أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - احمد زكرد - أخلقة الفعل السياسي ( الجزء الاول ): من الإغريق إلى فلاسفة العقد الاجتماعي















المزيد.....

أخلقة الفعل السياسي ( الجزء الاول ): من الإغريق إلى فلاسفة العقد الاجتماعي


احمد زكرد

الحوار المتمدن-العدد: 6169 - 2019 / 3 / 10 - 22:00
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


أخذ الفكر اليوناني في البدء طابع خيالي وأسطوري، إلا أن جاء "سقراط" ليقضي على الفكر الأسطوري، حيث اعتبر أن الفكر العقلاني هو أساس الفلسفة، ولم يبق الإنسان ينظر إليه كجزء من الكون فقط بل صار الإنسان يمثل مركز الكون، فسقراط والسفسطائيون، وإن اختلفوا في قضايا متعددة فقد اتفقوا، أنه يجب إضفاء طابع الإنسانية على الفلسفة، وأن يتحول علم الوجود إلى علم الإنسان وتجاوز المرحلة الأسطورية، ليتجه الفكر نحو العلم والعقلانية، وتتبلور مجموعة من النظريات في الطبيعة والوجود والأخلاق. فلما أصبح الإنسان يفكر في ذاته وفي طبائعه وأخلاقه وفي سلوكه بالطرق العقلية. كان من الطبيعي أن يمتد هذا التفكير إلى السياسة والدولة، حيث أن الإنسان فضلا عن كونه ينتمي إلى جماعة سياسية، أدرك أن مصيره مرتبط بمصير الدولة وتطورها ومآلها، وأن السياسة لها علاقة متينة ووطيدة بذاته ووجدانه وبسلوكاته، هذا ما أفسح المجال لظهور مفهوم السياسة.
هكذا يمكن القول أن الفكر السياسي عند الإغريق ظهر في البداية على حلة سفسطائية، وكان للسفسطائيين بالغ الأثر في تطور الفكر السياسي ويعتقدون أن الخطاب هو أساس السياسة، وهو الذي يقودها ويوجهها ويضمن لها الفعالية والنجاعة، وأستحضر قول "جورجياس" « إن الكلمات مستبدة ولها قوة قاهرة» ، وبالتالي فسفسطائيين هم من أولجوا مجالا جديدا في المعرفة آنذاك؛ هو الفلسفة السياسية، لكنهم كانوا يستعملون فن الخطاب من أجل مقابل. فكانوا يبطلون الصالح ويصلحون الباطل، وهذا كان يتنافى مع القيم الأخلاقية. فهذا الانحلال الأخلاقي عند السفسطائي هو ما أدى بسقراط وتلاميذته أن يقفوا في وجه الزحف السفسطائي ويقول "سقراط": « إن السياسة ليست فن وإنما معرفة وتأمل في المجتمع» . من هنا يتضح أن "سقراط" لم يعارض التعليم السياسي في حد ذاته، إلا أنه كان يرى أن السياسة تحيل إلى علم الأخلاق، كما جاء أيضا تلميذه "أفلاطون" ليحمل المشعل، ويرى أن الهدف من كل فن من الفنون؛ لا يتمثل في تحصيل المنافع بالنسبة لصاحبه بقدر ما تتمثل في تحقيق المنفعة بالنسبة للغاية التي وجد من أجلها؛ وهي الدولة، وما هي حسب "أفلاطون" إلا فرد مكتوب بحروف كبيرة ؛ وهذا يعني أن الأخلاق التي يجب أن يتحلى بها الإنسان هي نفسها التي يستعين على الدولة احترامها، فأفلاطون يعتبر هو من تابع العمل الفكري الذي قام به "سقراط" وسعى إلى بناء نظرية في المعرفة ترتكز على الجدل العقلاني. فالجمهورية العادلة لديه هي مدينة العلم والعرفان، وليست مدينة الأساطير والخرافات يعني أنها المدينة القائمة على السياسة والعدالة. فأفلاطون يطمح إلى تحقيق مدينة منظمة، ومواطنين أحرار وهو الأمر الذي جعله يحاول مرة تلو الأخرى تطبيق السياسة الفاضلة. لكن مشهد إعدام سقراط بالنسبة لأفلاطون هو تجلي واضح للظلم الذي يعني تجاوز القانون الأخلاقي، وبالتالي فوراء مشهد إعدام سقراط يحضر مشهد لسياسة مدينة أثينا زمان "سقراط". لهذا جعل "أفلاطون" لفكرة العدالة صلة قوية جامعة بين علم الأخلاق وعلم السياسة. فتحقيقا لفكرة العدالة على المستوى السياسي، يتخيل أفلاطون مدينة تنقسم إلى ثلاث طبقات: طبقة الحكام وطبقة الجند ثم طبقة الصناع والزراع وعامة الناس.
لكن ""أرسطو" ذهب إلى أن فن السياسة هو بناء وهندسة، فهذا التصور يوحي بالسكونية والاستقرار والثبات، والإنسان حسب "أرسطو" هو كائن مدني وسياسي بطبعه، فهو بحاجة إلى نظام أخلاقي يمنحه السعادة داخل المسكن المشترك وهو المدينة. فالدولة إذن هي –حسب أرسطو- القدرة على تحقيق الأخلاق . منه فإن الفكر اليوناني، هو الفكر الذي مكن من تعقيل الفكر الأخلاقي، حيث حدد موضوع الأخلاق وهو السلوك البشري والحاجة إلى قوانين وضوابط تضبط هذا السلوك وفق ما ينبغي أن يكون. فمن الإغريق ننتقل إلى العصر الوسيط، لأن الأخلاق والسياسة تشكل صلة بالغة الدقة، لذا استوجب مقاربتها في كل عصر من عصور لتصور الفكر البشري. فمع اليونان لم تكن الأخلاق لتفصل عن السياسة، فالأخلاق هي سياسة الفرد، سياسة فاضلة، وتكون الأخلاق هي تخلق الجماعة بأخلاق فاضلة في ممارسة السياسة، وحتى في العصور الوسطى قد جمع بين الأخلاق والسياسة، إذ زاوج بين المقصد الأخلاقي والمقصد السياسي التي تتلخص في المدينة الإلهية عند "القديس أوغستن". لكن بعد ذلك سوف نجد أن الأخلاق سوف تفصل عن السياسة في عصر النهضة، وسوف يحي الفكر السفسطائي مع "ميكافيلي"، ويعتبر هذا الأخير هو المؤسس لبداية جديدة للدرس السياسي الذي يعتمد على الوقائع الموضوعية، إذ نستخلص من( كتاب الأمير) أن السياسة لا صلة لها بالأخلاق وأن الغايات الأخلاقية، تخالف تماما الغايات السياسية. وبهذا حقق انفصال الأخلاق عن السياسة واكتشف اتساق السياسة في قوانين ثابتة لا تتغير. وهنا تكون الغاية تبرر الوسيلة، معادلة هامة في مسار وعي العملية السياسية، كما نجد أيضا عند "طوماس هوبز" أن الطبيعة الإنسانية الشريرة تتجلى في أن الإنسان دئب لأخيه الإنسان، لذلك ستكون الصلة بين الإنسان والإنسان علاقة سلطة وحب امتلاك، ويستعمل أبشع الوسائل بغية بسط سلطته وهمينته على الآخر، وهكذا اعتبر ميكافيلي الطبيعة البشرية متميزة بالأنانية وحب الذات.
في ظل هذه الأنانية التي فرضها منطق العقل الميكافيلي والعقلانية السياسية، ظهرت اتجاهات فكرية واجتماعية تنادي بإعادة الاعتبار للذات الإنسانية بكل ما تشمل عليه من خصائص ومضامين أخلاقية. هنا سوف نقف مع الفيلسوف "باروخ اسبينوزا" و"جون جاك روسو".
1- باروخ إسبينوزا :
احتل "اسبينوزا" مكانا مركزيا في العقل الحديث، فهو الفيلسوف الذي حول الوجود الأنطولوجي للإله، إلى مقاربة ارتهنت بالوعي العلمي الحديث، والذي خلص الإنسان الحديث من التأويل الديني للطبيعة، فهي الطبيعة التي لا يمكن الخجل منها ولا هي من نوازع الذات الشيطانية. فالأخلاق عند "اسبينوزا" ما هي إلا أخلاق رواقية ولكن وفق الأغراض الإنسانية الحديثة في الرغبة بالسعادة بوصفها الغاية التي تحرر الإنسان من رهانات السلطة الفوقية، إذن فالنظرية الأخلاقية عند "اسبنوزا". هي تصور قاضي بوجود وحدة بين الطبيعة والله. فطبيعة الإنسان هي الرغبة (الإرادة)، وعليه لن تكون ماهية الإنسان سوى تعبير كلي عن الرغبة بوصفها القانون الذي لا يتغير. فكل كائن إنساني ما هو إلا تعبير عن جوهره بمفهوم الطبيعة التي هي مجموع القوانين الحاكمة. وبالتالي فإن نظريته في الأخلاق هي الحفاظ على الكينونة البشرية داخل الحياة الاجتماعية. فمذهبه النظري الأخلاقي ينتهي إلى تمجيد الحياة الاجتماعية من حيث أنها هي التي تحقق كمال الشخصية الأخلاقية الفردية داخل الدولة. فقد كان هم "اسبينوزا" في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة)؛ هو إثبات أن حرية التفلسف لا تتعارض مع فلسفة اللاهوت، فيقول في هذا الصدد: «كان اهتمامنا حتى الآن منصبا على الفصل بين الفلسفة واللاهوت، بترك لكل فرد حرية التفلسف» ، وهنا يقول "حسن حنفي" أن غاية اسبينوزا التفرقة بين الفلسفة واللاهوت، وإثبات حرية التفلسف والانتقال من التفكير الديني إلى التفكير السياسي ، وبالتالي فإن حق المواطن هو حق الفرد الطبيعي الذي يشمل كل ما تستطيعه طبيعته. فالفرد موجود ليعيش في الطبيعة، لذلك لا يتحدد الحق الطبيعي للفرد بالعقل بل بالرغبة والقدرة.
فاسبينوزا يدعو إلى الفصل بين الدين والدولة، وترك شؤون العبادة للأفراد، وعدم تدخل الدولة في الأمور النظرية، فهذا الفصل يتم من أجل تأكيد حرية العبادة والتفكير، فحرية الفكر تمتد عند "اسبينوزا" حتى تشمل حرية الفكر والسلوك معا. ويعتبر العقل عند "اسبينوزا" قوة من قوى الطبيعة، ونظام من الأفكار المطابقة، والإنسان مقيد بعقله وبالضرورة أيضا، ولكن الطبيعة لا تسير وفقا للعقل الإنساني أي أنها لا تراعي المصلحة الخاصة للفرد. هنا نجد اختلاف "إسبينوزا" مع "هوبز" وكذا "جون جاك روسو"؛ لأنه يعارض حالة الطبيعة مع حالة المجتمع. فهوبز يرى أن خير مجتمع هو الأقرب إلى الطبيعة، باجتماعه واتحاده، عكس "اسبينوزا" الذي يضع علاقة الإنسان ضمن الطبيعة، باعتبار الإنسان والحيوان يعيشان حق مطلق في الطبيعة، وطبيعتهم تقتضي أن يكونوا أحرارا، ولكن يكون الإنسان حرا حقا؛ إذا تتبع عقوله .
فالتفكير العقلي لا يمكن توجيهه، فلو كان كذلك كما توجه الألسنة، لما واجهت الحكومة أي أخطار، ومنه فإن الغاية الأخلاقية والسياسية عند "اسبينوزا" هي وجود اللذة وانتفاء الألم، لكن انطلاقا من العقل، فالعقل لا يطالب بشيء متناف مع الطبيعة ولا مضاد لها، ويقول في هذا الصدد: «أن السعادة تقوم في قدرة الإنسان على المحافظة على وجوده» ، وبالتالي فالفضيلة عند "اسبينوزا" هي حفاظ الإنسان على حياته، فكلما زاد الإنسان في الاحتفاظ على بقائه والبحث عما ينفعه زادت الفضيلة، ولذلك لا يطلب من الإنسان التضحية بنفسه في سبيل الآخرين. وهكذا تكون الفضيلة وتحصيل السعادة هي مجهود الإنسان في الاحتفاظ ببقائه. لكن هنا الغاية التي يصبوا إليها "إسبينوزا" من خلال محبة الذات والمحافظة على بقائها رغم أنها فانية ومنتهية، فالجميل عنده هو خلودها انطلاقا من اتحادها باللامتناهي (الله)، فهذا الاتحاد يهبها المكانة الميتافيزيقية التي لله نفسه. بالتالي فهذا الاتحاد بين المتناهي واللامتناهي يعني أيضا خلود النفس، والسعادة والحرية، ذلك أن فيه تبقى الحياة الخالدة، الحياة التي يتصف بها الله نفسه. والحرية التي يتحدث عنها "إسبينوزا" هي حرية المعتقد، فالحرية هي شرط تحق الأمن الداخلي في الدولة، لأن هذه الحرية هي حرية طبيعية في الفرد، وكل فرد هو الضامن لحريته ، ولكن إلى أي حد يمكن الاعتراف بحرية التفكير والتعبير دون أن يكون في ذلك خطر على الدولة وسلامتها؟ ويجيب "إسبينوزا" في رسالته إلى "شولز" أنه يعتبر الشيء الحر فقط ذلك الذي يتحرك بفعل ضرورة طبيعية، أما الشيء المحتوم يحدده شيء آخر في وجوده وفي حركته. فالإنسان محكوم بالميولات والغرائز والتصورات وهذه الأشياء تفقده حريته فيقول "إسبينوزا" في هذا الصدد «فالواقع أن الفرد الذي تسيطر عليه شهواته إلى حد أنه لا يستطيع أن يرى أو يفعل ما تتطلبه مصلحته الحقيقية، يكون في أحط درجات العبودية، أما الحر فهو الذي يختار أن يعيش بهداية العقل وحده» ، وبالتالي فمن هنا تكون الإجابة عن السؤال أعلاه، وهي أن الإنسان يستطيع أن يكون حرا في أي دولة يعيش فيها، فلا شك أنه يكون حرا بقدر ما يهتدي بالعقل، والعقل يهتدي إلى السلام، وهذا الأخير لا يتحقق إلا باحترام القوانين العامة للدولة، ومن تم كلما ترك الإنسان نفسه لهداية العقل أي كلما كان حرا زاد حرصه على هذه القوانين وعلى تنفيذ أوامر الحكم الذي يخضع له.
هكذا يكون المواطن الحر في دولة حرة عند "اسبينوزا" هو ذلك الذي يجعل طاعة العقل للقانون، الذي يحكم الذات الإنسانية والسعي في إتمام كماله. ومن ثمة تبدو الأخلاق السبينوزية مزدوجة بين الرواقية والغائية الأبيقورية، ومن هنا فإسبينوزا لوح للإنسان القادم عبر الحداثة بضرورة التمتع بما وهبته إياه الطبيعة؛ إنه التمتع والفرح بالوجود الطبيعي، وهذا الوجود الطبيعي للبشر، سيقوم "جون جاك روسو" بتقنينه من خلال العقد الاجتماعي.
2- جون جاك روسو:
يعد فكر "روسو" السياسي تجليا للأفكار التي راجت في عصر الأنوار، وكان لها فعل قوي في تغيير الواقع السياسي، إذ يؤكد "روسو" على أن الإنسان مخلوق طبيعي وغايته هي الحصول على الرفاهية والسعادة، وهو حق طبيعي وكما أنه حق اجتماعي أيضا، وقد مدته الطبيعة بقوة الاندماج مع الجماعة بواسطة التعاون، لذلك ألح "روسو" على ضمان تقنين هذا التعاون في إطار الدولة. هذه الأخيرة التي تكون وظيفتها تحقيق سعادة الفرد، بضمان حقه الطبيعي، وكما يقول "جون جاك روسو": « لن تكون هناك سياسة إلا عندما تصبح السياسة شأن الجميع» . إذن فهذا الحق الذي عند الفرد كعضو مساهم في سياسة الدولة، هو حق طبيعي في إطار المعقولية، ولكن هذه الأخيرة تتراجع أمام المفاسد، وهنا تأتي مشروعية التربية في السياسة، ليؤكد روسو هذه العلاقة بين السياسة والتربية في الفكر الأخلاقي والسياسي، وهذا ما مكن من تأصيل فكرة الحرية كحق طبيعي ليكون المواطن في الدولة هو ذلك الفرد الذي يحافظ على هذا الحق (الحرية) أثناء تعاقده مع الجماعة؛ هذا الفكر قد ميز تمييزا أخلاقيا شخصية المواطن في الدولة الحديثة، وبالتالي فإن مفهوم المواطنة قد تبلور مع "روسو" فلم يعد المواطن هو ذلك الذي تتجمع لديه صفات ضرورية للمساهمة في تسيير شؤون السياسية في الإطار المدني للمدينة، بل هو ذلك الذي يشارك في سن القوانين، وعلى أصحاب السلطة أن يقبلوا هذه القوانين، لأن المواطنين هم أصحاب السيادة الفعلية .
هكذا تطور مفهوم المواطن، بتطور مفهوم الحرية والدولة، وهذا التحول والتطور لا يقتصر على "جون جاك روسو" فقط، بل كذا فلاسفة الأنوار الذين هيئوا الرأي العام الأوربي لنسف النظام الاستبدادي، ووضعوا مبادئ العقد الاجتماعي ومن تم إقرار الحرية كحق فردي يضمنه القانون؟ و. لكن كيف يحافظ هذا المواطن على حقوقه في الاجتماع السياسي؟
فالإجابة عند روسو، الذي صور الإنسان في حالة الطبيعة الأولى صورة مثالية، وجعل من القانون الطبيعي هو الناظم لحياة الأفراد والراعي للحرية. غير أن الإنسان لم يقنع بهذه الصفات في حالته الطبيعية فكان من الضروري الدخول ضمن جماعة تأويه، وبعد دخول الإنسان في حالة الاجتماع ظهرت التبعية والفوارق واللامساواة، كما برزت الأنانية واتسعت الهوة الطبقية بين الأفراد الشعب بظهور الملكية. ففي ظل الفوارق التي يوضحها "روسو" بقوله: «كم من أشخاص سخروا لشخص واحد تباعا، وهم مهما كان عددهم فأنا لا أرى في النهاية إلا سيدا وعبدا» ، فكان ولا بد من وضع قوانين تنظم هذا التعاقد الاجتماعي الذي لم يظهر إلا عندما وصل الحال «إلى ذلك الحد الذي تغلبت فيه العقبات التي تضر ببقائهم في حالة الطبيعية، بمقوماتها، على القوى التي يستطيع كل فرد استعمالها من أجل استمراره في تلك الحالة. عندئذ لم يعد في إمكانية تلك الحالة البدائية أن تدوم وكان الجنس البشري سيهلك لو لم يغير طريقة وجوده» . من خلال هذا الاندماج بين الفرد والمجتمع، تتحقق نظرية المواطنة، فالأفراد ينصهرون في بوتقة واحدة ليعطونا فردا واحدا الذي هو الدولة، لكن لكل فرد شخصيته الخاصة به، وعليه أن يحترم هذا العقد انطلاقا من خضوعه للمقولة الأخلاقية التي ينبني عليها المجتمع، فالأفراد يتنازلون عن حريتهم الطبيعية للجماعة وحصولهم على حرية مدنية، ويقول "روسو" في هذا الصدد: «إن كل واحد إذ يهب نفسه للجميع، لا يهب نفسه لأحد، ولما يكن ثمة من مشارك لا نحصل منه على الحق نفسه الذي نتخلى عنه من أنفسنا، فإننا لكسب ما يعادل كل ما فقدناه وأكثر من ذلك قوة، للمحافظة على ما لدينا» . بالتالي فالقوة التي تمنح لمجتمع الأفراد، هي القوة التي تضمن المساواة بين هؤلاء الأفراد وحماية ممتلكاتهم، انطلاقا من الإرادة العامة، وهذا المفهوم هو الشخصية السياسية، الذي تمتلك الإدارة العامة والسيادة المطلقة، وتعزيزا لهذا القول يقول "روسو": « يساهم كل منا في المجتمع بشخصه وبكل قدراته تحت إرادة العامة العليا، وتتلقى على شكل هيئة كل عضو كجزء لا يتجزأ من الكل»، وبالتالي فإن مما لاشك فيه أن نظرية العقد الاجتماعي عند "روسو" قد قدمت للإنسانية مفهوم سيادة الشعب، ومفهوم الممارسة الحرة لشؤون الدولة، ولابد أن نقف أيضا على فضل هذه النظرية في تطور الشعوب الحديثة، بعدما كان يرى فيها "روسو" حياة مؤسسة على الزيف الأخلاقي، واللامساواة السياسية. فأمل روسو الكبير قد تحقق؛ الذي هو أمل السيطرة على الطبيعة، وتحقيق قدر أقصى من السعادة لأكبر عدد من الناس، وتحقيق حرية فردية داخل الجماعة والأساس هو الامتثال الأخلاقي داخل الجماعة، فبوادر تحقق هذا الحلم بدأ في عصر الأنوار مع العقل المستنير، لان هاته الأنوار لا تشترط إلا الحرية ، وهذا ما سوف نراه مع سيد الأخلاق "إيمانويل كانط"، الذي أجاب عن السؤال ما الأنوار؟ وكنه إجابته عن ماهية التنوير، يركز على الحرية كقيمة تعلن عن نفسها كقائدة لفضاء الحداثة، والتي تشمل الأخلاق والدين والسياسة، . ( انتظر الجزء الثاني حول كانط و تخليق الحياة السياسية ).

المراجع والمصادر :
-بدوي (ع الرحمان)، ربيع الفكر اليوناني، مكتبة النهضة المصرية للنشر و الطبع ، ط 8، 1979، ص 172.
-كرم (يوسف)، م س، ص 109.
-أفلاطون، الجمهورية، ترجمة، حنا خبار، دار القلم، بيروت، لبنان، د ط، ص 55.
-كرم (يوسف)، م س، ص 184.
-شوفالييه (جان جاك)، تاريخ الفكر السياسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ترجمة د، محمد عرب صاصيلا، ط 4، 1998، ص 239.
-زكريا (فؤاد)، اسبنوزا، دار التنوير للطباعة والنشر، ط 2، 1981، بيروت – لبنان، ص 221.
-اسبينوزا (باروخ)، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم حسن حنفي، مراجعة فؤاد زكريا، دار الطليعة، بيروت، لبنان، ط 4، أبريل 1997، ص 358.
-حنفي (حسن)، قضايا معاصرة في الفكر الغربي المعاصر، م س، ص 80.
-بولان (رهون)، الأخلاق والسياسة، ترجمة عادل العوا، دار طلاس، ط 1، 1988، ص 288.
-بدوي (عبد الرحمان)، الأخلاق النظرية، وكالة المطبوعات للنشر، ط 2، 1976، ص 260-261.
-سبينوز (باروخ)، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم، د، حسن حنفي، مراجعة د، فؤاد زكريا، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط 4، أبريل 1997، ص 450.
-الكتاب نفسه، ص 384.
-روبان (موريس)، تاريخ الأفكار السياسية المقارن، نقلته إلى العربية د: دعد قناب عائدة، المركز الثقافي العربي، ط 1، 2004، ص 43.
-بولان (ريمون)، الأخلاق والسياسة، م س، ص 449.
-روبان (موريس)، تاريخ الأفكار السياسية المقارن، م س، ص 43.
-روسو (جون جاك)، في العقد الاجتماعي، ترجمة دوقان فرقوط، دار القلم، بيروت، لبنان، د ط، د ت، ص 48.
- الكتاب نفسه، ص 49.
- روسو (جون جاك)، في العقد الاجتماعي، ترجمة دوقان فرقوط، م س، ص 51.
- كانط (إيمانويل)، جوابا عن السؤال: ما هي الأنوار؟، ضمن كتاب الفلسفة الحديثة نصوص مختارة، اختيار وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بن عبد العالي، دار الطبع إفريقيا الشرق، د ط، 2001، ص 288.



#احمد_زكرد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنسنة الظاهرة الإنسانية
- الراهن العربي الإسلامي بين التنوير و الظلامية
- تأثيل المقدس 3: كيف تصنع الأديان؟
- تأثيل المقدس 2 قضية الغرانيق وسؤال الحقيقة
- تحرير الأخلاق من هيمنة الدين
- التأسيس لدين إنساني من منظور كانطي
- فكرة الدين عند كانط
- تأثيل المقدس


المزيد.....




- مدير CIA يعلق على رفض -حماس- لمقترح اتفاق وقف إطلاق النار
- تراجع إيرادات قناة السويس بنسبة 60 %
- بايدن يتابع مسلسل زلات لسانه.. -لأن هذه هي أمريكا-!
- السفير الروسي ورئيس مجلس النواب الليبي يبحثان آخر المستجدات ...
- سي إن إن: تشاد تهدد واشنطن بفسخ الاتفاقية العسكرية معها
- سوريا تتحسب لرد إسرائيلي على أراضيها
- صحيفة: ضغط أمريكي على نتنياهو لقبول إقامة دولة فلسطينية مقاب ...
- استخباراتي أمريكي سابق: ستولتنبرغ ينافق بزعمه أن روسيا تشكل ...
- تصوير جوي يظهر اجتياح الفيضانات مقاطعة كورغان الروسية
- بعد الاتحاد الأوروبي.. عقوبات أمريكية بريطانية على إيران بسب ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - احمد زكرد - أخلقة الفعل السياسي ( الجزء الاول ): من الإغريق إلى فلاسفة العقد الاجتماعي