غسان عبد الهادى ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 1533 - 2006 / 4 / 27 - 10:35
المحور:
الادارة و الاقتصاد
ظلت فكرة الاعتماد على النفط والغاز كمصدر للطاقة فكرة مطلقة وليست موضع نقاش فترة طويلة من الزمن. فالادمان على البترول لا علاج له على حسب آراء اتباع احد المدارس التقليدية للطاقة، التى ترى ان البترول هو المصدر الرئيسى والاقتصادى للطاقة ولا يوجد بديل اقتصادى له ويمكن استثماره حالياً او فى المستقبل المنظور. وبالتالى سيبقى البترول سلعة مطلوبة حتى ينضب من الوجود ويجبر العالم على استخدام البدائل التى ستكون غالية الثمن بطبيعة الحال. فالثمن الباهظ لبدائل الطاقة هو العنصر الرئيسى فى ابقاء الطلب على النفط مستمراً ومسيطراً على تلبية احتياجات السوق للطاقة. وبالتالى سيتابع سعر البترول ارتفاعه بشكل مستمر ومتوافق مع احتياجات العالم للطاقة.
وتؤكد نظريات هذه المدرسة ان اهتمام الدول الاستعمارية بالمنطقة العربية يرجع الى حقيقة ان النفط والغاز هو المصدر الرئيسى للطاقة ونظراً لغنى العالم العربى بهذه الموارد فلا بد ان تعمل الدول الغربية على فرض هيمنتها عليه لضمان سهولة انسياب هذه الموارد الى العالم الصناعي.
ويعتبر اتباع هذه المدرسة ان الدول الغربية ستفرض وجودها فى مناطق الطاقة فى مختلف بقاع العالم ومهما كان الثمن وباعذار متعددة وطرق واساليب متنوعة تبرر فيها وجودها.
فشعارات محاربة الارهاب ونشر الديمقراطية هى مجرد اعذار تبرر الوجود الغربى فى منابع الطاقة.
ترسم هذه المدرسة صورة وردية تشعر الدول المنتجة للنفط بالارتياح بان نفطها لا يمكن الاستغناء عنه وان العالم بأسره يعتمد عليها كعصب لاستقرار النمو الاقتصادى العالمي. وبالتالى فانه ما على بعض القادة العرب سوى ان يرضخوا لمطالب العالم المتقدم ويفتحوا ابوابهم لهم ليتعاونوا معهم بما يخدم مصالح الطرفين، فالمطلوب منهم ان يمدوا انابيبهم اليهم ليزودوهم بهذا الذهب الاسود، بينما يضمن لهم العالم الغربى استمرارية وجودهم على الكراسي.
ولكن هناك مدرسة اخرى او تيار اقتصادى آخر متخصص فى قضايا الطاقة وتحديداً الطاقة البديلة او ما يمكن تسميته بـ"طاقة المستقبل"، يرى ان الموضوع مختلف من ناحية النظر الى مستقبل النفط والغاز ومدى الاعتماد عليهما كمصدر اساسى للطاقة من جهة، ومدى أثره على ارتفاع اسعار النفط والغاز، من ناحية أخري.
ببساطة يرى اتباع هذه المدرسة انه من الصحيح ان يكون النفط والغاز هما المصدر الرئيسى للطاقة فى ايامنا هذه، ولكن المغالطة تكمن فى اعتبار ان ذلك سيستمر حتى نضوب النفط. فالتكنولوجيا والابحاث تتطور باستمرار، لدرجة ان الطاقات البديلة بدأت تتجه نحو زيادة فاعليتها وانخفاض سعرها، وان كان ذلك يبدو غير مجد اقتصادياً هذه الايام.
وترجح نظريات من هذه المدرسة ان اسعار الطاقات البديلة ستتجه نحو الانخفاض تدريجياً بينما يتجه النفط والغاز الى الارتفاع تدريجياً تحت ضغط الطلب المتزايد والعرض المحدود للنفط والغاز فى السوق. وباستمرار هذه الآلية سيصبح سعر النفط مطابقاً لاسعار الطاقات البديلة -قبل نضوبه- مما سيجعل الطاقات البديلة مجدية اقتصادياً. ليس هذا فحسب بل مطلوبة اخلاقياً نظراً لنظافتها على الانسان والبيئة.
وبناء على هذه النظرية، يبدو ان الاعتماد على النفط يمكن تقليصه. وهذا الاتجاه يدعم، نوعاً ما، تصريحات جورج بوش فى خفض واردات الولايات المتحدة النفطية من الشرق الأوسط بأكثر من 75% بحلول عام 2025، بإيجاد مصادر بديلة لجعل الاعتماد على نفط الشرق "شيئا من الماضي".
وكان بوش قال مؤخرا إنه يجب على الولايات المتحدة أن تقلل اعتمادها على النفط الأجنبى باستخدام التكنولوجيا لتطوير مصادر بديلة للطاقة، مثل البنزين المخلوط بالإيثانول، وخلايا وقود الهيدروجين لتسيير مركبات غير ملوثة للبيئة.
وقالت مجلة "بزنس ويك" الامريكية ان "خفض انبعاثات ثانى اوكسيد الكاربون لم يعد امرا بيئيا فحسب، لكنه صار من احد العناصر التى تبين عقلانية وصحة اى سياسة خارجية او اقتصادية".
وقد بدأت شركة جنرال الكتريك العملاقة برنامج "ايكوماجينيشن" الهادف الى اعتماد سياسة تندرج فى اطار مكافحة الاحتباس الحراري.
واطلقت شركات اخرى مثل دوبون والكوا -عملاق صناعة الالمينيوم- وستاربكس بادرات فى مجال توفير الطاقة.
ووصف بوش أمريكا بالمدمنة للنفط الذى غالبا ما يستورد من أجزاء غير مستقرة من العالم، واعتبر بوش انه بتطبيق ما لدى أمريكا من مواهب وتكنولوجيا فإن هذا البلد يمكنه أن يحسن بشكل هائل البيئة، وأن يتجاوز اقتصادا معتمدا على المنتجات البترولية، ويجعل الاعتماد على نفط الشرق الأوسط امراً منسياً.
والنشاط الاكبر فى مجال توفير الطاقة البديلة واعتماد سياسية بيئية يظهر بوضوح فى مدن امريكية كبري. حيث تطلب نحو 20 ولاية امريكية ان يتم توليد نسبة معينة من الكهرباء بواسطة الطاقة المتجددة، وبين هذه الولايات ولاية تكساس التى اكتشف النفط فيها عام 1925. ومنذ ذلك الحين، يتم ضخه واستخدامه، ولكن السياسة المتبعة منذ زمن تقضى بخفض ضخ النفط سنة بعد اخري.
وحين ينفد النفط من تكساس، وهو امر محتم، ستسعى الولاية الى الاستمرار فى العمل فى مجال الطاقة من خلال سبل اخري.
وفى مدينة -ماك كامي- النفطية الامريكية التى ازدهرت مع ضخ النفط من ارضها وعانت عندما نفد، تم استبدال الاعتماد على النفط بانتاج طاقة متجددة.
وفى الاماكن التى شهدت تشويها لطبيعة -ماك كامي- بسبب ما ينتج عن آلية استخراج النفط ومعالجته، تظهر اليوم صورة صناعية جديدة ونظيفة مع اعتماد انظمة الطاقة المتجددة.
وفى محيط -ماك كامي- نرى الآن حوالى 800 دولاب هواء يولدون الطاقة، وسيزداد العدد شهراً بعد شهر.
ومنذ اعتمادها نظام الطاقة المتجددة تسمى -ماك كامي- نفسها -عاصمة تكساس للطاقة الهوائية-، وقد اعتمدت المدينة هذا الاسم فى سجلات الدولة ما يمنع اى مدينة اخرى فى تكساس من اعتماده.
ومنذ شح النفط فى المدينة خلال التسعينات، فقدت ماك كيمى نصف عدد سكانها وكادت تتحول الى مدينة اشباح لولا اعتماد سياسيات طاقة جديدة اعطت فرصة للمدينة بالعيش مجددا. وفى الوقت الحاضر، تبدو الطاقة المتجددة بواسطة الهواء من اهم سبل انتاج الطاقة بطريقة نظيفة وفعالة فى المستقبل.
وحسب مكتب دراسات الطاقة الامريكى فان ثلاث ولايات فقط هى تكساس وشمال داكوتا و كانساس، يمكنها ان تؤمن الطاقة الكهربائية لكامل الولايات المتحدة.
وفى هذا السياق، زاد بوش الأموال المخصصة لأبحاث الطاقة النظيفة بنسبة 22% فى ميزانيته للسنة المالية 2007، بالاضافة الى دعم انتقال الاستثمارات الامريكية الى الصين والهند لتقيم الصناعات التى تعتمد على البترول هناك بدلاً من امريكا.
وبعد هذا الانتقال ستتمكن امريكا من توقيع اتفاقية-كيوتو- للحفاظ على البيئة بتخفيض انبعاثات الغازات السامة فى الجو، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من الابتزاز الامريكي، وذلك باستخدام اتفاقية -كيوتو- كوسيلة للضغط على دول اخرى مثل الصين والهند اللتين سيصبح من الصعب عليهما تطبيق اتفاقية -كيوتو- نظراً لاعتماد صناعاتهما على النفط ومشتقاته.
بناء على العرض السابق لكلا المدرستين، تتبين صعوبة تبنى اى من هذين الاتجاهين. فالاعتماد على البترول كمصدر للطاقة حتى نضوبه امر مشكوك فيه بل مستبعد نظراً للتطور الكبير فى ميادين استخدام التكنولوجيا لتطوير طاقات بديلة من جهة. والتخلى عن البترول فى المستقبل القريب بالاعتماد على البدائل هو امر مشكوك به ايضا. فلابد من موقف وسط من هذين الاتجاهين يبين اهمية النفط ومشتقاته فى الفترة الحالية وحتى المستقبل القريب.
فامريكا وحلفاؤها لن يتركوا المنطقة العربية ويتخلوا عن نفطها كما يدعى بوش بتقليص الاعتماد على النفط، فالامر مستحيل من الناحية العملية، وهذا ما تؤكده توقعات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية التى تشير إلى أن برميلا من بين كل أربعة براميل من النفط تنتج فى العالم فى 2025 سيأتى من الشرق الأوسط وهو ما سيجعل من الصعب على الولايات المتحدة أن تتجنب العالم العربي.
وهذا ما يدعو بعض الخبراء فى منطقة الشرق الأوسط الى التأكيد ان الكثير من النزاعات المفتعلة هناك لن تحل وربما ستستمر عشرات السنين بعد عام 2025 الذى حدده بوش للتخلى عن نفط المنطقة، نظراً لعدم امكانية التخلى عن نفط المنطقة فى المستقبل القريب، وطالما لا يمكن التخلى عن النفط لن تحل النزاعات لانها المبرر لتدخل امريكا بالمنطقة.
وشكك الدكتور منشهير تاكين، الخبير والمحلل فى شؤون النفط من مركز دراسات الطاقة العالمية، بامكانية تخلى العالم عن نفط المنطقة العربية التى تتمتع باكبر احتياطي. وقال فى محاضرة -فرص انتاج النفط فى الشرق الاوسط بين الخرافة والحقيقة- "ان تصريحات بوش غير مشجعة وتعارض كل المؤشرات الاقتصادية".
بالاضافة الى ما سبق، فان الكثير من الصناعات ستظل تحتاج النفط ومشتقاته إذ لا يمكنها الاعتماد على البدائل المتاحة حتى فى المستقبل، وبالتالى يبدو التخلى عن النفط بشكل عام والعربى منه بشكل خاص امرا غير معقول فى المستقبل القريب. ولكن هل يعنى ذلك ان تتراخى الدول المنتجة للنفط وتشعر بالاطمئنان بان العالم لن يتخلى عن نفطها؟
لا شيء يبرر الشعور بالأمان. فسواء عثر العالم الصناعى على بديل للنفط ام لم يعثر، فالحقيقة التى لا جدال فيها هى انه سينضب فى غضون 25-50 عاما المقبلة، الامر الذى يعنى ان الجيل الناشيء سيعيش فى أواسط عمره من دون ثروة.
المشكلة بهذا المعنى ليست ما اذا كانت الدول الصناعية ستعثر على بدائل ام لا. المشكلة الحقيقية هى ما اذا كانت الدول النفطية نفسها ستعثر على بدائل لتمويل احتياجاتها الأساسية ام لا بعد نضوب النفط.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟