أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مراد سليمان علو - القرية















المزيد.....


القرية


مراد سليمان علو
شاعر وكاتب

(Murad Hakrash)


الحوار المتمدن-العدد: 6008 - 2018 / 9 / 29 - 20:47
المحور: الادب والفن
    


رواية سينو
الفصل الأول
(القرية)

الفجر في قرية "السكينية" يختلف عن غيرها من القرى، فهو يبدو أكثر ضبابية وغموضا، والجبل الواقع في شمالها، والتلال في الجهة الشرقية، وكذلك الغربية تبدو كظل لفجرها من جهاته الثلاث عندما يأتي، وكأنه يرغب أن يخبئ القرية عن مآتي الأيام، ولكن كلما تقدّم الوقت، واتسعت بسمة الفجر بانت الأشياء على حقيقتها، وحجمها الطبيعي، بصورة حسنة، وأغلب أهل القرية يستمتعون بفجرهم، ويعيشونه يوميا، المتدينون وهم يرّتلون دعاءهم في الباحات أو داخل أكواخهم الطينية، متأملين تحقيق أحلامهم البسيطة، كما هي حياتهم اليومية، ولكنها مجرد أحلام، ولا تتحقق أبدا، ربما لبساطتها، وبالتأكيد أحلام هذه القرية لا تختلف كثيرا عن غيرها المتناثرة في حوض الجبل، ومع ذلك هناك بصيص أمل في طياتها وإلا ما تمكن الأهالي من الاستمرار في عيشهم الذي يشبه الضياع في حكايات عجائز القرية نفسها، وبعد أن ينقضي العمر يجدون أنفسهم في المكان الذي بدأوا منه، ولا يخامرهم الشك أبدا بأن هذا الفجر كاذب كسواه، ولكنهم يسايرونه كما في كلّ يوم، الرعاة وهم يتقدمون مواشيهم؛ لرعيها. الحطّابون وهم يتوجهون صوب الجبل؛ للتحطيب، ومن ثم بيع حطبهم أو تحويله إلى فحم وبيعه لاحقا في أقرب بلدة. اصحاب بساتين التين الواقعة خلف الجبل في مواسم جني التين. صيادو الحجول في أوقات صيدها، وكلّ شخص لديه عمل يقوم به، ينهض من فراشه فجرا، وربما قبل الفجر بقليل خاصة في أوقات زرع الحبوب أو حصادها. الذاهبون إلى القرى المجاورة والمدن البعيدة، وحتى الذي ليس لديه ما يفعله يخرج ويجلس لصق حائط ما ذو ظل كثيف؛ ليحيل طعم فمه إلى علقم بتدخين التبغ الطبيعي المتوفر دائما، والذي يزرع في أعلى الجبل، وهذا التبغ مشهور في أرجاء المحافظة لما له من نكهة خاصة مميزة ربما لسقيه بالماء العذب القادم من أعماق الجبل، والجو المناسب حيث النسيم يكون عليلا أغلب الأوقات. ولا يستثنى من نفير الفجر هذا، الأطفال طبعا، فهم يسبقون الكبار في مغادرة مناماتهم عكس أطفال العالم كله، عموما على الأيزيدي أن يستقبل الشمس، ويحيّ شروقها، ولا ضير من أن يكون هو أول من يغادر فراشه.
في فجر السكينية أيضا ترى أعمدة دخان تنانيرها الطينية السومرية القديمة وهي تتصاعد وتعانق السماء. تخرج النساء لتصنع الخبز فيها، وتنتشر رائحة الخبز المشوي في أرجاء القرية، وما أن تعود المرأة وهي حاملة خبزها حتى تعرضه على الرجال الجالسين لصق البيوت، وأغلبهم يتناولون ما يصيبهم من خبز الحنطة الأبيض المحمّص مع جرعات من ماء الساقية القراح، والتي تجري في وسط القرية وتشطره إلى نصفين، شرقا وغربا.
ومنذ يوم أمس كان "الياس" قلقا كغيره من أهالي السكينية من خبر تناهى إلى سمعه، فقرر البقاء في البيت هذا اليوم، وعدم الذهاب كعادته إلى الجبل للصيد. جلس لوحده، يشعل لفافة تبغ تلو الأخرى حتى مرّت بقربه امرأة مع ولدها قادمة من التنور القريب وهي تحمل على رأسها خبزها الطازج. لم تعرض المرأة عليه خبزها وحسب، بل أنزلت الصينية ووضعته أمامه؛ ليأخذ ما يشاء من الأرغفة، ولكنه اكتفى بقطعة صغيرة اقتطعها من رغيف سميك غير مقرمش؛ ليتمكن من أن يلوكها ويزدردها على مهل؛ فلم يعد في فمه ما يكفي من الأسنان ليخوض معركة خاسرة مع خبز قاس، ومع أول قضمة سأل السيدة عن صحة الخبر المنتشر في القرية منذ يوم أمس، ولكن المرأة لم تعرف جوابا لسؤاله، ومضت لحال سبيلها، أما ابنها فقد أجاب الرجل العجوز قائلا:
ـ مجّمعات.. عمّ الياس.. مجّمعات.. يسمّونها مجّمعات!.
وأراد الفتى "رشو" أن يمضي في طريقه أيضا بعد أن أجاب على سؤال الياس المفاجئ عندما وقف أمامه مع والدته، ولكنه قرر في اللحظة الأخيرة أن يلتحق بأصدقائه للعب لا سيما وقد ملأ بطنه بالخبز للتو. والمكان المفضّل للعب الصغار هو بيادر القرية البعيدة عن أعين الكبار، وطبعا يكون ذلك في غير مواسم حصاد الحبوب وهي أيضا ساحة احتفالاتها ودبكاتها في الأفراح والمناسبات، والبيادر تقع شرقي القرية محاذية تماما للتلول. مكان فسيح يفصل بينها وبين القرية وادي صغير مليء بالأحجار البيضاء الملساء وقد تلوّنت بالأبيض الفسفوري نتيجة غسلها المستمر بالسيول القادمة من الجبل في فصول الأمطار المتعاقبة، فتبدو وكأنها قد قشرت، ورصّت لتكون سجادة لامعة من الحجارة.
ــ تجمّعات.. وماذا تعني تجمّعات.. تعال.. ابن من أنت.. تعال.. يا ابن الكلب تعال، وفهمّـني. ابتسم الفتى ليداري حرجه، وأقترب من العجوز قائلا :
ــ يبدو إن سمعك قد ازداد ثقلا .
ــ لا تقلق على سمعي. ما هذا الذي تقوله؟.
ــ مجمّعات تعني قرى عصرية.. سيجمعون قرانا الصغيرة وبيوتنا المتفرقة من هنا وهناك ويجعلونها قرية كبيرة فيها شوارع وأسواق ومدرسة ومستوصف صحي.. وحتى كهرباء.
فغر الياس فمه مرددا.. وحتى كهرباء.. وحتى كهرباء، والآن قل لي ألست ابن سليمان؟ .
ــ نعم عمي، أنا رشو بن سليمان .
ضحك الشايب حتى بانت بقايا أسنانه النخرة، وأبتسم رشو لضحكته دون أن يعرف سببها، أو مخزاها.
ــ رشو.. ها.. إن أباك رجل طيب، ولكن هل تعلم لماذا سموّك بـ رشو؟.
ــ نعم، أعلم لأني كنت شديد البياض عندما ولدت وحتى لا أصاب بالعين سمّوني رشو.
ــ حتى لا تصاب بالعين أجل.. أجل، وأيضا؛ لأنك كنت وحيد والديك بعد ثلاث بنات فأصرّت القابلة على إطلاق اسم رشو عليك لتعيش.. تلك البومة كم أكرهها، وهل تعلم إن لرشو معنى آخر؟ والآن قل لي يا ابن أخي هل أنت أيضا تذهب إلى المدرسة؟ .
ــ أجل، وأعلم ما ستقوله سلفا.. لن أترك المدرسة، وولّى الفتى هاربا من أسئلته بعد أن لمح صديقه "بركات" .
لوّح رشو بيمينه ماسكا طرف دشداشته المرقعة باليد الأخرى راكضا نحو بركات وهو يناديه: "انتظرني.. انتظرني يا بركات". في الوقت الذي كان الياس لا يزال يكلّم نفسه قائلا: "ولماذا لا تترك المدرسة يا هذا؟ ما فائدتها؟ أذهب للتحطيب مع أبيك، أو كن راعيا، أجل، الرعي أفضل من الدراسة.. فالمدرسة تورث الدلال والفساد.. جيل آخر زمن.. ثم انفجر ضاحكا .
***
كان الياس قد خرج من البيت هذا الفجر؛ ليتأكد مما سمعه يوم أمس عن الرحيل المفاجئ، ويسمع آخر الأخبار حول هذا الموضوع، والرحيل يعني الابتعاد عن الجبل وعدم تسلقه ثانية، وهذا ما لا يحبه، والرحيل يعني ترك متعة الصيد، وهذا ما لا يقدر عليه، ولن يتحمله، وفي هذا اليوم أول من يراه الفتى رشو ووالدته. فقط لو لم يتّذكر تلك القابلة الشمطاء لربما كان صباحه سيمضي على خير.. وأخذ يحدّث نفسه بصوت مسموع قائلا: "ولكن هذا أسوء من الرحيل، ولابد إن يومي سيكون مثل أسمك أسود.. يا أسود. ألم يخطر على بال تلك الشرّيرة اسم آخر غير رشو"، ثم تهلّلت أسارير وجهه عند رؤية جاره القادم نحوه يطلب ظل الصباح الكثيف مثله، وربما لديه أجوبة لأسئلته التي يعتبرها ملحّة وضرورية أكثر من ذهابه لصيد القبج، ومادام هناك شيء أكثر ضرورة من الصيد فهذه نهاية العالم بالنسبة له.
ــ صباحك خير يا الياس، ثم قرفص قباله.
ــ خير، لا أظن إن فيه خيرا.. أيها الجار، تعال واجلس بقربي، ولا تقرفص، فلم تعد شابا، وفرش له عباءته المهترئة والمليئة بالثقوب جرّاء نكت نار لفافاته مع رمادها عليها دون وعي.
ــ أنك تحترمني كثيرا هذا الصباح، وأراهن بأنك سترمي لي بكيسك المليء بالتبغ الكسكون.
ــ سأعطيك زقوما إن صبرت، ولكنك لا تصبر، كيف مكثت في بطن أمك تسعة أشهر.
ــ ليتني بقيت هناك بدلا من لقاء أمثالك هنا.
حدقا ببعضهما البعض لحظات، وكأنهما سيتناقران كديكين منفوخي الأوداج ثم انفجرا ضاحكين. صديقان يفهمان بعضهما، ويتحمّلان من بعضهما حتى المزاح الثقيل منذ أكثر من نصف قرن.
ــ أظننا جميعا سنذهب هناك.
ــ ها.. هناك.. أين هناك؟ هل بدأت تخرف؟ .
ــ جنوبا يا جاري جنوبا نحو الصحراء.. هذا ما سمعته من الناس، والآن قل لي ما هي الأخبار الجديدة؟.
ــ لا تعتمد عليّ فأنا مثلك لا أعرف شيئا.
ــ ومن يعتمد عليك أيها الفشوش!؟ حتى زوجتك لا أظنها تعتمد عليك، ثم أطلق ضحكة خفيفة، فلم يكن مزاجه يسمح له بالتمادي أكثر، أو أن يقهقه كالعادة بينما كان جاره يبتسم وهو مشغول بلف سيجارة بغلظ الأصبع من كيسه المليء بتتن مشهور، ثم قال الجار وهو يبلل طرف اللفافة بلسانه: "لنذهب إلى الديوان فربمّا المختار لديه بعض الأخبار، وسنشرب القهوة".
ــ الوقت لا يزال مبكرا، والمختار لن يعطينا أخبارا أحلى من قهوته البائتة.
ــ أذن سنذهب إلى غرفته الخاصة، وربما حظينا باستكانة شاي.
ــ شاي أيش يمعود، والله، سيرمينا بحذائه ما أن يرانا.
ومع ذلك نهضا، وسارا باتجاه الديوان وهما يضحكان.
***
التقى رشو ببركات، ودون أن يسّلم أحدهما على الآخر أخذ يخبره بحديثه مع الياس وهما يبتسمان، فقال له بركات: "أنت تعرف العمّ الياس يسخر من الجميع، بل يسبّ الجميع، ومع ذلك أهل القرية يحبونه".
ــ هل لأنه عجوز؟ .
ــ بل لأنه مرح. قال أبي ذهبنا قبل أيام لنسهر عنده، وغالبا ما يفعلون.. قال: "صعدنا على سطح بيته الملاصق لبيت شقيقه وجلسنا؛ لنتسامر وكان أخوه لوحده فسلّمنا عليه وأردنا أن نتكلم معه أكثر، فقال العمّ الياس بحدّة: تضعون حاجياتكم في دكاني وتشترون من دكان جاري، فضحكنا جميعا ومع إنها كانت طرفة، ولكنه كان جادّا في كلامه".
ــ أعلم.. أعلم.. الكلّ يحبونه رغم لسانه المشحوذ. هل تظنني من قرية أخرى. لنذهب ونطرق الباب على "حسن".
ــ أجل لنذهب.. ذلك الأحول الكسلان .
وفي الحقيقة لا أحد في هذه القرية يطرق الأبواب. الكل يدخلون إلى البيوت دون إحراج وفي أفضل الحالات ينادى على المقصود مثلما يفعل رشو وصديقه بركات الآن .
ــ هيا.. يا حسن أخرج وإلا ذهبنا بدونك.!
ــ أجل سنذهب إلى البساتين.. أسرع، وغمز بركات لرشو وهو يقول له: "الآن سيأتي راكضا".
خرج حسن بسرعة وهو يمسح أنفه بردنه الأيسر ويشفط ما تبقى من مخاط في منخريه محركا رأسه للوراء مستفسرا: "أين سنذهب؟ لن نذهب للمقبرة أليس كذلك؟ لأن أمّي تقول بدأت أتكلم في نومي وأذكر القبور". قال بركات مبتسما: "طبعا، لن نذهب إلى المقبرة، ربمّا ذهبنا إلى كهف العشاق المطلّ عليها"، ولكزه رشو بمرفقه وهو يخاطب حسن قائلا:
ــ بل سنذهب إلى الديوان فكل الأهالي سيجتمعون هناك هذا الصباح.
ــ ولماذا إلى الديوان؟ هل حان موعد زيارة "السنجق" لقريتنا؟ كذلك قال حسن ساخرا.
ــ أجل، وسيبتّون في أمرك هذه المرة، وربما جعلوك كوجكا كما الشاب "سينو" من قرية "الوردية"، إن كنت حقا تتكلم وأنت نائم، فتلك معجزة، ولم يتمالك بركات نفسه فانفجر ضاحكا وهو يلقي برأسه على كتف رشو، فاستشاط حسن غضبا وهو يقول:
ــ أنتما تسخران مني وتضحكان عليّ من جديد. لن أرافقكما أبدا.
تحايل عليه رشو وأقنعه بان أمرا جللا سيقع ويجب أن نذهب إلى الديوان كالآخرين.
ــ ولكن لن يسمح لنا بالدخول.
ــ لدي فكرة قال رشو سنوزع الماء على الجالسين وسنتظاهر بأننا نقوم على خدمتهم.
ــ نسقيهم ماءً! إنها أغبى فكرة سمعتها في حياتي فثلاثة أرباعهم لا يعرفون معنى الفطور فكيف سيشربون الماء في هذا الصباح الباكر وبطونهم خاوية.
ــ إنها ليست مسألة فطور. الجوّ حارّ وسيطلبون الماء. ستريان، سكت الثلاثة لبرهة ثم قال حسن: "لديّ فكرة أخرى، ثم جرى سريعا وتبعه صديقاه راكضين".
***
لأول مرة منذ أشهر يغصّ الديوان بالرجال. ولا يتردد هذا العدد على الديوان إلا في الأعياد والمناسبات، وحتى في الأعياد يتعاقبون في المجيء لتهنئة المختار. يشربون شايهم، وقهوتهم ثم يمضون في حال سبيلهم، أو ينتظر من ينتظر الغداء. أما اليوم فلا عيد ولا يوجد وجبة غداء ومع ذلك الكل يريد أن يجلس ويسمع المختار حتى ضاق الديوان بهم، فجلس بعضهم مقابل الباب في الخارج وكأنهم يتوقعون معجزة، والمختار متكئ على وسائده وعينه على منفضة ممتلئة بأعقاب صفراء من سجائر "بغداد" لا يريد أن ينظر في أعينهم مباشرة، وعليه أن يقول شيئا يخفف عنهم مصيبتهم.
ــ الأمر الجيد هو إن كل عائلة ستحصل على أربعمائة دينار كتعويض، وهو مبلغ ليس بالقليل كما تعلمون، ومن يقتصد قليلا سيزيد المبلغ عن حاجته. كلّ ما في الأمر هو عدم بناء غرف زائدة عن الحاجة، وشعر الحضور بأن الأسئلة أصبحت مباحة فقال أحدهم:
ــ سمعنا بأن الحكومة ستأخذ أسلحتنا أيضا
ــ أجل، ولكن لن تصادرها. على الأقل ليس دون مقابل.
وسأل آخر: "هل سيأخذون كل أنواع الأسلحة، حتى الخناجر؟"
ــ أجابه المختار بتبرم: "حتى بنادق الصيد!"
وما أن سمع الياس كلمة بنادق صيد حتى رفع رأسه وضرب رجلة بقوة على الأرض قائلا: "لن أسلمهم غدارتي، فلا أستطيع العيش دونها"، فأدرك المختار في أي موقف حرج هو، وتمنى في داخلة لو إنه ميت قبل أن يرى رؤوس رجاله منكوسة. صمت الجميع ليسمعوا ردّ المختار فقال: "سنبتعد عن الجبل يا عمّ الياس ولن يكون هناك صيد؛ فما حاجتك لبندقية قديمة. ستشكل لجنّة ويقررون قيمة كلّ قطعة، ولن يغبن أحد منكم ما دمت حيّا، والآن ابتهجوا ولا تهتموا فالرجال خلقوا للمواقف الصعبة أليس كذلك؟ لقد رأينا ومررنا بما هو اسوأ من هذا ألا تتذكرون؟"
وهنا شارك جار الياس بالحديث قائلا: "عندما كنا نمّر بموقف معين كان القادر منا يلوذ بالجبل وبعد أن يستتب الأمن والأمان يعود إلى بيته، داره. إلى مكانه، والآن يريدون منا أن نترك المكان كله! لا، لم نمّر بأسوأ من هذا يا مختارنا. "
قال المختار بعصبية: "أذن فليفعل كلّ واحد ما يراه مناسبا لمصلحته."
وكان الياس أول من نهض ودمدم قائلا: "بل قل إن كان يجرؤ، اليوم سيستولون على سلاحكم وغدا على.... وضحك وهو يقول الحمد لله لست متزوجا"، وخرج تاركا جوا من المرح المشبوب بحزن دفين على وجوه الرجال في الديوان.
***
عبر الياس آخر بيت من بيوت السكينية نحو الجبل وحيدا كالعادة حاملا بندقيته العتيقة على أمل اصطياد بعض الأرانب، لعشاءه، وعشاء قططه الجائعة، وفي الحقيقة الصيد كان آخر شيء يشغله الآن فقد كان بحاجة إلى أن يخرج، فهو يشعر بالاختناق منذ أن سمع من المختار بأن الحكومة ستصادر سلاحه وربمّا أراد أن يودّع الجبل أيضا لأنهم سيبعدونه عنه عنوة.
سار أولا محاذيا لبساتين القرية. البساتين التي ستصبح قريبا مرتعا للثعالب، وسمع خشخشة من البستان الذي يمر بقربه الآن، فقال في نفسه: "هل علمت الثعالب بأننا راحلون فأتت بهذه السرعة، أم ماذا؟" ابتسم لنفسه من طرفته، فهو من الذين يحسنون النكتة على نفسه وعلى الناس، ولا يرى من الحياة إلا مفارقات تستوجب السخرية منها بدلا عن التأمل فيها، اقترب من السياج الحجري. رفع رأسه وواضعا بندقيته على السياج وما أن أمعن النظر حتى رأى صبيان ثلاثة يسرقون الثمرات من البستان.
لم يرغب مام الياس الموّلع بالمزاح أن يفّوت على نفسه هذه الفرصة الطريفة فصاح بهم: "ماذا تفعلون في بستاني؟" وما أن سمعه حسن الذي كان قد تسلق شجرة تين كبيرة حتى استدار بخوف فتزحلقت قدمه وسقط. ركض بركات بالاتجاه الآخر وهو يقول لرشو: "اركض. اركض إنه الشيخ "شرف" صاحب البستان"، ولكن بدلا من أن يهرب رشو سار نحو حسن ليطمئن عليه، بينما الياس غارق في الضحك. نهض حسن وهو يرتجف خوفا مشيرا بسبابته إلى الرجل قائلا وهو يتلعثم: "إنه يحمل بندقية"، طمأنه رشو قائلا: "لا تخف إنه العمّ الياس"، فصاح به الياس قائلا: "ومن يتسلق شجرة تين أيها الغبي، وبدأ برفع رأسه وإطلاق ضحكة مجلجلة ثانية. لا تخافوا مني فقد كنت أفعل نفس الشيء عندما كنت في عمركم، وردّد بهدوء وبصوت خافت، ولا أزال إن سنحت لي الفرصة"، ثم أخذ يضحك وهو يمشى ليعبر البساتين باتجاه الجبل.
هذا الجبل، والكهوف العديدة فيه، والحجارة الكبيرة المتناثرة عليه، والوديان العميقة، وأشجار التين الجبلي، والسمّاق، والبلوط، والبطم وكل بقعة جميلة ألفها، وقضى فيها أجمل أيام عمره. أخذ يسير دون هدى ودون أن يعرف إلى أية جهة من الجبل يولّي وجهه، فهو يحبه كله، ومثله مثل القرويين بصورة عامة يألف الأشياء والأماكن بأسماء يطلق عليها بمناسبة أو دون مناسبة، وبدأ يكلّم نفسه كالعادة فقد بلغ من الكبر عتيا ولم يجد يوما من يؤنسه بعد أن ماتت زوجته وهي تلد. ماتت هي ومولودها في يوم واحد بعد أن صارعت المرض أسبوعا لا أكثر ففي تلك الليلة المشؤومة عندما أتاها الطلق ذهب الياس ينادي على القابلة بصوت عالي أيقظ معه الجيران قبل المرأة القابلة، ثم رافقته على عجل، ولكنها قطعت الحبل السري بموس عتيق وملوث وطوال أسبوع كانت تزورها وكانت تزداد ضعفا وفي اليوم الأخير وبعد أن ساءت حالتها كثيرا وأصبح وجهها أصفر وبرزت وجنتاها وكل عظامها قالت له القابلة: "يا أخي الياس خذها للمدينة إنها تموت وستصبحون علكة في أفواه الناس إذا تركتها تموت ولم تأخذها للطبيب"، فردّ عليها الياس بهدوء: "وبماذا آخذها؟ وكيف؟ المكتوب مكتوب يا سيدتي. فعلت ما بوسعك والباقي على الله". ولم يتزوج بعد ذلك، وعندما يفتح أحد أصدقاءه الموضوع معه يحاول تجنب النقاش قدر الإمكان بحجة من يزوج ابنته لصياد أرانب ومربّي قطط، حتى أخوه نبذه لفترة ثم طرده من البيت لعدم موافقته على الزواج ثانية فبني له أصدقاءه غرفة لصق بيت أخيه ومن يأتي ليزوره في البيت إنما يأتي ليرفّه عن نفسه ويسمع بعض الطرائف والقصص أو بعض الغناء والمواويل. أجل دائما كان وحيدا كما هو الآن يكلّم نفسه في الجبل أو يغنّي وفي البيت يكلّم القطط العديدة التي يرفض أن يمسها أحد بسوء وخاصة الأطفال، ينادي كل واحده باسمها، فهذه "خاتون" وتلك "دلال" والأخرى "ليلى"، ولكلّ شيء عنده اسم.. بندقيته، الحجارة الكبيرة. الأشجار. الكهوف، حتى مقتنياته وملابسه.. قطع نصف المسافة إلى القمة وقد سلك طريق "الصقور" كما يحلو له أن يسمّي هذا الدرب. جلس ليأخذ استراحة قصيرة وأختار صخرة قريبة من المنحدر ليجلس عليها. نظر إلى القرية كانت تبدو ببيوتها الطينية البيضاء وكأنها حمائم حطّت لتلتقط الحبوب، أو تشرب الماء.. لفّ سيجارة.. وقال بصوت عالي: "من المؤسف أن تهاجر الحمائم جنوبا إلى البرية.. أجل هذه البيوت تشبه الحمام.. عمت عيني"، ثم تحسّس كيس التتن.." لايزال هناك الكثير من التتن الذي أعطاني إياه الشيخ شرف.. الشيخ شرف إنسان كريم "، وانفجر ضاحكا حتى أدمعت عيناه.
التفت للأعلى نظر للجبل وقال: "فليرحم الله من سمّاك بجبل "شيرين" ثم بدا يغني.. دلوي لو دلوي لو دلو.. وبعد أن اغرورقت عيناه بالدموع وشبع من الغناء أخذ رشفة ماء من قربته الصغيرة، وأخذ يلف سيجارة أخرى.. لم يكن يوما مستعجلا، ولماذا يتعجل الأمور، ويستعجل فكل شيء بيد الله كما يقول، نهض.. مدّ رجله ليخطو الخطوة الأولى.. وشعر بدوخة مفاجئة وخانه توازنه.. ثم سقط، وتدحرج إلى أن استقر في أسفل الوادي دون حراك.
***
في ظهيرة اليوم التالي، وعند موعد قدوم الرعاة لسقي مواشيهم كان راعٍ للماعز الجبلي قد عثر على جثة الياس صدفة بينما يقود قطيعه في طريق العودة. انتشر خبر موته في القرية، وذهب شقيقه وجاره ورجل آخر ليعودوا بجثته، وفي الوقت نفسه كان بعض الأفندية القادمين من المدينة قد انتهوا من مهمتهم بتبليغ مختار واختيارية القرية بموعد الرحيل والمكان الجديد لبناء بيوتهم وكيف ستستقبلهم لجان مختصة بتوزيع قطع الأراضي السكنية، وآلية تسليم الأسلحة وقبض أثمانها، وكذلك استلام الدفعة الأولى من المبلغ المخصص للبناء، أما في خارج الديوان فكان اللغط والتساؤلات التي لا أجابة لها على ألسنة الناس المتجمهرين، وأمارات التعجب والدهشة بادية على وجوههم، بينما الظل يكاد يختفي وشمس الظهيرة كانت قد أصبحت شبه عمودية، ولايزال بعض أطفال القرية ومعهم الأصدقاء الثلاثة يثرثرون حول الرحيل، وكان خبر سقوط الياس في الجبل وموته هو الحدث الثاني الذي تناولوه في احاديثهم، قال اكبر الأطفال سنّا: "يا ترى ماذا سيحدث لقطط مام الياس المسكينة من بعده؟". فأجابه طفل آخر: "ستتشرد في الأزقة إن لم يكفل بتربيتها شقيقه". فقال أغلب الأطفال معا: "لن يعتني بها شقيقه"، وأردف آخر: "نحن سنتكفل بها"، فصرخ حسن قائلا: "أمي تقول من يقتل قطة عليه أن يملئ جلدها بالذهب، ثم يدفنها وإلا سيعاقب هو بدوره لفعلته، اعلم بماذا تفكرون، لن أؤذي قطة من قطط العمّ الياس"، ثم أمسك بيد رشو وقال له: "لنذهب إلى البيت". وأعطى رشو بدوره إشارة لبركات، ثم غادر الثلاثة جمع الأطفال.
وما غادر الثلاثة حتى تفرق أغلب الأطفال، وعند العودة للبيت قال حسن: "برأيكم عندما كنت على شجرة التين الكبيرة في بستان الشيخ شرف لماذا قال العمّ الياس بعد أن سقطت على الأرض ـ كفاكما ضحكاـ مَن يصعد شجرة تين؟
فأردف رشو قائلا: "بل قال العمّ الياس، ومن يتسلق شجرة تين أيها الغبي؟" وأطلق بركات ضحكة مدوية، التفت اليه حسن ليباغته بكف، ولكن بركات تفادى يد حسن ثم تحول إلى جهة رشو وهو يضحك ليكون بأمان أكثر من ضربات حسن، ثم، أجابه رشو بعد أن هدأ الأثنان: "يا حسن الناس لا يتسلقون أشجار التين عادة؛ لأنها ليست عالية كثيرا وأغصانها لا تتحمل الوزن الزائد فهي تنكسر، والأهم من ذلك عندما ينضج التين ليس عليك سوى هزّ الشجرة، أو ركلها فيتساقط الثمر".
ـ ولكن الشجرة التي تسلقتها كانت من التين الأسود وهي عالية جدا، وأغصانها قوية كالبلوط، دائما تسخران مني؟
قال رشو وبركات معا: "نحن لا نسخر منك أيها المهبول هذا ما يحدث بالضبط في بساتين التين الديمية وراء الجبل"، ثم أردف رشو: "رأيت ذلك بأم عيني عندما ذهبت هناك الصيف الماضي،" ولم يدع حسن تفوته الفرصة ليسخر هو بدوره من رشو فقال: "أجل عندما أصبت بالإسهال نتيجة تناولك للتين الذي لم يجف بعد، والمعروض تحت أشعة الشمس فوق الكوخ." وهنا أطلق بركات ضحكة مجلجلة وهو يلوح بيده لهما وقد دلف إلى الزقاق المؤدي إلى بيتهم.
أما رشو وحسن فيسكنان نفس الزقاق وعندما اقتربا من البيوت هالهما رؤية الغبار المتصاعد من عدة منازل ومنها منزليهما، فقد حزموا الأمتعة القليلة التي يمتلكونها وركنوها على بعضها في الحوش فلقد حان وقت هدم البيوت، والرحيل.
***
كان شقيق مام الياس يستقبل المعزين بوفاة أخيه. لم يبدي رأيا، ولم يحرك ساكنا، فقره المدقع يمنعه من إقامة مراسيم عزاء ملائمة، ويكاد يذوب خجلا، ويموت كمدا من عدم قدرته على عمل الواجب الأخلاقي الأخير تجاه شقيقه الأكبر، وبالنسبة له هذا لا يبدو كمأتم، ولكن قبل أن يحلّ المساء كان أصدقاء وأقارب الياس قد جلبوا خيمة مناسبة للعزاء، وقدّم البعض ذبائح وأتوا بالقدور وأدوات القهوة من بيت المختار وهرع بعض الشباب لخدمة المعزّين، وكان هناك الكثير من الطعام في أوقات الغداء والعشاء، وكذلك القهوة الطازجة، والتبغ الفاخر.
في اليوم الأخير من مراسيم التعزية والتي تبدو غريبة نوعا ما وبعيدة عن أحزان هذه القرية فلا نساء تولول ولا جيوب تشق ولا دموع تذرف وكأن الحزن غرق عميقا في داخل الجميع وينتظر فرصة أخرى لكي يخرج دفعة واحدة ليعبر عن كلّ شيء باطل في هذه الحياة القاسية، أو ربما تواجد في الوقت نفسه حزن آخر طارئ، حزن الرحيل، وفي هذا اليوم قدم المختار بنفسه إلى التعزية والسوالف كلها كانت عن الرحيل، ولم يذكر الياس الطيب حتى في عزاءه، وكالعادة كان الجميع ينتظرون ما سيقوله مختارهم الحكيم.
ـ المكان الذي سنذهب إليه تسمّى "سيباى" والرعاة بوسعهم القدوم إلى مراعي الجبل والتلال كل يوم، وسيباى هذه تعرفونها جيدا ككفوف أيديكم قرية فيها بئر ارتوازي وسنأخذ منها حاجتنا من الماء إلى أن تقوم الحكومة بحفر آبار ارتوازية مماثلة لنا.. ستحفر كفايتنا من الآبار.. لسنا بعيدين من هنا يا جماعة لا تحزنوا! بوسع الجميع أن يتردد على أملاكهم من بساتين ومراعي وبيادر. فقط، لا يسمح لنا ببناء بيوتنا هنا ثانية. الأمر ليس بهذا السوء كما تظنون!
وكان المختار يحاول أن يعزف على الوتر الحسّاس للأهالي، وهو محاولة بقائهم مرتبطين بالجبل روحيا، والجبل هو جبلهم ولن تأتي قبائل أخرى غريبة لتسكن بالقرب منه.
*******





#مراد_سليمان_علو (هاشتاغ)       Murad_Hakrash#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حبّ وعصيان
- شكر وعرفان إلى ادارة مؤسسة الحوار المتمدن
- إلى أنجيلا ميركل
- انتباه
- احلام عائلة
- ناي القوال
- رحلة الى عينيك
- أمسية ملونة
- السباق
- سوق خضار جم مشكو
- أثداء طفولية
- عذرا للأستاذ أمين يونس
- سنجار
- رحلاتي الثلاث
- نفسي والناس
- الطين والرخام
- الأرض والإنسان
- حكاية حب
- ولادتي الأخيرة
- نازحون


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مراد سليمان علو - القرية