وليد المسعودي
الحوار المتمدن-العدد: 1550 - 2006 / 5 / 14 - 10:04
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
تظهر اميركا دائما كصورة مطلقة لتبادل وانتاج الشر لدى ذهنية الكثير من الدول والانظمة والمجتمعات التي يسودها منطق القيادة الشمولية من حيث رسوخ المرجعيات الوحيدة لجميع ما يشكل نظام الدولة والمعرفة والايديولوجيا ، داخل المجتمع ، وهذه المرجعيات المعرفية تكاد تنحصر بشكل مطلق لدى افراد اقلية او حزب واحد ذو ثقافة واحدة لا تبررها الظروف المجتمعية ولا تؤسس من خلال حاجات المجتمع وتطوره ، فأمريكا اقنوم او مصدر هائل لانتاج الشر وتوزيع الارادة الشاملة والسيطرة المطلقة على العالم ، وكأنها تشي بطابع ميتافيزيقي مفارق يملك السيطرة والهيبة والثواب والعقاب .. الخ من مفردات الذات التاريخية الميتافيزيقية ، ذلك ما تقوله نظرية المؤامرة عن اميركا ولكن لنحلل المسألة عن كثب من خلال الصورة العيانية في الواقع العراقي تاركين لغة الميتافيزيقا ومتتاليات نظرية المؤامرة التي تمثل في كثير من الاحيان رغبة في إطالة الهيمنة على الشعوب من ثم إطالة السجون المجتمعية من قبل إرادة المرجعيات الفكرية والثقافية والسياسية داخل الدولة .
ان صورة اميركا في العراق حاضرة بشكل جلي من خلال نظرية المؤامرة وهذه الاخيرة موجودة بشكل فاعل لدى الادبيات التي تغرق بها الايديولوجيات الشمولية كافة ، من دينية وقومية وشيوعية ، فالعراق استطاعت القوى السياسية التي فرضت وجودها العنفي عليه لمدة عقود من الزمن أن تعمم عليه الكثير من الاوهام والايديولوجيات الزائفة سواء تلك المتعلقة بالاعداء ضمن خانة الدولة الاستبدادية اي داخل كيانها السياسي او تعلق الامر بقوى خارجية تتباين في المواقف معها من دعم ومساندة وتأييد خصوصا من طرف الدول الكبرى وبين رفض وادانه وقبول تارة اخرى ، حيث كانت هذه القوى السياسية في مجملها مؤسطرة من حيث الوجود بالقوة كأدوات نفوذ بواسطة اميركا وقطارها الذي يشي بالخراب لمتتاليات طويلة من الزمن البعثي الاستبدادي ، فضلا عن دور اميركا المصالحي في كثير من الدول من حيث مساندتها ودعمها لقوى الاستبداد والرجعية في كثير من دول العالم ، وهنا يحضرنا على سبيل المثال دول مثل تشيلي ونيكارغوا واندونيسا واليابان وغيرها من الدول التي عملت الولايات المتحدة على دعم الاستبداد فيها ومن ثم تكوين اشكال سياسية في غاية المركزة السلطوية دعما لمصالحها في دول كثيرة من بقاع العالم ، هذه الصورة تسجل ان اميركا لا تحمل مشروعا انسانيا من اجل تغيير العالم وفقا لارادة الشعوب ومساعدتها بشكل فاعل من اجل تجاوز الكثير من المعوقات التي تقف حائلا دون تحقيقها الاستقلال والتقدم والتطور بالرغم يوتوبيا ذلك الكلام الذي نقول ، وذلك ارتباطا مباشرا مع مصالحية وذرائعية اميركا في منطقها وتعاملها الاستراتيجي مع محيطها العام من الدول وخصوصا ضمن دول العالم الثالث .
ان صورة اميركا في العراق لا توجد اليوم إلا وهي حمالة لستراتيجيات من الانقسام والتشظي وبناء الدول الضعيفة التي لا تعجز عن مواصلة اللحاق بتطورات العالم المتقدم فحسب بل انها تعجز عن الوصول الى الهامش من ذلك التقدم المنجز ، من خلال دعمها اي اميركا لقوى لا تقف موقف البناء والتعاطي مع المستقبل العراقي على انه شكلا واحدا واطارا موحدا من الممكن ان يحدث في داخله تراتبية العلاقة بينه وبين القوى الاكثر هيمنة على شروط ومقدرات الاحترام للخصوصيات والبناء الداخلي بلا اية نوازع معينة من شأنها ان تقود الى الفرض الفكري والسياسي والايديولوجي ، إذ ساعدت كثيرا الولايات المتحدة طيلة احتلالها للعراق على إشاعة الفرقة والانقسام والتوحد ضمن معطيات الواقع الذي عملت على خلقة دولة الاستبداد في العراق ، ذلك الواقع الذي يشير بغياب كامل لجميع مفاهيم المواطنة والحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية للكثير ممن يشكل اطار الدولة العراقية من الاطياف الاخرى ، وما عملت عليه اميركا يتمثل في محاولة زعزعة اللحمة الاجتماعية والقضاء على السلام الاجتماعي داخل البلد ، وذلك تماهيا مع دولة الاستبداد البعثية التي عطلت القدرة على تجاوز الاشكال القديمة للانتماء الهوياتي من طائفية وقومية ومذهبية ، متجاوزة لمفهوم الوطن الواحد ومتجاوزة لقدرة العراق على الاحتواء الداخلي لجميع تشكيلات نماذجه المتعددة من ثقافات واشكال سياسية واجتماعية وثقافية ..الخ ، وذلك نجده من خلال كثرة الاحتقانات الطائفية والمذهبية والعرقية نتيجة التأزم السياسي للحكومات المتعاقبة بعد سقوط الدكتاتورية في العراق ، كل ذلك يدخل ضمن مشروعية الدولة المحاصصية في العراق والتي يراد لها ان تغدو نموذجا يحتذى به ومن ثم هي دولة يتم من خلالها محاولات دائبة لسقوط الاصنام الاخرى من دول استبدادية متعاقبة بعد تجربة العراق ، كل ذلك يجري بطريقة غير شعبية مدركة لاهمية الديمقراطية بالرغم من ان هذه الاخيرة في العراق الحالي جاءت على خلفية مفاهيم الحق الانتخابي والبرلماني وتبادل السلطة ، ولكن كل ذلك تم بطريقة غير واعية من قبل الاكثيرية المجتمعية من حيث وجود تراث هائل للمنع والاستبداد عملت الدولة الدكتاتورية على تأصيلة فضلا عن وجود تاريخ طويل من المنع والحضر والمركزية الهائلة لدولة مطلقة دائمة الحضور والسلطة على توجهات ومفاعيل المجتمع ككل ، وهكذا تتجلى صورة اميركا من خلال طبيعة التشكل الدولتي الذي قاد الى وجود توزيع هائل لقوى العنف والارهاب سواء كانت هذه الاخيرة خارجية بفعل فتح ساحة ما يسمى بالارهاب العالمي وجعله مستقرا في العراق من حيث القدرة على محاربته او تجاوزه او كانت داخلية مؤصل فيها ثقافة العنف الصدامي الى حد بعيد ، فأميركا لا تريد دولة عراقية قوية ذات سيادة وصاحبة قرار مؤثر على الدول الاخرى كما تدعي من خلال مشروعها الشرق اوسطي الجديد ، من خلال جعل العراق منارة او نموذجا يحتذى به ، كل ذلك يندرج ضمن فضاءات الوهم واليوتوبيا الكبيرة التي تصنعها اميركا في العراق والعالم اجمع ، إذ لايمكن ان يكون العراق نموذجا يحتذى به من خلال كونه حاضنة دائمة لاوضاع في غاية المأساوية لاشكال من القسوة والتمثيل المأساوي لجسده المتشضي بفعل الكثير من القوى الارهابية داخل العراق .
ان خروج العراق من صورة واطار اميركا ، التي تشي بجميع عوامل الاستلاب للارادة الذاتية المجتمعية يكاد يحمل صفة اليوتوبيا في الازمنة الراهنة وذلك لغياب المشروع الوطني الديمقراطي ، الذي يسعى الى بناء الكيان الدولتي الموحد ، ومن ثم تحقيق جميع عناصر الاستقلال الداخلي وتمثل الذات كقدرة بشرية دائمة الحضور والابداع والانجاز على مختلف المستويات ووفقا لمبادئ الحرية واحترام حقوق الكرامة البشرية بجميع اشكالها بدءً بحق البقاء والعيش الانساني وانتهاءً بحق الانتماء والتجاوز وتكوين الاشكال المختلفة من الحقيقة البشرية داخل المجتمع والمرتبطة بتحقيق الهوية الذاتية بلا اية نوازع إكراه او ضبط مجتمعيين .
#وليد_المسعودي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟