النهر لا يمر في النقطة ذاتها مرتين!
تصعد السمكة التي أكلت ( الزهر) إلى سطح الماء وتتخبط فتندفع سابحة لا على التعيين فاقدة الصواب لصطدم بزورق أو نبات أو ( تشله على الجرف ) بعد أن شل مفعول الزهر عصبها المركزي. والسمكة (المْزوْهْرَة) تخلد إلى راحة عابرة ثم وبعد رفسات وحركات عدوانية متسارعة تستهلك به كل مخزونها من الطاقة، ما تلبث وتنقلب على ظهرها، ليمسكها الصياد باليد، وينطبق عليها المثل: (( صادوك وإنته النتشر يغراب )).
ويقال، أن الشبوط ومن ثم الكطّان، هما الأشد تألما وبالتالي الأكثر عدوانية إذا تزوهرا. كيف لا والشبوط محتال السمك والكطان ملكه. والعجب كل العجب أن ينخدع أحدهما بطعم ولون الزهر، أو يموت به كما تموت البنّية الرقيقة!
ولا ريب بأن ترتيب الأحداث بالنسبة للسمكة المزوهرة أيا كانت هو: ما قبل أكلها طُعْم الزهر وما بعده. وما قبل الزهر الحياة وما بعده سوى فترة عابرة فالفناء.
والأحداث التي تشبه ضربة الزهر ليست غريبة على البشر، مثلما التوريخ نسبة إلى حادث محوري ليس بالغريب أيضا. فلدينا قبل الميلاد وبعده، وقبل الهجرة وبعدها وقبل الإستقلال وبعده،، ولدينا أخيرا قبل أيلول 2001 وبعده. ذلك المرجع المحوري الذي لا يتحدث سياسي إلا وذكره، ولا يحلل محلل إلا بناءً على تبعاته.
وأيلول 2001 كما نعلم هي تلك الضربة – النجلاء التي وجهها شيخ لا يتعدى وزنه الستين كيلوغرما، إلى العصب المركزي لكطّان العالم – أمريكا، فزوهره ونقله إلى مرحلة ما بعد الزهر المحتومة العاقبة، فجعله يتخبط ليحتل أفغانستان ويعتدي على هذا ويغتال ذلك، حتى نهاية العام الماضي ليدخله في الراحة العابرة المحتومة أيضا. وفي هذه الراحة، والكطّان لا يعلم أنها راحة ما قبل الإنقلاب على الظهر، تهيّا له وكأنه حكم العالم كله، وأنه ما أن يؤشر على شيء لو بالخاطر حتى يمتثل وينفذ ما يقوله أو يفكر به. بل وقد وصلت به العنجهية إلى الطلب من الدول طرد هذا الدبلوماسي أو ذاك، وفرض كشف أسرار البنوك، تلك الأسرار التي كانت قبل عماد النظام المالي العالمي ومصدر الثقة به. وتحت مصطلح (( المجتمع الدولي )) أحل هذا الكطان رغبته أو رغبة حفنة ضيقة فيه محل السياسة الدولية والغى الثوابت التي يقوم عليها النظام العالمي بأسره، وبدأ يخطط وكأن العالم كله صار من رعاياه الثانويين، إن تكرم عليهم فبإخبارهم وبشكل عابر أنه بنية (هِجمان) بلد هذا أو ذاك منهم. لا يسمح لأحد أن يسائله عن سياسة المعايير المزدوجة، ولا عن 480 قرارا دوليا لازالت بعهدة مدلهته إسرائيل ولم تنفذها، ولا عن مبرر دعمه لدكتاتور من قبيل برويز مشرف ،،،الخ.
وفي غمرة صحوة الموت خطط الكطان للغزو الثاني للعراق، وهو لا يشك بأن الطريق معبد سلفا، وكل شيء مضمون القبول بما فيه أن الشعب العراقي سيسلمهم رقبته طائعا، ليتفضل ويباركه بقطعها. بل وتعامل مع معارضة سماها للعراق، تعامل السيد مع خدم خصيانه. يقربهم تارة ويشتمهم أخرى، يحابي هذا على ذاك ويعود ليخابي آخر على هذا ودونما سبب. ولم يشك أيضا بأن العالم سيتبعه كما تبعه بالعدوان الثلاثيني، فجعله يحصد الأفياء والمغانم، وجعله نتيجة ينفرد بالعالم منذ 1990 حتى ضربة أيلول المباركة. هذه هي حال أمريكا.
الغريب أن ضربة أيلول بن لادن جاءت كما نعلم بعد أقل من ربع قرن على ضربة أيلول سانتياجوا التي نفذتها هذه الأمريكا في تشيلي. وكان عليها الإعتبار. وسبحان من يتعامل مع خلقه بالعبر لا بالمفردات. وكان لابد من الإعتبار حيث رد أيلول بن لادن الصاع صاعين إن بعدد القتلى أو بالتكاليف أو المردود المعنوي. وهيهات لمحتضر مزوهر أن ينتبه لعبرة الأحداث. ولات لمسعور أن يعود إلى تاريخ. وها هي سادت العالم بسبب العراق وبسببه تفقد سيادتها.
فلا مسرحياتها عنه إنطلت على أحد ولا تزويرها للوثائق ولا أفلامها الكرتونية نفعت، اللهم إلا في أن جعلت من دبلوماسيتها أضحوكة للعالمين. والدول التي كانت تعتبرها حديقتها الخلفية، صارت تستنجد بهذه الدول لمجرد إمرار قرار، ولم تستطع. وفتحت يدها لتجد أن (( المجتمع الدولي )) الذي تخيلته، هذا المجتمع لا يتألف إلا من حفنة من ساسة ثلاث دول فقط وشرذمة معارضة (يقال أنها عراقية) هي بمجملها دون إسلام حنّون. وتسارعت الأحداث فإذا بالذي سمته وفرضته على العالم، فإذا بهذا الـ ((international community )) منبوذ وملتمّ كالبعير المعبد بعيدا عن الأعين – الشامتة ولاشك! وبعيدا عن مواطنيه أيضا.
على أن أمريكا المزوهرة، لن تتراجع عن غزو العراق. وهو غزو محتوم، أما بفعل بديهة الموت بالزهر، أو لأن طريق الإستحقاقات الذي وضعت نفسها به يؤدي إلى الغزو بالضرورة.
فبناءً على حساباتها التي إفترضتها مضمونة، وظفت أمريكا في هذا الغزو ما يقارب من 90 مليار دولار حتى الآن، ناهيك عن قيمة ما سيستهلك من عتاد وموارد. والتسعون مليارد هذه إستقرضتها داخليا ولآجال قصيرة جدا، على إعتبار أن الغزو مضمون العاقبة وستسددها حالما يعود إنتاج النفط العراقي بعد الحرب، مثلما ستسددها من مساهمات الإتحاد الأوربي ودول الخليج بعد أن تضيف إليها ما تضيف من نسب. وهو أمر جربته في الغزوة الأولى وأثبت إمكانيته. ويبدو، أن الأمور لم تساير الرغبات، على الأقل في الجانب الأهم وهو تمويل الحرب. فلا أحد غير الكويت، والسعودية نوعما، مستعد للمساهمة المالية بتكاليف الحرب. لتصبح أمريكا وحيدة أمام إستحقاقات القروض الداخلية القصيرة الأجل، والتي عادة ما تكون فوائدها عالية جدا (من 20% فما فوق) مقارنة بالقروض الطويلة. وقد قدر المراقبون أن قيمة الفائد الشهرية على هذه القروض تناهز المليار دولار. فمن أين ستأتي أمريكا بهذه المليار إذا لم تغز؟!
وإذا غزت وفشلت. الفشل الذي سيتم ما أن يصمد الجيش العراقي للأيام الأولى وحسب. ومن غير المعقول أن يصمد الشيخ بن لادن وهو ببندقية ومتفجرات فقط، بينما لا يصمد الجيش العراقي وهو الذي إستطاع إنتاج طائرة بلاطيار وصواريخ متطورة؟ فإذا فشل الغزو في أيامه الأولى فالكارثة الإقتصادية محيقة بأمريكا، ناهيك عما سيلحق بها جراء المثل (( إذا وقع الثور تكثر سكاكينه )).
وإذا نجح الغزو فمن يضمن أن أمريكا ستستطيع البقاء في العراق ولو لسنة تستعيد بها رأس مالها على الأقل، بينما دول كبرى تعارض الغزو وليس بينها وبين أن تدعم القوى الوطنية العراقية بمبررات مقاومة الإحتلال، إلا أن تجد الطريق إلى هذه القوى وحسب. فإذا بدأت المقاومة فتكاليف الغزو سترتفع بما يحول دون تسديدها ما لم يعوّم الدولار عمدا، ثم لتنهار قيمته تلقائيا كما حدث في العشرينات من القرن الماضي.
على أية حال، إن ما بيننا وبين أن تنقلب سمكة اليمين الأنجلوسكسوني على ظهرها، قليل جدا. والدنيا دول تظهر ثم تذهب. وما سيبقى هو العبرة التي سيصوغها التراث على هيأة أمثال وحكم. فيا ترى هل ستكون حكمة المستقبل هي : (( صادوك وإنته النتشر يا بوش )) أم (( على نفسها جنت عائلة الصباح )) أم (( أشأم من المعارضة الأمريكوعراقية )) ؟؟؟