أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد نوير - قصة قصيرة// الحكمة القبيحة














المزيد.....

قصة قصيرة// الحكمة القبيحة


عماد نوير

الحوار المتمدن-العدد: 6328 - 2019 / 8 / 22 - 11:38
المحور: الادب والفن
    


تمرق مثل شُهب خاطفة، لحظات السّعادة حينما يطاردها غول الهجر، يجعل للموت اشتهاء مُلحّا، و طعما لذيذا، فليس هناك ما هو أمرُّ من تطويق الرّوح بكذبة، و انقياد القلب لأمل ألفهُ أدلّاء الصحراء القاحلة، أمل ليس له قرار وصول، قرأناه و عشناه في نجوى العشّاق، و في كل مرّة تنقبض القلوب خشية مواجهة ذات المصير يوما ما!
كانت تزدرئ فكرة الانتحار، فالضّعيف وحده من تراوده الحلول في نهاياتها، فيما تعجزه المعضلات من بداياتها، قالت مرّة لطلّابها في موضوع القوة الإيجابية:
- يجب أن تدركوا من اليوم أن التّفكير في إنهاء الحياة قبل أوانها يعدّ انهزاما و تفكيراً لا يرتقي لجنس متقدّم من المخلوقات!
سمحتْ لنفسها بالابتسام بعد عشر سنوات، تستذكر الامتعاض الذي كساها من ردّ أحد طلابها آنذاك:
- لكن يا أستاذة هذا يعدّ أرقى حالات التقدّم البشري، حينما تتاح لك حرية إنهاء حياتك وقتما تشاء.
نظرت إلى الوضع الذي يحيط بها، حيث كل شيء منوط برحمة الأجهزة المعالجة، و تصديقا اضطراريا لعداداتها، تُطبق عليها هذه الآلات المتطوّرة مطلقة بين فينة و أخرى أصواتا استفزازية، كأنها تتباهى بسيطرتها الكاملة و استسلاما مماثلا للمريض تحتها، هكذا كان الوضع يشغل نصف وقتها هنا.
هي ليست مريضتي الوحيدة، كما أنها ليست المرّة الأولى التي أتطفّل على حياة مرضايّ في نهاياتها، شعور غريب يلازمني أن أتابع المرضى ذوي الأفكار الخارقة، أو المختلفة على أقلّ تقدير، أراقب كيف يمضون لحظاتهم الأخيرة، كيف يصدّقون أنهم سيغادرون قريبا، فيما يملؤون علينا صالات المشفى بهجة و سعادة، حِكم و مواعظ، و أتساءل إن كانوا يصدّرون إلينا خلاصة حياتهم السابقة خارج مشفانا، أم هي مثاليات كانوا يمقتونها سابقا و قد غيرتها ظروف الإقبال على الموت حاليا!
أخجل أحيانا من استراق السّمع لها حين تكلّم مرافقتها الجميلة، فهمسها رقيق شاعري، يجعلني أحسد من رافقتْه حبيبة أو زوجة طيلة حياتها، نظراتها تشتعل بلهيب حياة أبدية، أرى الموت أحيانا يرتجف حين القدوم إليها، فيؤجل عمله لليوم التّالي علّه يزداد جرأة و حزما لملاقاة هذا الجمال و سلبه نبض الحياة بكل قسوة.
استراق السمع لشخص مجاور يحدّث خواصه صفة يمقتها الجاهل قبل المتعلّم، فلا يليق بي أن أكوّن فكرة عن حياة مرضاي المغادرين و استخلاص الدروس منهم بممارسة هذه الحركة الخسيسة، لكن ما جعلني أبرر لنفسي عملي الشّائن هذا هو أن وصلني دونما تلصص، هكذا بالصّدفة، حينما دخلتُ لمتابعة علاجها، همستْ لرفيقتها، و جانب من عينها تجاهي:
- كم هو غبي هذا الطبيب!
حاولتْ رفيقتها أن تغيّر الجو كي لا يصلني منها شيء في جو هادئ جدا، يسمح بانتقال الهمس معلنا فضيحة ما.
لم التفت صوب ما وصلني إلّا بعد أن امتصصت الصّدمة، فلم أحسب أن يبدر منها هذا التّصرّف أبدا، فطيلة وجودها عندنا كان مثابة خلق مثالي!
خامرني شك ضعيف أنها من الذّكاء ما أرادت به أن يصل إليّ ما وصل.
حاولتُ أن أسأل مرافقتها بعد أن تقربتُ منها أكثر عن عدم حضور زوجها، إلّا أني أحجمت في اللحظة الأخيرة خشية أن أسبب انتكاسة علاجية لا يسمح بها القانون الطبي و الأخلاقي.
كان وجهها يزداد بريقا كل يوم كأنها تتماثل للشفاء و معانقة الحياة من جديد، فيما كانت الأوراق أمامي تنذر بغير ذلك، تتزيّن كل يوم للقاء لم يحصل، مكحلتها لا تفارقها، تجرّأتُ يوما بصفتي طبيبها الخاص، أن أبعد عنها بطريقة مازحة علبة الكحل هذه، لكنها نظرت إليّ نظرة عتب، كأنها تقول لي: مازلتَ غبيا!!!
- لك ذلك سيدتي، دعيها معكِ، فهي حتما غالية الحضور عندك.
- يا دكتور، هي الوحيدة التي أصدّق أنني أبدو بها جميلة، فلا أدوات زينة عندي غيرها.
و أعقبتها بضحكة رائعة، كانت سبب ابتسامتي لنهار كامل.
لن أنسى أبدا هذه المريضة، أفردّتُ لها أيقونة في مدونتي المتواضعة، سجّلت فيها لحظات شاعرية لامرأة تقارع المرض بالحيوية و النّشاط و الأدب و الابتسام، اسمها إيماني، شكلها سومري، حديثها شهواني، غجري، موانئ عينيها تتسع لأساطيل من الجد و الهزل و البوح و الهرطقات، ذكاؤها الذي تسميه غباء كان أمنية لكل طموح، جمالها الفطري المجرّد من زيف النسوة يشعرك بالصّدق، كلامها كان فهرسة لكل معاني الأناقة.
دخلتُ غرفتها للمتابعة اليومية، هل أنا غبي حقا؟ أم أن هناك خطبا ما؟
المرأة متزيّنة بكل بساطتها فبدت كعروس قبائلية، الحنّاء ترقص على يديها، و لا أعرف كيف وصل إليها، فستان شعبي لا يذكرني اسمه و صيغة ذهبية متواضعة، تناثرت بمرح على صدرها و وجهها المكتنز حمرة و مسحة خفيّة من خجل، على جيدها العاجي يتسيّد الحفلة (بوزلوف) هكذا تسميه النسوة، و قد حفظتُه اضطرارا كي لا أغضب زوجتي بنسيانه.
- كيف حالكِ اليوم؟
- الحمد لله يا دكتور.
- هل لديك احتفال هذا اليوم سيدتي؟
قلتها بطريقة المزح.
- نعم... عزمت على الزواج يا دكتور...
ثم أردفتْ:
- هل تتزوجني يادكتور؟
ارتبكتُ، حاولتُ أن أتكلّم، أمزح، أي شيء، لكن جدّيتها، تعابير وجهها تنتظر جوابا، أسعفتني ذكرى قريبة:
- ألستُ غبيا، هل تقترنين بغبي؟
- أثبتْ لي أنكَ لستَ غبيا و لبِ رغبة امرأة تحتضر.
نعم تذكّرتُ مخرجا آخر:
- سيدتي، أنتِ تمزحين حقا، فأنتِ متزوجة، هذا ما يعلمه الجميع.
- نعم، لكني انفصلتُ أثناء فترة مكوثي هاهنا...هاه ماذا قلت؟
هززت رأسي موافقا، أخرجتْ مكحلتها و اكتحلت بلا مرآة كأنها اعتادت هذا الأمر، ثم طلبت هاتفي، ضبطتْه على وضع التّصوير، قالت اقترب مني و نادتني باسمي بلا لقب دكتور:
- اقترب، اقترب مني أكثر، ابتسمْ، لا داعي أن نشرح الحكمة أحيانا، و لكن تذكّر بأن الذين يخلعون السّعادة ليعيشون حياة مفروضة، لا يشبهون مَنْ يلاقون الموت بفستان عرس.
شهقَ الهاتف معلنا لقطة أبدية، سجّلتْ ومضة زمنية فاقت وقتها البسيط، خلدتْ عندي أجمل ذكرى.



#عماد_نوير (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الغدير
- قصة قصيرة// تقمّص
- قصة قصيرة بعنوان/ ملائكة و (هاكرز)
- قصة قصيرة// تهنئة
- عراك
- قصة قصيرة جدا// علاقة
- قصة قصيرة جدا// متابعة
- قاص من بلادي... قراءة في نص قصّصيّ (ملاذ)
- قرار// قصة قصيرة جدا
- القصُّ و الأسلوب الجماعي/ قراءة في نصّ قصّصيّ
- قصة قصيرة جدا// قدر
- قصة قصيرة جدا// كشفٌ
- قصة قصيرة جدا/ تجسّد
- متلازمات
- قاص من بلادي
- لكل ذكرى.. كتاب
- الحضور الديني في النص الأدبي/ قراءة في ققج
- ترتيب مشاعر
- حتما ستصدّقين
- خلود


المزيد.....




- جنوب السودان وطقوس الاستسقاء.. عندما يكون الجفاف موازيا للإع ...
- توفيق عبد المجيد سيرة مناضل لم يساوم!
- السينما في مواجهة الخوارزميات.. المخرجون يتمردون على قوانين ...
- موسكو تستعد لاستضافة أول حفل لتوزيع جوائز -الفراشة الماسية- ...
- مهرجان الجونة السينمائي 2025.. إبداع عربي ورسالة إنسانية من ...
- تنزانيا.. تضارب الروايات حول مصير السفير بوليبولي بعد اختطاف ...
- باقة متنوعة من الأفلام الطويلة والقصص الملهمة في مهرجان الدو ...
- حريق دمر ديرا تاريخيا في إيطاليا وإجلاء 22 راهبة
- الإعلان عن 11 فيلما عربيا قصيرا تتنافس في مهرجان البحر الأحم ...
- هنا يمكن للمهاجرين العاملين في الرعاية الصحية تعلم اللغة الس ...


المزيد.....

- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد نوير - قصة قصيرة// الحكمة القبيحة