أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبد السلام أديب - قراءة نقدية لقانون مالية 2006















المزيد.....



قراءة نقدية لقانون مالية 2006


عبد السلام أديب

الحوار المتمدن-العدد: 1535 - 2006 / 4 / 29 - 11:55
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


تؤكد المؤشرات البارزة في المغرب على أن الاقتصاد المغربي يوجد في وضع لا يحسد عليه، فسواء تعلق الأمر بالعالم القروي أو بالصناعة التحويلية أو بقطاع الخدمات والسياحة، فكل هذه القطاعات تسجل معدلات نمو متواضعة جدا إن لم نقل ضعيفة زيادة على المؤشرات الاجتماعية المتدهورة أصلا. ولعل لجوء السلطات المخزنية اليوم إلى ما يسمى بالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية لخير دليل على ذلك.
فمعدل النمو السائد منذ 1999 إلى 2004 لم يتعد 3 % وهي نسبة غير كافية لتمكين الاقتصاد المغربي من الإقلاع والحد من البطالة، كما لم تتجاوز نسبة النمو سنة 2005 معدل 1,2% . وتبين نتائج الحسابات الوطنية أن بنيات القطاعات المنتجة لم تعرف تحولات عميقة حيث تراجعت حصة القطاع الفلاحي في مجموع القيم المضافة من 19,9 سنة 1980 إلى 15,7 نقطة سنة 2003. كما أن الاقتصاد المغربي لا زال رهينا بتساقط الأمطار ولا تساهم الفلاحة سوى ب 14% في الناتج الداخلي الخام وتتراجع هذه المساهمة إلى 1,4 % في سنوات الجفاف. كما أن انعكاس اندثار الفرشة المائية على أوضاع الفلاحين باتت واضحة للعيان وتكتسي طابع الخطورة الداهمة وذلك ما يتجلى في:
* عجز الفلاحين الفقراء والصغار على الاستمرار في تجهيز أبارهم مما دفع بالعديد منهم إلى التحول في أحسن الأحوال إلى عمال زراعيين إن لم يلتحقوا بصفوف البطالة؛
* لجوء الفلاحين المتوسطين إلى القروض لمواجهة متطلبات النفقات الإضافية التي أصبح يفرضها نضوب آبارهم حتى يحافظوا على مزارعهم ونشاطهم الفلاحي في حده الأدنى؛
* انخفاض النشاط الفلاحي لأغلبية الفلاحين الأمر الذي زاد من تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية؛
* تفاقم الأمراض الاجتماعية: البغاء، التسول، التعاطي للمخدرات واللصوصية.
إن هذه الوضعية مازالت مرشحة للتفاقم خاصة وان الجفاف أصبح معطى بنيويا وان جميع القرائن تثبت أن دولة الكمبرادور والملاكين الكبار ماضية في تطبيق سياسة مراكمة الأرباح السريعة على حساب مستقبل البلاد والتوازنات البيئية والجهوية وتفريطا بالأمن الغذائي للمواطن. فنحن نستورد الآن القمح سواء كانت السنة جيدة أو سنة سيئة، فحتى عندما نعيش سنة جيدة من حيث الأمطار نقوم باستيراد القمح، حيث نستورد في المتوسط 30 مليون قنطار ومعنى ذلك أن المغرب أصبح مستورد بنيوي للحاجيات الغذائية الأساسية.
- كما تعرف الصناعة المغربية تراجعا ملحوظا نتيجة الانفتاح المطلق على الواردات ونهج سياسة الباب المفتوح وابرام اتفاقيات التبادل الحر ومنافسة الشركات متعددة الاستيطان حيث تفاقمت أزمة النسيج وأغلقت المئات من المؤسسات وارتفعت أسعار المحروقات التي رفعت من كلفة الإنتاج، فنسبة النمو تزداد انخفاضا نتيجة هذه العوامل.
- ورغم مراهنة السياسة العمومية على سياسة التصدير فقد سجلت المؤشرات الرسمية مساهمة سلبية للطلب الخارجي فمقابل تشجيع واردات السلع والخدمات حيث تزايدت هذه الأخيرة بوتيرة أكبر خلال المرحلة 2004-2001 ، حيث بلغ معدل نموها 7,6 % مقابل 5,9 % بين 1997 و .2000 . بينما عرفت الصادرات ارتفاعا متواضعا من مرحلة لأخرى منتقلة من 4,9 % إلى %.5,8 مما أدى إلى تفاقم العجز التجاري.وهكذا تراجعت مساهمة التجارة الخارجية في النمو بـ 0,4 نقطة لتسجل -1,0 من الناتج الداخلي الإجمالي. فحسب المنظمة العالمية للتجارة، بلغ معدل النمو السنوي المتوسط للصادرات بالمغرب 4,1 % ، وهو معدل أقل من نظيره المسجل في تونس(6,9 %) وماليزيا (6,3 % ) والمكسيك (7,1 %) وتركيا (11,5 % ) وهنغاريا (13,1 % ) والصين (19 %). وقد همت 71 % من الصادرات الوطنية سنة 2003 الصناعات الغذائية والنسيج والكيمياء وهي قطاعات لا تمثل سوى 28 % من التجارة العالمية حسب مركز التجارة الدولي.
- في ظل هذا الوضع الإقتصادي المتدهور والهش بلغت نسبة البطالة 18% من السكان النشيطين، بينما تبلغ 25% وسط الشباب وحاملي الشهادات، ومعلوم أمه لتوقيف البطالة عند هذا الحد فقط، يجب تحقيق نسبة نمو قدرها 6 % على الأقل الشيء الذي يصعب تحقيقه، بينما نلاحظ أن قانون المالية لسنة 2006 قد وضع على أساس نسبة نمو 3,5 % علما انه من الصعب تحقيق مثل هذا المعدل.
أمام هذه المؤشرات والأرقام الرسمية التي يصعب في ظلها تصور تنمية اقتصادية واجتماعية و"بشرية" سليمة يمكننا أن نطرح التساؤل حول دور السياسة المالية في معالجة أو تكريس هذه الوضعية؟

فالقانون المالي يعتبر أهم أداة سياسية بيد الدولة للتأثير على الوضع الاقتصادي والإجتماعي، فكلما كانت الدولة ديموقراطية، كلما كانت هذه الأداة تعبيرا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا عن رغبات مختلف شرائح المجتمع، لكن ، كلما تفلص الطابع الديموقراطي للدولة، كلما كانت هذه الأداة تترجم مصالح وفلسفة موازين القوى السائدة في المجتمع.
لذلك فإن فهم طبيعة القانون المالي في بلادنا وتحليل المصادر الفكرية للميزانية العامة لا يمكن فصله عن فهم أشكال سيطرة القوى السائدة وعن أسلوب ترجمة مصالح هذه القوى عبر قوانين المالية السنوية.
إذن سأحاول من خلال هذه المداخلة استعراض بنية الميزانية العامة لسنة 2006 من خلال عرض طبيعة الموارد العمومية وكذا طبيعة النفقات العمومية بشكل عام. ثم أتطرق ثانيا لمدى احترام الحكومة للأهداف المعلنة في الميزانية العامة لهذه السنة، وأخيرا سأحاول أن اربط طبيعة الميزانية العامة في بلادنا بتطور أشكال السيطرة الاجتماعية سواء على المستوى الدولي أو المستوى الوطني.

أولا: بنية الموارد العمومية:
عرفت الموارد العمومية التي بلغ سنة 2006 ما قدره 197,1 مليار درهم زيادة ضعيفة بنسبــة 6,03 % عن سنة 2005. وترجع هذه الزيادة بالأساس إلى المداخيل الاستثنائية كمداخيل الخوصصة التي عرفت انخفاضا هذه السنة والتي بلغت 4,9 مليار درهم والاقتراضات الخارجية التي بلغت48 مليار درهم.
أما بالنسبة للمداخيل العادية والتي ترتكز أساسا على المداخيل الضريبية فقد عرفت نموا متوسطا. ويمكن اعتبار أن الزيادات التي عرفتها معدلات الضريبة على القيمة المضافة جائت نتيجة التدهور المتواصل للموارد العمومية:

(1) – الزيادات التي عرفتها الضريبة على القيمة المضافة:
إن أهم ما يميز قانون مالية 2006 هي تلك التعديلات التي أدخلت على الضريبة على القيمة المضافة، والتي جائت لتعويض التراجع الحاصل في مداخيل الدولة عامة ومداخيل الخوصصة على الخصوص.
وقد كانت الحكومة عازمة في اطار مشروع القانون المالي لسنة 2006 على اختزال معدلات الضريبة على القيمة المضافة من أربع معدلات وهي 7 % و10 % و14 % و20 % إلى معدلين فقط وهما 10 % و 20 %، لكن نظرا لتخوفها من ردود فعل شعبية قوية ضد هذا الاختزال الذي سيرفع مستوى الأسعار بشكل حاد، تم الاستعاضة عن ذلك بفرض ضرائب على مواد وخدمات لم تكن خاضعة للضريبة من قبل وبرفع معدلات ضريبية على عدد آخر منالمواد والخدمات وذلك مثل:
توسيع القاعدة الجبائية عبر فرض ضريبة بمعدل 10 % على مجالات لم تكن خاضعة من قبل للضريبة كعمليات القرض الفلاحي والقروض المنوحة من طرف الصندوق الجماعى للتجهيز؛
رفع معدل الضريبة على القيمة المضافة على الخدمات البنكية وقروض السكن، والصرف، والاكتتاب من 7 % إلى 10 %؛
رفع معدل الضريبة على القيمة المضافة على مادة الزبدة مثلا من 10% إلى 14%؛
إن الزيادات التي حدثت في نسب الضريبة على القيمة المضافة بالإضافة إلى ارتفاع سعر النفط قد أدى إلى ارتفاع كبير في الأسعار مما يؤثر حاليا على القدرة الاستهلاكية للأغلبية الساحقة من المغاربة.
(2) – تدهور الموارد العمومية:
من المعلوم أن مداخيل الدولة تتدهور سنة بعد أخرى في الوقت الذي تتزايد في النفقات، ومن بين الأسباب المباشرة لهذا التدهور نجد ما يلي:
- ضعف الطاقة الضريبية، وهي حصة المداخيل الجبائية الى الناتج الداخلي الاجمالي، حيث لا تتعدى هذه الطاقة 20 % ومن وذلك بسبب انخفاض مستوى دخل الفرد، وعدم خضوع أصحاب الدخول والثرواث الكبرى للضريبة نتيجة المحاباة والنفوذ السياسي؛
- جمود النظام الضريبي وعدم تطويره وتطويعه لخدمة أهداف التنمية ، فرغم الاصلاحات الجبائية الكبيرة التي أدخلت خلال عقد الثمانينات على شكل الضرائب التي يتضمنها النظام الضريبي المغربي وهي الضريبة على القيمة المضافة والضريبة العامة على الدخل والضريبة على الشركات؛ إلا أن أسلوب وقوع هذه الضرائب على المصادر الاقتصادية المختلفة لم يتغير، فلا زالت الضرائب غير المباشرة تحظى بالأولوية على الضرائب المباشرة كما أن العبء الجبائي لا زال يقع بقوة على الرواتب والأجور وعلى المواد والخدمات واسعة الاستهلاك مقارنة بالمصادر الاقتصادية الفلاحية والعقارية والتجارية والصناعية والمهن الحرة.
فالإصلاحات التي تم اعتمادها مست على الخصوص جانب الشكل بدل المضمون، مع احداث تراجع عن مبدأ التصاعد الضريبي والعمل على تفكيك الرسوم الجمركية؛
التهرب الضريبي، وهي ظاهرة ملازمة للنظام الجبائي المغربي، فارتفاع نطاق التهرب الضريبي يؤثر بشكل واضح في تدهور حصيلة الضرائب، حيث يتمكن الفرد المكلف بالضريبة من التخلص نهائيا منها، بعدم دفعها، أو بتقديم اقرارات ضريبية غير صحيحة؛ والجميع يعلم أن أرباب رخص الصيد في أعالي البحار يبيعون في عرض البحر مصائدهم لبواخر أجنبية من دون افراغهها في الموانئ المغربية قصد التهرب من أداء الضرائب المستحقة
تراجع مداخيل الرسوم الجمركية سنة بعد أخرى نتيجة تفكيك هذه الرسوم تطبيقا لإملاءات اتفاقيات مراكش حول التجارة الدولية واتفاقيات الشراكة الأورومتوسطية التي تلزم المغرب بإزالة كل الحواجز الجمركية في أفق 2010 وحاليا التزامات المغرب اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية برسم اتفاقية التبادل الحر. فعواقب تراجع هذه المداخيل لن تستشعر بحدة إلا حينما لا يتبقى للمغرب ما يبيعه من مقاولات عمومية مربحة وحينما يعجز عن أداء مستحقات موظفيه ومتقاعديه.
ويمكن أن نضيف إلى تراجع المداخيل الضريبية انعكاسات الخوصصة وبيع الدولة للمرافق العمومية، حيث أصبحت الخوصصة تطال بعض الوضائف التقليدية للدولة مثل خدمات الأمن الداخلي والصحة العامة والتعليم الأساسي والمرافق العامة كالشوارع والجسور والمصارف والموانئ والمطارات ومحطات الكهرباء والمياه ... الخ.
وإذا كانت الخوصصة تؤدي إلى بعض المداخيل الاستثنائية فإنها تؤدي بالمقابل إلى حرمان الميزانية العامة من المداخيل العادية التي تدرها ممتلكات واحتكارات الدولة. ومعلوم أن مدا خيل الخوصصة إما أن تستعمل لتغطية عجز الخزينة العامة فلا يتم توظيفها في مجال الاستثمار أو توضع في صناديق لا توجد مراقبة ديموقراطية عليها ولا علاقة لها بميزانية الدولة.
إن نسبة المداخيل العادية تتراجع أمام نسبة المداخيل الاستثنائية لميزانية الدولة. فالمداخيل الضريبية أصبحت لا تمثل سوى 59 % فقط من ميزانية الدولة، وتعتبر هذه الظاهرة خطيرة بالنسبة للمستقبل، لأن النفقات ستبقى في تزايد مستمر.
وأمام التدهور الحاصل في مداخيل الميزانية فلن تجد السلطات العمومية أمامها سوى القيام بمزيد من الاستدانة الخارجية، أو الزيادة أكثر في معدلات الضرائب غير المباشرة التي تعتبر وسيلة سهلة.
ونظرا لهيمنة العقلية البرجوازية على دواليب السلطة فإن الزيادات المتوقعة في الضرائب ستهم بالأساس الضرائب على الإنفاق التي يؤديها أوسع الجماهير ولا تميز بين الغني والفقير، كما ستتزايد الضرائب المفروضة على دخل الطبقة العاملة، بينما ستتزايد في المقابل الاعفاءات الممنوحة للشركات ولأرباب العمل وللمداخيل العليا.
ففي ظل القانون المالي لسنة 2006 خولت اعفاءات ضريبية مهمة لقطاعات العقار والفلاحة والتصدير والسياحة ومناطق التبادل الحر، وهناك تقرير حول النفقات الجبائية الذي يبرز حجم ما تتخلى عنه الدولة من امتيازات واعفاءات والتي بلغت سنة 2005 حوالي 15 مليار درهم، وهو ما يمثل 3,4 % من الناتج الداخلي الاجمالي.
إن كلمة إصلاح في المغرب لا تعني بالنسبة للموظفين والطبقة العاملة وعموم الكادحين في جميع المجالات وخاصة في المجال الضريبي سوى تكريس مزيد من الحيف ومزيد من اتساع الفوارق الطبقية. فحتى بالنسبة لتقليص نسبة الضريبة العامة على الدخل من 44 % إلى 41% والمقرر منذ 2002 لم يتم تفعيله إلى الآن، بينما نلاحظ ما تفقده الدولة من مداخيل نتيجة محابات أصحاب الثروات.
فالنظام الجبائي المغربي لا تقوم أهدافه على تحقيق العدالة الجبائية وتقليص الفوارق الاجتماعية بل يسعى إلى تكريس المزيد من هذه الفوارق. ففي إطار هذا الاصلاح تم تخفيض معدلات الضريبة العامة على الدخل المفروضة على المداخيل العليا وتكريس الضغط الجبائي على الشرائح الدنيا من المداخيل. كما تم نخفيض الضريبة على الشركات من 48 % إلى 35 % وتخفيض معدلات الضريبة على القيمة المضافة المفروضة على السلع الكمالية مثل الويسكي والذهب والتحف النادرة ... إلخ من 30 % إلى 20 % لتصبح في نفس مرتبة المواد الأساسية بل ورفع معدلات الضريبة على القيمة المضافة على المواد الواسعة الاستهلاك. فهذا الإصلاح جاء لتدعيم توجهات سياسة التقويم الهيكلي التي تخدم بالأساس مصالح الكومبرادور والشركات متعددة الإستيطان والبرجوازية الوكيلة لها.
فالإصلاح الجبائي الذي اعتمد في المغرب منذ أواسط عقد الثمانينات لم يكن هدفه تحقيق العدالة الجبائية وتقليص الفوارق الاجتماعية بل كان يسعى إلى تكريس المزيد من هذه الفوارق. ففي إطار هذا الإصلاح تم تخفيض معدلات الضريبة العامة على الدخل المفروضة على المداخيل العليا وتكريس الضغط الجبائي على الشرائح الدنيا من المداخيل. كما تم تخفيض الضريبة على الشركات من 48 % الى 35 % وتخفيض معدلات الضريبة على القيمة المضافة المفروضة على السلع الكمالية مثل الويسكي والذهب والتحف النادرة...الخ من 30 % إلى 20 % لتصبح في نفس مرتبة المواد الأساسية. فهذا الإصلاح جاء لتدعيم توجهات سياسة التقويم الهيكلي التي تخدم بالأساس مصالح الكومبرادور والشركات متعددة الاستيطان.

ثانيا: بنية النفقات العمومية
نتيجة تجميد الأجور وإلغاء مناصب الشغل التي يحال أصحابها على التقاعد وتخفيض مستوى التوظيف وتراجع دعم القطاعات الاجتماعية ستعرف النفقات العمومية في ظل القانون المالي لسنة 2006 زيادة ضعيفة بنسبة 4,4 % مقارنة مع سنة 2005 أي بمبلغ 167,43 مليار درهم ويرجع هذا التزايد الضعيف إلى تراجع نفقات التسيير نتيجة عملية المغادرة الطوعية التي أحالت على التقاعد حوالي 39 ألف موظف.
لكن نفقات الميزانية العامة لا زالت تتميز بنفس الاختلالات المزمنة، المتمثلة في:
هيمنة حصة نفقات التسيير بنسبة 60,53 % أي بمبلغ 101,18 مليار درهم؛
ومحافظة نفقات خدمة الدين العمومي بالمرتبة الثانية بنسبة 26,58 % أي بمبلغ 44,43 مليار درهم منها 20,63 % مخصصة لمدفوعات المديونية الخارجية و79,2 % منها مخصصة لمدفوعات المديونية الداخلية.
أما نفقات الاستثمار العمومي فتضل في أسفل السلم بنسبة 12,87 % فقط أي بمبلغ 21,52 مليار درهم، علما بأن هناك رصيدا بمبلغ 8,5 مليار درهم من اعتمادات الاستثمار المقررة في إطار ميزانية 2005 لم يتم الأمر بصرفها إلى الآن، الشيء الذي يرفع حصة نفقات الاستثمار خلال سنة 2006 إلى 30,20 مليار درهم. لكن هذا الرصيد يؤكد لنا أن نسبة إنجاز الأهداف التنموية المعلنة في إطار ميزانية 2004 لم تتعد 44,64 %، نفس الشيء بالنسبة لميزانية 2005 .كما يؤكد لنا بأن القانون المالي يضل مجرد توقعات لا يمكنه أن يؤكد لنا مصداقية الأهداف الحكومية في العديد من القطاعات، والتي لا بد من أن توفر حسابات ختامية حديثة للتعرف على مدى إنجاز الأهداف المرسومة(علما أن آخر قانون للتصفية قدم للبرلمان هو المتعلق بميزانية 1995 وقد قدم سنة 2001).
ويعود سبب الاختلال الحاصل في النفقات العمومية، أساسا إلى العجز المزمن للميزانية العامة، ومن بين الأسباب المباشرة لنمو النفقات العمومية وبالتالي تفاقم عجز الميزانية هناك ما يلي ما يلي:
التمويل بالعجز: فخلال العقود الثلاثة الأولى للاستقلال كانت الحكومات المتعاقبة تلجأ إلى سياسات التمويل بالعجز كوسيلة من وسائل التنمية، أي للاسراع بعمليات تكوين رأس المال. وتقوم هذه السياسة على أساس زيادة الاقتراضات الداخلية والخارجية وكذا طبع الأوراق النقدية على أساس أن هناك موارد عاطلة كثيرة كالأراضي الزراعية والثروات الطبيعية ومنها الفسفاط على الخصوص. وتقوم هذه الفرضية على أن سياسة التمويل بالعجز ستؤدي إلى زيادة طلب الدولة على الموارد الأولية مما سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار وتحويل الموارد لصالح تراكم رأس المال. وقد أثبت الواقع أن سياسة التمويل بالعجز قد فشلت في تحقيق أهدافها (أي الزيادة في تراكم رأس المال الثابت) وقد كانت هذه السياسة التي راكمت الثروات في أيدي الأقلية مسؤولة عن تفاقم عجز الميزانية العامة وعن ارتفاع معدلات التضخم.
لعب الانفاق العسكري بدوره دورا أساسيا في تزايد النفقات العمومية بمعدلات كبيرة. ولعل النزاع في منطقة الصحراء منذ أكثر من ثلاثين سنة وما رافق ذلك من احتياطات عسكرية دائمة، يقدم دلالة كبيرة عن دور الانفاق العسكري في تكريس عجز الميزانية، خصوص وأن هذه النفقات غير مولدة للمداخيل، فهي تدهب فقط كمخصصات الأجور والرواتب والمستلزمات السلعية والخدماتية الضرورية للقوات المسلحة فقط. وكذا النفقات المخصصة لاستيراد السلاح والذخيرة وكلفة الصيانة للمعدات العسكرية. وخطورة هذا النوع من النفقات أنه لا يتم فقط بالعملة المحلية وإنما أيضا بالعملات الأجنبية.
كما لعب التضخم الذي عرفه المغرب منذ أواخر عقد السبعينات وحتى نهاية عقد الثمانينات، دورا في تدهور القدرة الشرائية للنقود وبالتالي إلى تزايد الانفاق العمومي. ففي ظل التضخم تزايدت كلفة شراء المستلزمات السلعية والخدماتية التي تحتاجها الدولة لتأدية وظائفها التقليدية. كما تتزايد مخصصات صندوق المقاصة لدعم السلع الأساسية وترتفع كلفة الاستثمارات العمومية.
وتشكل المديونية الداخلية والخارجية عاملا حاسما في تزايد الانفاق العمومي، فأعباء خدمة الدين المتزايدة تسخل في الميزانية العامة، وتدخل الفوائد المستحقة علىة الديون ضمن النفقات العمومية. وقد سببت المديونية الخارجية ارهاقا ماليا فادحا للميزانية العامة للدولة مما دفع الى الاستغاثة بالمؤسسات المالية الدولية التي ستفرض وصايتها الاقتصادية والمالية على المغرب منذ بداية عقد الثمانينات.
ويمكن أن نظيف هنا التبدير كعامل أساسي في نمو الإنفاق العمومي وبالتالي في العجز المالي. ويظهر التبذير على الخصوص في مجال الإنفاق على المباني الوزارية الفاخرة والمطارات الفخمة وشراء الآثات الفاخر والديكورات الغالية والسيارات الحكومية الفارهة، والصرف بسخاء وبالعملات الأجنبية على البعثات الوزارية والموظفين الكبار وعلى الحفلات والمآدب التي تقيمها السفارات في مختلف البلدان الأجنبية، والإنعام على أعضاء السلك الدبلوماسي في الخارج ... الخ.



ثالثا: الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة لميزانية 2006:
تقوم الأهداف المعلنة لمشروع القانون المالي لسنة 2006 حول ثلاث محاور كما يلي:
1 – تحقيق نمو اقتصادي بمعدل مرتفع من شأنه أن يحل مشكلة التشغيل ويرفع من مستوى عيش السكان بشكل دائم؛؛
2 – اعتماد سياسة اجتماعية من شأنها تقليص الفوارق على المستوى الاجتماعي والمجالي والمقصود هنا المبادرة الوطنية للتنمية البشرية؛
3 – تفعيل الإصلاحات البنيوية القطاعية الرامية إلى تحديث الإقتصاد الوطني وتأهيل المقاولة المغربية بغية تمكينها من مواجهة إكراهات العولمة والآثار السلبية للأزمات الخارجية والداخلية وتشجيع التدبير العمومي المرتكز على النتائج.
الا أن هذه الأهداف لا تعني شيئا، لأنها هي نفسها التي يتم ترديدها سنويا بعبارات مختلفة، بل نجدها في الواقع تعني العكس تماما.
فعلى مستوى التشغيل لن تصل أعداد مناصب الشغل المحدثة خلال سنة 2005 سوى إلى 7000 منصب شغل وتهم أساسا قطاعات التعليم والصحة والعدل والداخلية، في الوقت الذي سيشهد فيه قطاع الوظيفة العمومية إحالات واسعة على التقاعد المبكر تصل إلى حوالي 73000 منصب شغل والتي سيتم إقفالها نهائيا تنازلا أمام توصيات الصندوق والبنك الدوليين التي تصر على تقليص حجم القطاع العمومي. كما أن استمرار سياسة خوصصة المرافق العمومية تؤدي مباشرة الى تسريحات واسعة في صفوف المستخدمين.
أما بالنسبة الى سياسة الميزانية في مجال التعليم فإن تدهور قطاع التعليم العمومي أصبح باديا للعيان من خلال ضعف الاعتمادات المخصصة لهذا القطاع إلى جانب تنامي مؤسسات التعليم الخاص الباهضة والمتفاوتة الأسعار ومضامين الدراسات المقدمة والتي تؤدي الى تفاوت طبقي صارخ في هذا المجال وتحرم الطبقة العاملة وعموم الكادحين من فرص تعليم ابنائهم. ومعلوم أن التعليم العمومي لم يعد يؤدي إلى التشغيل حيث أن أحجام حاملي الشهادات المعطلين لا زالت في تزايد مستمر.
أما بالنسبة لسياسة الميزانية في مجال الاسكان فإن مقولة ولوج السكان المعوزين إلى السكن اللائق، فالجميع يعلم حجم المضاربة العقارية المتفاحشة في بلادنا والتلاعب في مجال إعادة إسكان ساكنة دور الصفيح، حيث يصبح هذا المجال مرتعا لكل أشكال الفساد والاغتناء غير المشروع.
أما بالنسبة لنسبة النمو المعلن عنه وهو 5,4 % خلال سنة 2006، فلا يبدو واقعيا ، نظرا لضعف السوق الداخلي والتوجه الخارجي للاقتصاد وارتفاع فاتورة الطاقة وتخلي الدولة عن القيام بدور مهم في مجال الاستثمار العمومي، فمنذ عقد الثمانينات ظلت القاعدة العامة هي أن نسبة النمو لا تتجاوز 2,5 % الا نادرا، وهذه النسبة غير كافية للتصدي للفقر والبطالة وتردي الأوضاع المعيشية لأوسع الفئات، حيث يمكن تسجيل التسريحات الهائلة التي يقبل عليها القطاع الخاص من أجل تقليص الكلفة وتشجيع الأعمال المؤقتة والهشة التي لا تخضع المقاولة لالتزامات مدونة الشغل.
أما بالنسبة لسياسة الميزانية في مجال الأجور والوظيفة العمومية فتخضع منطق الإصلاح لتعاليم المؤسسات المالية الدولية التي تعتبر بأن مستوى الأجور الذي يشكل 52,7 % فقط من مجموع نفقات التسيير يعتبر مرتفعا وذلك بهدف دفع الحكومة إلى تقليصها. فيقال أن قطاع التعليم الابتدائي والثانوي يستحوذ على 26,4 % من نفقات التسيير.
لكن هذا الاتهام غير صحيح في الوقت الذي تتفشى فيه معدلات الأمية ويتراجع فيه مستوى التعليم بهدف خوصصته إضافة إلى أن رجال التعليم إذا كانوا يشكلون حوالي 60 % من مجموع الموظفين فإنهم لا يتقاضون سوى 26% من نفقات الميزانية، فهذا القطاع يعاني من حيف كبير في هذا المجال. فأجر امرأة أو رجل التعليم لا تتجاوز في أغلب الأحوال 4000 درهم شهريا بينما تتجاوز أجور بعض موظفي وزارة الداخلية أو المالية 20.000 درهم شهريا. أما إذا احتسبنا أجور وتعويضات أعضاء الحكومة والبرلمانيين والكتاب العامين للوزارات والمدراء وكبار موظفي الدولة بالقطاع العمومي، إضافة إلى الامتيازات العينية التي يحضون بها كالمساكن الفخمة وأعداد السيارات الفارهة ونفقات تعهدها والأسفار والفنادق ذات التكاليف الباهظة وما تستهلكه السفارات المغربية خارج البلاد من نفقات باهضة، فلا شك أنها تشكل أكبر نسبة من ميزانية التسيير. إن مثل هذه الحقائق تفند ادعاء استهداف محاربة الفقر ومحاربة الفوارق الاجتماعية والجهوية.
أما بالنسبة لقطاع الصحة فنجده يعاني من حيف كبير، في الوقت الذي يحتاج فيه الشعب المغربي إلى ثلاث أضعاف ما هو متوفر من أطباء وممرضين وأدوية وبنيات تحتية على امتداد التراب الوطني.
رابعا: الميزانية العامة والفكر المالي السائد:
إن الخلفيات الفكرية التي تحكم وضع الميزانية العامة في بلادنا تشكل جزء من المنظومة الفكرية السائدة عبر العالم، فماهي طبيعة هذه المنظومة الفكرية؟ وكيف تطورت؟
لذلك يجب العودة بسرعة إلى كيفية تطور الفكر المالي بالموازاة مع تطور القوى التي نسجت هذا الفكر وفرضته على المحيطين الدولي والمحلي وأصبح بالتالي يترجم من خلال القوانين المالية السنوية.
فقد تطور الفكر المالي عبر ثلاث مراحل، تترجم كل مرحلة منها شكل الهيمنة الاجتماعية السائدة، وتتعاقب هذه المراحل على مدى قرنين من الزمان أي منذ سنة 1800 وهو تاريخ سيطرة القوى البرجوازية على جهاز السلطة وتسخيرها لخدمة مصالحها. فالمرحلة الأولى تبدأ سنة 1800 وتنتهي سنة 1929 وهو تاريخ إنفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، بينما تبدأ المرحلة الثانية من سنة 1930 وتنتهي سنة 1979 وهو تاريخ صعود مارغريت تاتشر الى الحكم في بريطانيا. أما المرحلة الثالثة فتبدأ سنة 1979 ولا تزال مستمرة لحد الآن. ففي كل مرحلة من هذه المراحل الثلاث ساد فكر مالي واقتصادي معين ينسجم مع شكل السيطرة الاجتماعية السائدة.
(1) – الفكر المالي قبل عقد الثلاثينات من القرن العشرين
تميزت المرحلة الأولى بالسيطرة المطلقة للطبقة البرجوازية على جهاز الدولة فكان لا بد أن تنعكس هذه السيطرة على أداء الدولة الاقتصادي والاجتماعي وبالتالي وضع كل ذلك في خدمة المصالح الطبقية السائدة. وقد عمل بعض المفكرين الاقتصاديين من أمثال أدام سميث وريكاردو وجان باتيست ساي على تنظير هذه المرحلة وترجمة مصالح الطبقة البرجوازية في مبادئ وقواعد للتدبير المالي والاقتصادي. وتوجد على رأس هذه المبادئ مقولة دعه يعمل دعه يمر واليد الخفية التي تعيد التوازن الاقتصادي والاجتماعي تلقائيا عبر السوق الحرة وقانون العرض والطلب.
لقد كانت المصالح البرجوازية خلال هذه المرحلة تقتضي وجود أمن قوي للدفاع عن مصالحها في مواجهة الطبقات الكادحة التي كانت أوضاعها تزداد تفاقما يوما بعد يوم. كما كانت مصالح هذه الطبقة تقتضي وجود جيش قوي للدفاع عن حدود سيطرتها الإقليمية وكذلك لغزو الشعوب الأخرى وإخضاعها للاستعمار المباشر. كما كانت القوى السائدة في حاجة إلى دبلوماسية نشطة لتصريف مصالحها لدى الشعوب الأخرى. فهذه الحاجيات الثلاثة هي التي كانت تشكل ما يسمى بنفقات الدولة الدركية. لذلك كانت نفقات هذه الدولة محدودة، كما كانت الموارد المالية اللازمة لتغطية هذه النفقات هي أيضا محدودة، فكانت الضريبة تطبق بسعر نسبي منخفض.
إذا كان النظام الذي ساد خلال هذه المرحلة قد حقق للطبقة البورجوازية طفرة نوعية في مجال الصناعة وتراكم الثروات الهائلة فقد أدى في المقابل إلى انتشار البؤس والفقر في في صفوف الطبقة الكادحة ولدى شعوب الدول المستعمرة كما أدى إلى اندلاع الحروب بين القوى الرأسمالية حول المستعمرات. وقد كان من شأن هذا التناقض الصارخ أن انفجرت الأزمات والمظاهرات في كل مكان. وظهر مفكرون يساندون قضايا العمال والشعوب المقهورة من أمثال كارل ماركس وانجلس ولينين ويقترحون تنظيم اشتراكي بديل للرأسمالية. وقد أثمرت الأفكار الثورية المناهضة للنظام الرأسمالي في اندلاع الثورتين الروسية والصينية وفي تمرد الشعوب الأهلية في المستعمرات من أجل التحرر والاستقلال كما أدى تفاقم التناقضات إلى ظهور أنظمة فاشية يمينية متطرفة تتطلع إلى الهيمنة المطلقة على العالم كما يحدث حاليا مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإسرائيل.

(2) – الفكر المالي منذ عقد الثلاثينات وإلى غاية سنة 1979
عقب اندلاع الأزمة الإقتصادية العالمية لسنة 1929، وأمام التهديد الذي بدأت تشعر به القوى البرجوازية أمام امتداد الوعي السياسي للطبقات الكادحة والشعوب المستعمرة، ومخافة من ضياع مصالحها، بدأت تخضع نفسها لبعض الضوابط الاقتصادية والمالية لاستمالة القوى العمالية والطبقات الشعبية لمواجهة تهديد الفكر الاشتراكي والقوى الفاشستية، وقد كان المعبر الأمين عن هذه المرحلة هو المفكر الإنجليزي جون ماينارد كينز الذي دعى إلى ضرورة تدخل جهاز الدولة لتحقيق مطامح الطبقات العاملة في التشغيل والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية. ونتيجة لتبني القوى الرأسمالية الغربية لأفكار كينز حدثت تسوية تاريخية بين رأس المال والعمل الشيء ساعد على ظهور ما يسمى بمشروع دولة الرفاه. وقد كانت أهم العوامل التي ساعدت على هذه التسوية التاريخية تمفصل القوى الإجتماعية على الصعيد الدولي حول ثلاث مشاريع متوازنة هي:
مشروع دولة الرفاه في الدول الرأسمالية الغربية الذي تميز بسيادة الأداء الاقتصادي الكينيزي الذي ارتكز على عدالة توزيع الدخل عبر العديد من الميكانيزمات وقيام الدولة بتوفير الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة ورعاية اجتماعية.. الخ بالمجان. ونتيجة لذلك أخذت ميزانية الدولة تتضخم سنة بعد أخرى نتيجة تزايد نفقاتها والتوسع في ايجاد الموارد اللازمة لتغطيتها. وكانت الحكومات تلجأ إلى استعمال منهجي لعجز الميزانية لتحريك الاقتصاد واستعادة التوازن الاقتصادي والاجتماعي.
كما أدى انتصار الاتحاد السوفياتي في الحرب واندلاع الثورة الصينية الى قيام المشروع الاشتراكي الذي خلق إطارا آخر ملائم للنضال السياسي شجع بدوره على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي من خلال التحدي الذي فرضه نمط الإنتاج الاشتراكي على رأس المال فألزمه بقبول التسوية التاريخية مع الطبقة الكادحة. وقد كانت المجتمعات الاشتراكية تلجأ إلى اقتطاع جزء من فوائض الوحدات الإنتاجية ذات التسيير الجماعي من أجل تغطية مصاريفها التي تفاقمت مع متطلبات الحرب الباردة وتحدي السباق نحو التسلح وغزو الفضاء الشيء الذي إلى رفع مستوى الاقتطاعات من فوائض الوحدات الانتاجية وبالتالي إلى ظهور عجز مالي مزمن وقصور اقتصادي واجتماعي عميقين أصبح يهدد نمط الانتاج الاشتراكي.
ورغم المؤاخذات التي أثيرت حول النظام السوفيتي الذي تم نعته برأسمالية الدولة وباستغلال البيروقراطية للمشروع الاشتراكي وغياب الديموقراطية وحرمان النظام من فرصة إعادة إنتاج نفسه مما أدى إلى انهياره، فإن كل ذلك لم يخفي المفعول المشجع للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي على الصعيد العالمي والذي ترتب نتيجة المنافسة السياسية والإيديولوجية بين "الشرق" و "الغرب".
كما استغلت حركات التحرر الوطني في العالم الثالث ظروف الحرب العالمية الثانية ومساهمة شعوبها فيها من أجل المطالبة بالاستقلال وظهور مشروع باندونغ للتنمية في بلدان الجنوب، وقد استغلت هذه الشعوب المستقلة حديثا ظروف المنافسة القائمة بين الشرق والغرب لتدعيم استقلالها وشروط تنميتها. وقد لعبت الأفكار الكينيزية دورا مهما في تنظيم ميزانيات هذه الشعوب ووضعها في خدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، غير أن النزعة الكومبرادورية لحكام هذه البلدان كانت تميل لخدمة مصالحها أكثر من خدمة مصالح شعوبها.
(3) – الفكر المالي منذ سنة 1979
إذن فالازدهار الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي الذي جاء عقب الحرب العالمية الثانية كان يدين بقيام رأس المال بتكييف استراتيجياته مع مقتضيات العلاقات الاجتماعية التي فرضتها القوى الديموقراطية والشعبية. وهو الوضع الذي أفرزته تنافسية المشاريع المجتمعية الثلاثة في الشرق والغرب والجنوب. لكن هذا التوازن بين رأس المال والعمل سيبدأ في التآكل تدريجيا مع بداية عقد السبعينات.
فمشروع دولة الرفاه سيتآكل تدريجيا نتيجة الأزمة الهيكلية للنظام الرأسمالي التي انفجرت مع بداية عقد السبعينات. حيث استغلت الأحزاب اليمينية والرأسمال العالمي هذه الأزمة لتسليط هجومها الإيديولوجي على النمط الاقتصادي الكينيزي وعلى الدور التدخلي للدولة. وقد تبنت هذه القوى اليمينية عند استيلائها على السلطة ابتداء من سنة 1979، وهو تاريخ صعود مارغريت تاتشر الى الحكم في بريطانيا، حلولا قديمة لتدبير الأزمة. وتقوم هذه الحلول على نفس المبادئ التي سادت خلال المرحلة الأولى للرأسمالية والتي تتلخص في إطلاق الحرية الكاملة لرأس المال على الصعيدين المحلي والعالمي لتمكين الشركات متعددة الاستيطان من بسط نفودها عبر العالم. وقد مكن هذا الأسلوب من تفكيك الآليات القانونية التي تتدخل بواسطتها الدول في المجالات الاقتصادية والاجتماعية حيث تم فرض مفهوم حرية الأسواق ومقولة دعه يعمل دعه يمر، كما عمل كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي واتفاقيات الكات على دعم وتكريس هذه المبادئ عبر ما يسمى بسياسات التقويم الهيكلي.
وبطبيعة الحال أصبحت ميزانية الدولة مقيدة من جهة عبر تقليص النفقات من خلال التخلي عن إدارة القطاع العام والتراجع عن دعم التوازن الاجتماعي ومن جهة أخرى عبر التقليص من موارد الدولة خصوصا ما يتعلق منها بالضرائب الجمركية والضرائب المفروضة على أنشطة الطبقات البرجوازية. وقد مكنت هذه النزعة منذ سنة 1979 إلى الآن من تفاقم التناقض بين الثراء الفاحش وبين تفاقم الفقر والبؤس على الصعيدين المحلي والدولي.
أما المشروع الاشتراكي السوفيتي فقد تآكل تدريجيا نتيجة غياب الديموقراطية ومركزة القرارات وعدم القدرة على إعادة إنتاج النظام، فبدأ التحول التدريجي من نموذج رأسمالية الدولة إلى رأسمالية الأفراد ونظام السوق نتيجة تحكم المافيات الكومبرادورية في هرم السلطة في هذه البلدان.
أما مشروع باندونغ لتنمية بلاد العالم الثالث فقد انهار هو أيضا مع تفاقم مديونية هذه الدول وهيمنة المؤسسات المالية الدولية على عملية صنع قراراتها حيث عملت على تكييفها مع شروط تراكم الرأسمال العالمي. وتوجد أغلب دول العالم الثالث اليوم تحت هيمنة الكومبرادوريات التي تقوت بفعل تأثير سياسات التقويم الهيكلي على حساب شعوبها. وقد تم اللجوء في هذا الإطار إلى اعتماد الأرثودوكسية المالية لتصريف سياسة الميزانية للتماثل مع توصيات المؤسسات المالية الدولية.
النتيجة إذن هي أن انهيار التوازنات السابقة خلق ظروفا جديدة ملائمة للعودة الى التحكم المطلق لمنطق رأس المال الأحادي الجانب في مختلف بقاع العالم. ويتخفى اليوم هجوم رأس المال وراء ستار العولمة الليبرالية. فهو يسعى إلى استغلال ظروف التوازن الاجتماعي الجديد في صالحه من أجل إلغاء المكاسب التاريخية للطبقات الكادحة والشعوب المقهورة.



#عبد_السلام_أديب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محاكمة رمزية لنهب المال العام تقام لأول مرة في المغرب في انت ...
- صك الاتهام: محاكمة رمزية لخمسين سنة من نهب وإهدار للمال العا ...
- كفى من الالتفاف على مطالب الشعب عبرالامعان في ديموقراطية الو ...
- الاقتصاد المغربي عام 2006
- الزيادات في الأسعار تهدد بظهور توترات تضخمية على المدى المتو ...
- معضلة التشغيل بالمغرب
- مسلسل الخوصصة والانعكاسات الناجمة عنه في المغرب
- أزمة العمل النقابي بالمغرب المظاهر- الأسباب- المخارج
- المسألة الزراعية في المغرب
- الرواتب والأجور في قطاع الوظيفة العمومية
- نهب وتبدير المال العام في المغرب
- المرفق العمومي بين الخوصصة والترشيد
- مبررات إهدار المال العام
- ميزانية الانكماش والتفقير والتهميش
- المرأة المغربية بين مدونة الأسرة والمواثيق الدولية لحقوق الإ ...
- راهن المخزن على صناعة باطرونا مغربية تضمن له البقاء والاستمر ...
- اتفاقية التبادل الحر كمدخل لاستعمار جديد
- تتوخى اتفاقية التبادل الحر المغربية الأمريكية تحويل المغرب إ ...
- عربدة المخزن الاقتصادي حول البلاد إلى إقطاعية رأسمالية خاصة
- الحوار المتمدن مكان فسيح لتبادل مختلف الآراء بل وربط علاقات ...


المزيد.....




- ??مباشر: الحرب في غزة محور مناقشات قمة اقتصادية عالمية في ال ...
- -بينهم ساويرس وبن جاسم ورئيس حكومة-..أغنى 9 مليارديرات في 7 ...
- فرنسا: نتعاون مع المغرب في تطوير مشروعات للطاقة الشمسية
- لماذا يكره الناس فكرة تحديد الميزانية الشخصية؟
- ارتفاع أسعار تصدير القمح الروسي بفعل الظروف الجوية الصعبة
- مسؤول روسي: موسكو قد ترد على أي مصادرة أميركية لاحتياطياتها ...
- الصين تقدم 1400 دولار لمستبدلي سياراتهم القديمة بأخرى حديثة ...
- روسيا تمدد قرارا يفرض على الشركات تحويل إيراداتها إلى الروبل ...
- مصر بصدد إطلاق ثالث صندوق للاستثمار في الذهب
- رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي يرى تقدما بصورة ما في محادثات ...


المزيد.....

- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى
- جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك ال ... / الهادي هبَّاني
- الاقتصاد السياسي للجيوش الإقليمية والصناعات العسكرية / دلير زنكنة
- تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف ومدى ... / سناء عبد القادر مصطفى
- اقتصادات الدول العربية والعمل الاقتصادي العربي المشترك / الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبد السلام أديب - قراءة نقدية لقانون مالية 2006