أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الحزب الاشتراكى المصرى - الرؤية السياسية للحزب الاشتراكى المصرى















المزيد.....



الرؤية السياسية للحزب الاشتراكى المصرى


الحزب الاشتراكى المصرى

الحوار المتمدن-العدد: 6237 - 2019 / 5 / 22 - 16:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


المحتويات
الرؤية السياسية للحزب الاشتراكى المصرى 1
الرؤية السياسية: مقدمة 1
مقدمات الثورة 1
نظرة طائر إلى خلفيات الوضع قبل الثورة 2
الثورة 3
مسار الثورة بعد عزل مبارك: 5
مرحلة تعاون المجلس العسكرى والإخوان 5
تصاعد الصدام بين "الإخوان" والسلطة الممثلة فى "الدولة العميقة": 7
مرحلة إسقاط الإخوان والشقاق بين النظام والغرب 9
مرحلة العودة لتعميق التبعية للغرب من باب الأزمة الاقتصادية، والاستعادة التدريجية للنظام القديم 11
الإرهاب ومواجهته 13
خلاصة واستنتاجات 16
الوضع الدولى 18
الوضع الإقليمى 22
إسرائيل 22
تركيا 23
إيران 24
المملكة العربية السعودية 26
الحركات الثورية العربية عام 2011 26
خلاصة واستنتاجات: مصر فى محيطها العربى والإقليمى والعالمى 30

الرؤية السياسية: مقدمة
تأسس الحزب الاشتراكى المصرى فى منتصف عام 2011 وكنتيجة مباشرة لثورة 25 يناير، حيث شعر مؤسسوه بالمسئولية التاريخية عن مساهمة اليسار فى صنع مستقبل مصر، عن طريق بلورة حزب يسعى لاحتضان أمانى شعبها فى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية كما نادت شعارات الثورة، والسعى لتحقيقها بشعب مصر ومن أجل شعب مصر.
مقدمات الثورة
لقد مَثَّلت ثورة 25 يناير علامة فارقة فى تاريخ مصر الحديث، وسيظل هذا الحدث محفوراً فى وعى وذاكرة الشعب المصرى باعتباره أكبر خروج جماهيرى حديث ضد القهر والاستغلال والتبعية والفساد والاستبداد. لقد مثلت هذه الثورة حلقة هامة فى الوعى الجماهيرى، من حيث الإدراك الواسع بفساد نظام "مبارك"، الناتج عن تزاوج رأس المال مع السلطة السياسية، والذى تكَثَّف منذ حكم لجنة سياسات "جمال مبارك" عام 2002. إن قسوة الاستغلال، وغياب أبسط الحريات، وتعسُّف وفساد وعنف جهاز الشرطة، والوضع الاستبدادى الخانق، والتزوير الفج لآخر انتخابات لمجلس الشعب فى عهد مبارك فى أواخر عام ،2010 انتزع آخر بقايا الصبر من المصريين. كما تدهور مستوى المعيشة بفعل تكثيف استغلال الجماهير، بالذات مع الإيغال فى سياسات التبعية الاقتصادية وسيادة السياسات "النيوليبرالية"، التى فرضتها مؤسسات التمويل الدولية منذ الأخذ بسياسات الانفتاح الاقتصادى عام 1974، واندفع فيها بشدة قيادات لجنة سياسات "جمال مبارك" ووزارة "نظيف" المعروفة بوزارة رجال الأعمال (2004- 2010)، وهو ما دفع الشعب لإسقاط نظام "مبارك" سياسيا ومعنويا، بعد انتشرت شعارات "يسقط يسقط حكم مبارك" بتأثير موجة الغلاء الناتجة عن تخفيض الجنيه المصرى كأول قرار اقتصادى للجنة السياسات، أى منذ يناير 2003.
ومنذ ذلك الوقت تطورت الحركة الجماهيرية الاحتجاجية، والإضرابية العمالية والفئوية، لتصبح ملمحاً ثابتا فى السياسة اليومية، كما نشطت الحركات السياسية المعارضة لنظام "مبارك" ومن أبرزها "حركة كفاية" منذ نشأتها عام 2004. لعبت ثورة تونس دوراً مُلهِماً للشعب المصرى، وخرج الشعب فى 25 يناير ينادى بأهدافه، رافعا شعارات الثورة: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"، مُصمماً على عدم التراجع عن الهدف الثورى: الشعب يريد إسقاط النظام.
نظرة طائر إلى خلفيات الوضع قبل الثورة
يقتضى فهم الوقائع المتواترة فى الفترة الأخيرة، على صعيد الصراعات السياسية والاجتماعية فى بلادنا، والتى كانت ذروتها أحداث ثورة 25 يناير 2011، إلقاء "نظرة طائر"على التطور التاريخى للسلطة الحاكمة وملامحها الطبقية، فى طورها الحديث، الذى شكّل صعود "محمد على" إلى دست الحكم، عام 1805، بداياته التاريخية.
لقد جرى، فى سياق سعى "محمد على" لبناء الدولة الحديثة، وضع اللبنات الأولى للرأسمالية المصرية بإنشاء الصناعة، وتطوير الزراعة والتعليم، بمايخدم مشروعه الخاص فى إنشاء هذه الدولة، ومحاولة الخروج من عباءة الخلافة العثمانية، حيث أنشأ جيشاً تتجاوز قدراته حدود الدولة المصرية، باتت قوته مصدراً لتهديد مصالح الإمبراطوريات الاستعمارية، وفى مقدمتها: البريطانية والفرنسية، الأمر الذى دفع إلى تحالف هذه القوى، على ماكان بينهما من تنافس استعمارى، لضرب هذه التجربة وإخضاعها لسيطرتهم.
ولقد تعددت محاولات الطبقة الرأسمالية المصرية الوليدة، فى سعيها من أجل استكمال مقوماتها الأساسية، ومحاولة الاستقلال بسوقها الوطنى، وتمثلت هذه المحاولات فى "الثورة العُرابيّة" ـ 1881، وثورة 1919، ونظام 24 يوليو 1952، باعتبارها سلسلة متصلة من الحلقات، على مسار تحقيق هدف الاستقلال.
لقد نشأت الطبقة الرأسمالية المصرية من رحم كبار مُلاّك الأراضى المصرية، (الإقطاع)، الذين سعوا لاستثمار فوائضهم المالية، وفى ظل هيمنة الاحتلال البريطانى، ولذا فقد لازمتها صفاتها الرجعية والمحافظة والمهادنة، على العكس من الرأسمالية الأوروبية، التى تكوَّنت فى سياق الصراع ضد الإقطاع، وتمرداً على الكهنوت الدينى، كما فرضت الهيمنة الاستعمارية عليها منظومة الإلحاق والتبعية، وأبقتها فى وضعية مُقيدة وهشة، أعجزتها عن تطوير علاقات الإنتاج اللازمة للانطلاق والنمو، فضلاً عن أن هذه النشأة وسمتها بالمهادنة، وافتقاد الثورية، والخشية الدائمة من "راديكالية" الجماهير، وجهدها المستمر لقمع التحركات الشعبية.
لقد ظلّت البرجوازية المصرية، بحكم طبيعة نشأتها، والتقسيم الدولى للعمل، وارتباطها بالسوق الرأسمالية العالمية، رأسمالية تابعة، وضعيفة، وعاجزة عن تحرير سوقها، وفضّلت أقسام منها العمل كوكيل للشركات الرأسمالية العالمية (كمبرادور)، فعجزت عن تطوير أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج الرأسمالية وتوسيع وتطوير سوقها، ومن ثم فقد غدت غير مؤهلة لقيادة حركة تغيير حقيقى فى المجتمع المصرى، تواكبها حركة جماهيرية داعمة ومتفاعلة.
ونتيجةً لهذه الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وأيضاً لعجز قوى التقدُّم (الطبقة العاملة وحلفائها)، عن المبادرة لإزاحة الطبقة الحاكمة شبه الإقطاعية شبه الرأسمالية، قام تنظيم "الضباط الأحرار" بالاستيلاء على السلطة، واتجه تدريجيا إلى هدم أسس النظام القديم، والعمل على تطوير علاقات الإنتاج الرأسمالية، وخلق قاعدة صناعية، وإصلاح جوانب عديدة فى البنية الاقتصادية للنظام، بدءاً بقانون الإصلاح الزراعى (رقم 178 لسنة 1952) الذى استهدف توزيع الملكية الكبيرة للأرض بهدف توسيع السوق أمام الصناعة التى بدأت تعانى من الكساد بعد الحرب العالمية الثانية أيضاً من أجل خلق قوّة شرائية جديدة، تسمح بتوسيع السوق المحلى.
كما لجأ نظام 23 يوليو، من أجل توفير الفوائض المالية اللازمة لخلق قاعدة اقتصادية قوّية تتيح دفع المجتمع إلى الأمام، إلى إجراءات "التمصير" و"التأميم"، بعد أن تقاعست الرأسمالية المصرية عن أداء هذا الدور، رغم كل الإغراءات والتسهيلات المُقدمة لها، مفضلةً الاستثمار فى العمليات التى تدر عوائد سريعة!
ورغم الجماهيرية الجارفة للرئيس إلاّ أن الطبيعة الاستبدادية البيروقراطية للسلطة، وعدم الثقه فى الشعب، والعجز عن تنظيم صفوفه، مكّنت القوى الاستعمارية والرجعية المضادة، المتربصة بالنظام ورمزه، من توجيه ضربة قاصمة إليه، وإلى توجُّهاته الوطنية والعروبية والتحررية فى يونيو 1967.
وماكان لهذه الهجمة أن تنجح فى تحقيق أغراضها إلاّ بدعم من عناصر "الطبقة الجديدة"، التى تشكّلت فى رحم النظام الناصرى، من قسمين:
القسم الأول: بقايا الطبقات القديمة، الحاقدة على "عبد الناصر" وإجراءاته وتجربته، والقسم الثانى: المتحالف مع هذه البقايا، الشرائح الجديدة من قمم الجهاز البيروقراطى الناصرى التى كوّنت فوائض مالية كبيرة لواقع هيمنة أفرادها على المؤسسات الاقتصادية العامة. وليصعد "أنور السادات" إلى سدة الحكم، ممثلاً للاتجاه الجديد للطبقة الحاكمة فى الظروف الدولية والمحلية الجديدة بعد هزيمة 1967.
الثورة
وإذا استبقنا الأحداث لنتأمل فى حالة الإحباط الراهنة عند قطاعات واسعة من الشباب والجماهير والإحساس بفشل الثورة وبعودة النظام القديم الذى قد يفوق فى بعض مساوئه نظام "مبارك"، فإن هذا يؤكد على أهمية فهم طبيعة الثورة، وتطور توازن القوى بداخلها حتى وصلنا إلى ما نحن فيه الآن، من أجل استشراف الطريق لبناء مستقبل تحقيق أهداف شعبنا التى نادى بها فى الثورة، إذ لا يمكن مقاومة ذلك الإحباط دون تأمُّل مسار الحركة السياسية فى بلادنا، وتفاعل وتوازن القوى بينها، ومعرفة نقاط القوة التى ستظل ذخراً فى وعى الشعب، وزاداً ينهل منه ليصنع مستقبله مهما زادت العقبات، وإدراك نواحى الضعف وأسباب تدهور الوضع فى مصر. إن الدراسة المسلحة بالوعى العلمى بقوانين الثورات هى ما يحمينا من السقوط فى وهدة اليأس.
عندما تخرج ثورة عارمة تشمل الملايين من أبناء الشعب المصرى، كما حدث فى 25 يناير وتقدم مئات الشهداء وآلاف الجرحى، وتشمل عملياً جميع محافظات مصر، فليس أمامها، مثل أى ثورة، سوى أحد ثلاث نتائج:
1. الأول: أن تنجح الثورة بما يعنيه هذا من انتقال للسلطة إلى يد الثوار، فقضية الثورة هى قضية السلطة فى المحل الأول.
2. الثانى: أن يلجأ النظام القائم، (بخاصةً فى حالة انهيار جهاز الشرطة ونزول الجيش للشارع كما حدث عندنا)، إلى القيام بمذبحة ضخمة للشعب الثائر.
3. الثالث: فى حالة توازن قوى لا يسمح بأى من الحلين السابقين، أن يضطر النظام القديم إلى تقديم تنازلات أمام الثورة، تمهيدا للالتفاف عليها فى وقت لاحق حسب توازن القوى بين قوى الثورة والنظام القديم. وهذا هو ما حدث عندنا فى ثورة 25 يناير.
فرغم المغزى الثورى الهائل لهذا الخروج الجماهيرى الواسع بعد عقود طويلة من غياب وتغييب دور الجماهير فى التأثير فى صنع حياتها، إلا أنه لم يكن ممكناً أن تنتهى الثورة بالانتصار الكامل على النظام القديم بسبب من ضعف قوتها، فقوتها ليست سوى مستوى وعى وتسييس الشعب، ومستوى نضج تنظيماته السياسية والنقابية، ومستوى بلورة قيادات واعية وكفؤة ومُجمَع عليها من أغلبية مكونات الحركة السياسية والجماهيرية.
ولابد بعد عقود من تغييب الحياة السياسية أن يكون مستوى وعى الشعب مُنخفضاً. وإذا كانت قيمة الثورة هى أنها تعنى أن الشعب قد وعى بانفصاله السياسى عن النظام الذى لا يحقق له أمانيه، وعن واجب إسقاطه، فهى لا تعنى تلقائياً الوعى بتفاصيل النظام السياسى البديل وسِماته. كما أن محدودية حريات التعبير والأحزاب قبل الثورة تعنى غياب إمكانيّة تبلور حزب جماهيرى قيادى، وغياب وجود قيادات جماهيرية يجمع عليها الشعب، فإن هذا الوضع يتطلب فسحة تاريخية تتاح خلالها الفرصة للشعب، لكى يختبر بشكل ملموس مواقف وسياسات مختلف القوى فى الممارسة السياسية.
ليس هناك ارتباط ضرورى بين مستوى الحركة الجماهيرية، وحتى انفجارها فى ثورات، وبين مستوى تبلور القوى والتيارات السياسية وامتلاكها لأحزاب جماهيرية. فى بلادنا ثار شعبنا فى ثورة مجيدة ولم يكن حزب "الوفد" قد تكون إلا قبلها بشهور معدودة، وكان هناك تبلور جماهيرى واسع لقيادته وتأييد لشعاراته فى الاستقلال والدستور، بينما ساد الشعور بالإحباط وفشل الثورة فى تحقيق أهدافها بعدها بعشر سنوات، حين كان يُفترض أن الخبرة التاريخية قد أنضجت كل من الحزب والجمهور.
إذن، فقد كان مسار الثورة الأول، المتمثل فى نجاح كامل للثورة بانتقال السلطة للثوار، غير ممكن للأسباب السابقة.
فماذا عن مسار قمع الثورة؟
كان مما رددته بعض الأصوات شبه الرسميّة فى مصر، أنه إذا قامت مظاهرات يُشارك فيها مليون مواطن فإنه يتوجب على الحكومة إعلان حالة الطوارئ الكاملة، وتجنيد كل قوى الشرطة والأمن المركزى فى الشوارع، وإنه إذا استمرت تلك المظاهرات المليونية فى الشوارع أكثر من ثلاثة أيام سينهار جهاز الشرطة، حيث إن الحد الأقصى الذى يستطيع جنود الأمن المركزى بقاءه فى الشارع بدون نوم هو ثلاثة أيام. وهو ما حدث فى الساعة الخامسة من مساء 28 يناير حيث انهار جهاز الشرطة. ولم يبق أمام النظام من ملجأ سوى نزول الجيش، قوة الأمن الاحتياطيّة الاستراتيجيّة، مما يطرح الاحتمال الثانى بذبح الثورة. جرت تجارب لمحاولة النظام القديم ذبح الثورة تمثَّلت فى "موقعة الجمل" فى 2 فبراير، وفى اختراق طائرات السوخوى لحاجز الصوت فوق المتظاهرين فى ميدان التحرير لإرهابهم وترويعهم. هنا كان يجب على النظام القديم أن يتخذ قراراً بالإقدام على ذبح الثورة أم يُقَدم تنازلات جوهرية؟ أورد الكاتب "مصطفى بكرى" فى كتابه عن الثورة نقاشا هاما نشأ بين "مبارك" والفريق "طنطاوى" وزير الدفاع أثناء أيام الثورة، بدا فيها "انحياز مبارك" لقمع الثورة بينما تَحَفَّظَ "طنطاوى" على هذا التكتيك. قال مبارك: ليس أمامك سوى أن تحمى الشرعية (حماية النظام القائم بذبح الثورة) أو أن "تشيل إنت الشيلة"، بما يعنى عزل "مبارك" وتولى المجلس العسكرى السلطة ومسؤولية مواجهة الوضع!.
بالطبع يمكن لثورة أن تُذبح، وكم حدث هذا فى التاريخ، ولكن هذا لا يمر بسهولة، سواء من زاوية تأثير هذا على وعى الشعب الذى يسترجع قواه لثورة أشد فيما بعد، أو فى احتمال تأثير تلك المذبحة على انشقاق القوات المُكَلَّفة بالمذبحة وانضمام جزء منها للشعب.
ولهذا كان مسار ثورة يناير هو المسار الثالث الذى تم بالفعل: قرار النظام القديم بتقديم تنازلات جوهريّة للثورة، بالضغط على مبارك للاستقالة والاستجابة لمطالب الثوار. لكن هذا لم يكن نهاية للثورة ولا للنظام القديم، فالمعركة بينهما معركة بالنقاط وليست مباراة تنتهى بسهولة بالضربة القاضية الفنية فى جولة واحدة.
مسار الثورة بعد عزل مبارك:
يمكن تقسيم الفترة منذ عزل مبارك وحتى الآن إلى أربع مراحل.
 امتدت المرحلة الأولى لمدة عام من فبراير 2011 وحتى فبراير 2012، وبرز فيها تحالف "المجلس العسكرى" مع "الإخوان".
 والمرحلة الثانية هى مرحلة صدام "المجلس العسكرى" مع "الإخوان"، الذى بدأ منذ فبراير 2012 ليصل إلى ذروته بعزل مرسى بثورة 30 يونيو 2013.
 أما المرحلة الثالثة فهى مرحلة الخلاف السياسى الكبير الذى حدث بين النظام وبين أمريكا والغرب فى أعقاب إسقاط حكم "الإخوان"، واستمر لمدة عام ونصف من يونيو 2013 وحتى نهاية عام 2014.
 وتبدأ المرحلة الرابعة، مرحلة استعادة تثبيت أركان النظام القديم، والممتدة منذ أول عام 2015 وحتى الآن.
مرحلة تعاون المجلس العسكرى والإخوان
لعب المجلس العسكرى وأجهزة الأمن المختلفة، وهى محترفة فى هذا المجال، الدور الرئيسى. وبينما كان يسود انطباع لدى الجماهير بأن مهمة الجيش الوحيدة هى الدفاع عن حدود الوطن، فإن الواقع مختلف بعض الشيئ: فالذى يُدَرَّس فى مدارس أركان الحرب هو "نظرية الأمن القومى"، ومهمة الجيش هى الدفاع عن كل المخاطر التى تهدد الوطن/ النظام، سواء من العدو الخارجى أو من الثورات الداخلية التى تسعى إلى تغيير النظام. كما يُدَرَّس أيضا "علم" مواجهة الثورات: إما بالقمع أو الاحتواء والتبريد.
صبيحة تنحية "مبارك" تم الإعلان عن عدم حل مجلس الشعب، وكأن الاكتفاء بعزل "مبارك" وتحية الثوار هو آخر تنازلات النظام القديم أمام الثورة. حدد "المجلس العسكرى" فى الأيام القليلة التالية ما هو مستعد لتقديمه من تنازلات، ورأى وحده أنها كافية، وتتمثّل فيما أعلنه من تحديد مدة الرئاسة بمدتين فقط تمتد كل منهما لمدة أربع سنوات. بالطبع لم يُقنِع هذا الثوار: قررت الحكومة فوراً حل "مجلس الشعب" الذى تم انتخابه بالتزوير الفج قبل ثلاثة أشهر، على يد "أحمد" عز وزبانية لجنة السياسات.
ولكن لم تتم الاستجابة لمطالب الثورة فى عزل وزارة "أحمد شفيق" إلا بعد نحو الشهر، وبعد مليونيتى 25 فبراير و4 مارس التى هدد الشعب فيها بالاعتصام فى التحرير إذا لم يتم عزل رئيس الوزراء، فصدر قرار إقالته فى 3 مارس!
وبالمثل اقتضى الأمر مليونيتين فى 1 و8 إبريل، لكى يتم استباق مليونية 8 إبريل بإصدار قرار تحديد إقامة "مبارك"، والقبض على أبنائه وعلى كبار رجال نظامه شاملاً رئيس الوزراء "نظيف" ورئيس مجلس الشعب "فتحى سرور" وغيرهم، عن طريق تحقيق هدف المليونية القادمة.
وجاءت أكبر موجة ثورية فى يوليو واعتصام التحرير لكى يجبر النظام على حل المحليات، وعلى السير أسرع فى المحاكمات، (على الأقل من حيث الشكل بعد التباطؤ) واستدعاء "مبارك" من شرم الشيخ وحبسه فى المستشفى فى القاهرة.
ستة أشهر من المعركة بالنقاط بين الشعب الثائر والنظام القديم كسب الشعب فيهم عدداً من التنازلات، بينما استمرت جهود الدولة العميقة فى تكتيك "تبريد الثورة"، ومحاولة حصر التنازلات فى أضيق الحدود. كانت أقسى الفترات على الثورة هى فترة تعاون "المجلس العسكرى" مع "الإخوان" بعد الثورة وحتى فبراير 2012، والتى قدّمت فيها قوى الثورة أشد أنواع الصمود والبسالة فى المواجهات الدامية، فى "العباسية" و"ماسبيرو" و"محمد محمود" و"مجلس الوزراء"، طوال النصف الثانى من عام 2011.
لجأ النظام القديم فى مواجهة الثورة للتحالف مع قوة رجعية ولكنها ذات جماهيرية هى "الإخوان المسلمين" والإسلام السياسى. بدأ هذا بتغيير "لجنة التعديلات الدستورية" لكى يرأسها ويدخل فى عضويتها أعضاء تابعون للتيار الإسلامى، ثم تعاون "الإخوان" والنظام القديم فى الاستفتاء فى 19 مارس، متفقين على أن تكون الانتخابات أولاً قبل الدستور، فحازت المعارضة نحو ربع الأصوات بينما كسب النظام القديم والإسلام السياسى الثلاثة أرباع.
فى انتخابات مجلس الشعب فى نوفمبر 2011 ترك "المجلس العسكرى" الحبل على الغارب لت"الإخوان" والإسلام السياسى، لممارسة الدعاية والتجاوزات فى الشارع حتى خلال فترات الصمت الانتخابى، وإلى حد ممارسة البلطجة داخل اللجان الانتخابية. برز تحالف "الإخوان" و"المجلس العسكرى" حيث قدَّم "الإخوان" الدعم السياسى للنظام بمقاومة الثوار فى الشارع، وسهَّل "المجلس العسكرى" لهم التمكن من السلطة التشريعية، كان تكتيك "المجلس العسكرى" هو مواجهة الثورة بالتحالف مع قسم من الطبقات المالكة الكبيرة لم يكن مشاركاً فى السلطة السياسية، من قبل تيار الإسلام السياسى، فى مقابل مساعدة "الإخوان" له فى مواجهة الثوار.
كانت الشروط المستنتجة من السلوك الفعلى لكل من "المجلس العسكرى" و"الإخوان" هى أن يتعاونوا لاستعادة الاستقرار والنظام القديم والتحجيم التدريجى للثورة، وعلى أساس أن "المجلس العسكرى" قد وافق على إشراك "الإخوان" فى السلطة بنصيب أغلبية السلطة التشريعية، على أن تترك السلطة التنفيذية ذات الثقل الأهم فى كل دولة تخلو من الحريات لكى يحددها المجلس العسكرى، وبالذات المتمثلة فى منصب رئيس الجمهورية.
وتعهد مرشد الإخوان "محمد بديع"، تعهداً صريحاً فى صيف 2011، فى سياق حديثه عن موقف "الإخوان" من الانتخابات الرئاسية، بألا يُقَدِّموا مرشحاً لرئاسة الجمهورية. "تقطع أصابعى ولا أعود فى عهدٍ قطعتهُ على نفسى". كانت النتيجة أن حاز "الإخوان" حوالى 44% من مقاعد مجلس الشعب، والسلفيين 22%، ليصبح للإسلاميين 66% من المقاعد، فى أول انتخابات بعد الثورة فى نوفمبر 2011.
تصاعد الصدام بين "الإخوان" والسلطة الممثلة فى "الدولة العميقة":
استمرت تلك الفترة من بدء عام 2012 وحتى سقوط "الإخوان" فى يونيو 2013. بدأ "الإخوان" فى نقض الصفقة بعد أن اغترّوا بنفوذهم فى البرلمان وبعمق علاقتهم بأمريكا، وقرّروا اقتحام السلطة التنفيذية بجانب استيلائهم على السلطة التشريعية. فى فبراير 2012 طالبوا بأربع وزارات فى التشكيل الوزارى، ثم قرّروا المنافسة بمرشح رئاسى، "خيرت الشاطر" أولا ثم "محمد مرسى".
وقف "المجلس العسكرى فى مواجهتهم"، وفى معركة الإعادة للانتخابات الرئاسية بين "أحمد شفيق"، مرشح "المجلس العسكرى" وبين "محمد مرسى" مرشح "الإخوان" والاتجاهات الإسلامية، تدخّلت الولايات المتحدة للضغط بكل قوة من أجل إنجاح "مرسى"، إلى درجة التهديد بتكوين لجنة من أعضاء الكونجرس الأمريكية، تطالب بوقف المعونة العسكرية لمصر، إلى حين تقديم كشف حساب بأوجه إنفاق تلك المعونة خلال الأعوام الأربعة والعشرين السابقة! وما أن تحقق المطلب الأمريكى بإعلان نجاح مرسى حتى انتهت لجنة الكونجرس، وأعلنت الحكومة الأمريكية أنه ليس من سياستها التدخل فى الأمور الداخلية مثل أوجّه صرف المعونة العسكرية!
حصَّن "المجلس العسكرى" نفسه بإعلان دستورى يجعل تعيين وزير الدفاع فى يده وحده، ولا يملك رئيس الجمهورية فرضه على المجلس. طمح "المجلس العسكرى" بأن "الإخوان" سيشاركون مع النظام القديم على الأسس المشتركة بينهما، والتى لا تتضمن ديمقراطية عميقة، ولا تتناقض مع السياسات الليبرالية الاقتصادية. إلا أن "الإخوان" كان لهم رأى آخر.
لم يكتفِ "الإخوان" بالمشاركة مع النظام القديم، وفى القلب منه "المجلس العسكرى"، فى السلطة، بل سعىوا للانفراد بها. قام "مرسى" بإلغاء إعلان المجلس"المجلس العسكرى" الدستورى، وانتهز فرصة الاعتداء الإرهابى على قوات مصرية فى سيناء لعزل "المجلس العسكرى"، وقام بتعيين وزير للدفاع، "عبد الفتاح السيسى"، وفق تصور أنه الأكثر قُرباً له نسبياً من "طنطاوى" وباقى أعضاء المجلس. ثم قام "مرسى" بإصدار إعلانه الدستورى فى 22 نوفمبر 2012 مُعلناً الحرب على السلطة القضائية، التى أصدرت حكماً بحل "البرلمان" الإخوانى فى يونيو 2012. قام "الإخوان"، لبسط سيطرتهم على القضاء، بمحاولة عزل أغلبية القضاه، عن طريق تخفيض سن الإحالة للمعاش، وتعيين محامين من "الجماعة" محلّهم. كما أعلن نظام "الإخوان" الحرب على الإعلام، وقاموا بحصار "مدينة الإنتاج الإعلامى". كما شرعوا فى تنفيذ "مخطط التمكين" و"أخونة" الدولة، بتعيين ثلاثة عشر ألفاً من أعوانهم، فى وزارتىّ التعليم والمحليات وبعض الأماكن الأخرى، وهم المتحكمون فى تشكيل لجان الانتخابات.
لقد اتضح مخطط "الإخوان" بالسعى للانفراد بالحكم، و"أخونة" جهاز الدولة، وتصفية كل معارضة، ومحاولة تأسيس دولة للخلافة الإسلامية بما يعنه هذا من تدمير الدولة المدنية الحديثة فى مصر. وحاول "الإخوان" بسط سيطرتهم على أجهزة الأمن مثل المخابرات وأمن الدولة. بل سرَّبت صحف معارضة مصرية فى تلك الفترة نبأ تنظيم "الإخوان" لمعسكر سرِّى لتدريب آلاف المقاتلين، يضافون إلى ميليشياتهم المسلّحة استعداداً لمواجهة محتملة مع الجيش. بالطبع لم يكونوا يتخيلون أن بإمكانهم هزيمة الجيش فى معركة مكشوفة، ولكن يكفى أن تنشأ معركة قويّة بشكل يُمَكَّن الغرب من التدخّل تدخّلاَ عسكرياً مسلحاً لنصرتهم وتثبيتهم فى الحكم وانفرادهم به، لتأسيس استبدادية "إسلامية" على غرار ما جرى فى ليبيا وسوريا.
أدرك "المجلس العسكرى" متأخراُ فشل تكتيك التحالف مع "الإخوان" وتيارات الإسلام السياسى لترويض الثورة، كما أدركوا تآمرهم مع مخطط تفتيت مصر والوطن العربى بالمشاركة مع الغرب. وذُكِر أن عدد الإرهابيين الذين وطَّنهم "مرسى" فى سيناء وصل إلى ثلاثين ألفاً من المصريين ومختلف جنسيات العالم، أتوا من إرهابيى الجماعات الإسلامية الذين أصدر "مرسى" عفوا عن المسجونين منهم وأرسلهم إلى سيناء، والإرهابيين القادمين من ليبيا، ومن غزة عبر أنفاق "حماس"، و"من العائدين من أفغانستان" غير عناصرهم المحليّة من مختلف القوى.
انفجرت حركة شعبية ضد "الإخوان" فى جميع أنحاء مصر عملت على عرقلة مخططاتهم ومواجهتها. انعكس إدراك "المجلس العسكرى" لطبيعة المخطط الإخوانى الاستعمارى، على تخفيف قمع الحركة الجماهيرية. وأدى افتضاح مخطط "الإخوان" إلى تراخى القبضة الأمنية فى مواجهة الاحتجاجات الجماهيرية ضد "مرسى" نظامه.
نشأ فى تلك الفترة نوع من العمل المشترك أو وحدة الهدف المؤقتة بين "الدولة العميقة" وأجهزتها وبين الحركة الجماهيرية المعادية لاستبداد "الإخوان"، حيث رأت الجماهير فيهم العدو الرئيسى فى تلك الفترة. كان العمل المشترك ضد "الإخوان" مفيداً للطرفين: فإن مواجهة الحركة الجماهيرية وحدها لحكم الإخوان والإسلاميين شديدى التنظيم، والذى يتجاوز تنظيمهم العسكرى ربما عشرات الآلاف من الشباب المدربين والمسلحين، يقتضى وقتاً طويلاً وجهوداً جبارة وتضحيات جمّة، بينما لم يكن من الممكن، فى ظل سطوة الغرب الذى ساهم فى فرض هيمنة "الإخوان" والإسلام السياسى، إزاحتهما بانقلاب عسكرى، وإلا كان هذا الانقلاب مُبرراً للتدخل الأجنبى.
منذ إعلان "مرسى" الدستورى، فى نوفمبر 2012، نشأت "جبهة الإنقاذ" وشملت التيارات اليسارية والجماهيرية والتيارات الليبرالية وشخصيات قريبة من السلطة القديمة. ونشأت حركة "تمرد" فى أبريل 2013، وجمعت أكثر من عشرين مليون توقيع بعزل "مرسى" وإسقاط دولة "الإخوان". وكانت ذروة تلك المرحلة هى ثورة 30 يونيو 2013 التى أطاحت بسلطتهم.
مرحلة إسقاط الإخوان والشقاق بين النظام والغرب
استمرت تلك الفترة لمدة عام ونصف من يونيو 2013 وحتى نهاية 2014. بعد ثورة 30 يونيو حدث صدام مسلح بين النظام و"الإخوان" فى اعتصامى "رابعة" و"النهضة" المدججين بالسلاح، بالإضافة إلى تفجُّر الإرهاب فى سيناء وفى كافة أرجاء القطر. وشن الغرب كله بزعامة أمريكا حملة شعواء لإدانة ما أسموه بـ "الانقلاب العسكرى"، وتنحية الرئيس "الشرعى" المنتخب ديمقراطياً. وضغط الغرب بكل الوسائل الاقتصادية والسياسية والإعلامية على النظام القائم لإعادة "الإخوان" للحكم، ثم على الأقل فيما بعد، للمصالحة معها، بينما وقف الشعب بمعظمه ضد استعادة حكم الإرهاب الإخوانى.
وقد أدى التوازن السياسى والاجتماعى الذى أعقب 30 يونيو إلى تعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا، المستشار "عدلى منصور"، رئيساً للجمهورية، كما جاء بالدكتور "حازم الببلاوى" رئيسا لوزارة تقاسم عضويتها رجال "مبارك" والعهد السابق، والمعارضة الليبرالية أيام "مبارك" التى تجسدت فى أحزاب "الدستور" و"المصرى الديمقراطى الاجتماعى"، حيث تمثل الحزب الأول بنائب رئيس الجمهورية الدكتور "محمد البرادعى" بينما تميز الحزب الثانى باحتلال موقع رئيس ونائب رئيس الوزراء، " دكتور حازم الببلاوى"، و"دكتور زياد بهاء الدين"، بالإضافة إلى قلة نادرة من ممثلى أحزاب شعبية. جسَّدت تلك الوزارة محاولة "المجلس العسكرى" والدولة العميقة التحالف مع قسم آخر من المعارضة، المعارضة الليبرالية، حيث توسموا فيهم عدم الاختلاف معهم، لا على الالتزام بالليبرالية الاقتصادية وسياسة السوق الحر، ولا على الحدود التى يحاولون جميعا فرضها على الديمقراطية، وتقليصها إلى حدود الانتخابات البرلمانية، والحريات المحدودة، التى تستبعد الحريات الجماهيرية المتمثلة فى حقوق التنظيم والاجتماع والتظاهر والإضراب، وغيرها.
ترددت فئات من التحالف الحاكم الجديد فى الحسم العسكرى للاعتصامين المسلحين فى "رابعة" و"النهضة"، وساهم فى هذا التردد أعضاء الحزبين الليبراليين، "الدستور" و"المصرى الديمقراطى الاجتماعى". ومعروف دور "البرادعى" وموقفه من الإخوان، بل واستقالته من منصب نائب رئيس الجمهورية، وخروجه من مصر، ومهاجمة النظام من الخارج بعد فض الاعتصامين، وكذلك الدور اللاحق لـ "زياد بهاء الدين"، والمبادرة التى قدّمها للصلح مع "الإخوان" فى قمة اصطدام الإرهاب الإسلامى مع النظام، وسط تأييد الشعب للقوات المسلحة فى مواجهتها ضد الإرهاب، والتى أيد فيها الشعب بدون تحفظ تكتيك تصفيتة.
بدا تأثير هذا التردد فى تأخير تصفية الاعتصامين المسلحين لمدة شهر ونصف، مما مكّنَ الإرهاب من دعم صفوفه وتسَليح فيها نفسه جيداً، وأقام التحصينات الخرسانية! واحتاج حسم هذا التردد إلى لجوء السيسى للشعب لمنحه تفويضاً، وهو ما أدى لخروج مليونية فى 26 يوليو مع تصفية الإرهاب. خاض النظام معارك قاسية ضد الإرهاب الإسلامى فى سيناء وعلى ساحة القطر كله، وتحمّل أقباط الوطن إجرام الإسلاميين المتطرفين وهجومهم على الكنائس وحرقها، وقال "البابا تواضروس" قولته الوطنية الباسلة حول "إن وطناً بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن".
فى ظل هذا التوازن الاجتماعى، برز نضج الشعب، الذى آثر، رغم عدم تحقيق أهداف ثورته كاملةً، الُبعد عن أشكال التحركات الثورية من مظاهرات ومليونيات واحتجاجات جماهيرية واسعة، تاركاً الساحة أمام الحُكم لمواجهة عنف الإرهاب. تميّزت تلك الفترة بنوع من ديمقراطية الأمر الواقع، حيث اتسع فيها نشاط الأحزاب المُشهرة وتلك التى تحت التأسيس، وانتشرت النقابات المستقلة العمالـيّة والمهنيّة، وساد نوع من الهدوء والارتياح المجتمعى، بالابتعاد عن مناخ العنف السلطوى ضد القوى الثورية، الذى عَـمَّ فى النصف الثانى من عام 2011، ويبتعد بالتأكيد عن عنف واستبداد "الإخوان المسلمين" وقت حُكم "مرسى".
كانت قمة مكاسب تلك الفترة هى الدستور الذى أُقرَّ فى يناير 2014، وهو أفضل دستور فى تاريخ مصر من زاوية إقراره بأوسع حريات قياساً لما سبق، وهى تشمل: حق تشكيل الأحزاب والنقابات والجمعيات بالإخطار، مع تأمين حقوق الاجتماع والتظاهر والإضراب، وكذلك من زاوية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للجماهير، التى شملت الحق فى التعليم والصحة والسكن والتأمين الاجتماعى والعدالة الضريبية بإقرار ضرائب تصاعدية. بالطبع تأتى تلك التنازلات فى إطار صراع قوى الثورة مع النظام القديم، الذى كان يحاول تقليص التنازلات للثورة فى أضيق الحدود، ولكن ميزان القوى آنذاك كان يتميز أيضا باحتياج النظام لتأييد الجماهير له، بالذات فى معركته مع الإرهاب، وفى الصراع الخارجى ضد الغرب الذى عادى النظام بشدة مؤيدا لنظام الإرهاب الإخوانى المخلوع.
ولم يكن الإقرار بتلك المكاسب للشعب فى الدستور ضمانة لتحققها بالطبع، فقد كانت هناك مرحلة تحويل تلك القواعد الدستورية إلى قوانين تشريعية، ثم تفعيل تنفيذ تلك القوانين، وهو ما لم يحدث بعد ذلك، إلا أن كسب حلقة الدستور يُعَدّ مكسبا هاما للشعب يدعمه فى نضاله اللاحق. تمكن النظام بفضل سياسته تلك فى تحقيق انجازات كبيرة فى استقرار نظام حكمه، فقد تم تحجيم الإرهاب حتى تقلص حجمه تدريجيا طوال عام 2014، كما نجح فى إجراء انتخابات رئاسية فاز فيها الرئيس "السيسى" بأغلبية ساحقة (97%)، وتم انتخاب مجلس النواب الجديد.
يهمُنا هنا ملاحظة مغزى حل حكومة التحالف مع الليبراليين، حكومة الدكتور "حازم الببلاوى"، وتعيين حكومة تكنوقراط برئاسة المنهدس "إبراهيم محلب" فى فبراير 2014. السبب الرئيسى فى فض هذا التحالف فى رأينا هو نشاط القوى الليبرالية فى السعى للمصالحة مع "الإخوان"، وتقليل التناقض بين النظام وبين الإسلام السياسى من ناحية، والغرب الاستعمارى الذى يضغط من أجل هذه الغاية من ناحية أخرى.
دخل النظام فى تناقض وشِقاق هام مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، بسبب من تأييدهما لـ "الإخوان" رغم علاقاته السياسية الاقتصادية الوثيقة التابعة لهذا الغرب. لقد ارتبط النظام المصرى بالغرب سياسياً واقتصادياً وعسكرياً على نحو وثيق ومتزايد منذ تبنى سياسة الانفتاح والسلام مع إسرائيل بدءا من العام 1974. وقد برز هذا التناقض عندما اكتشف النظام أن الغرب قد قرَّرَ استبداله بنظام "الإخوان" والإسلام السياسى، واعتزامهما تفتيت الوطن العربى قومياً وعرقياً ودينياً.
وفى المقابل استند النظام فى مواجهة الغرب إلى مساندة دول الخليج. كان سبب وقوف الأنظمة الخليجية مع النظام هو إدراكها أن أمريكا والغرب قد دعما الاتجاهات الإسلامية للوصول للسلطة فى دول الخليج أيضاً، رغم علاقتها الوثيقة بالغرب وأمريكا، وتم الكشف عن خلية إخوانية إماراتية مصرية تعمل داخل الإمارات لقلب نظام الحكم، كما تسربت معلومات عن كشف اختراق إخوانى فى العائلة المالكة السعودية.
وقد استفاد النظام المصرى من بزوغ العالم المتعدد الأقطاب ودور روسيا والصين، فاستعان بهما لمواجهة الحصار الغربى، وعَقَدَ اتفاقيات تسليح متقدم مع روسيا شملت صواريخ 300) ـSS (، و(ميج 29)، غير اتفاقيات مفاعلات توليد القوى الكهربية النووية. وهذا لم يكن يعنى طلاقاً دائماً بين النظام وأمريكا والغرب، لكنه تناقض هام ترتّبَ عليه ظواهر سياسية شديدة الأهمية كما سنرى.

مرحلة العودة لتعميق التبعية للغرب من باب الأزمة الاقتصادية، والاستعادة التدريجية للنظام القديم
خلال المرحلة التى مضت، من ثورة يونيو 2013 وحتى نهاية 2014، كان النظام قد ثبَّت أقدامه وحقق انتصارات ضخمة على الإرهاب حجَّمته بشدة. كما كان النظام قد استفاد من التأييد الداخلى له فى أعقاب الإطاحة بـ "الإخوان"، بالإضافة إلى معركته ضد الإرهاب، التى أشعرت الشعب المصرى أنه بلاده أوشكت أن تنزلق إلى مصير ليبيا وسوريا، فأيَّد النظام وتوقفت أنشطة الثورة، بما سمح بتمكن النظام من تأسيس شرعيته بعد إقرار الدستور فى يناير 2014، وإنجاز الانتخابات الرئاسية فى يونيو 2014، ثم الانتخابات البرلمانية أواخر العام.
قرر الغرب منذ أوائل عام 2015 تغيير تكتيكه تجاه النظام المصرى، بعد أن وجد استحالة فعلية لإعادة "الإخوان" للحكم، أو حتى للإفراج عنهم وعودتهم لممارسة الحياة السياسية فى المدى المباشر، بسبب توازن القوى الجديد فى المحتمع والهزائم التى لحقت بالإرهاب، بالإضافة إلى قدرة النظام على تثبيت وضعه الداخلى والدولى. وقد وجد أن النظام يوغل بعيدا عنه نسبيا فى علاقاته بالقوى البازغة الجديدة. قرر الغرب أن يستعيد علاقات أقوى مع النظام، فأعطى الضوء الأخضر لمؤسسات التمويل الدولية، بالذات "البنك الدولى" و"صندوق النقد الدولى"، لاستئناف العلاقات الاقتصادية مع مصر، مُدركا ومُستفيداً من عُمق الأزمة الاقتصادية التى تمر بها.
استجابت مصر بحماسة وتلقّت عدة مليارات من القروض لمشروعات من "البنك الدولى" خلال الشهرين الأولين من عام 2015، ومهَّدَ هذا الوضع للاتفاق مع المؤسسات الدولية، انتهاءً بالاتفاق مع "صندوق النقد الدولى" عام ،2016 على نحو ما سيتم تفصيله لاحقا فى القسم الاقتصادى.
لقد كان محصلة ما تم فى تلك المراحل على المستوى السياسى، وكذلك الاقتصادى،هو استعادة معظم ملامح النظام السابق. ليست فقط عبر استرجاع أسس نظام مبارك بوجوهٍ جديدة، ولكن أيضاً بالاستفادة من كل عناصر قوة النظام الحالى من زاوية الوضع الدولى، والسماح الشعبى له بالعمل بدرجة من الحرية نتيجةً للصدام مع الإرهاب، لمواجهة وتصفية ما اعتبره النظام العناصر التى مَهَّدت لثورة 25 يناير.
وقد تمت العودة تدريجيا عن الكثير من مقومات ديمقراطية الأمر الواقع التى اكتسبتها الجماهير. واستعادة مسار "نظام مبارك" فى تكثيف الاستغلال، وإفقار جماهير شعبنا، والتمسك بالسياسات "النيوليبرالية"، والخضوع لمؤسسات التمويل الدولية.
وكذلك فقد تم حصار التجربة الحزبيّة، وعَدَلَ النظام عن الترخيص لأحزاب جديدة. كما تم الهجوم على ما سُمِّىَ بـ "الأحزاب الكرتونية"، واستعادت لجنة الأحزاب نفوذها المباركى لكى ترفض أحزاباً بدعاوٍ شكليّة، مثل "تماثل برامجها مع برامج قائمة". وانتشرت فى الدوائر البرلمانيّة والإعلاميَة المواليَة للنظام، دعوة فاشية لدمج الأحزاب فى عدد محدود (حزبين معارضين إلى ما لا يتجاوز العشرة!) لكى تزداد فاعليتها(؟!) كما نشَّطت أجهزة الأمن، استعانة بخبراتها منذ عهد "مبارك"، فى التخريب الداخلى للإحزاب، واصطناع انشقاقات فى أحزاب المعارضة الرئيسية.
كما تم حصار تجربة التعدديّة النقابيّة، والتضييق الكامل على التحركات والحريات العمالـيّة، وهو ما أدى فى النهاية إلى أن يظل على قمة هرم التنظيم النقابى العمالى نفس القادة النقابيين الصُفر، الذين عهدناهم فى أغلب العهود السابقة، كما أتوا أيضاً بأنجالهم!
وكذلك فقد تم الهجوم على النقابات المهنيّة المعارضة بقسوة، وتغيير بعض قياداتها بحشد أعضاء النقابات من العاملين فى مؤسسات الدولة وفى القوات المسلحة، على نحو ما تم فى نقابات الصحفيين والمهندسين والأطباء، لمحاصرة نفوذ المعارضين أو استئصاله إذا أمكن!
ومن جهة أخرى فقد جرى حصار وترويض الإعلام بوسائل متعددة، وتصعيد الحملات الإعلاميّة التى تستهدف حريّة الصحافة، وتُحَرِّضُ ضد الآراء التى تنتقد برامج النظام. وتم السيطرة على وسائل الإعلام من صحافة وقنوات فضائية، لإغلاقها أمام الآراء المعارِضة التى كانت تجد مجالاً لها فى تلك الصحف أو القنوات التلفزيونية. وكذلك تم حظر ظهور معظم رموز المعارضة، الذين احتلوا مساحات بارزة فى إعلام ما بعد الثورة. كما تم تكوين وتفعيل "المجلس الأعلى للإعلام"، ويتبعه "الهيئة الوطنية للإعلام" و"الهيئة الوطنية للصحافة"، لكى يمارسا دورها الرقابى فى تضييق الخناق على حريّة الرأى والتعبير وحصارهما.
وأيضا فقد تم سنُّ قوانين جديدة لتقييد شديد لحريات التعبير على الإنترنت، وحتى على الحسابات الشخصية للأفراد. ونشطت وتوسعت أجهزة الأمن فى إلقاء القبض على الكثير من الشباب والناشطين، وعادت الانتهاكات الأمنيّة للسلامة الشخصيّة للعديد من المقبوض عليهم، سياسياً أو جنائياً، فى ممارسات استبداديّة، استدعت صور أسوأ ممارسات عهد "مبارك" فى السجون وأقسام البوليس. بل تم أيضا التوسع فى استخدام "الحبس الاحتياطى" على ذمة القضايا، حتى صارت عقوبةً فى حد ذاتها، بزيادة مُدَّتِه إلى 24 شهراً، بل تم تجاوزها فى أحيان عديدة، لكى تتحول إلى ما يشبه اعتقال مُقّنَع دون سند من القانون.
نجحت النظام فى استعادة معظم بنود استبداد النظام المباركى، ومعظم جوانب حكمه المعادى للشعب. ليس هذا فحسب، بل جرى تجاوز حدود الكثير من الإجراءات الاستبداديّة التى سادت فى عهد "مبارك" الديكتاتورى والانتقال إلى إجراءات أكثر استبداداً بكثر. التفسير المقبول لذلك هو أن "مبارك" قد وصل إلى الحكم بعد أن قامت قوى الإرهاب الإسلامى الاستبدادية باغتيال "السادات"، لذا كان من المنطقى أن يلجأ، من أجل تثبيت شرعيته وحصار نفوذ التيار الإرهابى الإسلامى ـ جهة التهديد الأساسية لحكمه ـ إلى استعادة تجربة "السادات"، (1974-1977) فى التعدديّة المقيَّدة، فيُخرج قادة الرأى والأحزاب من السجن إلى القصر الجمهورىّ، فى حركةٍ مسرحّية، ثم يلجأ إلى نوع من المحاولات الحكومية لإتاحة المجال نسبياً، لمواجهة فكر الإرهاب، عن طريق التوسُّع فى الإعلام وإنشاء قنوات إعلامية إقليمية فى كل المحافظات، لكى تزيد عدد القنوات التلفزيونية المحليّة من ثلاثة إلى ثمانيّة، وتنفيذ مشروعات ثقافيّة من نوع "مكتبة الأسرة" وغيرها. كل هذا فى إطار تكثيف القمع ضد الإرهاب الإسلامى، ومغازلة المعارضة المدنيّة، دون تجاوز حدود التعدديّة المُقَـيّـدة، ودون الوصول بها حتى إلى ما يشبه الممارسة الديمقراطية المعروفة.
أما النظام الحالى فقد وصل إلى السلطة، وتمكَّنّ من تثبيت أقدامه فيها، فى أعقاب ثورتين شعبيتين هائلتين، فى ظل الاقتناع بأن ما هدَّدَ استقرار حكم "مبارك" وتسبب فى الثورة عليه، هو درجة سماحه ببعض الحريات للمعارضة. وقد توصلت قراءة النظام الحالى لأسباب الثورة وممهداتها، والتى يسعى إلى منعها لضمان تأمين نظامه من أى ثورة مُقبلة، إلى أن درجة حرية التعبير النسبى، التى انتزعتها الحركة الجماهيرية والسياسية بجهودها وتضحياتها، أواخر عهد "مبارك" كانت أهم العوامل التى مهَّدت لانفجار الثورة. كما أوضحت رؤى وكتابات إعلاميين وصحفيين، موالين للنظام، عن انتقاد كبير لـ "تَسَيُّب" "مبارك"، وإتاحته قدراً من الحريات التى سمحت بنشوء حركة مثل "كفاية"، وظهور معارضين فى وسائل الإعلام، وتوافر منابر لعرض آرائهم مثل نقابة الصحفيين وغيرها، لذا عمل النظام بدأبٍ شديد، عبر الفترة التى نتحدث عنها، 2015 وحتى الآن، لقطع الطريق على هذا القدر المحدود من الممارسات السياسيّة، واستعادة أوضاع الديكتاتوريّة.
وفى مجلس النوّاب جرى تمرير كل برامج وسياسات الحكم، وإسباغ شرعية شكلـيّة عليها، كما تصاعدت أيضا وتيرة إرهاب النوّاب المعارضين والتهديد بفصلهم. ثم انتقل الهجوم إلى دستور عام 2014، الذى أقرّه الشعب بأغلبية حاسمة، حيث جرى انتقاده بزعم أنه "تم عمله بحسن نية"!، وتصاعدت حملات التهيئة لتمرير تعديلات دستوريّة جديدة، على حساب المكاسب الديمقراطيّة وحقوق الشعب الاقتصاديّة والاجتماعيّة التى ضمنها الدستور، رغم أنها لم تُفَعَّل أو تترجم إلى قوانين وتشريعات وسلوك حكومى، ولصالح تمديد فترات الرئاسة، كما يبدو من التمهيدات الإعلامية للدوائر القريبة من النظام.
الإرهاب ومواجهته
لايرجع بروز الظاهرة الإرهابية فى مصر، إلى النتائج التى ترتبت عل إزاحة حكم جماعة الإخوان، فى 30 يونيو 2013، وإنما إلى بداية حقبة السبعينات من القرن الماضى حينما تواطأ نظام الرئيس الأسبق "أنور السادات"، مع جماعة "الإخوان المسلمين"، لاستخدامهم فى حربه ضد اليسار والناصريين، فأطلق سراحهم من السجون، وأعاد لهم الأموال والمقار المُصَادرة، وسمح لهم باستئناف الإصدار الدينى- السياسى لمجلتهم "الدعوة"، وإعطائهم حرية حركة واسعة على المستويين: السياسي والاقتصادي، حتى تمكَّنوا من التغول داخل العديد من مؤسسات التعليم، وسيطروا على الجامعات واتحادات الطلاب، واخترقوا الكثير من مؤسسات الدولة، وتغلغلوا فىى العديد من الوزارات، وهيمنوا على النقابات المهنيّة، وتوسعوا إلى حد غير مسبوق فى النشاط الاقتصادى.
ساعدهم على هذا التغلغل الفكرى الفراغ الإيديولوجى الناجم عن وصول انتكاس مرحلة التحرر الوطنى وفكرها، وضعف وقمع الفكر التقدمى طوال عقود، فساد الغموض الإيديولوجى، وانتشرت العودة للأصول" الدينية والإثنية فى أقصى معانيها تخلفا.
كما راكموا المليارات، بدعمٍ واضحٍ، ومقبولٍ من السلطات، لهم وللجماعات المتطرفة الأخرى، وخاصةً "السلفيين"، من دول النفط (وبالذات المملكة السعودية)، وسمحت لهم الأجهزة بالعمل دون عوائق، فنشروا دعوتهم المسمومة فى أرجاء البلاد، بالذات فى مناطق الفقر وأحزمة البؤس، والمناطق المهملة والمُهّشة والنائية، وفى أعماق الريف والصعيد، والتى أصبحت بؤراً للعنف والتكفير!
وجاء اغتيال وزير الأوقاف "الشيخ محمد الذهبى"، ورئيس مجلس الشعب "د. رفعت المحجوب"، كحافز جديد يُبرر دعم النظام للإخوان، بادعاء، أو توهم، أنهم "صمام أمان ضد الإسلاميين المتطرفين"!، وحتى بعد اغتيال "السادات"، فى 6 أكتوبر عام 1981 على يد "إسلاميين"، لم يتوقف النظام عن ممارسة مهادنة جماعة "الإخوان"، وإن تطورت إلى سياسات "الاحتواء"، بعد أن أصبح أمر حصار خطرهم صعب المنال، وتراوحت مسألة الشد والجذب بين الطرفين، حتى استقرّت عند نوع من التقاسم الموضوعى للسلطة الاجتماعية والاقتصادية فى البلاد، وهو ماسمح للإخوان بالتمدد أفقياً ورأسياً، إلى حد التطلع (المشروع، من وجهة نظرها)، إلى حكم البلاد، وهو ماتحقق بعد 25 يناير، فى إطار السعى إلى حصار الثورة وإخماد جذوتها، وبدعم أطراف داخليّة وخارجيّة، على نحو ما تناوله التقرير سابقاً.
وكنتيجةٍ لوضع شبه جزيرة سيناء، تحت الاحتلال بعد حرب 1967، ثم على إثر توقيع اتفاقية "كامب ديفيد"، التى أقَرّت بوجود مناطق فى سيناء لا تخضع لسيطرة مسلحة مصريّة، تسنى لجماعات الإرهاب الإسلامية التمركز والانتشار وتجميع الأنصار وحشد الإمكانات، وساعدها فى ذلك أخطاء متراكمة فى التعامل مع وضع وأهل المنطقة، والفراغ الديموغرافى الكبير الذى هيأ لها الهيمنة على مساحات شاسعة من الأراضى، برضا وقبول إسرائيل!
وفى ظل حكم "الإخوان"، عاد إلى البلاد أكثر من 3000 إرهابى ممن تدربوا واكتسبوا خبرةً قتاليةً كبيرة فى ماسُمّىَ "الجهاد" ضد الجيش السوفيتى فى أفغانستان، بموجب اتفاق "ساداتى ـ سعودى ـ باكستانى ـ أمريكى"، كانوا قد خرجوا إلى جبال "تورا بورا"، وغيرها، بموافقة النظام المصرى، وبإشراف "لجنة الإغاثة الإسلامية"، التى عملت من خلال "نقابة الأطباء"، بقيادة الطبيبين: "عبد المنعم أبو الفتوح"، و"عصام العريان"، على تنظيم عمليات السفر والإعاشة، وبمباركة الجهات الرسمية فى الدولة، والمؤسسة الدينية، والإعلام المصرى فى أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينات!،
ثم أفرج "محمد مرسى"، حين اغتصبت الجماعة حكم البلاد، عن قيادات الجماعات الإرهابية، وأطلق سراحهم من المعتقلات والسجون، لكى تكتمل مقومات حروب الإرهاب والتكفير، التى تفجّرت فى أعقاب الإطاحة بحكم جماعات "الإسلام السياسى" فى 30 يونيو 2018، مدعومة، هذه المرّة، وبشكل علنى، من دول وأجهزة مخابرات (الولايات المتحدة، وتركيا، وقطر وغيرهم)، بهدف هدم استقرار البلاد، وإعادة جماعة "الإخوان" الإرهابيّة إلى سُدّة الحُكم، وفرض وجودهم على الدولة والمجتمع، وهو ماقوبل برفض كبير من عامة المواطنين والدولة، وأدى إلى انفجار الصراع على النحو المعروف.
ورغم عِظم التضحيات التى تقدمها القوات المسلحة والأمن، والثمن الباهظ المدفوع على كل المستويات، لحصار ظاهرة الإرهاب، وتقليص قدراة الجماعات الإرهابية، فقد ظل هناك بعدٌ غائبٌ، بالغ الأهميّة، وضرورى لقطع دابر الإرهاب، واستئصال شأفته، هو البُعد الاجتماعى والفكرى والثقافى.
فظاهرة الإرهاب ترعرعت فى بيئة من الفقر والبؤس والعشوائية والجهل، وفى ظل نظم أدمنت معاداة الحريّة وحاربت استقلال الفكر، ونشرت التسلّط والاستبداد فى ربوع المجتمع، وهو ما يَسَّرَ استغلال الإرهابيين للعاطفة الدينيّة لدى عوام المصريين، بعد أن أجادوا اللعب على فكر وإدراك قطاع كبير من المواطنين، وبالذات الشباب، ومارسوا عملية ممنهجة لتزييف وعيهم، ولاستبدال ثقافتهم التاريخية، وهويتهم الوطنية الجامعة، بأخرى زائفة وهجين، لا تؤمن بالوطن، ولا قداسة أرضه، ولا كرامته وحريته!، وفى هذا السياق يرى حزبنا أن:
• الحفاظ على الدولة الوطنية، وعلى استقرار مكوناتها، والزود عن الهوية الوطنية، والشخصية المصرية بثرائها وتعدد روافدها وعناصرها االحضارية، ضرورة لا بديل عنها، وغاية يتوجب على كل الأطراف الوطنية أن تضعها قيد ناظريها.
• الإيمان بأن دور الشعب المصرى رئيسىّ ولا غنى عنه للانتصار فى المعركة ضد الإرهاب، على نحو مافعل فى مواجهة هزيمة يونيو 1967، وهو ما يستوجب إطلاق حوار مجتمعىّ موضوعىً، وصريح، مع الأحزاب السياسية والمجتمع المدنى والتنظيملت الجماهيرية والنقابات واتحادات الطلاب والتجمعات الشعبية ، ... إلخ، لقطع الطريق على مخططات عصابات التكفير والتخريب.
• تحقيق العدالة الاجتماعية الناجزة، وتوجيه جهد الدولة ومستهدفات الاقتصاد، للتخفيف عن كاهلة، وخدمة الأغلبية الكبرى فيه، من الفقراء والمعدمين ومحدودى الدخل، ضمانة الصمود وتماسك الصف الوطنى، ولسد الثغرات أمام محاولات اختراق الجبهة الداخلية.
• كسب المعركة ضد الإرهاب يحتاج إلى النظر إليها والتفاعل معها باعتبارها "حربا شاملة"، يتطلب الانتصار الحاسم فيها أن تُخاض على كل الجبهات: العسكرية والأمنية والاقتصادية والفكرية والثقافية والدينية والإعلامية، ... إلخ.
• الانتصار فى الحرب ضد الإرهاب يستوجب تجفيف منابعه المتمثلة فى الفقر والأميّة والتخلف والتبعية وتردى نظم التعليم ، ... إلخ، لأن هذه الأوضاع تمثل البيئة الحاضنة للأفكار التكفيرية، وتجنيد الأتباع والأنصار.
• التطبيق الصارم لمبدأ "المواطنة"، والحفاظ على اللُحمة الوطنية، وتنفيذ بنود الدستور التى تُجرِّم التمييز على أساس الدين أو الجنس أو اللون أو العرق، دون تلكؤ أو ميوعة، لأن هذا كله أدوات رئيسية لحسم المعركة ضد الإرهاب.
• ضمان الحريات الخاصة والعامة للقوى والأحزاب السياسية السلميّة، ولكل الأفكار التى تسعى لتطوير الواقع عبر العمل السياسى السلمى، لهو أمرٌ ضرورىّ لحصار بؤر الإرهاب وتقريب لحظة هزيمته.
• الوقوف ضد الفساد والبروقراطية والاستبداد باعتبارها كلها عناصر داعمة للتطرف والتكفير، ولابد من مواجهة هذه الظواهر المخربة، للانتصار فى الحرب ضد الإرهاب!
• الخطاب الدينى الراهن بجموده، وانتشار الفكر السلفى والتكفيرى بين ثنايا مؤسساته، والخطاب الإعلامى بسطحيته وابتذاله، يشكلان بيئة مواتية لانتعاش فكر التطرف والإرهاب، وهو ما يستوجب إعادة النظر الكاملة لمكوناتهما.
خلاصة واستنتاجات
إن برنامج الحزب، أى حزب، ليس مجرد نِقاط ومطالب فى الحريات أو فى قضايا الاستقلال الوطنى أو العدالة الاجتماعيّة، وإن كان يشملها بالضرورة. فبرنامج الحزب هو رؤيته، استراتيجيته وتكتيكه، هو تحليله لتناقضات اللحظة التاريخية الراهنة، وطرح سياسات للخروج منها وتطويرها وصولا لتحقيق آمال شعبنا.
وقد بلورت ثورة 25 يناير أهداف الثورة فى "الديمقراطية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية"، وهى لا تتحقق إلا بالتنمية المستقلة، ونفى التخلف، بما يعنيه من تبعيّة للغرب: سياسيّة واقتصاديّة. وفكريّة واجتماعيّة، والتصدى للعقبات الرئيسية التى تعوق تحقيق المستقبل الذى نرجوه لوطننا.
وإذا كانت اللحظة الراهنة تتسم بإحباطات واسعة بين قطاعات ليست بالقليلة من الشباب والجماهير، فإن مهمتنا الحاسمة تتركّز فى التغلُّب على ذلك الإحباط، بالفهم العلمى لتعقيدات الوضع الراهن، وتحليل تاريخه القريب على الأقل، وفهم كيف نشأ وتطور، ومعرفة السبيل إلى مواجهته، من أجل تطوير اللحظة الراهنة، والتحرّك إلى الأمام. والسلاح الرئيسى فى حالتنا لتفسير ومواجهة الإحباط الراهن هو فهم "قوانين الثورات". ويجدر الإشارة إلى أن قضية الثورة هى قضية السلطة، وأن نجاح الثورة يتمثل فى وصول الثوار إلى السلطة السياسيّة.
فى دراسة غربية وصفيّة للثورات، اتضح أن نسبة الثورات التى تنتهى بوصول الثوار للسلطة لا تتجاوز ثُلث الثورات. ومن هذا الثُلث لا يتجاوز نسبة الثوّار، الذين يحتفظون بالسلطة لأكثر من ثلاث سنوات، ثُلث هذا الثُلث، أى التُسع. لا يعنى هذا بالقطع أن ثمانية أتساع الثورات فاشلة، فالثورة قفزة ضخمة للأمام فى وعى ونضال وحياة الشعوب، يبقى ميراثها دائماً فى الوجدان الجمعى. وقليلة هى الثورات التى تحقق أهدافها بضربة واحدة، ولكنّ كل ثورة تمثل خطوة فى سياق مسار الشعب التاريخى لتحقيق أهدافه.
وتاريخ نضال شعبنا يمنحنا درساً عميقاً عن مفهوم نجاح الثورات فى المدى الزمنى الطويل نسبياً، رغم عدم تحقيق أهدافها مع أول معركة كبرى من أجل تلك الأهداف. فقد انفجرت فى عام 1919 ثورة عظيمة شعارها الاستقلال والدستور، وكان مكسبها المباشر تحوُّل مصر من سلطنة ومحميّة بريطانية إلى ملكيّة دستوريّة مستقلةٍ ولو شكلاً، وكسبت مصر دستور 1923 المُتَقَدِّم. وفى أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات ساد إحساس بفشل الثورة، وعمَّ إحباطُ مثل إحباط الكثيرين من المصريين الآن: فالاستقلال شكلىّ لأن القوات الإنجليزية مازالت ترتع فى بلادنا، وتم تجميد، ثم إلغاء دستور 1923. ولكننا نعرف الآن أن استقلال مصر قد تحقَّقَ فعلاً، وكانت الحلقة الأولى لتحقيقه هى تصريح 28 فبراير 1922 كمكسبٍ مباشر لثورة 1919، بينما كانت الحلقة الثانية هى معاهدة 1936 التى تحققت بعد الهبّة الجماهيرية الكبرى (أعوام 1935 - 1936)، والحلقة الثالثة فى أعقاب الهبّة الثوريّة الضخمة فى مصر بعد نهاية الحرب العالمية الثانيّة فى 1945، والتى أسقطت مشروع "معاهدة صدقى- بيفن". وتمثّلت الحلقة الرابعة فى اتفاقية الجلاء مع انجلترا عام 1954، وبعد نضال الفدائيين فى القنال، بينما تمثلت الحلقة الخامسة والأخيرة فى إلغاء تلك المعاهدة بعد عدوان 1956.
إنّ جوهر الصراع فى كل ثورة، وفى أعقابها، هو الصراع بين الثورة والنظام القديم، بين قوى التغيير الثائرة الجديدة وبين النظام الذى تَفَجَّرت الثورة ضده. وثورة يناير لم تنته بوصول الثوار للسلطة، كما لم تنته بالقضاء على الثورة، لأن شروطها الموضوعيّة لا زالت قائمة، ولكنها استمرت كمعركة بالنقاط طوال عمر الثورة، الذى نقدره بثلاث سنوات حتى أوائل عام 2014.
اكتسبت الثورة خلال تلك السنوات الثلاث الكثير من الوعى والخبرات التنظيمية، وارتقى إدراكها لطبيعة النظام وتمسُّكه بالاستبداد والاستغلال. وإذا كان الشعب قد اكتسب وعيه بتناقضه الجذرىّ مع نظام "مبارك" فقام بثورته، فهو لم يكن قد امتلك وعياً بالتمييز بين اتجاهات المعارضة المختلفة، حيث لم يُفَرِّق بين ثلاثة أنواع من المعارضة: المعارضة الثورية، ومعارضة تيارات الإسلام السياسى وجماعات الإرهاب، والمعارضة الليبراليّة التى تستغل حركة الشعب لكى تمرر نفس سياسات الليبرالية الاقتصاديّة التى ينتهجها النظام، وتحصر الديمقراطية فى الحدود البرلمانية الضيِّقة دون توسيعها للسماح بالحريات الشعبيّة فى التعبير. لهذا انتخب الشعب أغلبية من تيارات الإسلام السياسى فى أول انتخابات بعد الثورة، ولم يكتشف شعبنا أنها أسوأ من النظام السابق إلاّ بعد أن تعرَّفَ عليها بشكلٍ ملموس عبر ممارساتها السياسية بعد الثورة، وبالذات وهى فى الحكم فى فترة رئاسة "مرسى". لقد اتضح أنها لا تؤمن بالوطن، ولا العَلَم ولا التراب الوطنى، وتعتبرهم أصناماً تُعَبِّرُ عن جاهلية القرن العشرين. كما تكشَّف له أنها قوة عميلة للاستعمار، وعلى استعداد للمشاركة مع الإمبرياليّة فى مخططات تفتيت الوطن مقابل دعم الغرب لها فى السيطرة على السلطة. كما أنها قوة فاشيّة وعدوة للدولة الحديثة، ولقيم الانتماء والمواطنة، وتمثّل رِدة حضارية هائلة للخلف. لهذا ثارت عشرات الملايين من شعبنا ضدها وأسقطتها فى ثورة 30 يونيو 2014. وكان من أهم مكاسب الثورة هو دستور 2014 كأول دستور يُقر بحقوق الجماهير الاقتصاديّة والاجتماعيّة وبحرياتِها الأساسيّة.
لم تبق سوى نقاط قليلة يمكن فيها اعتبار عدد من سياسات النظام إيجابية حتى بالقياس لاتجاهات كثيرة فى المعارضة الليبرالية، وهى تمسكه بمقاومة جماعات الإرهاب عسكريا بالأساس داخليا وإقليميا (بالذات فى ليبيا وسوريا)، ورفض مطالب بانتهاج "ديمقراطية لا تقوم على الإقصاء" كما يسميها الغرب الاستعمارى (المعنى: رفض الغرب لإقصاء "الإخوان"، والضغط لإطلاق سراحهم من السجون، وعودة حزبهم، "الحرية والعدالة" لممارسة النشاط السياسى، وعودة جماعة "الإخوان المسلمين" لممارسة النشاط الدعوى!)، وكذلك محاولة العودة لأفريقيا بعد مرحلة القطيعة التى طالت، وبالذات خلال حُكم "مبارك" ، ومحاولة الاستفادة من العالم المتعدد الأقطاب فى امتلاك مستوى من التقدم التكنولوجى مثلما حدث فى المحطات النوويّة الروسيّة.
إلا أن الخطر الذى يُهَّدد ذلك كله هو تسليم الاقتصاد بالكامل لخطط وسياسات "النيوليبرالية"، والوقوع بالكامل فى براثن "صندوق النقد" وغيره من مؤسسات التمويل الغربيّة، وخصخصة وبيع أصول الدولة الإنتاجيّة والخدميّة، وتخفيض قيمة العملة الوطنيّة، وما ينتج عن تلك السياسات من تضخُّمٍ وإفقارٍ لشعبنا، وانهيارمستوى حياته المعيشيّة، وتدهور الخدمات الصحيّة والتعليميّة والاجتماعيّة المقدمة له.
والاستراتيجيّة التى يطرحها "الحزب الاشتراكى المصرى" هى التأكيد على شعارات ثورة يناير فى "العيش والحرية، والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية"، وهى الشعارات التى لا يمكن تحقيقها إلا بالانفصال عن التبعيّة الاقتصاديّة والسياسيّة للغرب، وتجد تحقّقها الأمثل ببناء المجتمع الاشتراكى فى مصر الذى ينتفى فيه الاستغلال ويتحقق فيه الاستقلال السياسى والاقتصادى الكاملين.
أما تكتيك "الحزب الاشتراكى المصرى" فينبع من إدراك أن وسائل الكفاح التى ينتهجها الحزب لابد أن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بميزان القوى الاجتماعيّة الراهن. وبالطبع لم تعد الوسائل الثوريّة لسنوات الثورة الثلاث، 2011- 2014 (من مظاهرات ضخمة، ومليونيات حاشدة، واحتلالٍ لميادين) وسائل مناسبة للوضع الراهن. ولكن هذا لا يجب أن يدفع للإحباط واليأس من الواقع، بل لابد أن يحفز على السعى للارتباط بجماهير شعبنا عبر مختلف الأشكال المناسبة، والدفاع عن كل حقوق الشعب الملموسة فى الحريّات وفى الكرامة وفى الصحة والتعليم وكافة الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، مع التبشير بالمثل الأعلى للمجتمع الاشتراكى الذى نريده. ولهذا يسعى حزبنا مع كل القوى الوطنيّة إلى استعادة الحياة السياسيّة الديمقراطيّة، والحد من التبعيّة لمؤسسات التمويل الدوليّة، وتطوير مستوى معيشة الجماهير، وترابط نضاله هذا مع نضال الشعوب العربيّة والعالميّة فى اتجاه التحرر من التبعيّة والاستغلال والاستبداد.
الوضع الدولى
 مخططات تفتيت دول المنطقة، ودور "الإسلام السياسى":
كما تبلور فى سياق تلك السياسة الإمبريالية المُغرقة فى عدوانيتها مخطط تفتيت الدول طائفياً وعرقياً فى منطقتنا، وإعادة رسم خرائطها لخدمة المصالح الأمريكية / الصهيونية، باستخدام تيار الإسلام السياسى بكل أجنحته، واستخدام نفوذ وقوة الدول الإقليميّة ذات التأثير الكبير والدائرة فى فلك الإمبرياليّة العالميّة مثل إسرائيل وتركيا. بدا هذا واضحا منذ تصريحات "كوندوليزا رايس"، وزيرة الخارجية الأمريكية، عام 2006، تعقيباً على غزو إسرائيل للبنان، بأن هذا هو بداية خلق "الشرق الأوسط الجديد".
منذ أوائل الثمانينات تتحدث إسرائيل عما تسميه "خطأ سايكس بيكو التاريخى"، وهو الاتفاق بين إنجلترا وفرنسا عام 1916، الذى قسَّمَ الدول العربية، والذى ترى إسرائيل أنه غير ديمقراطى (!) لأنه يجمع فى كل دولة العديد من الاقليّات القوميّة والدينيّة، والحل من وجهة نظر إسرائيل هو تفتيت تلك الدول بتقسيم سوريا إلى دولة علويّة ودولة مسيحيّة ودولة درزية ودولة سُنيّة، وكذلك العراق والأردن والسعوديّة ومصر! يجسد هذا الطموح الاستعمارى الحد الأقصى لتفتيت وإضعاف الدول العربيّة تحقيقاً لهيمنة إسرائيل عليها، ولكى يكون ضمانا لئلا تنشأ أى دول قوميّة، تُهَدّدها على غرار مصر الناصريّة. تلك الأفكار التى يرددها برنارد لويس المفكر الأمريكى الإنجليزى الأصل اليهودى الصهيونى المتعصب منذ سبعينات القرن العشرين.
كانت تلك التصورات تُعتبر أموراً خُرافيّة، قبل أن يتم تبنيها من القيادة السياسية الأمريكية منذ عام 2003، حينما تبنى المحافظون الجدد أفكار "برنارد لويس" بشأن التفتيت الإقليمى للمنطقة بالمشاركة مع الإخوان المسلمين متطابقين مع إسرائيل فى هذا الصدد.
وقد مثّلت قوى الإسلام السياسى حصان طروادة داخل الدول العربيّة لتحقيق تلك التصورات، والتى جمعها بهذه الأفكار أنها لا تؤمن بالوطن ولا بالتراب ولا بالعَلَم، وتدعو إلى خلافة إسلامية تتجاوز الأوطان، لكى يتسع مخططها لرابطة إسلامية شكليّة فى دول مفتّتة عِرقياً فى منطقتنا العربية، تعبيراً عن اتفاقها مع المخطط الإمبريالى، فى مقابل أن تساعدها الإمبريالية فى الوصول إلى السلطة السياسية فى البلاد العربية!
وقد تجلّت النزعة العدوانيّة العسكريّة للإمبريالـيّة فى تلك الفترة، بأبرز ما يمكن، فى حربين عدوانيتين بارزتين انتهيتا باحتلال أفغانستان عسكريا عام 2001، واحتلال العراق عام 2003، بما يعنيه ذلك، ليس فقط من قهر وسلب شعوب هذين البلدين، ولكن أيضا من تمدد سيطرة الإمبريالية وقدرتها على بسط سلطتها فى هاتين المنطقتين الاستراتيجيتين: منطقة بحر قزوين ومنطقة الشرق الأوسط والخليج العربى، وهما أهم منطقتين بتروليتين فى العالم، فضلاً عن أهميتهما الاستراتيجية فى طرق التجارة العالمية.
كما تمثّلت تلك السطوة الإمبريالـيّة، اقتصادياً، فى توحّش الرأسمالـيّة بتأسيس "منظمة التجارة العالمية"، عام 1995، كأحد أهم المؤسسات لنشر سياسات الليبرالية الاقتصادية التى تستعبد الشعوب، بجانب المؤسسات التقليدية وأهمها "البنك الدولى" و"صندوق النقد الدولى"، و"المفوضية الأوروبية" بأذرعها الاقتصادية. لقد عملت تلك المؤسسات جميعاً على نشر ما يسمى بـ "الحرية التجارية"، المتمثلة فى تحرير التجارة وتبادل السلع، وتحرير الاستثمار الأجنبى، وتصدير رؤوس الأموال لدوَلِنا فى شكل قروض واستثمارات، وفرض تبعيّة العملات المحليّة للدولار، وتحرير وتعويم العملات المحليّة، مع فرض الحظر على انتقال الأفراد للعمل، وبعد انتشار الإرهاب، فُرضت القيود على انتقال الأفراد أيضاً.
بدأ هذا الوضع فى التغيُّر تدريجياً حتى تبلور بالتدريج عالم جديد متعدد الأقطاب فى بداية العقد الثانى من القرن العشرين. العنصران الهامان فى تطور وضع التوازن الدولى بانتقاله إلى وضع العالم متعدد الأقطاب هو استعادة تماسك روسيا وصعود الصين الاقتصادى.
بعد عقدٍ من الانهيار فى عهد "يلتسين"، بدأت روسيا فى استعادة تماسُكها، ومواجهة سعى الغرب للهيمنة الاستراتيجيّة عليها بالتسلل إلى أوروبا الشرقيّة، وضم دُولها تباعاً لحلف الأطلنطى، على عكس التعهُّد الشفوىّ الذى قدمه "ريجان" وقادة الغرب لـ"جورباتشوف" عند حل حلف وارسو، بأن حلف الأطلنطى لن يمد نفوذه إلى أوروبا الشرقيّة. واجهت روسيا محاولات الغرب لضم جورجيا ثم أوكرانيا، وهى الخطوة التى وصفها "كيسنجر" بمحاولة الغرب تحويل روسيا من قوة دولـيّة إلى قوة إقليميّة أوروبيّة، بعزلها عن المياه الدافئة فى البحر الأسود عن طريق حرمانها من قواعدها فى القرم (!) وساعدها على ذلك استعادة التوازن الاستراتيجى مع الولايات المتحدة عسكريا عام 2012. وقد ردَّت روسيا بضم القرم إليها عسكرياً، وإجراء استفتاء وافق فيه 97% من السكان على العودة لروسيا.
ومن جهة أخرى فقد واصلت الصين صعودها الاقتصادى الصاروخى، حيث وصلت بالتدريج خلال العقد الثانى من هذا القرن إلى أن تصبح الاقتصاد الثانى فى العالم من حيث الناتج المحلى الإجمالى (بل والاقتصاد الأول عالميا إذا قُدِّرَ الناتج المحلى بحساب تعادل القوة الشرائية PPP)، والدولة الأولى عالمياً فى التجارة الخارجيّة، والثالثة فى ميزان القوى الاستراتيجيّة بعد أمريكا وروسيا، وساهم فى هذا إنفاقها العسكرى الهائل نتيجةً لتبنيها تغيير عقيدتها العسكرية عام 2009، من عقيدة دفاعيّة إلى عقيدة هجوميّة، ولذا سارعت إلى تَمَلُّك حاملات الطائرات، وإنشاء قاعدة عسكرية فى جيبوتى بأفريقيا عام 2015 (افتتحت 2017)، وزرع الجزر فى بحر الصين الجنوبى، مُتَحدّيةً للهيمنة العسكريّة الأمريكية فيه.
ويجدر الإشارة هنا إلى أن ذلك التمدُّد الاقتصادى السياسى العسكرى الروسى والصينى، لا يتطابق بالقطع مع دور الاتحاد السوفيتى السابق والصين الاشتراكية فى التصدى للإمبريالية ودعم دول حركة التحرر الوطنى، فهو يقوم على المشاركة فى تعزيز قـيّم الحريّة الليبراليـّة وتحرير السوق أمام تجارتهما واستثماراتهما وتداول عُملاتهما، ولكنه يتصدى للمنافس الغربى بتقديم فرص أفضل لدول العالم (الثالث)، فيسمح لها بالتصدى للمخططات الإمبريالـيّة لتفتيتها (على غرار سوريا وليبيا)، ويوفر لها من التكنولوجيا المتقدمة ما يمنعه الغرب عنها، على غرار المحطات النووية الروسية لمصر(مع السماح بنقل التكنولوجيا وتصنيع رُبع المفاعلات محلياً).
وفى ظل هذه المتغيرات نمت معارضة أكثر جذريّة للنفوذ الإمبريالى بنمو الحركة الجماهيريّة المُعَارِضة للعولمة، حيث تجسّدت العولمة أيضا فى تكثيف الاستغلال الإمبريالى داخل الدول الإمبريالـيّة والعدوان على مكتسبات دولة الرفاه الاجتماعى. قرّبت الحركات التقدمية المعاديّة للعولمة بين حركة شعوب الشمال وبين حركات الجنوب، ورأينا مثلاً بارزاً لها فى ملتقيات القمم الاجتماعية ضد العولمة بدءًا من عام 2000. وبعد فترة من تقارب الحزبين الكبيرين فى كل من أمريكا وانجلترا وفرنسا، بدأت بوادر انشقاقات على يسار أحزاب رسميّة تمثلت فى موجة صعود "جيرمى كوربين" من "حزب العمال البريطانى" فى انجلترا، و"جاك لوك ميلونشون"، حركة "فرنسا الأبيّة" فى فرنسا، و"جيمى ساندرز" من "الحزب الديمقراطى" فى أمريكا، الذين ينتقدون بقسوة جوانب رئيسية فى الرأسماليّة. مثَّلَ هذا استقطاباً حاداً بعد بروز الأحزاب الشعبويّة والفاشيّة واليمينيّة المتطرّفة فى أوربا، والقوى المحافظة والشخصيات الشعبويّة فى أمريكا، كما بدأ هذا التيار فى اقتحام أمريكا الجنوبية، بفوز"جايير بولسونار" مُرَشِّحُ اليمين المتطرّف فى الانتخابات الرئاسية البرازيلـيّة.
كما تبلور فى سياق تلك السياسة الإمبريالية المُغرقة فى عدوانيتها مخطط تفتيت الدول طائفياً وعرقياً فى منطقتنا، باستخدام تيار الإسلام السياسى بكل أجنحته، واستخدام نفوذ وقوة الدول الإقليميّة ذات التأثير الكبير والدائرة فى فلك الإمبرياليّة العالميّة مثل إسرائيل وتركيا. بدا هذا واضحا منذ تصريحات "كوندوليزا رايس"، وزيرة الخارجية الأمريكية، عام 2006، تعقيباً على غزو إسرائيل للبنان، بأن هذا هو بداية خلق "الشرق الأوسط الجديد".
تجلّت النزعة العدوانيّة العسكريّة للإمبريالـيّة فى تلك الفترة، بأبرز ما يمكن، فى حربين عدوانيتين بارزتين انتهيتا باحتلال أفغانستان عسكريا عام 2001، واحتلال العراق عام 2003، بما يعنيه ذلك، ليس فقط من قهر وسلب شعوب هذين البلدين، ولكن أيضا من تمدد سيطرة الإمبريالية وقدرتها على بسط سلطتها فى هاتين المنطقتين الاستراتيجيتين: منطقة بحر قزوين ومنطقة الشرق الأوسط والخليج العربى، وهما أهم منطقتين بتروليتين فى العالم، فضلاً عن أهميتهما الاستراتيجية فى طرق التجارة العالمية.
كما تمثّلت تلك السطوة الإمبريالـيّة، اقتصادياً، فى توحّش الرأسمالـيّة بتأسيس "منظمة التجارة العالمية"، عام 1995، كأحد أهم المؤسسات لنشر سياسات الليبرالية الاقتصادية التى تستعبد الشعوب، بجانب المؤسسات التقليدية وأهمها "البنك الدولى" و"صندوق النقد الدولى"، و"المفوضية الأوروبية" بأذرعها الاقتصادية. لقد عملت تلك المؤسسات جميعاً على نشر ما يسمى بـ "الحرية التجارية"، المتمثلة فى تحرير التجارة وتبادل السلع، وتحرير الاستثمار الأجنبى، وتصدير رؤوس الأموال لدوَلِنا فى شكل قروض واستثمارات، وفرض تبعيّة العملات المحليّة للدولار، وتحرير وتعويم العملات المحليّة، مع فرض الحظر على انتقال الأفراد للعمل، وبعد انتشار الإرهاب، فُرضت القيود على انتقال الأفراد أيضاً.
بدأ هذا الوضع فى التغيُّر تدريجياً حتى تبلور بالتدريج عالم جديد متعدد الأقطاب فى بداية العقد الثانى من القرن العشرين. العنصران الهامان فى تطور وضع التوازن الدولى بانتقاله إلى وضع العالم متعدد الأقطاب هو استعادة تماسك روسيا وصعود الصين الاقتصادى.
بعد عقدٍ من الانهيار فى عهد "يلتسين"، بدأت روسيا فى استعادة تماسُكها، ومواجهة سعى الغرب للهيمنة الاستراتيجيّة عليها بالتسلل إلى أوروبا الشرقيّة، وضم دُولها تباعاً لحلف الأطلنطى، على عكس التعهُّد الشفوىّ الذى قدمه "ريجان" وقادة الغرب لـ"جورباتشوف" عند حل حلف وارسو، بأن حلف الأطلنطى لن يمد نفوذه إلى أوروبا الشرقيّة. واجهت روسيا محاولات الغرب لضم جورجيا ثم أوكرانيا، وهى الخطوة التى وصفها "كيسنجر" بمحاولة الغرب تحويل روسيا من قوة دولـيّة إلى قوة إقليميّة أوروبيّة، بعزلها عن المياه الدافئة فى البحر الأسود عن طريق حرمانها من قواعدها فى القرم (!) وساعدها على ذلك استعادة التوازن الاستراتيجى مع الولايات المتحدة عسكريا عام 2012. وقد ردَّت روسيا بضم القرم إليها عسكرياً، وإجراء استفتاء وافق فيه 97% من السكان على العودة لروسيا.
ومن جهة أخرى فقد واصلت الصين صعودها الاقتصادى الصاروخى، حيث وصلت بالتدريج خلال العقد الثانى من هذا القرن إلى أن تصبح الاقتصاد الثانى فى العالم من حيث الناتج المحلى الإجمالى (بل والاقتصاد الأول عالميا إذا قُدِّرَ الناتج المحلى بحساب تعادل القوة الشرائية PPP)، والدولة الأولى عالمياً فى التجارة الخارجيّة، والثالثة فى ميزان القوى الاستراتيجيّة بعد أمريكا وروسيا، وساهم فى هذا إنفاقها العسكرى الهائل نتيجةً لتبنيها تغيير عقيدتها العسكرية عام 2009، من عقيدة دفاعيّة إلى عقيدة هجوميّة، ولذا سارعت إلى تَمَلُّك حاملات الطائرات، وإنشاء قاعدة عسكرية فى جيبوتى بأفريقيا عام 2015 (افتتحت 2017)، وزرع الجزر فى بحر الصين الجنوبى، مُتَحدّيةً للهيمنة العسكريّة الأمريكية فيه.
ويجدر الإشارة هنا إلى أن ذلك التمدُّد الاقتصادى السياسى العسكرى الروسى والصينى، لا يتطابق بالقطع مع دور الاتحاد السوفيتى السابق والصين الاشتراكية فى التصدى للإمبريالية ودعم دول حركة التحرر الوطنى، فهو يقوم على المشاركة فى تعزيز قـيّم الحريّة الليبراليـّة وتحرير السوق أمام تجارتهما واستثماراتهما وتداول عُملاتهما، ولكنه يتصدى للمنافس الغربى بتقديم فرص أفضل لدول العالم (الثالث)، فيسمح لها بالتصدى للمخططات الإمبريالـيّة لتفتيتها (على غرار سوريا وليبيا)، ويوفر لها من التكنولوجيا المتقدمة ما يمنعه الغرب عنها، على غرار المحطات النووية الروسية لمصر(مع السماح بنقل التكنولوجيا وتصنيع رُبع المفاعلات محلياً).
وفى ظل هذه المتغيرات نمت معارضة أكثر جذريّة للنفوذ الإمبريالى بنمو الحركة الجماهيريّة المُعَارِضة للعولمة، حيث تجسّدت العولمة أيضا فى تكثيف الاستغلال الإمبريالى داخل الدول الإمبريالـيّة والعدوان على مكتسبات دولة الرفاه الاجتماعى. قرّبت الحركات التقدمية المعاديّة للعولمة بين حركة شعوب الشمال وبين حركات الجنوب، ورأينا مثلاً بارزاً لها فى ملتقيات القمم الاجتماعية ضد العولمة بدءًا من عام 2000. وبعد فترة من تقارب الحزبين الكبيرين فى كل من أمريكا وانجلترا وفرنسا، بدأت بوادر انشقاقات على يسار أحزاب رسميّة تمثلت فى موجة صعود "جيرمى كوربين" من "حزب العمال البريطانى" فى انجلترا، و"جاك لوك ميلونشون"، حركة "فرنسا الأبيّة" فى فرنسا، و"جيمى ساندرز" من "الحزب الديمقراطى" فى أمريكا، الذين ينتقدون بقسوة جوانب رئيسية فى الرأسماليّة. مثَّلَ هذا استقطاباً حاداً بعد بروز الأحزاب الشعبويّة والفاشيّة واليمينيّة المتطرّفة فى أوربا، والقوى المحافظة والشخصيات الشعبويّة فى أمريكا، كما بدأ هذا التيار فى اقتحام أمريكا الجنوبية، بفوز"جايير بولسونار" مُرَشِّحُ اليمين المتطرّف فى الانتخابات الرئاسية البرازيلـيّة.
الوضع الإقليمى
هناك أربع قوى إقليمية حولنا تملك كل منها عدداً مهما من عناصر القوة الاستراتيجيّة المعترف بها دولياً، كما تُمارس تأثيراً إقليمياً على منطقتنا، وتتقاطع بالضرورة مع سياسة ومصالح شعبنا فى مصر، بما يجعل واجباً علينا فهمها وتحديد موقف استراتيجى منها، وهى بالطبع قوى مختلفة فى اتجاهها وتأثيرها. تلك القوى هى إسرائيل، وتركيا، وإيران والمملكة العربية السعودية.
إسرائيل
لا شك أن أهم وأخطر تلك القوى على وجودنا واستقرارنا ومصالحنا، هى إسرائيل التى تلعب دور المفرزة الأمامية للإمبرياليّة فى منطقتنا، وتتصدى لحراسة مصالح الغرب البترولية وغيرها، وهى تمثل آخرِ استعمار استيطانى لازال مستمراً حتى القرن الواحد والعشرين، ينهب أرض وحقوق الشعب الفلسطينى، كما أنها تمثل استعماراً إمبريالياً ذو ميول توسعية، يسعى لإخضاع الدول العربية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
وفى الفترة الأخيرة، واستغلالا لظروف تفكك الدول العربية وهشاشة الوضع العربى برمته، وبعد ضمان إضعاف القضية الفلسطينية وتهميشها على نحو غير مسبوق، بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، وإيقاف التمويل الأمريكى لمنظمة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، وبحث ملف "توطين اللاجئين" مع الدول العربية المعنية، وهرولة الدول الخليجية إلى التسابق فى تطبيع العلاقات علنيا هذه المرة مع إسرائيل، طرح الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" مشروعا أسماه "صفقة القرن"، وصفه الرئيس الفلسطينى "أبو مازن" عن حق بأنه صفعة القرن.
وهذا المشروع يهدف إلى دفع الفلسطينيين للقبول ب"تسوية تاريخية"، هى فى جوهرها الأدق: "تصفية كاملة ونهائية للقضية" تتضمن تنازلهم الكامل عن "حق العودة"، الثابت حتى فى قرارات الأمم المتحدة، والقبول بالوضعية الجديدة للقدس الموحدة، كعاصمة للدولة اليهودية الصهيونية العنصرية الخالصة، التى أُعلن عنها مؤخرا، فى إطار عملية تبادل لمساحات من الأراضى المصرية (من سيناء)، تضاف إلى غزة، مقابل مساحات موازية من صحراء النقب، حتى يمكن ترحيل، أى "طرد الفلسطينيين" الموجودين داخل أراضى فلسطين 1948 إلى هذا الشكل الفلسطينى الجديد الهجين، المنزوع الإرادة والسلاح، لضمان يهودية ونقاء عرق الدولة الصهيونية، مقابل بعض المساعدات المالية تدفعها دول النفط للفلسطينيين يصرف منها على الدويلة المسخ الوليدة، وأيضا لقاء بعض الدعم المالى لمساعدة النظام المصرى على تخطى أزماته الاقتصادية.
أما الهدف الأبعد من وراء طرح مثل هذه التصورات فهو تشكيل حلف سُنِّى أمريكى إسرائيلى عربى ضد إيران (تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجى- ميسا)، فى مواجهة ما يوصف بالخطر "الشيعى الإيرانى" الذى تروج له الإدارة الأمريكية، وستشارك فيه مبدأيا حسبما أعلنت المصادر الأمريكية، واصفة إياه بالفرع السنى لحلف الأطلنتى- الناتو العربى، شاملا الولايات المتحدة وإسرائيل وثمانى دول عربية: مصر والسعودية والإمارات والكويت والبحرين وعمان وقطر والأردن. وسيكون هذا تجسيدا لإقرار التعاون والتكامل الاقتصادى بين ما اسماه "مناحم بيجن"، سابقاً، رأس المال العربى والعبقرية اليهودية واليد العاملة العربية، لكى ترتع فى استغلال ونهب المنطقة.
أما الهدف الأبعد من وراء طرح مثل هذه التصورات فهو محاولة القفز على العداء التاريخى بين المشروع الصهيونى الاستعمارى الاستيطانى التوسعى، وتجاهل اغتصاب فلسطين وإذلال أهلها، والدور الوظيفى للدولة الصهيونية المعادى لمطامح ومصالح شعوبنا، عن طريق تشكيل الحلف السُنِّى الأمريكى الإسرائيلى الرجعى العربى ضد إيران، والذى يضم الولايات المتحدة وإسرائيل وثمانى دول عربية: مصر والسعودية والإمارات والكويت والبحرين وعُمان وقطر والأردن، بادِّعاء مواجهة الخطر الشيعى، تحت مُسمَّى "الناتو العربى"، أو "حلف الشرق الأوسط الاستراتيجى/ ميسا ـ MESA/Middle East Strategic Alliance "وكجزءٍ من "صفقة القرن"!، حيث سيكون تجسيداً لإنهاء القضية الفلسطينية، وتصفية حق عودة الشعب الفلسطينى لإرضه السليبة، ومدخلاً لإقرار التعاون والتكامل الاقتصادى الذى وصّفه "شمعون بيريز"، فى كتابه "الشرق الأوسط الجديد" بين: "رأس المال العربى والعبقرية اليهودية واليد العاملة المصرية"، لكى ترتع فى استغلال ونهب ثروات المنطقة.
تركيا
وثانى تلك القوى هى تركيا. نمت تركيا الحديثة منذ نشأتها، بعد ثورة "كمال أتاتورك" العلمانيّة فى عشرينات القرن الماضى، ونجاحها فى بناء صناعة وجيش على قدر من التطور، بحيث انضمت إلى الدول العشرين الأقوى اقتصاداً فى العالم بترتيب السابع عشر، كما تمتلك الجيش الثامن فى العالم والثانى فى حلف الأطلنطى. وارتبطت بالغرب كعضوٍ أساسي فى حلف شمال الأطلسى "الناتو" منذ إنشائه، وكانت ركيزة "حلف بغداد"، الذى تحوَّلَ إلى "الحلف المركزى" بعد ثورة العراق عام 1958. كما بنت تركيا علاقات متميزة بإسرائيل منذ إنشائها أيضاً. استند تيار العلمانية السائد منذ "أتاتورك" على الجيش، الذى تدخّل فى الحكم بعدة انقلابات عندما كان يتزايد نفوذ المعارضة.
بدأ التيار الإسلامى فى التصاعد فى تركيا أواخر القرن العشرين، على يد "نجم الدين أربكان" فى البداية ثم على يد "عبد الله جولن" و"رجب طيب أردوجان"، ووصل "حزب العدالة والتنمية" إلى الحُكم، واستمر، بدون انقطاع لما يقرب من عقدٍ ونصف. صاغ "أحمد داوود أوغلو" سياسة التوجه نحو الشرق، وارتبط هذا بمحاولات "أردوجان" إعادة إحياء أمجاد الإمبراطورية العثمانيّة، بالمشاركة مع المُخطط الغربى لتفتيت الدول العربية، وبالتعاون مع تيارات الإسلام السياسى. لعبت تركيا دوراً رجعياً إمبريالياً فى مصر والمنطقة العربية، باستغلال ما صاحب الأوضاع والتطورات التى واكبت فترة الحِراك الثورى العربى، لمحاولة إسقاط النظام السورى، وتفتيت سوريا ودعم الإرهاب الإسلامى.
دخلت تركيا فى تناقض ذى وزن مع حلفائها الاستراتيجيين، أمريكا والناتو والغرب، حين تعارض مخطط التفتيت الإقليمى للدول العربية مع مصلحة تركيا فى عدم تمتُّع الأكراد فقط بالاستقلالية النسبيّة سواء فى العراق أو سوريا. ثم دُفِعَ التناقض للأمام بشدّة، عندما اكتشف "أردوجان" أدلة على تورط أمريكا فى محاولة الانقلاب العسكرى ضده عام 2016، والدور الهام الذى لعبته قاعدة "إنجرليك" العسكريّة الأمريكيّة فى تركيا فى دعم الانقلاب، الأمر الذى ساعد فى توتر العلاقات بين الطرفين.
أصبحت تركيا وقطر القواعد الأساسية للتنظيم الدولى لـ "الإخوان المسلمين" والجماعات المضادة لمصر بعد سقوط "مرسى"، وهى تمدُّهم بالمال والسلاح، وتُنفق على قنواتهم الفضائية، وتحتضن كوادرهم، وترسل قوات عسكريّة إلى قطر لمساندتها ضد تحرك السعوديّة فى مواجهتها، وتساندها عند قطع العلاقات الدبلوماسية معها من قِبل القوى الأربع" السعودية ومصر والبحرين والكويت.
يتبدى الضعف الداخلى لنظام "إردوجان" فى ضِيق قاعدتة الشعبية التى لم تتجاوز نصف المجتمع، يمثّل االشق المتخلف (تاريخياً) المستند إلى فلاحى الأناضول، فى مقابل القوى العلمانيّة للساحل الغربى والقسم الأوروبى من تركيا. ولكن الانقلاب لم يأتِ من جانب العلمانيين، بل من داخل المعسكر الإسلامى، من شِقّه التابع للمُعارض الإسلامى المقيم فى الولايات المتحدة، "عبد الله جولن".
إيران
مثّلت ثورة عام 1979 ضربةً هامة لمثلث القوة الأمريكى فى المنطقة المتجسّد فى إيران الشاه وتركيا وإسرائيل. والوجه الرئيسى للنظام الإيرانى هو أنه نظام وطنى معادٍ للاستعمار، يحمل الكثير من ملامح النظام الناصرى، ويقود المجتمع صوب بناء دولة عصرية حديثة بالتصنيع والتعليم الحديث وتحديث جهاز الدولة، ولكن هذه التوجُّهات مصحوبة بغياب الديمقراطية.
ولعل النظام الإيرانى هو النظام الوحيد الذى نجح فى استغلال عوائد النفط فى الدخول إلى مجال التصنيع الثقيل، وصناعات التكنولوجيا المتقدمة، مثل اقتحام مجال التكنولوجيا النووية وتكنولوجيا الفضاء والصواريخ والأقمار الصناعية، وحقق عام 2009 اكتفاءً ذاتياً غذائياً (بنسبة 96%)، وصناعياً (81%)، (والنسبة الإجمالية 90%). وكانت أدوات تلك النهضة الاقتصادية هى تشكيل قطاع عام قوى وتأميم البنوك وفرض الرقابة على الصرف وتأميم التجارة الخارجيّة.
ولم يكن هذا هو الوجه الوحيد للنظام الإيرانى، فقد ارتبط ذلك بقمع الحريات الديمقراطية سواء لأعداء الثورة من اليمين، أو للحركة الجماهيرية ولعدد من التنظيمات التقدمية الشعبية على اليسار، شملت "حزب تودة الشيوعى" ومنظمات "مجاهدى خلق" و"فدائيى خلق"، تلك التنظيمات الشعبيّة التى شاركت بنشاط فى إسقاط الشاه. تم تقسيم السلطة فى إيران بين قسم رئيسى دينى مُغلق، يستند إلى مبدأ "ولاية الفقيه"، وبين قسم يسمح بديمقراطية محدودة تشتمل على تداول محدود للسلطة بين الاتجاه المتشدِّد (الأشدّ فى كل من معاداة الإمبريالية والتحمس لتقييد الديمقراطية)، والاتجاه المُسَمّى بالمعتدل، الذى يتميّز بتخفيف العداء للإمبريالية، مع توسيع مُقَيـّد فى مجال الحرّيات. وكان الأساس للديكتاتورية الحاكمة متمثلا فى مبدأ "ولاية الفقيه"، الذى يمنح الدور الرئيسى لرجال الدين و"مجلس تشخيص مصلحة النظام"، وكلهم من الملالى. كما كان أحد الأوجه السلبيّة الهامة للنظام الإيرانى هو وراثة المطامح الإمبراطورية لنظام الشاه، والتمسُّك باحتلال جزر الخليج الثلاث، وانتهاج ما سُمِّىَ بمنهج "تصدير الثورة"، الذى زاوج بين مقاومة مخططات الاستعمار والرجعية العربية، وبين تكوين قواعد لنفوذه الإقليمى فى إطار سعيه للهيمنة الإقليمية.
حطم الاحتلال الأمريكى للعراق عام 2003 نظام صدام حسين، منافس وعدو إيران الإقليمى الرئيسى، ولكن هدفه الأساسى كان يتمثل فى السعى للسيطرة على قوس نفط المنطقة، من بحر قزوين إلى الخليج العربى ومركزه بغداد. مثّلَ الاحتلال أيضاً تحدياً جيوبوليتيكياً وإضعافاً استراتيجياً لأعداء أمريكا وإسرائيل: إيران وسوريا. واجهت إيران ذلك الظرف بدعم مقاومة كل الاتجاهات العراقيّة المواجهة للاستعمار الأمريكى، بكل مكوناتها، من اتجاهات تقدميّة ووطنيّة وبعثيّة وطائفيّة ورجعيّة إسلاميّة، بما فيها تنظيم "القاعدة" وفرعها المستقبلى "داعش"!
رغم أن الوجه الرئيسى للثورات العربيّة التى انفجرت منذ عام 2011 هو الوجه الإيجابى، لدخول الشعوب العربية كفاعل جديد قوى طال غيابه فى تقرير مستقبله، إلا أن إضعاف تلك الثورات لنظام الدول العربية كان مناسبة لممارسة الطموحات الاستعمارية للتدخل فى تحديد مصائر الدول العربية فى المحل الأول، والإقليمية فى المحل الثانى.
تدخَّلت إيران فى كل من العراق وسوريا واليمن ولبنان، تدخُّلاً يحمل وجهاً إيجابياً مُناهضاً للمخططات الاستعمارية، ووجهاً سلبياً لدعم نفوذها الإقليمى.
كما بدأ النظام الإيرانى فى العقد الأخير سياسات تسوية وسطيّة مع الولايات المتحدة والغرب، بدت فى صفقة الاتفاق مع أمريكا على الانسحاب من العراق، وترك ساحة نفوذ سياسى هام فيها، فى مقابل استمرار دعم إيران للنظام السياسى العراقى الذى تشكّلَ تحت الرعاية الأمريكيّة، وإيقاف الدعم الإيرانى لقوى المقاومة ضد الولايات المتحدة الأمريكية للاحتلال العراقى، والحفاظ على استمراريّة المصالح الأمريكية النفطيّة والاستثماريّة فى العراق. وتوَّجت تلك الفترة بالاتفاق النووى الذى عقدته مع "أمريكا أوباما" وخمس دول عظمى أخرى مع إيران.
ولكن فترة "ترامب" حملت تصعيداً خطيراً ضد إيران، اقتصادياً وعسكرياً، الأمر الذى دفعها نحو التشدد فى مواجهة المخططات الاستعماريّة، وتدعيم التحالف مع روسيا والصين، مع الاستمرار فى البحث عن سُبل لتسويات مع أمريكا برعاية روسيا وغيرها.
ورغم إدراكنا للمطامح الإيرانية فى المنطقة، الناجمة عن الفراغ الخطير الذى تعيشه بعد تراجع الدور المصرى، والمتغيرات التالية، إلا أننا لا يمكن ألا أن نُعارض بكل شدّة مخططات شيطنة إيران، وتحويلها إلى العدو الجديد للمنطقة بدلاً من إسرائيل، وتشكيل التحالف السُنِّى الرجعى (الأمريكى الإسرائيلى؟!) ضدها، والذى سبق الإشارة له.
المملكة العربية السعودية
أما المملكة العربية السعودية فقد مثّلت طوال عمرها محور الرجعية الخليجية التى لعبت دور السند الرئيسى للتحالف الغربى (أمريكا، أوروبا الغربية، إسرائيل). واجهت السعودية فى الخمسينات والستينات موجة المد القومى العربى المعادى للاستعمار وإسرائيل، ووصل الأمر، كما كُشف مؤخراً، إلى حد الاستعانة بسرب طائرات إسرائيلية لضرب قوات مصر فى اليمن قبل حرب 1967. وعملت أيضا فى فترة لاحقة على احتضان وتسهيل عودة الدول المعادية للاستعمار تدريجياً إلى أحضان النظام الاستعمارى كما ظهر واضحا فى سياستها مع الرئيس السادات. ويجدر الإشارة إلى تصريح "محمد بن سلمان" فى أحاديث صحفية أثناء زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، عندما سأله أحد الصحفيين عن دعم السعودية للإرهاب ولتنظيم القاعدة، فقد صرح بأنه كان هناك اتفاق بين السعودية والغرب لتأسيس ودعم الحركات الإرهابية المسلحة، وعلى رأسها تنظيم "القاعدة" للتصدى للسوفيت فى أفغانستان، كضرورة من ضرورات الحرب الباردة، ولم تقم السعودية بهذا بمفردها!
وجاء تحدى الثورات العربية أمام كل الأنظمة الرجعيّة العربيّة وعلى رأسها السعودية، مع خوفها على عروشها التى نجت بالكاد من فترة المد القومى بعد خسارة عروش العراق وليبيا، فحاولت تشكيل تحالف سُداسى يضم الملكيات الخليجية الأربعة، السعودية والإمارات والكويت وقطر، بالإضافة إلى الأردن والمغرب، بضمهما إلى "مجلس التعاون الخليجى". كما عملت السعودية بنشاط فى دعم الإرهاب الإسلامى بشكلٍ هائل، من أجل إسقاط نظام "بشار الأسد" فى سوريا. كما لعبت الدور المباشر فى قمع الثورة البازغة فى البحرين. وأشرفت على إطفاء لهيب الثورة فى اليمن، التى استمرت لأكثر من ستة أشهر، بالضغط على كل الأطراف لإنهاء الثورة، فى صفقة تحافظ على النظام القديم، نظير تنحّى "على عبد الله صالح"، مع تأمين خروج آمن له من اليمن، وتحصينه هو وكل أقاربه وجماعته من المحاكمة، وتأمين استمرار النظام باختيار نائبه "عبد ربه منصور هادى" مُرشحاً وحيداً للرئاسة، مع توسيع دائرة الحكم بمشاركة "الإخوان المسلمين" فيه، وتأمين قبول اليسار، بالذات "الحزب الاشتراكى اليمنى" للصفقة، بتعيين رئيسه وزيراً للثقافة لفترة. وعندما عاد "على عبد الله صالح" لمحاولة الوصول ثانية إلى السلطة بالتحالف مع الحوثيين وإيران، قادت "التحالف العربى" لقصف اليمن، وحاولت الضغط على مصر للتدخل البرِّى معها. ثم اشترت ثانية ولاء "على عبدالله صالح". ورغم اغتياله، فإن خروج قواته من المعركة حول مسار الحرب فى اليمن من استنزاف طويل للطرفين إلى انتصارات ونجاحات لمعسكر السعوديّة، وتهاجم حاليا الحوثيين فى آخر معاقلهم بمحاولة اقتحام الحديدة، ميناءهم الوحيد لوصول الإمدادات العسكرية لهم، تمهيدا لـدخول صنعاء.
وتعمل السعودية الآن بنشاط على تمرير "صفقة القرن"، وتشكيل "حلف سُنّى" فى مواجهة إيران الشيعية، يُضغط على مصر للانضمام إليه، ويتسع لإسرائيل وأمريكا، لتكون إيران العدو الجديد فى ظل السلام مع إسرائيل!
الحركات الثورية العربية عام 2011
ولكن أهم متغير ثورى فى العقد الأخير فى منطقتنا هو بلا شك الثورات العربية. لقد سعت شعوبنا العربية طوال القرن العشرين لصنع مستقبلها عن طريق النضال ضد المستعمرين وقاعدتهم المحلية، كبار الملاك الزراعيين، ومن أجل الديمقراطية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية وبناء دولة حديثة تنموية صناعية عصرية.
وبعد الحرب العالمية الثانية انفجرت حركات تحرر وطنى ضد الاستعمار، برز من بينها تياران رئيسيان: تيار شعبى ديمقراطى تقدمى أصيل، وتيار رأسمالى قومى تقدمى بالمعنى التاريخى، ويسعى لتحقيق الاستقلال السياسى والاقتصادى، والانفراد بسوقه الوطنية، ولكنه يخشى من اشتداد ساعد الحركات الجماهيرية، التى تتجاوز فى حركتها حدود أهدافه الضيّقة فى الاستقلال السياسى والاستقلال الاقتصادى النسبى، بهيمنتة على سوقه القومية، حيث تخشى تلك الأنظمة من سعى الشعوب العربية لديمقراطية أصيلة وعدالة اجتماعية ناجزة. وفى الوقت الذى استعان فيه هذا التيار الأخير بالجماهير الشعبية فى صراعه مع الاستعمار، فقد برز خوفه من الحركات الجماهيرية المستقلة. وكانت محصلة الصراع بين هذين الاتجاهين هى انفراد الاتجاه القومى بالقيادة، وتنحيته للتيارات الديمقراطية واليسارية، وبناء دول وطنية حققت درجة من الاستقلال الوطنى السياسى والاقتصادى ولكن على حساب تقييد حركة الجماهير المستقلة ومصادرة الديمقراطية، وفرض سياسة الحزب الواحد، وغياب حرية التنظيمات النقابية، والحريات الجماهيرية من حرية اجتماع وتظاهر وإضراب سلميين، وافتقاد حرية الصحافة، فيما سمى أحيانا "بتأميم الصراع الطبقى"!
وكان هذا الاستبداد بالطبع هو عنصر الضعف الرئيسى فى معاداة تلك الأنظمة للاستعمار، فقد حُرمت تلك الحركة من أهم قواها: الجماهير الواعية والمستقلة، واقتصرت الأنظمة فى عدائها للاستعمار على الجيوش النظاميّة من ناحية، وعلى الاستفادة من تناقضات الوضع الدولى ثنائى القطبية ومساعدة المعسكر الاشتراكى لها من ناحية أخرى. كانت نتيجة تلك المرحلة هى الهزيمة العسكريّة فى ستينيات القرن الماضى، التى قادت تدريجياً لعودة تلك الأنظمة إلى مسار التبعيّة للاستعمار الجديد سياسياً واقتصادياً، وفى أسوأ تجلياته فى بعض البلاد، قادت إلى احتلالها عسكرياً، أيضاً.
وأثَّرَت فترة استبعاد الجماهير من الحياة السياسية ومصادرة أدواتها الديمقراطية، على عدم قدرة الجماهير على مواجهة بؤس واقع التبعيّة الجديدة ومقاومة أنظمة تابعة واستبدادية، تُخضع تلك الجماهير للاستغلال والقهر الاستعمارى المزدوج. وانتشرت نتيجة لهذا الحال، الأفكار الدينيّة الغيبيّة الرجعيّة التى تُبعد الجماهير عن فهم أسباب بؤسها الحقيقية وأشكال مواجهته.
من هنا تنبع الأهمية التاريخية للثورات العربية التى انفجرت بدءاً من عام 2011. لقد مثّلت تلك الثورات إعلاناً من الجماهير لفشل الأنظمة القائمة، وعجزها عن إقامة نظام وطنى ديمقراطى تنموى يُقر نظاما للعدالة الاجتماعية، وسعى تلك الجماهير للدخول كطرف مستقل للمساهمة فى صنع مستقبلها بالطريق الثورى الذى جسَّده شعار الثورة: "الشعب يريد إسقاط النظام". كما تحددت أهدافها فى الشعارات المشتركة لمعظم تلك الثورات فى "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية".
ورغم العلامة الفارقة التى شكلتها تلك الثورات فى صنع مستقبل الشعوب العربية، فإن مستقبل الشعوب لا يُصنع بضربة واحدة. إن حركة الجماهير هى الصانع الحقيقى للتاريخ، والمحدد الحاسم لهذا هو مستوى وعى وتنظيم تلك الجماهير، مستوى وعيها بأهدافها وتفاصيل تلك الأهداف فى مختلف المجالات، ومستوى وعيها بحلفائها وأعدائها، وبالنظام الذى تراه مُحقِّقاً لأهدافها. وفى الوقت الذى مثّلت فيه الثورات انفصالا بين الجماهير والنظم القائمة، وفضح طابعها الرجعى الاستبدادى التابع، إلا أن الجماهير لم تمتلك الوعى الكافى بحقيقة أنه بين قوى الثورة وبين النظام القديم توجد قوى إسلامية معادية اختلطت بالمعارضة، تمثّلت فى تيار الإسلام السياسى الذى يسعى لتوظيف تلك الثورات لمصلحة وصوله للسلطة، ومن ورائه قوى الاستعمار والاستغلال والتفتيت. وقوى وسطيّة تمثّلت كذلك فى المعارضة الليبرالية، التى تمثّل قطاعات من الطبقات المالكة الكبيرة التى تسعى للمشاركة فى السلطة، وحصر الديمقراطية التى تُطالب بها فى حدود البرلمانية، وحريات محدودة لا تتسع لحريات الجماهير فى التنظيم والتعبير والتظاهر والاعتصام والإضراب.
كلتا القوتين الإسلامية والليبرالية لا تطرحان فى برنامجيهما سوى الليبرالية الاقتصادية التى قادت وتقود دائما للتبعيّة للغرب، وتأبيد استغلال الجماهير وتغييب الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية. وفى الوقت الذى تسعيان إلى درجة من الحريات البرلمانية الليبرالية فإنهما تحصران ذلك فى حدود تحقيق أهدافهما، مع حرمان الجماهير من ديمقراطيتها الجذريّة والعدالة الاجتماعيّة.
رغم تناقض المضمون الواضح بين الثورات العربية وبين برامج مختلف التيارات الإسلامية، فإن النتيجة المباشرة لتلك الثورات تمثّلت فى نجاحها فى أن تحوز الأغلبية فى كل الانتخابات فى بلدان الثورات من تونس لمصر لليبيا لليمن. وفيما يبدو فإن تلك كانت فترة ضرورية للجماهير الشعبية العربية، لكى تُدرك الوجه الحقيقى الرجعى لتلك التيارات الإسلاميّة، وبينما جاء فضح تلك الجماهير لها فى صورة التراجع الضخم فى شعبية التيارات الإسلامية فى ثانى موجة انتخابات بعد الثورات، فإن أضخم أمثلة ذلك الفضح الجماهيرى للإسلاميين جاء فى مصر بإسقاط حُكم "الإخوان" بثورة 30 يونيو 2013.
والمتغير الآخر الهام الذى نتج عن الحركات الثورية العربية هو أن القوى الاستعمارية، سعت بقوة لاستغلال ذلك الإضعاف المؤقت للأنظمة العربية الرسمية بفعل الثورات، لتحقيق أهدافها فى محاولة إحلال الأنظمة الإسلامية محل الدول القوميّة القائمة، والاحتلال المباشر لها، والسعى لتفتيت الوحدة القومية لتلك الدول. وقد شهدنا من عواقب تلك الثورات عودة الاحتلال المباشر لقوات الأطلنطى لليبيا، ومحاولة إسقاط النظام السورى وتفتيت سوريا.
لهذا طرحت الثورات العربية تناقضاً خاصاً أمام الجماهير العربية: فالجماهير لم تكن تملك الوعى والاستقلال والقوة والقدرة على أن تكون العامل الرئيسى فى صنع مستقبلها، وواجهت القوى الإسلامية المنظمة والمتحالفة مع القوى الاستعمارية ممثلةً فى أمريكا وحلف الأطلنطى. وبالطبع واجهت سعى النظام القديم إلى الدفاع عن نفسه ووجوده ومصالحه، فيما كان يسعى ضد تفتيت دولته القوميّة واغتصابها، من قِبل الإسلام السياسى والغرب.
قاد هذا إلى نوع من الانقسام فى المعارضة الجماهيرية: فقسم منها قرر تأجيل التناقض مع النظام من أجل مواجهة العدو الأكبر: الإسلاميين والغرب، كما برز فى سوريا ومصر، وقسم رأى أن الخطر الرئيسى هو عودة النظام القديم، وقاومه حتى بالتحالف مع الإسلاميين والتعاون مع الدول الغربية.
إن إعادة صنع مستقبل الشعوب العربية لابد وأن يمر باستيعاب الجماهير العربية وقواها الديمقراطية الثورية الحيّة لتلك التناقضات، وعدم الإحباط من عدم تحقيق الثورات لأهدافها المباشرة، فتلك الأهداف العظيمة لا تتحقق بضربة واحدة. ولابد من مواجهة شاملة للمخططات الاستعماريّة، وللقوى الإسلاميّة المدعومة من قِبل دول الغرب، ولمحاولات أنظمة الحُكم القديمة، بعد فترة تنازلات ديمقراطيّة واجتماعيّة فرضتها ظروف الثورة، لإعادة بناء أنظمتها القديمة الاستبداديّة المستَغِلّة، مع الإغراق فى التبعيّة للقوى الرأسمالية الكبرى، خاصةً وأن أزماتها الاقتصادية تدفعها للسعى للحصول على القروض الغربية، والارتماء فى أحضان السياسات الليبراليّة الجديدة التى يفرضها "صندوق النقد" ومؤسسات التمويل الدولية، وتعميق تبعيتها للغرب، وزيادة بؤس الجماهير العربية.

خلاصة واستنتاجات: مصر فى محيطها العربى والإقليمى والعالمى
1. مصر دولة محورية كبرى فى المنطقة العربية والقارة الأفريقية و"الشرق الأوسط" ، ولها دور حضارى، ومكانةً معنوية، يفوقان حجمها وإمكاناتها، على المستوى العالمى.
2. انعزال مصر عن هذه الدوائر الاستراتيجية، يُحاصر قدرتها على الفعل والتأثير، ويضرُّ ضرراً بالغاً بالمصالح العليا والأمن القومى، وعُزلتها داخل حدودها، وامتناعها عن التواصل الإيجابى مع هذا المحيط، كما دعا ويدعو البعض، يُسبِّب خسائر فادحة على المستوى الاستراتيجى، لا قِبل لها بتحمل نتائجها.
3. تُمثل المنطقة العربية والقارة الأفريقية، بروابط مصر التاريخية بهما، وبدورها الحضارى فى تحررهما وتطوير أوضاعهما، مجالاً حيوياً للتأثير والتعاون، لا عن طريق القسر والعدوان، وإنما عن طريق تقديم نموذجاً ناهضاً حداثياً وإنسانياً، يجمع بين التقدم الحضارى، المادى، من جهة، والاحتفاظ بقيّم العدالة والمساندة والدعم النزيه، من جهة أخرى.
4. أساس تعاوننا مع محيطنا الحيوى، العربى، والأفريقى، والأوسطى، هو السعى لتعظيم المصالح المشتركة، والتآزر فى مواجهة مخاطر البيئة (شح المياه، والتصحر، والأوبئة، والهجرة، .. وغيرها). وللحل السلمى للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
5. لا ينبع موقفنا المبدئى، المساند، شكلاً وموضوعاً، للقضية الفلسطينية، لاعتبارات تاريخية، وأخلاقية، وإنسانية وحسب، على أهمية هذه العناصر، وإنما بالأساس لارتباط أمن مصر القومى بأمن منطقة "الشام"، وفلسطين فى قلبها، وقد عبَّرَ "سليمان باشا الفرنساوى" عن هذا الوضع، بتأكيده على أن أمن مصر يبدأ من "جبال طوروس"، على الحدود السورية التركية.
6. الخطر الصهيونى لا يُهدد الشعب الفلسطينى وحده، وأطماع إسرائيل تتخطى "المحطة الفلسطينية"، والحروب المصرية الإسرائيلية لم يكن حافزها الدفاع عن فلسطين وحسب، إنما الدفاع عن دور ومكانة مصر فى المنطقة، ومصالحها الاستراتيجية بها، فى مواجهة عقيدة إسرائيلية – إمبريالية ثابتة، مفادها: "لا يجب السماح لمصر بأن تصلب عودها، وتمتلك قوة عسكرية تسمح لها بدور خارج حدودها".
7. اتفاقات الصلح مع العدو الصهيونى، اتفاقات إذعان، أضرّت ضرراً جسيماً بمصالح ودور مصر، ويجب التحرر النهائى من قيودها فور أن تسمح موازين القوى بذلك.
8. ندعم بقوة عدم تورُّط الجيش المصرى فى معارك خارجية تستنفذ طاقته، وتبدد إمكانات المجتمع، وتؤدى إلى تراجع مكانة مصر وإمكاناتها، وبخاصةٍ تلك الحروب التى لا تحوز رضى الشعوب الأخرى، ولا تحقق مصالحها، وتضعنا فى تناقض عدائى مع الشعوب.
9. مصر جزء عضوى من معسكر شعوب العالم الطامحة إلى التحرر من التبعيّة، والانعتاق من قيود الاستعمار القديم، والإمبريالية الراهنة، ممثلةً فى "العولمة" الأمريكية، وسياسات "الليبرالية الجديدة" ، والإلحاق الاقتصادى.
10.العالم يتحرك حثيثاً نحو توازن جديد للقوى، ينتهى فيه انفراد الولايات المتحدة الأمريكيّة، والغرب الرأسمالى، بمقادير البشرية، وبروز الصين بإمكاناتها الاقتصادية الفائقة، وتجمّعات "البريكس"، و"منظمة شنغهاى"، وغيرها من المؤسسات التى تتمتع بقدرات اقتصاديّة واستراتيجيّة كبيرة، فرصة لمصر وغيرها من بلدان العالم ، لتعديل أوضاعها، والخروج من مستنقع التخلف.
11."الحزب الاشتراكى المصرى" فصيل تقدمى، يسعى لانتصار الاشتراكية فى مصر والمنطقة وسائر بلدان المعمورة، تحالفاته الأساسية مع القوى الاشتراكية واليساريّة والتقدميّة، بمختلف تلاوينها فى العالم، ويسعى لبناء جبهة عربية مقاومة للصهيونيّة والاستعمار، وأخرى عالميّة مناهضة للتبعيّة والاستغلال و"العولمة المتوحشة"، وشروط وإملاءات المنظومة الرأسمالـيّة العالميّة.



#الحزب_الاشتراكى_المصرى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانقلاب العسكري في السودان.. لن يمر والنصر لشعب السودان الب ...
- الرؤية الاقتصادية للحزب الاشتراكى المصرى
- إسرائيل وأمريكا تغتصبان الجولان المحتل
- -التعديلات الدستورية- المقترحة تضر بالمسار الديمقراطى، وتعيد ...
- بيان مشترك من الحزبين الشيوعي والاشتراكي
- برنامج الحزب الاشتراكى المصرى يناير 2019
- قانون -القومية-: شرعنة الكيان الصهيونى كدولة اغتصاب وفصل عنص ...
- إفقار الشعب وبيع ثرواتنا وقمع حرياتنا
- العار للعدو الصهيوني والنصر لفلسطين
- العودة إلى أساليب -البلطجة- القديمة يقود العمل السياسى فى مص ...
- مجزرة صهيونية جديدة ضد الشعب الفلسطينى
- فاجعة جديدة للسكك الحديدية المصرية
- نرفض حبس الشباب فى قضية رأى
- نطالب بالإفراج عن الأستاذ خالد على والشباب المحبوس
- يدين الإرهاب ويدعم وحدة الوطن
- فى العيد السادس لثورة -25 يناير- حيّة إلى الأبد!
- احترام الدستور والقانون يجمع كلمة الوطن، ويضمن النصر على الإ ...
- لا للنزول يوم 11/11
- سابقة خطيرة وهجمة جديدة على الحريات المتراجعة فى مصر
- تحية لكفاح عمال مصر


المزيد.....




- وزيرة تجارة أمريكا لـCNN: نحن -أفضل شريك- لإفريقيا عن روسيا ...
- مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية
- استئناف محاكمة ترمب وسط جدل حول الحصانة الجزائية
- عقوبات أميركية وبريطانية جديدة على إيران
- بوتين يعتزم زيارة الصين الشهر المقبل
- الحوثي يعلن مهاجمة سفينة إسرائيلية وقصف أهداف في إيلات
- ترمب يقارن الاحتجاجات المؤيدة لغزة بالجامعات بمسيرة لليمين ا ...
- -بايت دانس- تفضل إغلاق -تيك توك- في أميركا إذا فشلت الخيارات ...
- الحوثيون يهاجمون سفينة بخليج عدن وأهدافا في إيلات
- سحب القوات الأميركية من تشاد والنيجر.. خشية من تمدد روسي صين ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الحزب الاشتراكى المصرى - الرؤية السياسية للحزب الاشتراكى المصرى