أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - عبد المنعم الكيواني - ما التربية الفلسفية؟















المزيد.....


ما التربية الفلسفية؟


عبد المنعم الكيواني

الحوار المتمدن-العدد: 6435 - 2019 / 12 / 11 - 06:55
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


في الواقع إن هذه الأفكار المرسومة فيما سيأتي من صفحات ليست موجهة بالدرجة الأولى للمتخصصين في الدراسات الفلسفية والديداكتيكية المطلعين، وإن كانت ملاحظاتهم وانتقاداتهم ضرورية، لأن هذه الأفكار لن تكون أكثر من تأملات تحليلية شارحة ومفسرة لا تطمح إلا للتواضع، ذلك أنها موجهة بالأساس للتلاميذ التائهين في معنى التفلسف وللطلبة الباحثين ومدرسي الفلسفة المبتدئين وعموم المهتمين ومن تربطهم قرابة مع الفلسفة من بعيد أو من قريب، لأن هذا المقال يطمح إلى الجواب الفني عن سؤال ما الدرس الفلسفي؟ ولماذا هذا الدرس؟
عندما أضع على الكراس سؤال "ما الدرس الفلسفي" إنني بذلك أبحث عن ماهيته، والمقصود بالماهية هنا هي الخاصية أو مجموع الخصائص الأساسية التي تميز الدرس الفلسفي تمييزا حاسما عن غيره من الدروس، غير أنه لن نكتفي بتحديد ماهية الدرس الفلسفي، وإنما سأتجاوز ذلك، بالتوقف على الإشكالات والأسئلة المحورية المطروحة في تدريس الفلسفة داخل المدرسة، حتى يتسنى للقارئ المتحمس إدراك موقع الفلسفة في المدرسة أولا وفي المجتمع ثانيا، ثم معرفة التغيرات التي يحدثها درس الفلسفة على من يواظب على تعلمه، وباختصار سنتعرف في هذه المقالة عن معنى أن نرى العالم بعيون الفلسفة...
بداية، لا بد من تحديد مجال اشتغال الفلسفة، فإذا كان جزء من العلوم موضوعها الرئيس هو تقويم ما بدا سقيما في الجسد، ومنها الطب العضوي بشكل عام، الذي يهتم بما يشوب أعضاء الجسد من أمراض، سواء في العين أو الكبد أو القلب...، وكذلك جزء ثاني من التخصصات العلمية موضوعها النفس الإنسانية وما يشوبها من علل، مثل علم النفس والتحليل النفسي والطب النفسي بتخصصاته، والذي ينكب على تشخيص ومعالجة أمراض النفس مثل الخوف المرضي والاكتئاب والوسواس القهري وعقد النقص وغيرها، إذا كان من المعلوم أن هذه التخصصات الكبرى لها أهمية بالغة كي يتمتع الإنسان بصحة جيدة وعافية دائمة، وهي ضرورية كذلك لكي تستمر حياة البشر، فإن هناك جزءا ثالثا لا يقل أهمية عما سبق ذكره وهو ما يسمى بالفــكر La pensée، ذلك الفكر الذي يعني الإدراك والعقل، من جهة أنهما يسمحان بفهم ما يشكل مادة المعرفة، ويسمى هذا الفكر وعيا عقليا في مقابل الوعي الحسي ، والفلسفة موطنها هو الفكر، ولأن الإنسان ليس جسدا وحده أو نفسا وحدها، وإنما هو نفس وجسد وفكر، كان من الضروري أن تظهر الحاجة إلى الاهتمام بالفكر وبمشكلاته الأساسية ومن ثم بتربيته وتدريبه، حتى يعيش كل فرد إنسانيته كاملة، ويستجيب لنداء الدولة المدنية الحديثة، حيث يشكل الوعي بطبيعة هذا النموذج الجديد للدولة شرطا أساسيا للمواطنة الفاعلة...
من التاريخ يتضح أن الفلسفة ظلت واقفة في وجه التغليط العقلي في قضايا الحياة كما فعل سقراط ومن تبعه في نهجه ضد السفسطائيين الذين امتهنوا تمويه الجمهور في قضايا الفكر والعلم والسياسة، كما عمل الفلاسفة على مواجهة الاستبداد الديني والسياسي على النحو الذي مرّ عليه في تاريخ الغرب الأوربي، والكشف كذلك عن السيطرة الاقتصادية واستعباد الناس الذي قامت به البرجوازيات، وغيرها من مهمات الفلسفة الجليلة التي تخدم الإنسانية ككل... لذلك تكلف الدول والحكومات نفسها مجهودا ومبالغ هائلة لتربية الناشئة تربية فكرية وفلسفية راقية، فنجد حكومات كثيرة تولي عناية لتدريس الفلسفة منها ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وفرنسا التي تجعل من مادة الفلسفة مادة مهمة في الامتحان النهائي للثانوي ومهمة كذلك للالتحاق بالأقسام التحضيرية الفرنسية، فإلى جانب المواد العلمية من رياضيات وكيمياء وفيزياء...يتم تدريس الفلسفة بهذه المدارس بمعدل ساعتين أسبوعيا تحت عنوانFrançais-philosophie ، وبمعامل عالي جدا يقدر بـ(11) يفوق الفيزياء التي لا يتعدى معاملها (7). وسنجد نفس الأمر في العالم العربي إذ تدرس الفلسفة في مصر وتونس والجزائر والمغرب...وإن كانت في هذه الدول أقل أهمية مما هي عليه في فرنسا، بل حتى السعودية التي تتحفظ كثيرا فيما يخص الحرية والقيم الفلسفية، قد شرعت ابتداء من السنة الدراسية الجارية 2019-2020 في تدريسها بعنوان الفلسفة والتفكير الناقد، وهو ما يؤكد الدور الذي لا مناص منه لتدريس الفلسفة في بناء إنسان حضاري ومجتمع متمدن...
إضافة إلى ذلك، فإن تدريس الفلسفة لم يعد مقتصرا على المراهقين والشباب، بل تعداهم إلى الأطفال الصغار في المدرسة الابتدائية، حيث كما تشير إلى ذلك اليونيسكو أن عدد الأطفال الذين يتلقون الفلسفة والتربية الفلسفية تزايد خلال العشرين سنة الأخيرة، خاصة في أمريكا مع ماثيو ليبمان، والأرجنتين التي بدأت تدريس الفلسفة للأطفال منذ 1989، والبرازيل واليابان وغيرها، بل وفي تزايد مستمر، خصوصا أن المتأمل في تصرفات الأطفال سيدرك تلك النزعة الفلسفية اللاواعية لديهم، مثل الدهشة من أشياء العالم وطبيعة الأسئلة التي يطرحونها، التي تذكرنا بالأسئلة الفلسفية التي طرحها الفلاسفة الأوائل...
إلا أنه ما زال البعض يرى أن التجارب الحياتية التي يتلقاها الإنسان من العالم يمكنها أن تبني لديه نوعا من التفكير الناقد، الذي يعوضه عن الإقبال على دروس الفلسفة، وعلى القراءات المستمرة والمتعددة في الكتب الفلسفية والعلمية وغيرها...لكن المتأمل لمضمون هذا الادعاء يدرك للوهلة الأولى عدم دقته، ويدرك هشاشة بنائه، ذلك أن الخبرة والتجارب تخبرنا فقط بما يجري في العالم، ومع تكرارها تولد لدى الناس الحذر من التجارب القادمة، كما يمكن القول إنها مصدر للمعرفة كشيء إيجابي، ولكنها كذلك مصدر الشرور والهموم، لأن أسوء التجارب لا تصنع الرجال فقط، ولكنها تصنع الأمراض النفسية والعقد المختلفة، والمجرمين واللصوص، فالخبرة الحياتية التي يتلقاها الإنسان من مجتمعه ووسطه تكون أكثر إيجابية عندما يترعرع الفرد في مجتمع ديمقراطي منسجم، يحكمه القانون، حيث الاحترام والتقدير المتبادل أولى الدروس التي يتلقاها الطفل من أسرته، ومع ذلك فالحكومات الديمقراطية تجدها أكثر شغفا في تدريس الفكر الناقد، أما إذا كان المجتمع والوسط مليئا بالظلم والفساد والرداءة وكل أشكال الانحطاط، يصبح أنذاك التدريس الهادف للفكر الفلسفي أمرا مصيريا ليس في الثانوي التأهيلي وإنما منذ الطفولة المبكرة، إذا أردنا خيرا للناشئة وللمجتمع ....
ذلك أن تعلم التفلسف، لا يخبرنا بما هو موجود في الواقع فقط، وإنما يساعدنا بالأساس على الوصول إلى الفهم الصحيح لحقيقة الوقائع والأحداث، وبناء عليه يعلمنا كيف ينبغي أن نعيش في هذه الحياة بطريقة صحيحة...ونصل إلى الطريقة الصحيحة في العيش بفضل ما اكتسبناه من جرأة في التفكير الذاتي، ومن خروج عن الوصاية, كما نتعلمها كذلك مما توصل إليه معلمو البشرية من معاني حقيقية للوجود وأفكار خالدة لفن العيش الذي يليق بمقام الإنسانية...
أما هنا في المغرب، فإنه يبقى للمستعمر الفضل في إدخال هذه المادة إلى المدرسة المغربية، رغم أن تدريسها في البداية كان مقتصرا على المدارس الفرنسية، إلا أنها كانت الشرارة الأولى لانطلاق مسيرة الدرس الفلسفي في المغرب في لحظة كانت الفلسفة غريبة عن البيئة والثقافة المغربيتين، ولولا هذا الإدخال الأجنبي لكان تاريخ تدريس الفلسفة في المغرب مختلفا تماما، خاصة وأن الفلسفة كانت منبوذة عند المجتمع المغربي المتبدي أنذاك ، غير أنه رغم تواجد الفلسفة في المدرسة المغربية في فترة الاستعمار كما باقي المواد المدَرَّسة، لم يكن تدريسها تدريسا هادفا واضح الغايات والمعالم، فبشكل عام لم تكن هناك إمكانية الحديث عن تعليم وطني خلال هذه الفترة من تاريخ المغرب، فقد كان تعليما تقليديا كله أعطاب، وأضاف له المستعمر أعطابا ومشاكل أخرى تكاد تنخره تماما عبر الإقرار بالتعليم المزدوج، في إطار مقولة التطور البطيء للمجتمع المغربي .
ومباشرة بعد الاستقلال، ستمس الدرس الفلسفي الإصلاحات الوطنية الكبرى المسماة بالمبادئ الأربعة، وخاصة مبدأ التعريب، حيث سيتم إنجاز مقررات للفلسفة باللغة العربية من طرف الأستاذ الراحل محمد عابد الجابري ورفاقه كل من العمري والسطاتي، حينها سيتلقى التلاميذ دروس الفلسفة بالعربية، وكذلك المغربة، إذ اتجهت الدولة إلى التخلي تماما عن مدرسي الفلسفة الأجانب كما سيحدث نفس الأمر مع باقي المواد، أولائك الأساتذة الذين كان أغلبهم مشارقة وفرنسيين، في حين تم تعويضهم بكفاءات وطنية وأساتذة مغاربة، بالإضافة إلى التوحيد والمجانية. وبناء على هذه المبادئ شرع المغاربة في إخراج مقررات وبرامج وتوجهات في تدريس الفلسفة، لكن رغم محليتها ظلت متأثرة بالنموذج الفرنسي في تعليم دروس الفلسفة للتلاميذ إلى اليوم .
وقد مرّ تدريس الفلسفة في مغرب من مراحل عدة، ارتبطت بشكل واضح بالتوجهات السياسية والاقتصادية والأيديولوجية التي عرفتها البلاد منذ لحظة الاستعمار، حيث تبتدئ المرحلة الأولى من عهد الحماية إلى الستينات، فكانت لغة التدريس هي الفرنسية وكانت المقررات والكتب المدرسية فرنسية تعود إلى فيكتور كوزان، وفي سنة 1963 سيصدر قرار رسمي يعفي الأساتذة المصريين من التدريس، وهو ما ترك فراغا في المدرسين أنذاك، وفي 1965 سيصدر مقرر مغربي لمادة الفلسفة ألفه الجابري وزملاؤه. وفي المرحلة الثانية وهي الممتدة إلى حدود منتصف السبعينات، حيث سيتم تعريب الفلسفة بكيفية نهائية، ثم اعتماد أطر وطنية معربة التكوين، كما عرف كذلك توحيد المقرر المدرسي وطنيا، والتركيز فيه على الأبعاد الاجتماعية والتاريخية والأيديولوجية، حيث كانت تحكم الكتاب المدرسي النظرة المادية للعالم في قراءة دروس الفلسفة...، وفي المرحلة الثالثة التي تصل إلى الثمانينات، سيتخرج أول فوج لمدرسي الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة، وفيها سيظهر تطور تدريس الفلسفة، من خلال اعتماد مقاربة إشكالية-مفهومية في تدريس المادة عوض السرد التاريخي للأفكار الذي كان ساريا من قبل. في المرحلة الرابعة الممتدة بين 91-1995، سيتم اعتماد النصوص في تدريس الفلسفة، كعنصر مركزي في الدرس الفلسفي، وقد تم ذلك لتجنب ترويج المدرس لأيديولوجيات مخالفة لما تريده السياسة العامة بالبلاد...وفي المرحلة الخامسة والأخيرة، وهي التي تبدأ من سنة 2000 إلى اليوم، وخلالها سيتم الانتقال من تدريس الفلسفة وفق بيداغوجيا الأهداف التي تركز على المضامين والمحتويات، وتتأسس على الهدف الإجرائي، وفي المقابل تم تبني بيداغوجيا الكفايات سنة 2006 التي تروم بناء القدرات المعرفية العليا، كما سيتم إقرار التدريس وفق مفاهيم مؤطرة بالتوجيهات التربوية، واعتماد التعدد في الكتب المدرسية وهو ما لم يكن قبل هذا التاريخ، كل هذا من أجل تعليم التفلسف للناشئة...
لكن ما المقصود بتعلم التفلسف؟ إن تعلم التفلسف بالنسبة للمتعلمين في حصص الفلسفة، لا يُقصد به أن يقول المتعلم، في نهاية السنة الدراسية، نظريات في الوجود والمعرفة، إذ لو صح ذلك، لاعتُبر مستحيلا، وإذن فتدريس الفلسفة يصبح عبثاً. ولربما هذا ما يقصده بعض المشتغلين بالفلسفة بنفيهم لإمكانية أن يتفلسف المتعلمُ وأن يُحصّل نتائجَ ممتازة في هذه المادة. بل الأمر خلافا لكل ما سلف، فأن يتعلم المتعلمُ التفلسف، يعني أن يتعلم كيفية التفكير في واقعه المعيش وبلورة مسائل ومشكلات للتفكير مستمدة من محيطه ومن عصره، وهو نظرٌ في مشكلات ذات طابع فكري وفلسفي لا يمكن أن توجد لها حلول مستقاة من المجال العلمي أو التقني، وأن يتعلم ويتعود على التشكيك ومساءلة اليقينيات والبديهيات التي تفرض نفسها على الذات وتقدم نفسها كحقائق مطلقة، فالرفض لليقينيات والثوابت هو مبدأ أساسي من مبادئ التفلسف، وإذا أتقن المتعلمُ ذلك ونشرهُ في محيطه سوف يكون قد تفلسف حقا، وأزاح نفسه عن كل تفكير دجماطيقي الذي يؤدي غالبا إلى النِّزاعات المادية وإلى التطرف الذي يعدُ آفة العصر. فتفلسف المتعلم -الفيلسوف الصغير- بهذا المعنى، يعني أن يبلور تفكيرا خاصا به يكون مبنيا بعقل منطقي متحرر، وأن يبحث له عن تبريرات مقنعة بواسطة حجج وبراهين دامغة ، وأن يتعلم الإصغاء للآخر، وأن يبحث عن أشكال النقص الكامنة في شخصه ليكملها، عن طريق تعديل سلوكياته وتصرفاته باستمرار والقيام بنقد ذاتي كلما بزغت الحاجة إلى ذلك. فالتفلسف في الفصل يعني التعلم بمعية الأستاذ-الفيلسوف أن نكون سادة على أنفسنا وننتصر على الأهواء والميولات بالعقل، وأن يكون تصرفنا وفقا للفضيلة وامتثالا للواجب. فبماذا وكيف يستطيع المتعلم بلوغ هذه القدرات والكفايات؟
في الواقع، توجد نماذج عدة لتدريس الفلسفة أو براديغمات؛ فهناك البراديغم المذهبي Paradigme doctrinal، يقوم فيه تدريس الفلسفة على تلقين حقائق مطلقة ترسمها الدولة لخلق مواطن بمواصفات محددة. وهناك البراديغم التاريخي Historique، يوجد في إيطالية ويعتمد على تدريس تاريخ الفلسفة بشكل أساسي، وبراديغم ثالث أخلاقي Ethique، حيث تدرس الفلسفة على شكل دروس أخلاقية. وهناك براديغم رابع استشكالي Problématisant، هو براديغم فرنسي حيث تدريس الفلسفة في إطاره هو تعلم التفلسف، وتعليم للتفكير الذاتي، اعتمادا على نصوص الفلاسفة، إذ لا يهدف هذا النموذج إلى نقل الحقائق المطلقة والأيديولوجيات، بل يعتبر أن كل عصر مليء بمشكلاته، ودرس الفلسفة يهدف إلى إيجاد حلول لها .

والسؤال الجوهري في هذا البراديغم الفرنسي الاستشكالي المعمول به في البرامج والمناهج المغربية، هو كما يقول مشيل طوزي "Comment aider un élève pour qu’il pense par lui-même ?"؛ أي كيف أساعد المتعلم ليفكر بنفسه؟ وهذا هو السؤال الرئيسي لديداكتيك الفلسفة، وفي ما يلي سنتعرف على كيفية تعلم التفلسف بناء على خطوات وأدوات هذا النموذج الاستشكالي.

إن الهدف الأخير من تدريس الفلسفة هو ترسيخ التفكير الفلسفي لدى المتعلمين، ويبرز هذا المقصد بشكل إجرائي في ما يسمى بالأهداف النواتية أو الثالوث المقدس للدرس الفلسفي؛ الذي يتكون من المفهمةConceptualisation، والأشكلةProblématisation، والمحاجة L’Argumentation، فالاشتغال والتفاعل بين هذه العمليات هو ما يسمى بالتفكير الفلسفي، وإذا امتلك المتعلم هذه الأدوات وأتقن الاشتغال بها يكون بذلك قد تحقق، على وجه التقريب، المنشود من وراء تدريس الفلسفة.
- المفهمة

المفهمة هي اشتغال وصيرورة ذهنية مهمة، وهدف بيداغوجي أساسي، كما تعتبر شرطاً لكل تفكير فلسفي، وذلك من أجل تحصيل معرفة جيدة بما نحن بصدد الاشتغال عليه. إذ لا وجود أبدا لتفكير فلسفي في غياب مفهمة للمدلولات، فالفلسفة بعامة لا نستطيع أن نستمر فيها طويلا بدون تحديد للمفاهيم والمدلولات، ولهذا كان فولتير يشترط على محادثيه الاتفاق على المفاهيم الموظفة في المحادثة بقوله "حدد ألفاظك تجنبا لعوائق الاشتراك وما يصاحبها من تعتيم وتلبيس في المعاني والملفوظات، خاصة إذا تعلق الأمر بمفاهيم فلسفية من قبيل الفضيلة والجوهر والعلة والجمال والعدم والمطلق، ومن ثمة يُتطلب في الدرس الفلسفي إكساب مهارة المفهمة للمتعلمين.
المفهومLa notion هو كلمة تحمل فكرة عامة ومجردة، مثل الحدس، والفهم، والعنف. ولمدلولات المفهوم علاقة ثلاثية؛ يتعلق الجانب الأول باللغة، إذ يُعبر عن المدلول بكلمة تندمج في نسق تواصلي محدد، بينما يرتبط الجانب الثاني بالفكر، ذلك أن المدلولات تحيل على أفكار ومفاهيم، وأخيرا يرتبط المدلول بالواقع، لأن ذلك المفهوم يُعد موضوعا فكريا يجد دلالته في الواقع وفي العالم عموما .
في هذه المرحلة، يتعين أن يتعلم المتعلم كيف يحدد المفهوم فلسفيا، وذلك تبعا للسياق الذي وُظف فيه المفهوم، وهنا يوجد اختلاف جوهري فيما بين المفهوم في صيغته اللغوية والمفهوم العلمي ثم بين هاذين المفهومين والمفهوم الفلسفي، فلو أخذنا المفهوم العلمي وجدنا دلالاته تظل ثابتة وواحدة بحيث قد لا تشكل معضلة بين جماعة العلماء، هذا بالإضافة إلى أن اللغة العلمية لغة رمزية مما يؤدي إلى نوع من الدقة والوضوح. أما المفهوم الفلسفي فيُحدد باللغة الطبيعية، وتحديده يتم من خلال السياق اللغوي الذي ورد فيه، ثم من خلال السياق والنسق الفلسفي الذي أنتجه؛ فدلالات مفهوم الحدس عند ديكارت ليست هي نفسها عند كانط رغم نفس المفهوم؛ فالأول يقصد بالحدس إدراك عقلي مباشر للحقائق البديهية، بينما عند كانط يدل الحدس أو الحدوس على الاطلاع على المعاني الحاضرة بالذهن، من حيث هي ذات حقائق جزئية مفردة. وبالتالي تتطلب المفهمة الفلسفية مراعاة السياق الفلسفي، وبناء المفاهيم مع المتعلمين، وهذا يضرب في أعمال بعض مدرسي الفلسفة الذين يُعَرفون المفهوم الفلسفي بدلالات محددة ويعممون ذلك على جميع الفلاسفة، مما يجعل عملية التدريس معطوبة. وبدءا من هذه العملية يتم إبراز إحراجات المفهوم وما يحمله من مشاكل فلسفية، الشيء الذي سيمرُّ بنا إلى الأشكلة.

الأشكلة

تعد المشكلة في الفلسفة ذات قيمة فكرية عليا لأنها المحرك الأساس للتفكير الفلسفي، ولذلك، فلكل فيلسوف أصيل مشكلة فلسفية خاصة به هي المحركة لإنتاجاته الفلسفية؛ فلدافيد هيوم مشكلة السببية، ولمارتن هايدغر مشكلة الاختلاف الأونطلوجي أو نسيان الوجود...، ولكانط مشكل حدود العقل... غير أن المشكلات في الفلسفة أهم من الأجوبة والحلول، حيث إن كل جواب يتحول إلى سؤال جديد أي إلى مشكلة.
وفي الدرس الفلسفي يتم التوقف في طور الأشكلة على الإحراجات التي يضمرها المفهوم، ذلك أن أي مفهوم فلسفي يحيل على إشكال أو إشكالات فلسفية، وهذه هي عملية الأشكلة؛ وهي فاعلية فكرية تتجسد في بناء مشكل فلسفي انطلاقا من الوعي بمفارقة ، يصل إليها المتعلم باندهاشه من حدث أو فكرة، حيث تصبح الأشياء الواضحة غامضة، ولا توجد لها حلول جاهزة، بل تتطلب بناء. فالأشكلة تضع المتعلم في حالة من القلق الفكري والاضطراب، تستدرجه نحو تشغيل عقله والانصراف عن أوهام الرأي. وينتظر من المتعلم خلال الأشكلة اكتساب مهارات الشك ومساءلة البديهيات واليقينيات، وجعل الإثباتات والتمثلات أشياء قابلة للطعن ووضعها موضع تساؤل، لأن تعلم التفلسف هو تعلم للأشكلة.
أن نؤشكل يعني أن نكشف عما وراء التعاريف والمفاهيم والأسئلة من مشكلات فلسفية، وأن نقوم بصياغة المشكل في شكل تأرجحي مفارق لتبيان الطابع المتعدد للجواب الفلسفي. فالأشكلة الحقيقية هي التي تثير الكلام لدى المتعلمين، بفعل صدمة أو هزة يحدثها الإشكال، الذي يصبح بمثابة لغز في حاجة ملحة إلى حل، وكل حل يتحول إلى سؤال. تلك الأشكلة هي النموذج لقيام أي تفكير فلسفي صحيح، وليس إلقاء كثرة الأسئلة بدون وضوح في الرؤية هو ما يفعل ذلك. لكن إثارة القضايا وحدها غير كافية، وإنما يتطلب الأمر الإتيان بحجج وبراهين لتبرير الآراء والمواقف التي يُفترض أن يتبناها المتعلم، هذه العملية تشكل الجزء الثالث من الأهداف النواتية للدرس الفلسفي، وتسمى المحاجة.

المحاجة

تدل المحاجة على التوسل بالحجج والدلائل من أجل إقناع المتلقي بصحة فكرة أو بخطئها. ومن الناحية الفلسفية هي إتباع سلسلة من المقدمات للوصول إلى نتائج محددة، وتهدف المحاجة إلى الإقناع بموقف أو دحض ورفض أفكار الخصوم. ويذهب الباحثون في شؤون الحجاج إلى أن قسطا كبيرا من أحاديثنا اليومية هي أحاديث حجاجية واستدلالية، تهدف إلى الإقناع وحمل الآخر على إتباع فعل أو الإسراف عنه.
والخطاب الفلسفي لا يخلو من الخاصية الاستدلالية الحجاجية، حيث لا يمكن فصل الحجاج عن المضمون الفلسفي، ففي التفكير الفلسفي اختلاط وامتزاج بين الأطروحات وعملية التدليل عليها. وغاية الحجاج متعددة فهي إقناعية وتواصلية وتعليمية؛ أي أن الحجاج هو هدف مركزي لتعليم وتعلم التفلسف بالنسبة للمتعلمين.
وينتظر من المتعلمين أن يتقنوا مهارة المحاجة، بمعنى معرفة أنواع الحجاج، وكيفية توظيفه من أجل تبرير الآراء والمواقف الشخصية، والكشف عن البنية الحجاجية الواردة في نصوص الفلاسفة لتبيان قيمتها الفلسفية ومكامن قوتها ونقط ضعفها. ذلك أن الحجاج يهدف إلى البحث عن الحقيقة، متوسلا بالشك أي بالبرهنة على أسباب عدم الإيمان. ومن ثمة، فتعلم الحجاج هو تعلم لضرب من المنهج العقلاني يرمي إلى التبرير والدفاع المنطقي على جواب لسؤال محدد.
في سياق مناقشته للأهداف النواتية يشير مشيل طوزي إلى التمييز بين ثلاث أنواع من الحجاج ؛ أولا الحجاج التساؤلي L’arguments questionnante، يشكل أداة متينة لبناء أشكلة حقيقية، وبالمثل، فعندما يقول أرسطو أن كلَّ ما نعرفه يأتي بالحواس. فالحجاج التساؤلي يظهر في السؤال التالي هو: ألا يوجد بين تلك الحواس ما يخدعنا ويضللنا في كثير من الأحيان؟ وغرض هذا النوع من الحجاج هو إحداث الشك والريبة في إثباتAffirmation أو قضية. ثم ثانيا، هناك الحجاج المُثبت Probatoire، وغايته هي البحث عن تبرير وشرعية لخطاب محدد بكيفية منظمة عقلانيا، وأخيرا الحجاج النافي Réfutative، المقصود منه هو إبطال ونفي قضية أو خطاب بتبيان تناقضاته وعدم مشروعيته.
بعد هذا العرض، أمكن لنا أن نستخلص فكرة هامة يحتفظ بها القارئ، وهي أن ما ندرسه بشكل مستمر في حصص الفلسفة، من عناوين ومفاهيم وإشكالات وحجج وقصص وأساطير ونصوص وكتابات وشروح وغيرها..، ليست غاية في ذاتها، أو أن يحفظها المتعلم ويستظهرها عند الحاجة، وإنما مجموع عناصر الدرس الفلسفي هذه ليست سوى تدريبا منظما للفكر، حتى يصبح فكرنا فكرا منطقيا ناقدا متحررا، وهذا هو معنى أن نربي المتعلم تربية فلسفية، ولهذه الأهداف بالذات ينبغي تدريس الفلسفة.

مصادر البحث
1- أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد أ-ج، منشورات عويدات، بيروث- باريس، ترجمة خليل أحمد خليل، الطبعة2، 2001.
2- عبد المنعم الكيواني، الدرس الفلسفي أو تعلم التفلسف، (بحث غير منشور)
-3https://www.fabula.org/colloques/document1525.php
4- تدريس الفلسفة في التعليم الثانوي المغربي، مقال ضمن بحث لمجموع مؤلفين، مؤمنون بلال حدود، 15-16، 2015
5- ميشيل طوزي ومن معه، بناء القدرات والكفايات في الفلسفة، ترجمة حسن أحجيج، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى 2005،
-6Apprendre à philosopher au cours de morale, formation animée par Michel Tozzi, Dossiers pédagogique entre-vues, 1999,Bruxelles.



#عبد_المنعم_الكيواني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التعليم العمومي في المغرب، التعاقد والمجانية
- مشروع بيير دوهيم الإبستمولوجي
- التربية والحياة (مقالة في المضمر والمحجوب)


المزيد.....




- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...
- انفجار ضخم يهز قاعدة عسكرية تستخدمها قوات الحشد الشعبي جنوبي ...
- هنية في تركيا لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة مع أردوغان
- وسائل إعلام: الولايات المتحدة تنشر سرا صواريخ قادرة على تدمي ...
- عقوبات أمريكية على شركات صينية ومصنع بيلاروسي لدعم برنامج با ...
- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - عبد المنعم الكيواني - ما التربية الفلسفية؟