أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية - جورج حداد - حول مفهوم الطليعة (الجزء الثاني)















المزيد.....



حول مفهوم الطليعة (الجزء الثاني)


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 6064 - 2018 / 11 / 25 - 18:35
المحور: التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية
    


(الرد غير المنشور على "عبدالله محمد")

رغم اختلافنا في الرأي، بودي ان انوه في البدء، بالنفس الهادئ ورحابة الصدر، اللذين للاخ "عبدالله محمد"، وهي ميزة فقدها، للاسف، منذ زمن طويل، وربما نهائيا، متعهدو الحركة الشيوعية عندنا. ونسمح لانفسنا بأن نستثني، مرة اخرى، جمهرة واسعة من المناضلين الشيوعيين العراقيين، الشباب في غالبيتهم، الذين ذهبوا ضحية خط سياسي، فرضته بالاساس ضغوط ومداخلات خارجية لا يد لهم فيها.
فهؤلاء المتعهدون يتصرفون وكأنهم حملة مفاتيح الماركسية ـ اللينينية الاوحدون، او كأنهم هم معصومون عصمة بابوية. وهم لو تذكروا ـ مجرد تذكار ـ او حاولوا ـ مجرد محاولة ـ ان يفهموا الموقف النقدي المبدئي، العنيف والمستقيم، الذي كان لينين يقفه من الحركة الثورية كلها، ومن الظاهرات الاجتماعية، لما كانوا هم ما يكونون، وربما لما كانوا بالمرة. فتجنبت الحركة الثورية الوطنية والتقدمية العربية كثيرا من النكسات والانقسامات والضياع الفكري، الذي تجلى اكثر ما يكون في ترددها طويلا على ابواب الماركسية، كردة فعل سلبية "للحضور العملي الخاص" للماركسية، الذي املاه طوال سنين عديدة "متعهدو الحركة الشييوعية" اياهم بصورة اساسية.
واذا نحن أشرنا، اشارة وحسب، الى هذه الصفحة المؤلمة في تارييخ حركة الجماهير العربية الحديث، فليس ذلك بداعي التشاؤم، او لكي ننعى هذا الحزب الشيوعي او ذاك، وانما كي نؤكد، في مجال المقارنة الحسية، انه يوجد، وستوجد دائما، ما دام الحزب الشيوعي ـ ايا كان ـ قائما، كمؤسسة مستقلة، عناصر طيبة منفتحة، لا يجوز اخذها بجريرة المتعهدين، تأتي الى الحزب الشيوعي اعتقادا منها انه ـ كما هو المفروض نظريا ـ التجسيد العملي للماركسية ـ اللينينية. ومع ان المتعهدين سلكوا بالحزب الشيوعي سلوكا تسيسيا انتهازيا، تجاه القضايا العربية المصيرية وتجاه الاشتراكية العلمية ذاتها، فالذي كان يضلل هذه العناصر المخلصة، التي "وصلت" الى النظرية الماركسية، ويوقعها في الالتباس، عاملان:
1ـ ان الثورة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، والصين الشعبية، وغيرهما من بلدان المعسكر الاشتراكي (قبل كوبا)، انتصرت بزعامة الاحزاب الشيوعية الكلاسيكية، وان هذه الاحزاب المنتصرة، بصرف النظر عن الخلافات الداخلية مع يوغوسلافيا والصين، التي لا تغير في جوهر الموضوع شيئا، كانت على علاقة وثيقة بالاحزاب الشيوعية المحلية، مما يكسب هذه الاخيرة صفة ثورية رسمية، عن طريق الانطباع الذي تخلقه تلك العلاقة، بأن كل الاحزاب المذكورة هي من معدن واحد وعينية واحدة.
2 ـ عدم وجود بديل تتوفر فيه الثورية الحقيقية، من جهة، ويتبنى الماركسية ـ اللينينية، من جهة ثانية. وذلك نتيجة لتردد القوى الوطنية وحذرها من الماركسية، كما اسلفنا. وكان لا يزال من شأن وجود هذا البديل ان يلعب دور "كاشف كيماوي"، تجاه الانحراف في الحركة الشيوعية.
وهكذا اصبحت النتيجة، بدورها، سببا لابتعاد العناصر الماركسية المخلصة، عن القوى الوطنية، ولتبنيها سياسة الحزب الشيوعي الخاطئة، لا لقناعة بهذه السياسة بحد ذاتها، بل لان الحزب هو "حزب الطليعة" الذي "يمتلك" نظرية الطليعة. حتى ان هذه العناصر كانت، في احيان كثيرة، "تغصب نفسها" على ابتلاع ما لا يبتلع من المواقف والخطط، اعتقادا منها انه ربما كان موقف الحزب هو الموقف الماركسي الصحيح، سيما اذا كان مؤيدا في ذلك من الخارج. وفي هذا كان يتبدى ابتزاز ثقة هذه العناصر بالنظرية الثورية المجردة وعدم نضجها السياسي الكافي، وحتى حينما كانت هذه العناصر الماركسية المخلصة والمنفتحة تدرك جيدا فداحة الاخطاء المعينة، كانت تأمل بأن الحزب سيتغلب عليها وسيظل الاجدر باحتلال الدور الطليعي، لانه "يمتلك" النظرية الطليعية.
وعلى هذه الصورة، فكما خلط الوطنيون والتقدميون والثوريون العرب، ردحا من الزمان، بين الماركسية ـ اللينينية وبين نشاط متعهدي الحركة الشيوعية هنا او هناك، فتأبوا الماركسية ـ اللينينية لتأبيهم " المتعهدين"، خلطت العناصر الماركسية العربية الصادقة، غير "المحترفة" وغير المنتفعة، بين نشاط المتعهدين اياهم وبين النظرية الماركسية ـ اللينينية، فقبلت "المتعهدين" اياهم، بنتيجة تبنيها الماركسية ـ اللينينية.
وانه لمن الضروري التوقف قليلا عند هذه النقطة. ففي التصور الكلاسيكي للثورة، لدى الشيوعيين الحزبيين، انها لا يمكن ان تنجح الا باكتمال شرطين اساسيين هما:
ـ الظرف الموضوعي، اي وجود الوضعية الثورية.
ـ العامل الذاتي، اي وجود الحزب الثوري، الذي هو الحزب الماركسي ـ اللينيني.
وقد ترسخت هذه الفرضية التاريخية في مآل الثورتين الروسية والالمانية، في نهاية الحرب العالمية الاولى. ففي حين سارت الثورة الروسية حتى نهايتها الظافرة، واقامت اول دولة اشتراكية في العالم، انحرفت الثورة الالمانية لتتحول من ثورة اشتراكية، كما كانت تقتضي الظروف الموضوغية، الى ثورة ديمقراطية برجوازية. والسبب هو في طبيعة الحزب البلشفي الروسي الذي استطاع، بقيادة لينين، ان يتطور من حزب ماركسي تقليدي الى حزب ماركسي ـ لينيني ثوري، في الوقت الذي تمسك فيه الحزب الاشتراكي ـ الدمقراطي الالماني بالحرفية، التي لم تعد تتماشى مع المرحلة التاريخية الجديدة، فحكم بذلك على نفسه بأن يتحول من طليعة للثورة البروليتارية، الى احتياطي للثورة البرجوازية.
بناء على هذه الواقعة التاريخية، اعتُبرت الاحزاب الشيوعية، التي تبنت الصيغ اللينينية الجديدة، هي الاحزاب الطليعية المفترض فيها تزعم الحركة الثورية والثورة الاشتراكية.
ولكن التطورات اللاحقة طرحت على بساط البحث، وعلى نطاق واسع، مسألة تجاوز الزمن لصيغة الحزب الشيوعي القائد، وخاصة في البلدان حديثة التحرر او التي لا تزال تناضل ضد الامبريالية والاستعمار، والتي لم تستطع الاحزاب الشيوعية فيها، حتى الان، ان تقدم نفسها كزعيم للنضال الوطني والشعبي، وتكتسب بالفعل مركز الزعامة الثورية.
ان فرضية زعامة الحزب الشيوعي بصورة مسبقة، هي صحيحة فقط من الزاوية النظرية، اي ان الحركة الطليعية يجب ان تسترشد بالفكر الثوري الطليعي، الذي هو الاشتراكية العلمية. ولكن الذي يخلق الحزب الطليعي ـ كمؤسسة ثورية طليعية موجودة في الواقع، وتصبح جزءا منه ـ ليس ابدا التمسك بحرفية النظرية الموضوعة في الماضي، والا فعلينا ان نعترف بأن الحزب الاشتراكي ـ الدمقراطي الالماني كان على حق، بعكس الحزب البلشفي الذي جدد الكثير من الموضوعات الماركسية القديمة.
فالذي يعطي الحزب الشيوعي دوره الطليعي هو قدرته على تمثّل الواقع، والنضال فيه، على ضوء النظرية الثورية التي تصبح مرشدا في العمل، على ما يقول كلاسيكيو الماركسية ـ اللينينية بالذات.
فهل استطاع الكثير من الاحزاب الشيوعية، ومنها بالاخص الاحزاب الشيوعية العربية، على الرغم من الشعبية الواسعة التي نالتها في اوقات متفاوتة، ان تضطلع بهذا الدور!؟
كلا! وبالمقابل، فقد ظهرت قيادات شعبية ثورية تندمج عضويا بالجماهير، وتعبر عن رغباتها وامانيها، بالرغم من عدم اكتمال تكونها الفكري الطليعي. وتبرهن التجربة ان تطوير هذه القوى المناضلة، فكريا، باتجاه تبني النظرية الاشتراكية العلمية والاسترشاد بها، هو اسهل من "تعريب" احزاب مرشحة سلفا من الخارج للعب دور "الطليعة".
واذا كان تكوّن العامل الذاتي، اي الحزب الطليعي، ينتج هو ذاته ـ في الحساب الاخير ـ عن الظروف الموضوعية بالذات، فإن التطورات التاريخية قد اسهمت بالقسط الرئيسي في عملية بروز هذه القيادات. وأبرز هذه التطورات على الاطلاق هو ان الاشتراكية لم تبق فرضية ثورة وفرضية نظام، كما كان الامر في ايام الثورتين الروسية والالمانية، اي انها لم تبق نظرية تدخل في تكوين العامل الذاتي فقط، بل غدت واقعا حسيا ملموسا، اي جزءا مكوّنا من الظروف الموضوعية ذاتها. وهكذا فإن الوضعية الثورية لم يعد وجودها متوقفا فقط على التناقضات داخل النظام الرأسمالي والامبريالي، بل دخل عليها عامل جديد، هو التناقض بين النظام الرأسنالي ككل، والنظام الاشتراكي، فأصبح كل نضالل ثوري ضد الرأسمالية والامبريالية يصب موضوعيا في النضال لاجل الاشتراكية.
ويظهر تأثير هذه التطورات التاريخية الهامة، في ان تجربة الثورة الاشتراكية المنتصرة، والكثير من متطلبات وشروط وانجازات النظام الاشتراكي، اصبحت معروفة ومنتشرة في كل ارجاء المعمورة. فإن التأميم والتخطيط الاقتصادي ومكافحة الامية وتطهير جهاز الدولة والتصنيع وانشاء المزارع التعاونية والحكومية الخ... اصبحت في عصرنا امورا معروفة من كل ثوري ومناضل، باعتبارها تجارب عملية جرت وتكررت في اكثر من بلد واحد.
وقد ساعدت هذه التطورات في تعميق الكراهية التلقائية الواعية وغير الواعية، التي اصبحت تكنها اوسع الجماهير الشعبية، ليس فقط للاستعمار والاقطاعية، وانما ايضا للرأسمالية. فحتى في البلدان التي أتيح فيها للرأسمالية ان تتقدم نسبيا ـ كما هو الحال في لبنان مثلا ـ لاسباب خاصة واستثنائية، فإن النظام الرأسمالي "شاخ" وأخذ ينهار من داخله، حتى قبل ان يبلغ سن الرشد. وبنتيجة هذا الوضع، طرحت الشعارات الاجتماعية جنبا الى جنب مع الشعارات السياسية، وفي العديد من البلدان اصبح من الصعب، ومن الخطأ، التفريق بين الثورة الوطنية الدمقراطية والثورة الاشتراكية.
وهذه العوامل التاريخية تعني ان عملية الوعي الاشتراكي لم تعد عملية غير مباشرة وتجريدية، مبنية على فهم الواقع انطلاقا من نظرية مسبقة، بل اصبحت عملية مباشرة وملموسة، مبنية على الانجازات الفعلية التي هي جزء من الواقع. وبمعنى ما فإن الحاضر والمستقبل صارا يتعايشان في الواقع. واذا شئنا تشبيه النظرية بالبوصلة التي تدلنا على الهدف قبل ودون ان نراه، فإن الثورات المنتصرة والانجازات الاشتراكية العيانية هي اشبه بالمنارة الدالة على الهدف وهي ترى بالعين المجردة.
وهذا لا يعني الاستغناء عن النظرية الثورية العلمية، بل بالعكس، فهو يؤكد عليها، لانه يوسع دائرتها اكثر بما لا يقاس من الماضي، حيث تصبح قبلة ليس فقط لمجموعات من المثقفين الثوريين الذين اتيح لهم وعي قوانين تطور المجتمع ويعملون على نشر وعيهم في صفوف الجماهير المناضلة، بل قبلة للحركة الشعبية المناضلة بمجموعها. وتبرز هنا ضرورة استكمال التكوين الايديولوجي الطليعي للقيادات والطلائع الشعبية، التي تحتل مواقعها بفضل نضالها بالذات. ويتجلى ذلك كشرط لا يمكن بدونه اكمال مسيرة الثورة بنجاح، او بالاحرى ان تلك القيادات والطلائع الفعلية لا يمكنها بدون هذا الشرط الاستمرار في قيادة الثورة.
وبرغم كل المعوقات التي نتجت عن انحراف متعهدي الحركة الشيوعية، فإننا نرى كيف ان عملية انفتاح القوى التقدميية والثورية، وخاصة طلائعها وقياداتها، على الفكر الماركسي ـ اللينيني، واستيعابه والاستنارة به في النضال العملي، تفرض نفسها كعملية طبيعية جدا وحتمية، دفعت وتدفع اليها التطورات الحياتية ذاتها.
وفيما عدا ذلك، فإنه من الاصطناع ان تفرض على الجماهير المناضلة، زعامة غريبة عنها، ولو كان المرشح لهذه الزعامة الحزب "الرسمي" للماركسية ـ اللينينية، اي الحزب الشيوعي. فالانفصام العملي بين هذا الحزب وبين الثورة يجعله ليس فقط غير مؤهل لقيادة الثورة، بل ايضا يضع علامة استفهام على معنى ونتائج تمسكه النظري بالماركسية ـ اللينينية. فلو ان مركز القيادة أعطي للحزب الشيوعي القديم في كوبا، بعد القضاء على نظام باتيستا، وهو ما كانت تسعى اليه قيادة ذلك الحزب بحجة انها هي الطليعة، لاصيبت الثورة الكوبية بنكسة، ولكان قضي عليها في معركة خليج الخنازير، وما تلاها من مؤامرات وغيرها، لأن الذي لم يجرؤ او لم يفكر بالثورة على باتيستا، لا يجرؤ على مجابهة الامبريالية الاميركية، بالضراوة التي ابدتها ضد الثورة الكوبية، وهو ما اثبتته التطورات اللاحقة. ولو سقطت الثورة الكوبية، لما بقي لقيادة ذلك الحزب ما تطالب به. كما ان اقدام الرئيس الجزائري السابق، احمد بن بله، بعد غياب طويل عن ارض المعركة، على تسليم المراكز المسؤولة والحساسة للشيوعيين التقليديين، كان دليلا على ان الغربة أثرت عليه، ومظهرا من مظاهر الفردية والمحسوبية والرشوة السياسية المتبادلة، وادى ذلك الى تغذية البيروقراطية والانفصال عن جمهور المناضلين الاساسي في جيش التحرير وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، الامر الذي كان من شأنه تعريض الثورة لخطر الانحراف. وهو ما ادى الى الانقلاب.
وفي ايامنا، وخاصة بعد التجربة الكوبية الثمينة، التي كانت تجسيدا عمليا لإمكان تجاوز صيغة الحزب الشيوعي "الرسمي" في حال عدم قدرته على استيعاب ظروف الثورة، نجدنا شهودا للعملية الرائعة المبشرة، التي تتجوهر في سياقها الحركات التحررية والتقدمية العربية، وإن بوتائر متفاوتة. وتسير هذه العملية بموازاة وبالارتباط الجواني مع صعود الازمة الثورية في الوطن العربي ككل، وفي كل بلد عربي على حدة. وبافتراض احسن الحالات، اي ان يقوم حزب شيوعي عربي بانتقاد ذاتي صادق لاخطائه، ويصمم على السير في الطريق الصحيح، وهذا افتراض صعب تصديقه على كل حال، فهذا يعني ان يعمد هذا الحزب الى الاعتراف بافتقاده للدور الطليعي، كي لا يظل عقبة في طريق العملية المشار اليها، وكي يساعد على انجاحها وتسريعها. اما استمرار وجود الحزب وادعاؤه حيازة المركز القياديي، فسيخلق البلبلة لدى قسم من الجماهير، في حال وجود قيادة فعلية للثورة، بسبب ان الجماهير لا يمكن ان توزع ولاءها بين قيادتين، بل ستخص به القيادة الحقيقية، التي خلقتها هي بنضالها وتضحياها وحركتها الثورية التلقائية، لا "مشروع" القيادة الجديدة المشكوك فيها، والتي لا يعرف احد اذا كانت ستصمد للتجربة ام لا. وهكذا فإن افضل ما يفعله الحزب الشيوعي في هذه الحالة، هو الاسهام في تدعيم وبلورة وتطوير القيادة القائمة، وذلك بقيامه بانتقاد ذاتي عميق ينطلق بالدرجة الاولى من بحث اسباب عدم تمكنه من احراز الدور الطليعي الذي تتطلبه منه الماركسية ـ اللينينية، وبالاتحاد مع القيادة الحقيقية للثورة.
وانا إذ نوهت في اول كلامي، بميزة معينة للاخ "عبدالله محمد"، فلم اقصد في اية حال، مديحا شخصيا لشخص لا اعرفه وجاهيا، وقد لا يكون "عبدالله محمد"، وأقرأ له للمرة الاولى وحسب، سيما وانني اغايره في المنطلقات الاساسية التي يرتكز اليها، اذ انه برأيي ـ وارجو ان يتقبلها كملاحظة اخوية بقلب مفتوح ـ يتكلم عن قضايانا او القضايا التي تهمنا في الصميم، وكأنه مستشرق استهوته الشؤون العربية حديثا، اكثر منه مواطنا عربيا. وليس المديح والاطراء، اولا واخيرا، سوى شأن مظهري فردي، لا ينفع ان لم يضر، انما ما يهم كل تقدمي عربي، فهو ان يسهم كل منا بقسطه، قل او زاد، وكل تبعا لتجربته، في عملية تجوهر الحركة الثورية العربية، ووعيها لذاتها.
وأنا من الذين يؤكدون ان العناصر الماركسية المخلصة، التي لا تزال موجودة في الاحزاب الشيوعية الموجودة، والتي لم تفسدها بعد الرشاوى المعنوية والمادية، المباشرة وغير المباشرة، يمكنها ان تقدم، فرديا وجماعيا، وبمختلف الاشكال، خدمة مرموقة لشعبها ووطنها، عن طريق تمثّل وفرز تجربة الحزب الشيوعي في بلدها. ذلك ان عقدة الموضوع كله تتحدد في نقطة اساسية هي:

ـ فشل "حزب الطليعة" في ان يكون الطليعة الحقيقية (كوبا، مصر، الجزائر الخ...)، وظهور طليعة من نوع جديد، ومن خارج "الحزب"، قادت الثورة وبناء الاشتراكية بنجاح (كوبا...)، والتبلور التاريخي لقوى طليعية جديدة (جميع البلدان العربية، اميركا اللاتينية، الخ...)، وإلحاق "حزب الطليعة" كأفراد، بمنظمات وحركات طليعية او قيادية فعلية، بعد عملية هضم او تأقلم صعبة (كوبا...).
وحول هذه النقطة بالذات، دارت وتدور رحى خلافات شيوعية مأزومة، سوفياتية ـ لبنانية ـ مصرية ـ سورية ـ الخ... الخ... هذا عدا الخلاف الصيني ـ السوفياتي. ومع ذلك، فإن متعهدي الحركة الشيوعية العربية حاولوا المستحيل كي يحولوا بين الجماهير والحركة الثورية العربية وبين الافادة من تجربة فشل الحزب الشيوعي، عن طريق الحوار الايجابي المفتوح. وهذا دليل آخر على خشيتهم مبدأ النقد والنقد الذاتي الذي هو اساس ارتباط الحزب الطليعي بالجماهير، وعلى عدم جديتهم كذلك، لأن الحزب الجدي، كما يقول لينين، هو الذي لا يخشى الاعتراف بخطئه، بصراحة وجرأة، امام الجماهير. حتى انهم، ابان احتدام الخلافات آنفة الذكر، وكيل الاتهامات والتجريح بعضهم للبعض الآخر، رفضوا النقاش مع الفئات الاخرى، واشترطوا الصمت المطبق وطي صفحة الماضي(!)، مقابل لقاء عرضي وسطحي مؤقت وغير مبدئي، يكون لهم بمثابة مظلة، تحجب عزلتهم الجماهيرية، وتهافتهم السياسي، عن عين غير العارف، وما غير العارف سوى غريب. وقد اشار الى ذلك آسفا، من امد وجيز، الاخ محمد كشلي، في صورة فوتوغرافية مروتشة، عن "اليسار اللبناني"، اراد بها ألا يزعل احد من "الاخوان".
لذا اراني مدفوعا لأن اشكر للاخ "عبدالله محمد" اقدامه على الادلاء برأيه، وهو وأيم الحق اقدام قد يسبب له بعض الحرج. على اني عجبت لتناوله المسألة من الزاوية التي تناولها منها. لكن لا بأس، اذ يبدو ان لدى الاخ الكريم امورا اضافية اراد اطلاعنا عليها، في باب دفاعه عن الاحزاب الشيوعية الانتهازية والفاشلة. ولكن مهما كان حسن النية متوفرا، فمن غير المقبول ابدا تشويه الواقع وتزوير التاريخ، لتبرير مفاهيم خاطئة وانحرافات معينة، وخاصة من قبل اناس يدعون العلمية والموضوعية. وبدا ذلك بالاخص في قول الاخ "عبدالله" ان ولادة المعسكر الاشتراكي ادت الى ظهور التناقضات العميقة في المعسكر الرأسمالي والاستعماري. والصحيح ان الازمة العامة للرأسمالية، والتناقضات الاستعمارية، هي التي كانت ولا تزال العامل الموضوعي لقيام وانتصار الثورات الاشتراكية والوطنية، ولظهور المعسكر الاشتراكي بالتالي. ويكفي ان نستشهد لذلك بـ"حادثة" واحدة فقط، ما زال مئات الملايين من شهودها احياء يرزقون، هي الحرب العالمية الثانية، فهذه الحرب اشتعلت قبل ظهور المعسكر الاشتراكي، بل على العكس، فهي التي لعبت الدور الحاسم في تلك الظروف، بالتعجيل في ظهور هذا المعسكر، وفي انهيار النظام الاستعماري القديم. وقد وقعت اولا بين الدول الرأسمالية والاستعمارية ذاتها، وحينما كانت الجيوش الهتلرية تجتاح اوروبا الغربية، كانت لا تزال سارية المفعول معاهدة عدم الاعتداء التي وقعها مولوتوف وروبنتروب وزير خارجية النازي، والتي جاء نقضها من الجانب الهتلري.
وحتى اذا لم يكن هذا المثال كافيا، باعتبار وجود الاتحاد السوفياتي في ذلك الحين، كدولة اشتراكية كبرى، فإن الحرب العالمية الاولى، التي مات فيها ثلث اللبنانيين جوعا، اندلعت ثلاث سنوات قبل ثورة اكتوبر الاشتراكية وتأسيس الدولة السوفياتية.
ولكن من المسلم به ان ظهور المعسكر الاشتراكي ادخل عوامل جديدة الى التناقضات الداخلية في النظام الامبريالي، بمعنى انه اعطى لهذه التناقضات محتويات ووجهات جديدة، ولكنه لم يوجد هذه التناقضات. ونشير هنا الى ابرز نتيجتين لظهور المعسكر الاشتراكي، وبالاصح لانتصار الاشتراكية على نطاق عالمي:
1 ـ ان نضال الشعوب المستعمرة للتحرر من نير الاستعمار، اتخذ وجهة جديدة هي تحقيق الاشتراكية، التي اصبحت الهدف المنطقي والحتمي للثورة الدمقراطية الوطنية.
2 ـ ان هذا العامل الجديد ـ اي ظهور وانتصار الثورة الاشتراكية ـ اصبح بصورة ما لجاما محدودا انما ذا تأثير ملحوظ، بالنسبة للبلدان الامبريالية والرأسمالية المتطورة، فازدادت على نطاق واسع رشوة الطبقة العاملة في تلك البلدان. وهذا ما يفسر "الاصلاحات" وازدهار الميول الاصلاحية لا الثورية لدى الاحزاب العمالية بما فيها الاحزاب الشيوعية. كما ان الدول الاستعمارية، التي وضعت امام الامر الواقع، صارت تتحاشى ايصال تناقضاتها الى درجة الاصطدام العسكري، كما حدث في الحربين العالميتين الاولى والثانية، والا فالنتيجة ستكون معروفة سلفا، بوجود المعسكر الاشتراكي الكبير والدول المتحررة التي لا تكن شعوبها اي ميل الى الرأسمالية وتكره الاستعمار كرها عميقا، والتي اخذت تناضل من اجل الاشتراكية.
ولا يسعنا سوى ابداء الاسف العميق، حينما نسمع ماركسيين مثقفين، او انصاف مثقفين، يدلون برأي مشابه لرأي الاخ "عبدالله محمد". ونرى ان المسألة ابعد بكثير، واخطر بكثير، من ان تكون مسألة معلومات شخصية ناقصة ومحرفة. انها مفهوم معكوس، اصطناعي، للوضع الثوري، ولنشوء القوى الثورية. فهذا المفهوم يوحي بأن وجود الحزب الشيوعي "الطليعي" ناشئ عن وجود الدولة او الدول الاشتراكية، وان نشوء الوضع الثوري ناشئ ايضا عن وجود الدول الاشتراكية وسياستها، وان القضايا التي تطرحها الثورة "الوطنية" خاضعة وتابعة للسياسة الدولية للدول الاشتراكية. فإذا كان مفهوم "تصدير الثورة" يعتبر تجاوزا للواقع الموضوعي، وإحلال القوى او العوامل الخارجية مكان هذا الواقع، فإن مفهوم "التبعية الثورية" هو ـ من الجانب الاخر ـ نفي للواقع الموضوعي ذاته، وقصره قصرا على العامل الخارجي ذاته.
ان تخلي الدولة الاشتراكية عن "تصدير الثورة" لا يعني التخلي عن الاممية ومساعدة الشعوب المناضلة الاخرى. والا فقدت تلك الدولة ركنا هاما من اركانها. وفي حال تعميم هذا التخلي، يسهل ضرب الدولة الاشتراكية ذاتها، وكل دولة اشتراكية وحركة تحررية على حدة.
كما ان نبذ "التبعية الثورية" لا يعني من جهته انكارا للاممية. لان هذا الانكار هو عمليا رفض للمساعدة المعنوية والمادية المقدمة من الدول الاشتراكية والشعوب الاخرى. وفي هذا تهديد مباشر لمصير كل حركة ثورية، تواجه تألب القوى الاستعمارية والرجعية في العالم.
ان "تصدير الثورة" و"التبعية الثورية" كلاهما تشويه للاممية واضرار بها. ومصيبة متعهدي الحركة الشيوعية عندنا، تكمن في تبعيتهم التي جعلتهم يعيشون كالغرباء في اوطانهم. ونصيحة اخوية للاخ "عبدالله" ان لا يقبض كل ما يقال او يوحى به، منزلا كما هو، والا وقع من حيث يدري او لا يدري في الضلال والتضليل غير المقصودين، ولا نقول اكثر. وهذا ما حدث للاخ "عبدالله" في كلامه عن كوبا ايضا.
فهو، في تعداده للقوى التي شاركت في الثورة، يضع في رأس القائمة: الحزب الشيوعي الكوبي السابق. وهذا افتئات على الواقع والتاريخ، ما بعده افتئات. ومن اجل اثبات دعواه، يتحايل الاخ "عبدالله" على الوقائع بطريقة عجيبة. فنراه يورد استشهادا لـ بلاس روكا (زعيم ذلك الحزب) يعترف فيه ان الحزب الشيوعي الكوبي كان يرى ضرورة الكفاح المسلح، ولكنه لم يكن مستعدا له. ومع ان النضال المسلح ـ باعتراف زعيم الحزب الشيوعي الكوبي ذاته ـ كان له كلمة الفصل بأمر الثورة الكوبية، فالاخ الكريم يقلل بصورة مفتعلة ومقصودة من شأن النضال المسلح للشعب الكوبي، بزعامة حركة 26 تموز (بزعامة فيديل كاسترو)، فيتعمد اظهار المسألة وكأنها مسألة سبق بسيط في الوقت، ويبالغ في ابراز دور الاضراب السياسي العام، في آخر بضعة ايام من حوالى ثلاث سنوات من المعارك العسكرية العنيفة، وهو الاضراب الذي شل العاصمة الكوبية، وسهل دخولها امام الجيش الثوري، الذي كان يطرق ابوابها. هذا مع العلم ان الاضراب العام، الذي كان ابرز عملية ساهم بها تنظيم الحزب الشيوعي، يعود الفضل الاول فيه للثورة ذاتها، التي عاش الحزب الشيوعي على هامشها، ولو لم يسهم الحزب في الاضراب، لانهارت بقايا قواعده نهائيا، ولكان الاضراب وقع حتما، اولا بفعل منطق تطور الثورة، وثانيا لان المبادرة اليه ترجع قبل كل شيء لتنظيمات جيش الثورة.
ومن الواضح ان الاخ "عبدالله" يستقي معلوماته من بعض المصادر الاعلامية والحزبية المحلية والخارجية، وهي مصادر من البديهي ان لا تتمتع بالموضوعية. ونحن نحتار على من تقع مسؤولية نقص المعلومات وتشويهها، أعلى الاخ "عبدالله" ام على مصادره؟ على اننا نفضل ان نترك الجواب على ذلك للاخ المذكور، مرددين هذا البيت من الشعر، ونحن نعتذر سلفا على ما قد يكون من التحريف، ايفاء للغرض، ولنا في "موضة" التحريف عزاء: ان كنت تدري فتلك مصيبة وان كنت لا تدري فالمصيبة اعظم
ويقتضينا الاخلاص للمناقشة، واحترام الفريق الآخر، ان نضيف الى معلوماته بعض الوقائع الهامة التي يمكنه، طبعا، ان يتحقق من صحتها، بالوسيلة التي يراها هو مناسبة. فالحزب الشيوعي الكوبي السابق، ليس فقط لم يكن مستعدا للنضال المسلح، كما يقول بلاس روكا، بل ان قيادة الحزب اتهمت الحركة الكاستروية، في وقت ما، وحينما كانت الثورة بأشد الحاجة للدعم والتأييد، بأنها مغامرة، ومن ثم ظل مدة طويلة يتفرج ويستمع الى اخبار الاشتباكات، وهو متردد بين مصدق وغير مصدق، أهذه هي الثورة التي جاء عنها في الكتب؟ ولم يصدق الحزب ان هذه هي الثورة بعينها، الا بعد ان اخذ الدكتاتور باتيستا وكبار اعوانه يهيئون حقائبهم للرحيل، وبدأت الاستخبارات الاميركية نفسها، تدبر انقلابا صوريا على نظام باتيستا، على امل مساومة الثوار على "التركة".
ولو لم تتأكد قيادة الحزب من حتمية انتصار الثورة، واستقطاب الجماهير حولها، لظل الحزب يتفرج ايضا وايضا، ولما كان شارك حتى بالاضراب السياسي، ولظل الاتهام السابق بالمغامرة محفوظا بالجيب، لاستعماله من جديد والاستشهاد به، اذا دعت الحاجة، وخاصة اذا تعرضت الثورة لهزيمة او نكسة، ولأي سبب ذاتي او موضوعي مثلما جرى لثورة 1905 في روسيا. ومما يؤكد ذلك ان الحزب الشيوعي الكوبي ـ وحتى آخر لحظة من الثورة المسلحة ـ لم يقم بأي عمل مسلح، بل ظل متابعا نشاطاته السلمية العادية، التي ضاق نطاقها كثيرا في ظروف الدكتاتورية والاصطدامات المسلحة. وهذا ما ينفي قول بلاس روكا، بأنهم كانوا يرون ضرورة النضال المسلح، ولكنهم لم يكونوا مستعدين له، اذ لو صح ذلك، فإن مدة ثلاث سنوات (بين حركة كاسترو الاولى في 1953 وبداية الثورة في 1956 هي اكثر من كافية لهذا الاستعداد. وحتى اذا لم تكن كافية باعتبارها ـ مع ان هذا الاعتبار غير وارد ـ فترة "سلمية"، فإن اسبوعا واحدا في ظروف اشتعال الثورة يكفي للانتقال من اشكال العمل السلمية الى الاشكال القتالية.
ان الاعتراف الكلامي بالنضال المسلح، هو من باب تحصيل الحاصل في النظرية الشيوعية، ويصح بالمناسبة القول "شو فضل موسى على ربو!!". وكان الاجدر ببلاس روكا، الزعيم السابق للحزب الشيوعي السابق، ان يقول: كنا نرى ضرورة النضال المسلح بالنسبة للاخرين، المحتاجين، اي العمال والفلاحين الذين تسحقهم الامبريالية والرأسمالية ونظام اللاتيفونديا والدكتاتورية العسكرية. اما نحن، الجماعة من المثقفين المرفهين البرجوازيين والبرجوازيي الاصل، والعمال والمستخدمين الحسني الاجور، الموجودين بصورة رئيسية هنا في هافانا، مقمرة وماخورة الاميركتين سابقا، فكنا "عائشين" في الرأسمالية، وعلى ثقة بأننا "سنعيش" في الاشتراكية ـ نسبة لخدماتنا الوعظية والخيرية ـ ولذلك لم نكن مستعدين للتضحية "بعيشتنا" وربما بحياتنا، من اجل الاخرين، لاننا بدون هذه "العيشة" لا نستطيع ان ننفع لشيء او لاحد، كما انه في حال فشل هذه الثورة (التي تكون مغامرة اذا لم تكن مضمونة لنا كلية) فستؤدي، اذا كنا مشاركين فيها، لان تخسر البروليتاريا العالمية والمعسكر الاشتراكي العالمي، فصيلة الطليعة للطبقة العاملة الكوبية وللشعب الكوبي، التي هي نحن بلاس روكا وشركاه!!
وبالرغم من ذلك، فحتى بعد انتصار الثورة، لم يتخلص الحزب الشيوعي القديم بسهولة، من عقدة "الطليعية". وكانت هذه العقدة، العقبة الاساسية في وجه توحيد المنظمات الثورية، وتكوين الحزب الثوري الجديد. وقد أثير الكثير من الحزازات في وجه القوى الثورية، التي حملت الثورة فعلا على اكتافها، مما اضطر هذه القوى حتى الى اعتقال وابعاد بعض العناصر عن البلاد، مثل هانيبال، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الكوبي السابق، الذي هو حاليا موجود يستريح في احدى الدول الاشتراكية الاوروبية ـ اذ كانت تلك العناصر، تصر على تسليم المراكز الحساسة "للطليعيين" البلاس روكيين بدل "الملتحين" الكاسترويين، لا لشيء، الا لان الاولين مثقفون "ماركسيا" وكانوا في بيوتهم يقرأون ويعيدون، بينما الاخيرين جهلة غير متصلبين "بالنظرية"، ولا يعرفون غير حمل البندقية!!
ان مسألة "الطليعية" حلت في كوبا، كما يجب لها ان تحل، وحملت كوبا بذلك، تجربة لا تثمن الى الحركة الثورية والتقدمية في العالم، وخاصة للبلدان التي يعاني فيها الشيوعيون عقدة "الطليعية"، التي اعدتهم بها الكتب والنصوص الجامدة المجردة وبعض العلاقات الدولية الرسمية التي لا اسهل من تغيير وجهتها، دون ان يكونوا اي طليعة عمليا.
وبالرغم من ذلك، فإن هذه التجربة لم تدرس بعد بصورة كافية، وخاصة فيما بين الشيوعيين، بينما يصر بعضهم على طمسها وانكارها ومسحها من التاريخ، تحت ستار الدفاع الزائف عنها، الاشبه بشهادة الزور، التي تجني على الثورة الكوبية، دون ان ترد عنها شيئا. وهذا البعض انما يدافع حقا عن انتهازيته ووصوليته الرخيصة وتقوقعه بعيدا عن مجرى الحياة. وكان الاجدر بالاخ "عبدالله محمد"، كي يفيد ويستفيد، ان يحاول فهم التجربة الكوبية واستخلاص العبر منها، بدل الانزلاق، ولو عن غير قصد، لمثل هذا الموقف الذي لا يحسد عليه.
ولما كنا نعلم مغبة السفسطة، وقطعا لدابر الالتباس، فإنـّا – في اهتمامنا بالتجربة الكوبية – لا نجرد الكفاح المسلح، ولا نرفعه كشكل وحيد للنضال ولتحقيق اهداف الثورة الدمقراطية والاشتراكية. فلكل بلد ظروفه واوضاعه، ولكل ظرف احكامه. انما نحن نؤكد ان المسلمة الماركسية القائلة انه لا يمكن الحكم على شخص او فئة او نظام، من خلال ما يقوله عن نفسه. هذه المسلمة تنطبق ليس فقط على الآخرين، بل ايضا على الحزب الشيوعي. ومركز الطليعة يجب الوصول اليه بالنضال الجماهيري، الذي يتوافق مع ظروف كل بلد في كل مرحلة، وبصرف النظر عن الاشكال المحددة لهذا النضال. فاذا لم يكن الحزب الشيوعي الكوبي اهلا لاحتلال المركز الطليعي، وقد بدا ذلك بالاخص في عدم كفاءته وتقاعسه عن النضال المسلح، فإن الحزب الشيوعي في بورما "يحمل" اعضاؤه السلاح، في الادغال، منذ الحرب العالمية الثانية. وقلنا "يحمل" لانه من السطحية تسمية ذلك ثورة، خاصة وانه لم يعد احد يشعر بهم حتى في بورما نفسها، واصبحت مسألة ارجاعهم من الادغال قضية "انسانية"، حاول القيام بها الحكم الحالي في بورما – وهو يعتبر في عداد مفهوم "دولة الدمقراطية الوطنية" حسب تعبير الاخ "عبدالله"، واجرى معهم، غداة الانقلاب على أونو، مفاوضات لم يكتب لها النجاح، بسبب عقدة "الطليعية" على الارجح. ومهما كان من المزايا الفردية لمثل هؤلاء الاشخاص، فهل يمكن لاحد ان يطلق لقب "الطليعة" على مجموعة من المسلحين الذين يعيشون في الادغال، منفصلين عن شعبهم، ويغتذون بأوهام "العظمة الرسولية" ـ انما بطبعة "ثورية" ـ التي تبثها فيهم العقلية "الاستصفائية"؟!
نحن لا نعتقد ذلك، ولا نظن ان الاخ "عبدالله" ومن على رأيه، يمكنهم، في سرائرهم على الاقل، ان يدعوا هكذا ادعاء، برغم ان هؤلاء الاشخاص (العائشين في الغابات) يحملون اسم "الحزب الشيوعي البورمي".
يبقى ان الاخ "عبدالله" افاض في الحديث عن "الطريق اللارأسمالي للتطور" و"دولة الدمقراطية الوطنية"، وهما اصطلاحان زئبقيان، يعنيان كل شيء ولا يعنيان شيئا في الوقت ذاته. وهما لهذا السبب، في اقل تقدير، يحتاجان اما الى التجاهل التام واما الى بحث تفنيدي خاص. وقد جاءت بهذين الاصطلاحين تسوية سوفياتية ـ صينية (في البيان الصادر عن اجتماع الاحزاب الشيوعية في موسكو سنة 1960) حينما كانت المساعي لا تزال مبذولة لعدم فضح الخلافات واظهارها للعلن، وكان الهدف واضحا، في هذه الافاضة من قبل الاخ "عبدالله" في شرح الاصطلاحين المذكورين، وهو تغطية فشل الحزب الشيوعي، والقول مداورة بأن "الظروف الموضوعية" هي المسؤولة عن عدم قدرة الحزب على تصدر مركز الطليعة، وان "بناء" الاشتراكية يتعلق في كل حال بالحزب الشيوعي.
لا، ايها الاخ الكريم. ألم تسمع بالحكمة الشعبية اللبنانية القائلة "النهر اللي بأولتو ما جاب قشور، بآخرتو بدو يجيب خشاب!"
ان الذي سيبني الاشتراكية سيكون هو ذاته الذي يحقق الثورة الاشتراكية!
(كتب في ايار 1967)



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انحدار الاقتصاد الاوروبي
- برغم المدفوعات الهائلة للحروب اميركا تفقد تفوقها
- العقوبات ضد روسيا تأتي بنتائج عكسية
- الانتخابات النصفية تعمق الانقسامات في اميركا
- تفعيل العلاقات الاقتصادية والعسكرية بين روسيا وكوبا
- الاقتصاد الاوروبي يتأخر بفعل العقوبات الاميركية ضد روسيا وال ...
- دبلوماسية الغاز: انابيبب الغاز الروسي ستشمل قريبا كل اوروبا
- الاتحاد الاوروبي يتضرر من العقوبات الاميركية ضد روسيا
- بعد نجاح تجربة سوريا... هل تتدخل روسيا عسكريا في ليبيا؟
- الحرب التجارية الاميركية ضد الصين ...الى الفشل
- العقوبات ضد ايران ستزعزع الدولار والنفوذ العالمي لاميركا
- ترامب ونتنياهو يهربان الى حافة الهاوية
- حول مفهوم الطليعة – (الجزء الاول)
- لا نظرية ثورية بدون حركة ثورية
- عشر دقائق فاصلة في تاريخ العدوانية الاسرائيلية
- اميركا تصعّد المواجهة ضد الصين
- السعودية تنتظر زيارة الرئيس الروسي
- الحرب التجارية الاميركية ضد روسيا والصين والعالم
- أضخم مناورات عسكرية روسية منذ 40 سنة
- تركيا و-الصدام الختامي في سوريا-


المزيد.....




- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟
- مقترح برلماني لإحياء فرنسا ذكرى مجزرة المتظاهرين الجزائريين ...
- بوتين: الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا سببه تجاهل مصالح رو ...
- بلجيكا تدعو المتظاهرين الأتراك والأكراد إلى الهدوء
- المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي: مع الجماهير ضد قرارا ...
- بيان تضامن مع نقابة العاملين بأندية قناة السويس
- السيسي يدشن تنصيبه الثالث بقرار رفع أسعار الوقود


المزيد.....

- هل يمكن الوثوق في المتطلعين؟... / محمد الحنفي
- عندما نراهن على إقناع المقتنع..... / محمد الحنفي
- في نَظَرِيَّة الدَّوْلَة / عبد الرحمان النوضة
- هل أنجزت 8 ماي كل مهامها؟... / محمد الحنفي
- حزب العمال الشيوعى المصرى والصراع الحزبى الداخلى ( المخطوط ك ... / سعيد العليمى
- نَقْد أَحْزاب اليَسار بالمغرب / عبد الرحمان النوضة
- حزب العمال الشيوعى المصرى فى التأريخ الكورييلى - ضد رفعت الس ... / سعيد العليمى
- نَقد تَعامل الأَحْزاب مَع الجَبْهَة / عبد الرحمان النوضة
- حزب العمال الشيوعى المصرى وقواعد العمل السرى فى ظل الدولة ال ... / سعيد العليمى
- نِقَاش وَثِيقة اليَسار الإلِكْتْرُونِي / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية - جورج حداد - حول مفهوم الطليعة (الجزء الثاني)