانتشار الحرب الأهلية القائمة اليوم على ارض الواقع تستمر أزمة إكمال تشكيل الحكومة العراقية التي ستحكم العراق في السنوات الأربعة القادمة ، وتعيين وزيري الدفاع والداخلية اللذين سيتولان المهام الأمنية في البلاد ، حيث تتنازع الأحزاب المشاركة في الحكومة فيما بينها على هاتين الوزارتين ، تاركين البلاد في حالة من الفوضى التي لم يشهد الشعب العراقي مثيلاً لها من قبل . .
ولا شك أن وصول العراق إلى هذه الحال هو نتاج مباشر للسياسة الخاطئة التي اتبعتها سلطة الاحتلال بعد إسقاط النظام الصدامي الفاشي ، وتشجيعها للطائفية السياسية من خلال تشكيلها لمجلس الحكم ، والحكومات التي تلته ، ومن خلال الانتخابات التي أفرزت هذا الانقسام الطائفي الذي نشهده اليوم ، ومن خلال الدستور الذي كرس الطائفية المقيتة ، مما أوصل البلاد إلى هذا الاستقطاب الطائفي الحالي الذي ينذر بتوسع وانتشار الحرب الأهلية الطائفية في عموم البلاد ، وهذه السياسة والإجراءات الأمريكية لا تتفق بكل تأكيد مع الادعاءات الأمريكية بتحقيق نظام ديمقراطي في العراق يكون نموذجاً يحتذا في الشرق الأوسط ، فقد جاءت تلك السياسة ، وتلك الإجراءات بهذا النموذج البائس الذي يشهده العراق اليوم ، وهو يمثل ليس فشلاً ذريعاً للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وحسب ، بل وجلب الكراهية للولايات المتحدة في المنطقة العربية من الصعب معالجته .
إن الحكومة العراقية بوضعها الحالي ، حتى لو تم الاتفاق على تعيين وزيري الدفاع والداخلية ، فإنها لا تبشر بعودة الأمن والسلام في البلاد طالما جرى تأليفها على أساس المحاصصة الطائفية أولاً ، وطالما تمتلك الأحزاب الطائفية الشيعية منها والسنية المليشيات التي تصول وتجول في سائر مناطق العراق ، ترتكب الجرائم الوحشية بحق أبناء الشعب الآمنين ثانيا، مما حول حياة المواطنين إلى جحيم لا يطاق .
إن على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في مجمل سياستها وإجراءاتها في العراق ، وتعالج نتائج تلك السياسة الخاطئة ، والإجراءات الكارثية التي اعترف بها كل من الرئيس بوش ورئيس الوزراء البريطاني بلير في لقائهما الأخير في واشنطن .
وفي اعتقادي إن الشعب العراقي في وضعه الحالي ، والذي لم يشهد أو يمارس الديمقراطية خلال تلك العقود السوداء من حكم طاغية العصر صدام حسين وحزبه الفاشي ، والذي ادى على انهيار البنية الاجتماعية في العراق جراء الحروب الإجرامية الداخلية منها والخارجية التي زج النظام بها العراق ، وجراء الحصار الظالم الذي فرضته الولايات المتحدة على شعبنا خلال 13 عشر عاماً عجاف ، قد غيَّر كل القيم والسلوكيات والعادات النبيلة في المجتمع من عفة ونزاهة وصدق ومحبة الآخرين والتعاون الخير بين المواطنين ، وحل
محلها قيم وعادات وسلوكيات هي على النقيض منها ، فقد بات على العراقي أن يشبع بطون عائلته في ظل تلك الظروف بكل الوسائل والسبل ، وكل الطرق المشروعة وغير المشروعة .
ويذكرنا الكاتب الكبير [ تلستوي ] في وصفه الرائع لنتائج الحروب ، وما تسببه من إنهيار خطير للبنية الاجتماعية حيث يقول :
[ إن سنة واحدة من الحروب تفسد المجتمع أكثر مما تفسده ملايين الجرائم لعشرات السنين ] فكيف هو الحال بالشعب العراقي الذي زجه حكامه المجرمون بالحروب لثلاثة عقود ونصف ؟
ومن هذا يتبين لنا أن هذه السلوكيات الإجرامية العنيفة التي تعم العراق اليوم تجعل شعب العراق غير مؤهل للديمقراطية والانتخابات وتشريع الدستور الدائم ، إن الوضع الحالي يتطلب تشكيل حكومة إنقاذ وطني من عناصر تنكوقراط وطنية نظيفة الأيدي لا تنتمي للأحزاب الطائفية الشيعية منها والسنية التي تمثل وجهان لعملة واحدة ، ولا يمكن أن تخدم العراق ، ولا تحقق مستقبلاً مشرقاً كما يتمنى العراقيون ، بل على العكس من ذلك تقود العراق نحو مستقبل مظلم قاتم .
ولا شك أن في العراق عناصر كثيرة تحمل هذه المواصفات ، وتستطيع قيادة العراق في فترة انتقالية لا تقل عن ثلاث سنوات يجري خلالها العمل على إعادة الأمن والسلام في البلاد ، والضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه العبث بأمن المواطنين ، وإعادة اللحمة بين أطياف الشعب العراقي كافة على أساس من المساواة في الحقوق والواجبات ، وعودة المهجرين إلى مناطق سكناهم ، وتقديم الحماية اللازمة لهم ، ومعالجة مشكلة البطالة التي تمثل المرتع الخصب لتخريج الإرهابيين القتلة ، وإعادة بناء كافة المنشئات الخدمية المدمرة من ماء الشرب والكهرباء والوقود ، والصرف الصحي ، والخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية ، وتكليف رجال قضاء مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة لإعداد دستور علماني جديد بعيداً عن الطائفية وشرورها، ويتضمن قانوناً جديداً للأحزاب يحرم تأليف الأحزاب على أساس ديني أو طائفي أو عرقي ، ويحافظ على تماسك النسيج الوطني للشعب العراقي ، استعداداً لإجراء انتخابات برلمانية جديدة بعد انتهاء فترة الانتقال .
أما الاستمرار على هذه الحال فلن توصل العراق إلا إلى الحرب الأهلية التي ستأتي على الأخضر واليابس ، وتحيل البلاد إلى خراب ، وتزهق أرواح مئات الألوف أن لم نقل الملايين من المواطنين الأبرياء ، وتهجير ملايين أخرى إلى بلدان اللجوء ربما تكون أشد وطأة من الهجرة التي جرت إبان حكم طاغية العصر صدام حسين ، وتفريغ البلاد من كفاءاته ومثقفيه .
وعلى الشعب العراقي أن يأخذ في حسبانه ما آلت إليه الحرب الأهلية في لبنان التي اشتعلت عام 1975 واستمرت 15 عاماً ، وخربت المدن اللبنانية ، وحصدت أرواح مئات الألوف من المواطنين اللبنانيين ، وهجرت مئات الألوف الأخرى ، ودمرت اقتصاد البلاد ، وأغرقته بالديون ، ولا شك في أن ما حدث في لبنان سيمثل نزهة لما يمكن أن يحدث في العراق إذا انتشر لهيب الحرب الأهلية ، وتدخلت الدول الإقليمية ، وفي مقدمتها إيران وسوريا والسعودية وبقية دول الجوار في تسعير نيرانها .
إن الوضع الحالي خطير جداً ، وهو يتطلب من الشعب العراقي الحذر من الانزلاق في أتون الحرب الأهلية المجنونة التي إن انتشر لهيبها فلن ينجُ من نيرانها أحد أبداً ، ولن يربح من ورائها أحد ، وستكون الطامة الكبرى التي تأتي على كل شيئ لا سمح الله .
#حامد_الحمداني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟