أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فواد الكنجي - النص الكامل لكتاب ((غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداثة و المعاصرة)) تاليف .. فواد الكنجي















المزيد.....



النص الكامل لكتاب ((غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداثة و المعاصرة)) تاليف .. فواد الكنجي


فواد الكنجي

الحوار المتمدن-العدد: 5783 - 2018 / 2 / 10 - 03:53
المحور: الادب والفن
    


توضيح:
مخطوطة الكترونية لكتاب تحت عنوان ((غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداثة و المعاصرة ))، والكتاب عبارة عن دراسات نقدية لديوان (الرقص مع البوم) للكاتبة والشاعرة (غادة السمان)، تأليف فواد الكنجي ..عام 2018.


المقدمة

جماليات الشعر المعاصر وحداثته


الشعر المعاصر، شعر تنطلق كلماته من خلال لغة الروح، تلك اللغة التي تنطلق التعبير من خلال احتكاكها بمعطيات الواقع أثرا .. وتأثيرا .. وفعلا .. وانفعال، فهو إذا لغة الروح تعبر عن الحياة التي يعيشها الشاعر ومحيطه ووفق نمط الواقع الذي يفرز على حياته، والذي يعطي للمفردة الشعرية طابعها الإيحائي في الشكل والصوت وفق ما يربطها بواقع الحدث ومضمونه، وفي كثير من الأحيان تأتي المفردة كصوت ليس إلا.. و بعيدا عن أي معنى لغوي لتلك المفردة، بقدر ما يكون التعبير بها مرتبطا بطبيعة الفعل المؤثر في ذات الشاعر، لأنه يواجه الفعل بالمفردة وبما يلاءم التعبير وفق تصوراته، فالمفردة الشعرية في (الشعر المعاصر) تكيف مخارجها سواء بالمعنى أو بدون معنى، و وفق كل اثر .. وتأثير ..وفعل ..وموقف، لان الشاعر يعبر بالمفردة بما يلاءم ما تمخض في أعماقه مترجما تأثيره بها، فاللغة المعاصرة في الشعر تتشكل وفق طبيعة الحياة المعاصرة تشكيلا جديدا وبما يناسبها ليكون (الشعر المعاصر) له تأثير لمتلقيه .. يتفاعلون بقراءاته .. لان نفوسهم تشعر بمفرداته كونهم معاصرين بحداثة اللغة ولان (لغة المعاصرة في الشعر المعاصر) تواكب مستويات تطور والمعاصرة، لذا فإنها تسعى للارتقاء بلغة العادية، ولهذا فإنها تأتي مكثفة ومركزة بالرمز والإيحاء ومعبرة ومفعمة بالانفعال والنبض وبالعواطف والمشاعر والأحاسيس وذات مدلول تارة يرتبط بمدلوله الذهني وتارة أخرى يرتبط مدلوله بمخرج صوتي مجرد، ولهذا فان (الشعر المعاصر) ذو لغة معاصرة يحتويه (اللفظ) و (المعنى)، لان الشعر المعاصر انطلق بهدف تجديد اللغة الشعرية التقليدية بلغة ديناميكية التطور، في التغير وتقبله، فالصورة الشعرية المعاصرة خلقت عالما شعريا جديدا بما لم يشهدها الشعر من قبل وبما أمكنته اختراق (الزمان) و (المكان) وبشكل ملفت لتشكل في ذلك أسس إبداعاته الذي رغم حداثته المعاصرة استطاع ان (يلفق) مخارجه بمعطيات جديدة، فهو حافظ على ركائز القصيدة النمطية ولكن احدث تغير في اللغة وعاصرها وفق المنظور الزمان والمكان (الزمكانية) وبملامح هوية العصر والمعاصرة والحداثة والتحديث، لان الوعي الشاعر بأهمية تطوير اللغة كان دوره كبيرا في إنتاج الشعر، فكما كانت القصيدة النمطية ترتكز على اللغة وكان تقيمهم للقصيدة قائم وفق قوة اللغة، وكثير ما كانت تلك اللغة تفوق مستوى متلقيها، لذا فان (الشعر المعاصر) اهتم كسواه النمطي بـ(اللغة) بل سعى الشعر المعاصر إلى إضافة قدرة أخرى إضافية إلى إنتاجه الشعري عبر الإشارات الرمزية وتكثيفها ودلالاتها ولكن بلغة مبسطه، وهذا ما جعل الشاعر المعاصر يبحث ويطور لغته الشعرية - وبشكل مستمر- بما يوافق تغير مواقعه (الزمكانية) بلغة مجازية تضيف له رصيدا لغويا وألفاظ جديدة والتي بجملها وألفاظها تختلف كليا عما كان رصيده اللغوي قائم في المورث النمطي لتكون له خصوصية متميزة في اللغة المعاصرة كونها أصبحت طرفا بين (الشاعر) و (المتلقي)، ولهذا سعى الشاعر إلى تطوير لغته بما يدفعها نحو التعبير لتكون أكثر أداء بمفردات جديدة غير مستهلكة وهو الأمر الذي جعل الشاعر المعاصر يبتكر أسلوبه بمفردات وتقنيات معاصره غير مألوفة، وهذا الأمر هو الذي قاد (الشعر المعاصر) إلى تركيز على مفردات (اللغة) كاختصار مبطن لمعاني يمكن تأويل رمزيتها بمختلف اتجاهات باعتبارها أهم مبتكرات الشعر المعاصر والذي تجاوز عن مفهوم اللغة بكونها خاضعة لقوانين اللغة ذاتها لا يمكن تجازوها، لذا فان (الشعر المعاصر) تجاوز ذلك وأزال الحواجز والقوالب ولم يعد يخضع لقوانينها وراح يمزج في النص الشعري فنون الرسم التشكيلي بمختلف أجناسها ويستخدم أرقام الحساب والتنقيط و تكرار الحروف و رموز أسطورية إلى آخرة من تقنيات.. فاستخدام الشاعر لرموز والدلالات، انطلق من اجل توضيح التعبير عن إرادة مسؤولة يمتلكها من اجل توضيح النص الشعري والتوغل في عمق النص، لان من سمات (النص) في الشعر المعاصر يوصف بميزة البحث والتحليل اللغة المعاصرة للشعر وهذه الميزة في النص تشكل إحدى ابرز مميزات الجمالية في (الشعر المعاصر) وإحدى أساليب اللغة المعاصرة المتطورة في النص التي تدفع المتلقي لها إلى خلق رؤى جديدة في المواقف مرتبطة بواقع القصيدة المعاصرة وبالعالم والمحيط، بكون اللغة الحديثة في القصيدة المعاصرة هي لغة غير مألوفة لغويا لأنها ذاتية المخرج وتحمل الفكر والموضوع واللغة ضمن علاقة موحدة داخل أيطار النص الشعري وتوحده، ولهذا يتحمل نص القصيدة المعاصرة قراءات متعددة، وهو الأمر الذي ينوع روى المتلقين لها عن مغزى المضمر فيها وهذه هي الميزة الجمالية في بنية القصيدة المعاصرة، بكون الشاعر المعاصر يحدث (لغة القصيدة) فيوظف مجمل عناصر الإبداع الفني فيها من الرمز والإيقاع والصور الشعرية والدراما الشعرية ويحبكها حبكا فنيا بعد إن يضيف لها ذاتيته وما يعانيه من الإحباط واليأس والتمرد والاغتراب والاغتراف والألم والقنوط والعذاب والأحلام والاحتلام بشتى إشكاله، وهذا الضغط .. وهذا التكثيف الذي يحاول الشاعر كبسه في داخل القصيدة هو الذي يجل مفرداتها تخرج بنص شعري يكتنفه شيء من (الغموض) الأمر الذي يقود المتطلع والمتلقي لها بتعمق البحث عن مفاتيح متعددة لتفسير والتحليل والتأويل مفردات القصيدة، وهذا الأمر يجعل من المتلقي للقصيدة الحديثة محركا لإحساسه وهو هدف (الشعر المعاصر) بان يجعل المتلقي يستقبل (النص) من اجل تواصل معه وتحريك إحساسه ولا لسكوته، ليصبح طرفا منها في التحليل والتأويل والبحث، لتتحول العلاقة بالانفتاح بين اللغة المعاصرة في القصيدة والمتلقي، لان اللغة الحديثة المعاصرة في القصيدة تجذب المتلقي وتغريه بلغتها، من حيث كثافة رموزها ودلالاتها وإيحاءاتها، فتدفع المتلقي إلى الاستمرار في البحث وفك الرموز من النص الشعري وإعادة قراءة الكلمات وكيفية التي تم صياغة العبارات، وهذا الأمر بحد ذاته يفتح مجالا للمتعة الجمالية ضمن الرؤية في النص الشعري، وهو ما يودي إلى توسيع في تبيان الامتداد في لغة الشعر، التي ترفع من مستوى القصيدة والشعر و تخلق نوع جديدا من العلاقات الافتراضية رفيعة المستوى بين النص الشعري وبين المقاربة نقدية من لدن المتلقي أين كان مستواه، وهكذا تبنى العلاقة الناجحة بين اللغة الشعرية للقصيدة المعاصرة والمتلقي لهذه اللغة التي تعمل على إعادة الإنتاج الحياة وطبيعة العلاقات ألقائمه بين المتلقي والقصيدة المعاصرة وتطورها، لتكون هذه (اللغة) بمثابة الحدث الأبرز في الحياة المعاصرة بما تحدثه اللغة الشعرية من ثورة معرفية، لان (النص الحداثي) في الشعر المعاصر من غير التأويل والتحليل النقدي لا يمكن فهم موضوعه أو منطقه، لان (النص) في اللغة القصيدة المعاصرة يجعل المتلقي لها يذهب لفتح البحث عن البنية اللغوية العربية ويحاول تفكيكها لمنحها فهما جديدا للحياة، وهذا ما يضيف لفكره مزيدا من الإبداع ومزيدا من المعرفة، لان (الشعر المعاصر) ضمنا يقدم الرؤية وفق الخصوصية والدلالات لمختلف المفاهيم الفكر المادية والروحية والاجتماعية والأخلاقية كقيم لرقي الحضارة وسمو الحكمة والأمانة، فهذه القيم تأتي وفق الروية الشعرية المعاصرة وهي على مستوى عالي من التعبير الفني و الجمالي، فبقدر ما تأتي القصيدة معبرة بحرية عن الكبت والعزلة والاغتراب والتمرد والخجل وتقوقع الذات فإنها تسمو فوق القيم بالجرأة وبالشفافية التعبير عن الوقائع و الحقائق وبعيدة عن التزييف أو التزويق أو النفاق، ليتم له اختراق جدران الصمت والسكوت منطلقا التعبير بحرية والبحث عن الذات في وسط قيم متخلفة ومنحطة.
وبهذا السمو يرتقى الشعر المعاصر مع انفراده وصعوبة تكريس مواقفه في مجتمعاتنا الشرقية، إلا انه أنتج حركة فاعله لحجم تفاعل معه، فأصبح (الشعر المعاصر) بمثابة ثورة اجتماعية فرض وجوده رغم الحواجز واتجه نحو الإنسان ذاته ليشعره بوجود حواجز وموانع تصده عن واقعه وعن واقع الحداثة الشعرية، فطرحت أسئلته بكل حرية وجراءة و مصداقية لبناء حياة حرة من خلال لغة شعرية معاصرة قادرة لتحويل فضاء الحياة إلى فضاء مفتوحا على كل الاحتمالات والاتجاهات، لان (الشعر المعاصر) تميز بقدرته الهائلة على بناء تصوراته الفلسفية والسياسية والاجتماعية، وهو الأمر الذي أمكنه على خلق حركة ثقافية وسياسية استطاعت التمرد على كل ما كان مقدسا وممنوع وتتخطاه، فعملت القصيدة المعاصرة بطابعها (الحداثي) على التعبير بما هو في أعماق الذات، فتصور العالم من خلال هذا الواقع ومن خلال الذات وبعملية عقلية واعية لتعطي مفهوما جماليا لـ(لغموض) الذي يتصف به (الشعر المعاصر) لحجم الرموز و الإشارات والإيحاءات والتعبير الغير المباشر في القصيدة، لان الشاعر ينظر إلى (الشعر) برؤية (فنان) ويعتبر (الشعر) (فن) يسمو بالقيم (الجمالية)، ومن هنا تأتي (المتعة) في تقصي سر (الجمال) الكامن في هذا الغموض الذي يتصف به (الشعر الحديث المعاصر)، فقدرة الشاعر على استنقاء الكلمات والرموز واللعب بالمعنى وبمفهوم الكلمات واصطباغها بطابع المعاصرة والحداثة هو جزء من (التغير) الذي يلعب الشاعر على أوتاره من اجل قصيدة متميزة، الأمر الذي يتلقاها المتلقي بشيء من (الاستغراب) لأنه لم يعتاد على هذه الصور الحداثية، وهو ما يدهشه ويجعله يغوص إلى أعماقه لفهمه، وكلما تظهر صور الحداثة في الشعر من الغموض إنما هو جزء من (التغير) ينشده الشاعر، وهو أتي نتيجة الخيال والحدس الشاعر لإظهار الصور الساحرة (جماليا)، ليبهر المتلقي بتلك المفردات الغامضة والتي تستوعب معاني والمصطلحات المعاصرة، لان إبداع الشاعر تكمن هنا بكونه قادرا على استيعاب التقنيات الحديثة والمفاهيم المعاصرة والأفكار الإبداعية والتي تؤدي إلى اختصار طريق إلف خطوة بخطوة واحده، ومن ثم تكثف بالأسئلة وتطرح الأفكار بمعالم شديدة الاختصار، لان إمكانية الشاعر الإبداعية تتحقق بقدرته على البحث عن اللغة وإعجازها وتأويل مفرداتها الباطنية، ولفهم ذلك يتطلب البحث وتقصي، لان فتح لغز هذه الغموض هو بحد ذاته يولد للمتلقي حافزا ذهنيا لتطوير قدراته الذهنية بفك شفرات الرموز من القصيدة لامساك بخيوطها، وهنا تكمل (الجمالية) في تذوق القصيدة المعاصرة، لان الشاعر في عمله يستحضر خياله وأفكاره وأحاسيسه وعواطفه مبلورا ذلك بما يتفاعل به بتجليات الروح الغامضة فيبدع إخراجها مع اللغة بعيدا عن رمزيتها الاعتيادية والمتآلفة عليها اجتماعيا، ومعتمدا على إيقاعها اللفظي أكثر من إيقاعها الباطني المتعلق بالمعنى، لتكوين إيقاع داخل النص الشعري يربط النغمة الموسيقية بين الإيقاع الشكلي والداخلي للمفردة، وهذه الصورة الذي يكونها الشاعر المعاصر تأتي نيابة عن الوزن والقافية للقصيدة التقليدية وبشكل أعظم مما كانت علية الصورة القديمة، لان (التجديد) و (التغير) الذي أراده الشعراء المحدثين قد جاء ليس الخروج عن المتوارث و المألوف فحسب، بل الخروج من (اللغة) ومعنى المفردة في كثير من الأحيان متجاوزين بذلك كل الثوابت الفنية للغة وللفكر وللقيم وبذلك - كما قلنا - استطاع (الشعر المعاصر) التمرد على كل ما كان مقدسا وممنوعا وتخطاه، ليبدع إشكالا متنوعة في الكتابة والتعبير الشعري المعاصر الذي ليس له أي شكل من إشكال القواعد من (الثبات) و(الاستقرار)، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون، بعد إن تم إقصاء أي قداسة في شكل القصيدة ومحتواها وامتزج (الوعي) بـ(اللاوعي) وتمرد عن الشكل والبنية التعبير ليطرح (الشعر المعاصر) أسئلته الصعبة والمستعصية فنيا عن الحل، ليكون الشعر المعاصر شكلا من إشكال (التمرد) عن الواقع، كما يعيشها الإنسان المعاصر مغتربا في هذا العصر، لان (الشعر المعاصر) بات رؤية معاصره يقاوم المألوف ويتمرد عليه ويطرح التجديد ويراعي التطور والتعبير عن متناقضات الحياة والمعاناة الخانقة من خلال عبثية الحصار الذاتي واللا معقولية الوجود. فهذا الاتجاه قد قاد (الشعر المعاصر) إلى التمرد وتجاوز كل ما هو متخلف، والتعالي عليه، من أجل الانتماء إلى عالم يتسم بالحضارة والإنسانية، لان (الشعر المعاصر) عبر طرحة رؤيته التشاؤمية والعبثية، إنما انطلق قاصدا من خلالها لتجسيد هموم الإنسان المتمزق في حضارته بالغربة والاغتراف وبالفقر الاجتماعي والألم والمعانات التي تجاوز حملها، ليأتي من خلال (الشعر المعاصر) يرمي فيه أعباء الحياة ويطرح معانات البائسين والمهمشين والجائعين والفقراء والمتشردين والمغترفين والمغتربين والهاربين من الحروب و من جرائم الإرهاب التي تدمر أوصال الحياة لمعالجتها بكل الوسائل الممكنة.

قراءة في نص الديوان

من خلال ما تقدم، فان قراءة في ديوان الشعر (الرقص مع البوم) وهو ديوان من الشعر الحديث المعاصر أصدرته (غادة السمان)، وهنا سنسلط الضوء عليه كنموذج و كنص حداثي في الشعر المعاصر، فالديوان يقع في (176) صفحة من القطع المتوسط وقد جاءت الطبعة الأولى بتاريخ (2003)، وهو من منشورات غادة السمان- بيروت- لبنان، وحينما نبحر في نصوصه الشعرية سنكتشف ما لغادة من ملكة شعرية يمد الأدب بعطائها كل ما هو حديث ومعاصر، فان أمواجه ستأخذنا إلى عالم شفاف كله جمال وسحر بما جاد وجدانها فـ(الرقص مع البوم) رغم غرابة العنوان ولكن لن يكون غريبا حينما نعمق الرؤية فيه لنرى كيف (غادة السمان) تتناغم برقصتها مع (البوم) وتحاوره ويحاورها وفق سونوتات موسيقية يتألفان معا بمخارج فنية عالية لتكتمل لوحة رقصهما بشكل مثير ومدهش :-
((....هل شاهدت مرة بومة في سيرك ؟
أنها مخلوق يستعصى على التدجين
و يرفض التسول العاطفي و منطق اللعبة الاستعراضية..
هل شاهدت بومة تحاول إضحاك احد
او جره إلى مداعبتها ككلب زينة يهز ذيله ؟
هل شاهدت مرة بومة مستقرة في قفص تغرد لذلها ..؟
هل عرض عليك احد شراء بومة من سوبر ماركت المخلوقات الداجنة
البومة لا تباع
لكنها تحلق إلى ما تحب و من تحب، أفلا تحبها ..؟
.....))
حينا يبدأ النص الشعري بهذه الإطلالة الرائعة عبر أسئلة أرادت (غادة) إثارتها لتسليط الضوء على الطائر(البوم) بهذا الشكل المثير، فان السؤال يثير فينا فيطرح تساءلنا لماذا اختارت (غادة السمان) هذا الطائر ولماذا تسلط الضوء عليه.....؟
أنها - يقينا - إرادة إن تثير فينا هذا التساؤل لكي نستقصي عن سر هذا الطائر(البوم) وفي عرفنا كشرقيين إننا نقارن وجوده بالتشاؤم فهل عند (غادة السمان) هو كذلك ...؟
في مقالة سبق لـ(غادة السمان) نشرها قبل أكثر من ثلاثة عقود وتحديد في 24- 11 -1984 و إعادة نشرها في مقدمة هذا الكتاب (الرقص مع البوم) تحت فقرة ( لماذا تشاؤم البوم منا ...؟)، حيث تقول:-
(( .....في عطلة كل أسبوع اهرب من باريس و بعض الأصدقاء اللبنانيين إلى بيت ريفي جميل، المزرعة تملكه أسرة عربية صديقة
و ما نكاد نصل إلى ذلك المكان الخلاب حتى تغادره عشرات البوم إلى الغابة المجاورة و لا تعود إلا بعد ذهابنا إلى إعمالنا و بيوتنا فجر الاثنين..! ظاهرة غريبة لاحظتها الأسرة العربية و لم تجد لها تفسيرا فهي كمعظم جيرانها من المزارعين الأوربيين تحرص على إقامة البوم عندها في أقفاص خاصة مفتوحة لفوائده في مكافحة الأفاعي و الجرذان و الحشرات الضارة بالنبات و الإنسان..
قلت لأصدقائي اللبنانيين لعل البوم صار يتشاءم منا و لا يطيق رؤية وجوهنا المشئومة، نحن اللذين احرقنا بلدنا و دمرناه و خلفناه خرابا أين منه الخراب المنسوب إلى البوم زورا و ظلما ؟
لا أذيع سرا إذ قلت إنني لا اكره البوم لا أتشاءم منه و لا أتفاءل به، و أجده طائرا جذابا بعينيه الواسعتين اللامتزلفتين و أحبه كما أحب بقية مخلوقات الله . و صحيح إن بعض الناس تعارف عليه بغضه لأسباب غبية غامضة، لكن ذلك زادني حبا له و شفقة عليه من كرهنا و تحاملنا الغيبي السلفي المتوارث المتجسد في مظاهر كثيرة ابسطها البوم.
و يوم تزوجت حملت معي إلى بيت زوجي أربعين بومة على الأقل كنت قد اشتريتها أيام الدراسة و التشرد في أوربا، لوحات و تماثيل صغيرة و متوسطة من العاج و الرخام و الخشب و السيراميك و حرصا على مشاعر أسرة زوجي سجنتها في غرفة نومي بعدما استشرت زوجي بخصوص عواطفه نحوها و قبوله بها و صمت فاعتبرت الصمت علامة الرضا ..!
و استراحت بوماتي من التشرد بعد زواجي و عشنا في سلام زوجي و انا و البوم و رغم إخفائي لها في غرفة نومي كالعشاق في السينما شاع و ذاع و ملأ إسماع العائلة خبر وجودها و لم يفاتحني احد بأمرها بعدما أنجبت صبيا بالرغم من وجود ( النحس ) في مخدع الزوجية..!
و في الحرب زارنا صاروخ احرق الجناح الأيمن من البيت و أتى عليه و جاء أعمام زوجي يتفقدوننا و قال لي احدهم بلهجة نصف مازحة : بومك احرق القصر ! و كم كانت دهشتهم كبيرة حين فوجئوا بان النار توقفت عند حدود غرفتي المسكونة بالبوم رغم الستائر السريعة الالتهاب ( و الخيمة و الديكور ) التي نصبتها في السقف العالي للغرفة لأنني لم أكن قد الفت الاستقرار في البيوت بعد، فوجدت في الخيمة ما يشبه الحل الوسط..
و مما زاد في دهشتهم إن دخان الحريق الذي لمس بأصابعه الرمادية كل ما في البيت من سجاد و تحف لم يترك حتى بصماته على بياض الستائر والخيمة و بعض البوم لقد احترقت مكتبتي و غرفة المطبخ و جناح العاملات المنزليات و تحجر الدخان و النار عند عتبتي و قلت للعم الحبيب : لو كنت أتفاءل بالبوم لقلت لك أنها هي التي حمت بقية البيت من الحريق..!!!!
أعلنوا الحرب فأعلنت الحب و قلت لناشري السابق : أريد إن أضع على غلاف كتابي ( أعلنت عليك الحب ) صورة بومة قال " ستنحسين " الكتاب و القراء و الحب قلت له : الحب لا ينقصه النحس إما القراء فلا تتدخل بيني و بينهم، وهكذا كان ..و طارت الطبعة الأولى في أشهر مثل بومة ليلية و طارت الطبعة الثانية رغم غلاف البوم الذي تابعت إصراري عليه و طرت إنا من ناشري و أسست دارا للنشر و جعلت شعارها البوم فتكاثرت كتبي و طبعاتها و تناسلت و كانت سبعة كتب فصارت عشرين كتابا باستثناء – ليلة المليار – و أربع مخطوطات في خزانة بنك تنتظر دورها للنشر و عشرة كتب داخل راسي و ( نوطاتي )، ولو كنت أتفاءل بالبوم لقلت إن وجهها خير، لكنني لن اسقط في فخ التفاؤل و التشاؤم بل التحدي للأفكار البالية المتوارثة و بعدما حملت منشوراتي البومة كشعار انهال البوم علي من كل حدب و صوب كل صديق يرحل إلى أوروبا و يرى بومة يتذكرني و يهديني إياها كل صديقة تطالعها لوحة بومة لا تبخل بها علي و لحسن الحظ إن أحدا لم يفكر بان يحمل إلي بومة حية و إلا لكان على إن أعيل جيشا من البوم (باستثناء صديق أتى بها من البقاع حية و توسلت إليه ان يعيدها إلى أهلها و يجنبها شؤم الغربة !) و صديق أخر أهداني ثلاث بومات محنطات بصورة متقنة حتى ليخيل إلي إنهن يطرن بعد إن أنام ليتابعن حياتهن السرية الليلية مع كائنات أشعة القمر.. و صرت اقطن بيتا مع حوالي 275 بومة أخرها من الكريستال الشفاف حملتها من روما ابنة عم زوجي كرمز لعدم اضطهاد ( الأسرة ) لمزاجي لكنني واجهت مشكلة جديدة : الأطفال يرثون على الكبار مخاوفهم و نزعاتهم التشاؤمية و رفاق ابني يخافون من البوم و يحدقون فيه بعيونهم الطفلة بذعر و أعلنت حالة الطوارئ و تم ( تهجير ) البوم كله الى غرفة المكتبة بعد منع التجول فيها…مع الصغار لا نقاش و إنما أوامر تنفذ ( هم بالطبع يصدرون الأوامر) و في مرحلة الحصار الإسرائيلي لبيروت و القصف البحري دمرت المنطقة المحيطة ببيتي تقريبا لأنها تشرف على البحر و أصابت الصواريخ كل مبنى محيط بي باستثناء بيتي و تحطم الزجاج في غرفي كلها باستثناء غرفة المكتبة التي يقطنها بومي المهجر المشرد و رغم ذلك لم اسقط هذه المرة أيضا في فخ التفاؤل بالبوم الذي يرادف التشاؤم به و إنما حمدت الله الذي حماني من ألسنة بعض الأصحاب فيما لو أصابت البيت قذيفة ..هل كان ثمة ( متهم ) غير البوم ؟
هل كان احد سينحي باللائمة على سواه كإسرائيل مثلا ؟ صحيح إن أحدا لم يرى بومة تقف على حاجز و تمتشق السلاح و تختطف الأبرياء و تذبحهم على الهوية لكن الناس ما زالوا يتشاءمون بالبوم بدلا من التشاؤم ببعض زعمائهم الذين قادوهم إلى الخراب صحيح إن أحدا لم يرى بومة تحمل بندقية "ام16 " و تقنص الناس من على السطوح و لا بومة تدلي ببيان و تدلي بعكسه و تنهي عن خلقه و تأتي مثله و لكن الأكثرية ما تزال تتشاءم من البوم بدلا من التشاؤم من الطائفية و حب السيطرة و شهية الافتراس و العنف و التدمير العبثي، و أذا كان البوم رمزا للخراب فقد سرقنا اللقب منه بجدارة فخرية ..
هذه السطور أخطها لكم في البيت الريفي إياه، الليلة أيضا ما كدت أصل إلى المزرعة و أصحابي اللبنانيين الأحباء حتى غادرها البوم هاربا لا يلوي على شيء ترى هل انقلبت الآية و صار حتى البوم يتشاءم منا ؟ و هل نلومه.....؟ انفلور 24- 11 - 1984)).
وبعد إن مضى عن هذه المقدمة فترة زمنية ليست بقصيرة تعود (غادة السمان) لتنيرنا مجددا بتحفة جديدة من تحفها التي ظلت تقتني منها ولكن هذه المرة بشي نادر تضيقه إلى المكتبة العربية لتسلط الضوء عن (البوم) الذي يبدوا ما يفارق تفكيرها وهذا دليل لعودتها إلية من خلال إصدار ديوان شعري يحمل اسمه، ولهذا فن (غادة السمان) كتبت في مقدمة الديوان (الرقص مع البوم ) هذا الإهداء :

((....إلى الذين يتحدون الأقاويل المتوارثة عن الشؤم والخير والشر والحب.
إلى الذين لا يخلطون بين المحنط والتراثي وبين الخرافة والمقدس .
إلى الذين يرفضون أن يكون عقلهم من ضحايا العبودية للأفكار السائدة ويصرون على إعادة النظر في كل شيء كما لو كان الكون جديدًا.
إلى المبدعين العرب النادرين الذين يرون البوم طائرا آخر من مخلوقات الله ويرفضون التطير.
و إلى المبدعين الغربيين الكثر الذين يرون استوحوا جماليات البوم إليهم جميعا و إلى العينين الجميلتين الواسعتين لذلك المخلوق البريء الذي أسيء فهمه و كثر التحامل عليه ..
إلى محبوبي البوم ... )) .
ومن خلال هذا الإهداء فان (غادة السمان) فكت الشفرة التي طوت رموزها في نصوص الكتاب الشعري، فالتحسس والشعور بالغربة والوحدة والضياع وفقدانها للأحبة والأصدقاء يجعلها إن تقارن نفسها بهذا الطائر الذي يختبئ بعيدا عن الأنظار كحالها فتقول :

***
هل شاهدت مرة بومة في سيرك ؟
أنها مخلوق يستعصى على التدجين
و يرفض التسول العاطفي و منطق اللعبة الاستعراضية..
هل شاهدت بومة تحاول إضحاك احد
او جره إلى مداعبتها ككلب زينة يهز ذيله ؟
هل شاهدت مرة بومة مستقرة في قفص تغرد لذلها ..؟
هل عرض عليك احد شراء بومة من سوبر ماركت المخلوقات الداجنة
البومة لا تباع
لكنها تحلق إلى ما تحب و من تحب، أفلا تحبها ..؟

***
صليت كي تبزغ الشمس و حين بزغت أحرقتني
رعيت سنبلة و حين كبرت أكلتها و سممتني
هتفت باسم الحرية
و حين أطلت عربات تحمل ألويتها دهستني
أنا بومة الخيبة
غدر بي كل من أحببته
وظف نفسه ناطقا باسمي بعدما كممني
و ها أنا في العراء بلا عزاء
انشد طوال الليل إحزاني
و فوق ذلك يتشاءمون مني !

فهذا المقطع من القصيدة ، تركز (غادة السمان) على مفردات النص لتركيز انتباه اليها بأنها كائن مغترب بلا عزاء وبين تأويل وعدمه، فان هناك إحساس بالعزلة تم صياغتها في هذا النص للمقاربة بكيان (البوم) وعيشه على هامش العالم ليرتفع النص إلى مستوى العزلة ومن ثم إلى مستوى التشاؤم، فـ(البوم) هنا أداة تشبيه بالأساس ولكن تطرحه (غادة) باعتبار يمكن فعلها إن يغير مصير الطائر باعتباره طائرا رمزيا، في وقت الذي يحتمل عند البعض بكونه رمز للحكمة، وطائر (البوم) ردفين كما هو حال عند (غادة السمان ) ولكن رمزه عند غالبية العرب ما هو إلا رمزا للخراب ونذيرا بالشؤم وطائر شرير و رمز للموت، وهو منحى استغلته كل الأساطير الشعبية القديمة فأشير إليه على أنه مخلوق شرير، يحوم الليل بحثا عن ضحاياه من البشر، وعزز هذا المفهوم نعيبه وصياحه الحاد، كما واتخذ (البوم) كرمز للعناد، ولهذا استخدم لدى بعض المنظمات والشركات والفِرق الرياضية شعارا تعبيرا في بعض الأحيان عن القوة لكونه من الطيور الجارحة سريعة الانقضاض، أو تعبيرا عن الحكمة ورمزا للمعرفة، وان منحى اهتمام الأساطير القديمة بالطائر (البوم) وما تم تناقله قد جاء تأكيد من خلال مجسمات الآثار التي وجدة في منحوتات (الأشوريين) التي اكتشفت في بلاد الرافدين (العراق) أو في اثأر (الإغريق) مما يعطي الانطباع عن مدى اهتمام الفنان قبل حوالي سبعة آلاف عام أو أكثر في بلاد ( أشور) في تصميم (البوم) في منحوتاتهم لما له من رمز يفسر وفق رؤية تلك الأقوام .
ولهذا ضل هذا الطائر مدار اهتمام الأدباء والفنانين على مر التاريخ وقد استخدم الطائر(البوم) رمز في كثير من إعمالهم الأدبية والفنية حيث استخدم كل من الأدباء (جون غاي) و( وملتن) و(بريان) و(ولر بروكتر) و(إدوارد ليرن) و (أ.أ. مايلن) و(جيمس ثيربر) و(ج. ك. روالنج ) طائر (البوم) في كثير من حكاياتهم وقصصهم وقصائدهم الشعرية من أمثال الشاعر الفرنسي (لافونتين) .
كما وقد استخدم (البوم) كعنصر فني في العديد من لوحات فنية لكبار الفنانين التشكيلين من أمثال الفنان (هيرونيمس بوس) و) ألبريخت دورير) و)مايكل أنجلو( و( فرانسيسكو غويا) و(بابلو بيكاسو) و( إدوارد لير) و(باول كلي) و(ماكس إرنست) و(سلفادور دالي) .
فلا غرابه لنا إن نرى بان هذا الطائر يثير مشاعر الأديبة (غادة السمان) في عالمنا العربي لتكتب عنه متخذة منه على غير ما راحت الأسطورة العربية بالتشاؤم منه، بل كما قالت((إنني لا اكره البوم لا أتشاءم منه و لا أتفاءل به، و أجده طائرا جذابا بعينيه الواسعتين اللامتزلفتين و أحبه كما أحب بقية مخلوقات الله..)) وهذا ما أكدته في مقالتها التي ذكرناها سابقا في هذا المقام .
ومن هنا سنحاول في عملها (الرقص مع البوم) كعمل أدبي رائع موازي لكل الإعمال الإبداعية التي طرحوه الأدباء والفنانين الذين اتخذوا من (البوم) كرمز استخدموه في إعمالهم الإبداعية، فمقاربات الجمالية لقصيدتها النثرية في هذا العمل وما استخدمته (غادة) من ظواهر وعلاقات نفسه وشعورية وفهمها للعالم على أساس وعيها كشاعره يتجلى بوضوح في النص الشعري المقدم هنا، هو بالذات افتراض ضمني بأسلوبها الواعي وبجماليات النص الشعري، ولهذا فان أي نقد لا يمكن إن يتم ما لم نأخذ الصورة الشعرية لـ(غادة السمان) باتجاه الأخر أو العالم الخارجي أو من العالم الداخلي (الذاتي) إلى النص الشعري المرتبط بذاتها، بمعنى إن نأخذ الكل بحالة واحدة، لان التحليل النص الشعري في (الرقص مع البوم) لابد من الوقف في التكوينات الجمل المصورة التي تعبر عن الفكر المطروح وخاصة في صور التراكيب المتناقضة للصورة وحيز التأويل فيها لان (غادة السمان) وان كانت تعبيرية المنطلق ولكن الرمزية تشمل أيطار لافت في قصائدها لحجم حالات التراكيب الفكرية والشعورية التي تلجئ إليها باتجاه الظواهر ووفق إحساسها الذي يحملها بشفافية وبراحة التعبير في سياق مفرداتها وطريقة اختيارها الايجابي:

***
اتسخ إصبعي بالحبر فصار اسود
غمست إصبعي الثاني في البحر فصار ازرق
لامست القمر بالثالث فصار فضيا
هدهدت خد الغابة بالإصبع الرابع فصار اخضر
وضعت الخامس على شفتيك كي تصمت و لا تقول لي انك تحبني
فصار إصبعا من ضوء
غمسته في العسل و كتبت لك به على المرآة:
حبك عيدي و عيناك قدري إلى ابدي
عند الفجر شاهدت المرآة و قد كتبت لي بالهباب الأسود:
يا لك من كاذبة صادقة ككل الحمقى العشاق ...

***
ثمة مصاص دماء لطيف نتغزل به جميعا و ندين له بالولاء اسمه الحب
أصيب بالهياج في طفولته
و أصيب بالجنون في مراهقته و بالفتور في كهولته
أصيب بفقدان الذاكرة في شيخوخته
لكنه ما زال يحكمنا ...

فهنا (غادة السمان) تذكر الظواهر وتحدده وفق صورة بسيطة و شفافة ومريحة لتحمل دلالاتها خلف تنوع الصور لتجمع المتناقضات في آن واحد ولغاية المقاربة لكي تتحرك ثقافتنا باتجاه مدلولات الصور والاستدلال الفكري لنتائجها لأنها تطرح مقدمات لنتائج تأتي كحاصل تحصيل من هذه المقدمات بلغة المنطق لتتدخل أفكارنا كقُراء للنص في صياغة خبراتنا المباشرة لها، و (غادة) تفعل ذلك لإرباك الاستقرار من خلال طرح المتناقضات وهذه هي رؤية إبداعية لان في هذا الطرح الشعري ما هو إلا تأكيد بعدم وجود ثقافة مغلقة وهذا يفسر بأننا نتجه لفهم نصوصها بعمق ثقافتنا في إدراك علاقة الظواهر وإبعادها المختلفة تأويلا وبدلالات رموزها وفك شفراتها، فان كانت (غادة السمان ) تراوغ في استخدام مفردات لأنها تريد استفزاز القارئ للمتابعة النص رغم إن القصيدة النثرية تستخدم المفردة العادية ولكن من يجيد حرفيتها يستخدمها لاستفزازنا كما تفعل (غادة السمان) مبتعدة عن المفردة الشائعة والمبتذلة:

***
لماذا احبك ؟
لان كل الأسماك المجلدة الممدة في برادات السوبر ماركت تعود إلى الحياة حين تراك و تطير عبر النوافذ إلى الفضاء
لتسبح من جديد و لكن في برك الغيوم
فهل يدهشك ان اشتعل حياة بحضورك في حياتي ؟
***
قلت لي : الحب خط مستقيم هكذا
و رسمت خطا فوق البحر
و لحظتها ولد الأفق !
للظلام فضل على حبنا
فلولاه لما عشقت ضوء حضورك في عتمتي

***
حين حطت الذبابة على صورة " الرقم 1 " الهائلة الضخامة في الساحة العامة ارتجف الحارس غضبا منها و أطلق عليها النار و شنقوه قبل إن يشرح لهم حقيقة ما حدث...

هكذا تتصاعد طرح لمفردات عند (غادة السمان) بتدريج لتعميق طرح المباشر العميق في المفرد ليكون إثبات الفكر والوصول إلى المغزى المفردة عبر التأويل لنكون مباشرة أمام المغاير من المعنى السائد، وهذا ما نسميه (الوعي المركب) يجمع ما بين المفردات ونقيضها لتحافظ القصيدة النثرية بروح النص الذي يستفزنا بقيمة المعنى الذي يطرح لنا ليهز ضميرنا الإنساني .

***
الصعب كان التهام التفاحة الأولى
و بعدها التهمنا التفاح كله حتى الضجر
ثم التهمنا شجرة التفاح بإدمان من لا يدري لماذا ثم هرولنا إلى السوبر ماركت و اشترينا "تنكات" التفاح المعلب و بتاريخ صلاحية واضح!

***
أتذكر دائما تفاحة البراءة الأولى في بيتي الحجري في دمشق
بيتي بأحجاره الحية التي تتنفس ليلا في الظلام و تتنهد سرا و لا يسمعها غير ساكنيها
فللجدران قلب و أذن !
أتذكر إن حجارة البيت انتحبت طويلا ليلة رحيلي عن دمشق
وحدها كانت تعرف إنني لن أعود و كان صوتها نواح قبيلة من البوم
***
حين أكون وحيدة في البيت اسمع أصوات تخاطبني و أتحاور معها و صوتها يشبه كثيرا صوتي
بل يخيل إلى أحيانا إن صوتها هو صوتي لكنني لست متأكدة من ذلك لا لست مجنونة
فانا اعرف كيف أغلق عليها الباب جيدا بالمفتاح حين أغادر بيتي !!

هنا نلاحظ كيف (غادة السمان) تعيش أقصى حالات الهذيان وفي نفس الوقت وهي في أوج الوعي وهذا التناقض المنسجم لا يكون غريب حين يشتد بها حالة الاغتراب والحنين إلى عشها الأولى في دمشق ألذي غادرته دون العودة وهي في لحظة مغادرتها تيقن بأنها لن ترجع، فالظلام وسماعها لتنفس حجارة المنزل وتنهيدة الذي لا يسمعه إلا (غادة السمان) فهي تيقن يقينا لماذا كان ينحب ...؟
فإحساسها رغم الظلام يضيء بما يدور أو سيدور لاحقا، فهذا الإجماع المتناقض او المتناقص المتجانس تدرك (غادة) حين تكون في قلب الظلام لأنها تحب هذا الظلام وتتجانس معه لأنها تعسس بالغيبيات وهو ما يكشف لها الكثير من الإسرار كما تكتشفه (البومة) ولهذا فهي تحبها لأنها تشبه المشاعر وحبها للظلام .

***

لاسليك، تعلمت كيف أقف على راسي في السيرك
و كيف اركض في الحلبة بثياب مهرجة
من أجلك تعلمت كيف اتارجح في الفضاء بلا شبكة تقيني السقطة القاتلة
و كيف أروض السباع و النمور و امشي على يدي
من أجلك تعلمت كيف أقود صاروخا إلى القمر
و كيف أتحدث بلغات الأرض كلها و اهتف :
"حبك عيدي و رغباتك إرادتي"
و حين اكتشفت إنني لم أكن أكثر من مضيفة أخرى في سيركك الكبير
تعلمت من أجلك لغة الصمت كي لا أعاتبك .. و أقول بمرارة انك خذلتني .

في هذا المقطع تأخذنا (غادة السمان) إلى كل ما لا نراه في وقت الذي تجانس إجماع المتناقض، فهنا الخيال يحلق إلى ألأفق، تصور المشاهد وفق تناقضات الصور تعبيرا عن حالته الهذيان والبؤس والمرارة والوحدة في أكثر التراكيب قسوة باتجاه الأخر الذي تريد إن توصل رسالتها كما تشعر بها لحظة كتابتها لان في داخلها تتعايش متناقضات الواقع بقسوة لا تطيقها فتقول في واحة من أقسى ما تقوله (غادة السمان):

***
تسكعت في الغابة شاهدت ضفدعا ...
قبلت الضفدع فصار أميرا ...
و حين فتح عينيه قال لي باحتقار:
من أنت أيتها الضفدعة ؟
هذا هو الإحساس المر والإحباط القاسي بهذا الحضور فالمشهد بتركيبه المنطقي يثير انتباهنا بأكثر صورا تعبير ووضوح لما تعانيه الكاتبة وتعيش في حالة الصراع صراع قائم كأسلوب تفكير وكحالة وعي .

***
سامحني يا بطل قصتي
حملتك سر حبي و أسقطته عليه و أنت لا تريد الحب بل الحرية
أثقلتك بإحزاني الشخصية و أنت بلا ذاكرة كورقة بيضاء
حملتك قضاياي و أطلقتك في التظاهرة و جلست في مقعدي الوثير إمام التلفزيون أراقبك تحت رصاص جلاديك
لا تقلق سأبعثك حيا في روايتي القادمة !

***
ما زلت احبك رغم كل شيء
ففي شواطئك تعلمت
كيف أشرب ضوء القمر في صدفة بحرية

تصف (غادة ) سر حبها وقلقها وحيرتها عبر إسقاط ذات متأملة مناجية الحرية بعد أن اختلى التوازن بين الحب والحرية بين الحبيب الذي يختار الحب وبين وجدانها الذي يختار الحرية فتخيلت شخصية بطلها وهو وسط عالم مليء بالمظاهر السلبية لينتهي أمره تحت سيف الجلادين وهو يدافع عن أناس اليوم يجلسون براحة البال يراقبون مشهد إعدامه دون إن يثاروا ضد الطغاة ولكن تناشد ضميرها بان تحي بطلها خالد في كتاباتها القادمة ليكون بطلا حقيقيا أفنى حياته من اجل الحرية، لأنها مازلت تحبه فهي لطالما تتوجه إلى شواطئه حيث الحياة والضوء القمر والهدوء والسكون، تتوحد معه وتذوب في غمرته لأنها تعلمت منه كيف تخفف معاناتها .

***
قرع الفراق بابي
و حين فتحت له
إعطاني وردة الحب الآتي!

***
في كوكب رفع ورقة الألف دولار علما
أستحضرك بأكثر من المحبة و الإجلال
يا من غسل إقدام الفقراء بالحنان ..
و اخترع حضارة الوداعة...
حين توصد الأصوات أبوابها
و تمضي لتختبئ في الغرف المظلمة للروح
أظل اسمع صوتك فاتبعك
أنا المتعبة ثقيلة الأحمال ..
و حين يستيقظ الليل أزين شجرة ميلادك
بورد ابيض مقطوف من حقول قلبي واهمس:
ميلادك مجيد يا سيد المحبة .

هنا تناجي المخلص (المسيح) لتخفيف من معاناتها، فهي تجسد ذلك في ألفاظ كثيرة استخدمتها للإشارة إليه منها: المحبة، الإجلال، غسل أقدام الفقراء بالحنان، حضارة والوادعة، شجرة ميلادك، ميلا مجيد يا سيد المحبة، فهي تحتفل بميلاد المخلص بورود بيضاء للذي أتى وطرق بابها ومنحها وردة بيضاء، فهي أيضا بالورد الأبيض المقطوف من حقول قلبها تزين شجرة الميلاد فـ(الأبيض) رمز السلام والمحبة والصفاء التي تؤمن به وتريد منحه لكل العالم، ومن خلال هذه المعاني التي جسدتها (غادة) هما بالأساس حقلين مرتبطين أساسا الأول بالذات الكاتبة والثاني مرتبط بالمحيط، في وقت الذي يسود بصورة عامه مناخ واحد في عموم القصيدة (الرقص مع البوم) هو الحب والحرية رغم انطواء القصيدة على جمل من المعاني الجزئية والأحاسيس وجلها تتضافر لخدمة الموضوع العام (الحرية والحب) والتعبير عنهما بطريقة ذاتية بحته، ليتم كلا الحقلين (الحب والحرية) وفق تعبير الذات حد الذوبان كما هو واضح في مضمون ، لتكون لغة القصيدة (الرقص مع البوم)، لغة سلسة سهله مستخلصة من تجربة حية عاشتها الكاتبة في ظرف نفسي ظاهرة احتجاج وسخط وتمرد وباطنه العذاب والأسى والألم والمرارة، فـ(الرقص مع البوم) كتاب روح معذبة تتحدث عن روح المطلقة، وصراخ مخنوق مكتوم يتدفق من أعماق السحيقة لقلب الكاتبة، قلب متأجج حبا وشوقا إلى الحبيب، التي لم تعد سوى لغة التعبير الشعرية لتتنفس عن أعماقها وحالتها النفسية، و(غادة السمان) لا تكتم ولا تخشى إن تفضحها عواطفها فلا تحترس في إفشاء أوجاعها وحسراتها وصبابتها، فهي تنطق وتعبر بوضوح دون تردد ولا تورية وهو تعبير صادق دون انتحال لمبررات ولأعذار ومع أي أسلوب يعبر عن كل ما في أعماقها إفصاحا بالخط العريض أو بالتلميح أو بالإيجاز أو الرمز أو استخدام الأسطورة .

***
أتأمل زرقة عينيك من بعيد من المقعد المواجه لك في المقهى متكئة على أنقاض وطني في المسافة بين الجعة و الشمعة
و ذكريات البارود و الدم
عينان زرقاوان تمطران أفراحا و فم ينفث دخان غليونه عطرا
و أنا امرأة محاصرة داخل غليون العطر و اللهب اللا مرئي و إيقاع الطبول تحت قدمي العاريتين فوق الجمر
ها هي حكاياتنا تبدأ ممن النهاية
و المنشد الأعمى يغني : الشرق شرق و الغرب غرب
و لن يلتقيا إلا في لحظة انصهار كهذه!
أتأمل جنيات الليل الباريسي يرصعن غليونك بالشعر و النجوم
استمع إلى صمتك فأجده لغة جديدة لم اعرفها من قبل!
هل احبك أم إنني فقط أتعلم لغة الصمت التي كدت أنساها ؟
لعلي أريد فقط أن أنسى
أنني أحببت مرة رجلا خطوط يده تشبه خارطة وطني
وجهه يشبه عنترة بشاربي جدي
قلت له مرة ولم يصدقني : " احرص على صون القلوب من الأذى /
فرجوعها بعد التنافر يعسر / أن القلوب إذ تنافر ودها / مثل الزجاج كسرها لا يجبر"
قلت له ذلك و لم يصدقني …لم يصدقني
و ها أنا اصطاد النسيان داخل غليون بعين زرقاويتين
في المسافة بين البكاء و الكبرياء و ذكريات الياسمين

هذا هو الحضور والنص الذي ترينا (غادة السمان) حضوره، فالنص وان جاء صوره كما يتهيأ لنا بقراءته الأولى طبيعيا ولكن حين نمعن النظر في صور مفرداته نرى معانيه الحادة التي تيقظنا (غادة) لتصنع لنا إرباكا في المقصود وما تريد الذهاب إليه وعن طبيعة المواقف المتناقضة القائمة في عالمنا وعالمها كحالة الصراع دائمة لا نهاية لها، وهي الغرابة والغربة التي تشير إليها الكاتبة في عناصر وجود هذه الحياة. فـ(ذكريات البارود والدم) كما تقول غادة السمان هو فضاء الحاضر عندها هو ذاته مكان الإنسان في زمن يؤكد حضوره في الذاكرة, فالإشارة الرمزية للبارود ودم هي أوجه الحرب والصراع، فهنا النص يأتي متجاوزا تلك الدلالات ولكن في ذات (غادة) يعيش في الحدث ذاته فتتنفس العذاب في بنيته العميقة لكونها ما زالت تعيش في عمق تلك الأزمة لتكون الكتابة محطة تنفس لتخفيف وطأة العذاب وهي تعيش الذكريات في ظل أزمة ذلك المكان، فالمكان هناك والمكان هناك هو نص مهيمن حين تقول :((ها هي حكاياتنا تبدأ ممن النهاية
و المنشد الأعمى يغني : الشرق شرق و الغرب غرب
و لن يلتقيا إلا في لحظة انصهار كهذه! ))، وهذا الفعل هو ما يغطي ويعبر عن الحالة النفسية والسيكولوجية والاجتماعية للإنسان بما يعكس وطئته في ذات (غادة) فتحمل معاناتها في الإسفار والترحال الدائم، ولكن المكان يبقى بهويته معروفا رغم تغير وانتقال مكانها ولكن جوانب الحدث ما زال ماثلا في أعماقها السحيقة في ذلك المكان المعرف في ذاتها، وهو ما يولد لديها معانات فيفرز بحالة الكاتبة بعدم الاستقرار ودوام القلق .

***
و ركبت معك في منطاد الألفية الثالثة
من حديقة " اندريه سيتروين " على ضفة نهر السين
و حلقنا فوق غيمة من القهقهات أيها الحبيب الفرنسي
و بدل إن أرى باريس من علًّ
شاهدت على الأرض خارطة جراحي و تضاريس وطني
سقطت في الفضاء من منطاد الذاكرة و لم تنفتح مظلة النسيان لتنقذني
إذا شاهدت راسي ينزف على طرف رصيف باريسي
اتركه ينتحب إحزانه تحت المطر
و لا تلتقطه و تحنطه و تعلقه على جدار غرفتك !

***
إعطاني مرهما من الإزهار و الإعشاب السحرية لأدلك قلبي
به حين أنزلق إلى الألفية الثالثة
قال انه مثل مراهم العشاق في إحدى مسرحيات شكسبير حيث يعشق
المرء أول ما يراه و يرى الحمار ديكا بشريا رائعا
و صدقت آه صدقت و دلكت و انزلقت في الألفية لكن سكاكين الهزائم
كانت تخترق جلدي بنعومة شفرات الحلاقة
لا تتوهم يا صديقي أنها تمطر ما يحدث هو إننا نحن مائتان و خمسون مليون عربي نعرق خجلا و ننتحب مرة واحدة إمام أسوار مدينة الألفية الثالثة...
البكاء ينتحب على موائد سهر المنفيين إلى أوطانهم و المنفيين من
أوطانهم إلى طاولات مقاهي الغربة..
رغم كل شيء ها أنا اكتب بطاقات معايدة إلى وطني العربي مناشير حب ..
و أقول فيها دون إن اكذب : سأحبك قرنا آخر !

المشهد هنا أكثر قسوة في حضور متناقضات الحياة بين ما نصبوا وبين ما يفرضه الواقع علينا، فنسقط اسري الواقع ذاته، وأسرى أحلامنا التي أخذتها الرياح إلى المجهول في اللا اتجاه، فهنا (غادة السمان) تستيقظ في الألفية الثالثة لتجد ملايين من أبناء العروبة مغتربين في المنافي كحالتها فهذا التماثل المتجانس في الهموم العصر بتناقضه وانسجامه فهذا التناقض هو تناقض مقصود في صورة المشهد الشعري التي تكتبه (غادة) كحالة حادة الأكثر تراكبا مع عالم (غادة) في القصيدة الشعرية، بعبارة أخرى هو نص كحالة متناقضة في طبيعة محيطنا القائم على التناقض في الشرق الأوسط فيكون بهذه الحالة النص المقدم طبيعيا وفق طبيعة الواقع في عالمنا الشرقي ونحن نحمل هذه الهوية في هذا العالم، وهو الأمر الذي يحتم إن نراه بهذا الشكل المقدم في النص الشعري (الرقص مع البوم) كحالة قائمه لا يكن لنا إنكاره- ليس فحسب إثناء قراءتنا للنص- لان هذا ما نلتمسه وعلينا نقر بهذا الواقع المؤلم الذي يسم وجودنا ويشعرنا بمرارته أللاذعة، إذا فليس الغريب من الكاتبة (غادة) إن تراه كذلك وهي تعيش الألم الغربة بتفاصيلها ومع ذلك تلتزم بالوطن لأنه هو الرؤية التي تنطلق منه وتتجه إليه في المحصلة الأخيرة فيكون تأكيدها بقولها(( ...و أقول فيها دون إن اكذب : سأحبك قرنا آخر..! )) لتنهي حلمها بالقول:

***
((...حين حصلت أخيرا على " الفيزا " المنشودة التأشيرة إلى الحلم قرأت على مدخل محطة القطار :
مات الصيف ..ماتت الريح ..ماتت الطائرات ..
مات السفر .. رحل الرحيل
و من يومها و أنا مقيمة في قاعة الانتظار
في محطة " سان لازار " الباريسية ...))
فالرغبة في التحرر من حلمها يموت في الانتظار، ولانتظار هو اقسي ما يدور لأنه يصنع إرباكا غير مستقر بحالة الروح فتعيش هذا الإرباك إلى ما لا نهاية في (الرقص مع البوم) لان غاية (غادة) من طرح هذا القصيدة هو لإحداث ارتباك والرغبة في تحرر من قيود المجتمع والفكر السائد ومن السياسة باتجاه أيقاظ الوعي لدعم منطلقات فكريه وجمالية حديثه كمحاولة منها لتحرر من عفن وركود ووطأة التصورات السائدة من حولنا .


***
كنت أنت ممتلئا بعظمتك
ديكا يتوهم إن الشمس لن تشرق إذ لم ينشد كل فجر بصوت يظنه جميلا ما تؤكد دجاجاته في القن
و كنت أنا بومة ليس بوسعها الذهاب إلى صيدها و فضولها إلا ليلا
لكنها لا تعيرك بطيرانها بأفضل مما تفعل
بومة تنشد طوال الليل لطلوع الفجر كي يذهب الآخرون إلى أرزاقهم مثلها رغم تشاؤمهم من أغانيها المليئة بالمحبة و شهوات الحرية الليلية
ربما لذلك لم نر ديكا براقص بومة
ربما لذلك افترقنا
كان ألقن مملكتك و لم أكن املك غير فضولي و حيرتي و إشارات الاستفهام و التعجب
كانت الدهشة مملكتي و افترقنا ...

***
حين تفاجئني صورتي في مرايا المخازن
أتساءل من هذه المرأة السعيدة الأنيقة الواثقة من نفسها ؟
ما صلتها بي، أنا الطفلة حافية القدمين المتوحدة كبومة و المذعورة كعصفور الراكضة تحت المطر منذ عصور بلا مظلة و لا قبعة و لا دفء...
و لا حبة كستناء
و لماذا لا ترتسم صورتي الحقيقية في المرآة : صورة بومة ؟
و أين أجد المرآة السحرية التي تعكس صورتي الحقيقة
إلا على صفحات مياه الأبجدية ؟

لماذا لم نرى (ديكا) لا يتراقص مع (البومة)، هل لان التناقض في رغبة الأول عن رغبة الثاني إلى الظلام ....؟ استفسار كبير تطرحه (غادة السمان) في تأويل التناقض بينهما الذي لن ولن يجمعها بالأخر لأنها متوحدة بحب العزلة والظلام فهي واعية بهذا التناقض ولهذا فهي لا تبالي لان (العصفورة) تواصل الحياة تحت المطر منذ عصور بلا مظلة و لا قبعة و لا دفء و لا حبة كستناء، فهذا الإحساس المعقد الذي هو في وقت نفسه مزيج من الحركة والذي يصعب الفهم أيهما فيه قاد الأخر أو يقودها....! فـ(البومة) هنا تحمل معاني ألعزلة المفروض عليها والتناقض مع الثقافة المحيطة بالأعراف والتقاليد فهذا المزيج رغم تعقيده إلا انه في صميم (غادة) واعتقادها بان كل واحد منه يغذي الأخر، ولهذا فإنها تعي المحيط الدائر بها فتعيشه بهذا التناقض وهو تناقض يكون مشروعا حينما يأخذ منه انطلاقا لتصورات جمالية ترى صورتها فيه .

***
أتزلج على جليد قلبك
و يطاردني بمخالبه ذئب وحيد له وجهك ...
أتزلج على كذبك و غدرك
و أتظاهر بأنني لا ادري
و أنا اترك أثار حوافري على جليد قلبك
و اصهل : وداعا ...

***
لا تحاول إعادة الحياة إلى الموتى
و الحب القديم
كي لا تجد نفسك إمام مسخ مرعب!
و إذا لم تصدقني اسأل " الوسيم " فرنكشتاين

***
ربحت جائزة اليانصيب الأكبر في العالم
و فوجئت بأن اسمها " ممحاة النسيان"

هنا (غادة) تشكو مما تراه بفزع وتتظاهر بأنها لا تراه نحو العالم، العالم الذي احرقها ولوعها، وهذه الصرخة تنقض على نفسها انقضاضا مقيتا، بالغدر والخيانة الأخر، لكن لا إرادة لها ولا رغبة في كبتها وقمعها، فتصرخ وتعلن.. وداعا...! ذلك لأن القلب الجريح لا يجد الشفاء في الصمت بل في التعبير، ثم إنه وفي الحب وحده يحلو الظلم ويحلو الإفصاح والتعبير عنه فهي تصرخ بوجه من غدر: (( لا تحاول إعادة الحياة إلى الموتى
و الحب القديم كي لا تجد نفسك إمام مسخ مرعب! ))، قمة التعبير الذي نعجز إفصاح أكثر لان (غادة) بهذا المقطع وضعت النقاط على الأحرف وفصحت القول بالتمام والكمال لنهاية أبدية لحالة (حب) انتهت بالخيانة والغدر.

***
سالت الشجرة : ما اسمك ؟
قالت : اسمي لا يهم المهم أنني عاشقة لبوم مهاجر
مضى مع الريح و نسي كل شيء عني
قلت لها : بوم على غصنك أيتها الشجرة
خير من ذكرى عشرة في الريح!

***
ها أنا أعاشر قهوة الصباح بنشوة
و اثمل بشمبانيا الشمس التي تسكبها على نهر السين تحت
نوافذ صحوتي الصيفي ...
يوم آخر للحب و الفرح كبصمة أصبع لن تكرر
يوم أخر ارفض إن يكون من نمط " ما بعد إذا " الزائدة
أنا مرغمة على الحب و لم اختر شيئا
ما حيلتي مع أشجار قلبي الدهرية
التي تزدهر ربيعا و تنوء بثمارها صيفا و تعرف إن الشتاء
الأخير سيأتي لا محالة بمنجله ؟
ليزدهر حبنا صيفا من الجنون
و بعدها سيأتي الموت معتذرا و مرتبكا ...
ليزدهر حبنا
دون إن ينسى موته الأتي او يتنكر له
كأننا نتأجج حتى الثمالة كي يرضى الموت بنا
هات يدك في جادة الشانزيليزيه و اقطف به قلبي
الموت يرى القلب اينع و حان قطافه فكن صاحبه و اسبقه
اليه .

إعلان الحب والسباق مع الزمن و الخضوع له و إسراف وتوسل، وواضح استجداء هنا بـ(الحب) دون التأسف على ما فات و دون دمع و دعوة لربط صلة جديدة والسباق مع لحظات الزمن، فـ(غادة) تعلم أن الحياة قصيرة لا تتسع للصد ولا تتحمل الهجر ولا تستأنس بالقطيعة،
لأن يقينها بديمومة الحياة بقولها: (( بان أشجار قلبها التي تزدهر ربيعا و تنوء بثمارها صيفا و تعرف إن الشتاء الأخير سيأتي لا محالة بمنجله ؟)) إذا هي على يقين بان لها طيب عيش.. و نعيم حب.. و أنس ود، كما أن يقينها عن تولي الظلم و القسوة، لان يقينها بان ما هو آت لا محال هو أمل ضائع وعن جحود ود وعن حيرة لفراق لا يرجى أن يعقبه لقاء، هذه القصيدة تصف لنا أجواء الذات الكاوية وللوعتها الضاربة في أعماق النفس والفرقة والابتلاء بالصد حيث لا موجب هنا، فتصف لنا (غادة السمان) هذه النفس المتألمة المعذبة بالألم والتي قصفت لوعتها والتي عجزت عن كبحها من أعماقها، ألم الحرمان والعذاب اللذان طمس لديها كل سبل الخلاص، مقطع شعري يفصح عن الأسى و الوجع المستبد والحزن القاتم والشجن المرير والحنين إلى ماض فات وانقضى وعن قسوة الهجر ومرارة الاغتراب .

***
إنا البدوية التي نسيت الخطوط الحمراء للبدو الرحل..
و أمعنت في الرحيل شمالا
رائحة الضباب في الطريق الى الشمال الغربي رائحة
القطارات المثقلة
بالثلوج بين مضاربي رائحة الموت في أسفاري حتى أقاصي
جحيم
المطارات رائحة الصقيع في هجراتي و عوداتي و خيباني
كل ذلك لن يسرق من صدري
فوح عطور ياسمين جدتي
في حدائق بيوت طفولتي الدمشقية ...عطور
تهذي بجنون الحياة و الفضول في ليالي " السونا " الصيفية
ما ذنبي إذا كنت قد أطعت أصواتها
و لبيت نداءات الحرية ؟

***
لا ترتد ورقة التوت على عري غدرك
لن اغفر لك و لنفسي خيبة البحر البيروتي بنا
خيبة اكواز الذرة الصيفية و القمر متوحش البهاء فوق
الكروم
ها قد عدنا خابيتين من خل الخيبة و كنا ذات صيف رعشتين
من الصدق
في دروب القمر البحرية المسحورة بالنقاء و الغرابة
اغرق يا صديقي داخل معطفك ألكحلي الوجيه
و دعني اهبط داخل فرائي كما يهبط الليل داخل روحي و شراييني
فقد انقضى صيف الحب بعدما كلنا الاتهامات للأفعى البريئة
و التفاحة المسكينة و نسينا ان الدودة التي دخلت إلى قلب التفاحة
جاءت من خل أرواحنا ...
لقد انتصر الزمن علينا أيها الشقي فاترك لنا فضيلة
الاعتراف ببشاعتنا
بدلا من إلقاء اللوم على الأفعى و التفاحة و البومة...
دعنا نعترف بضعفنا المخزي أنت و أنا آدم و حواء عصر
الفضاء
لا تقل : انه ذنب الأفعى قل: كان ذنبنا ذات صيف ...ذات
حزن ... ذات تكاره
ذات حب لم يعد يتطرق إليه الحب !

هكذا تعيش (غادة) مع من لا تجد فيه سوى الخيانة والغدر وهو ما يولد في نفسها إحساس بوجودها في عالم ألغربة والعزلة، ولهذا تجد نفسها محاطة بالبرد والكآبة، في وقت الذي يتزاحم وجودها في إثبات الذات وعدم التقهقر، فالصلابة أصبحت سمة ذاتها باتجاه محيطها فتتشبث به وتقاوم مقاومة شرسة ضد البرد وإحساس الغربة والانفراد ووحشة الزمن، ليكون الليل ملاذها الآمن، ترحل في آفاقه أمنه بأحلامها وذكرياتها لان دربها كان مع الحب وقد بنت ذاتها بهذا الأساس المتين رغم تبدل فصوله ولكن يقينها بان الحياة تجدد وان حبها في الأعماق الذي احتله سيتجدد به لان لا سبيل من تجنب الحب...! وهو ما لا تستطيع نفيه وهي تعيش في كونها(عالمها) الخاص بها، فهو بكل طقوسه صعودا ونزولا ملاذها لا تترد في إعلانه كما تقول: ((ما حيلتي مع أشجار قلبي الدهرية التي تزدهر ربيعا و تنوء بثمارها صيفا و تعرف إن الشتاء الأخير سيأتي لا محالة بمنجله ...؟))
هذا هو يقينها بالحب وهو ما يعلن لها عن سقفه بالاغتراب والعزلة .

***
أداعب بومتي فتروي لي أسرار عشاق الصيف و
تقول لي سر الفصول الأربعة فاكتشف أنها خمسة و الفصل
السري يدعى : فصل الحب
في ليالي الصيف المحمومة بضوء القمر السحري ألتقي
بأشباح موتاي و قد عادوا شبانا و ظلوا إحياء
التقي بكائنات الكواكب الأخرى في المقاهي الكونية
و التقي بحزني فنبكي معا طويلا وحشة طفلة أحد
حقا قط
فتحولت إلى " ميدوزا " شرسة يتحجر كل من يتسبب
ببكائها محدقا بدموعها ..جاهلا ان بومتها لشروره
بالمرصاد ...
يتشاءمون من البوم و تتساءل بومتي : لماذا لا يتشاءم
العشاق من شرورهم ؟

***
حين أغلق بابي ليلا على نفسي في بيتي الباريسي
وحيدة كدمعة صيفية لم يلحظها القمر
تنفتح بوابة دنياي الداخلية بكل بحارها و سندباداتها و
أهوالها و مباهجها و أوهامها و حقائقها و خرافاتها
يتحول البيت الصغير على ضفة نهر السين إلى جزيرة
أسطورية في بحار السندباد
و فقط حين أنام اركب بساط الريح
و تبدأ حياتي الحقيقية
التي انجوا بها من كوابيس اليقظة و من خيبتي بمن احببت
و هذه السطور لا أخطها حقا بالحبر بل بدمعي الأزرق!

***
تمددت في حديقة " الهايد بارك " اللندنية على العشب
المشمس محاطة بالسعداء الأوربيين الهانئين بحياتهم و
كلابهم و أطفالهم
تلك الغيمة السوداء الغاضبة
لماذا لا تمطر الا فوقي من دون المنتزهين جميعا؟
و لماذا تطاردني كيفما تحركت و أنى ذهبت
و لها شكل خارطة وطني العربي ؟

الألم وإحساس الغربة تعيشها (غادة السمان ) في يقظتها وفي منامها، وهذا ما جعلها تعيش خارج الزمن فتحلم بالخروج من زمن الأرض وتحلق كسندباد، فالزمن ما عاد يقاس الزمن إلا بحجم لحظات السعادة وبحجم الذكريات الممتعة التي قضتها في هذا العمر، فحالة (غادة) لم ترى من هذا الزمن غير الألم والقسوة والتمزق وذكريات والخوف والرعب، هي متاهة الدائرية في وطأة الزمن ومن خيبة الحياة، و(غادة) لا تخفي سرها في وصول نفسيتها إلى هذا الحد من الم، إذ تلمح للمأساة التي تؤول إليها من خلال ما وصل إليه الوطن العربي، فغيمة (المطر) رمز البكاء يتبعها أينما تذهب فهي تحمل شكل الوطن العربي، فتصور مأساتها كحالة ذاتها والوطن، من اغتراب وتمزق وضياع في دوار العاصفة لا تهدأ ولا تلين، وبعد أن تكشف أسرار هذا الاغتراب حيث لا تذق طعم الحياة إلا حينما تخلد إلى النوم فتسافر بعيدا في أحلامها تنشئ حياتها الحرة كما تشاء، وكأنها تستعين بفضائه الوهاج فتستند إليها لدعم كل ما تعانيها نفسيتها جراء التأثير المباشر للوقائع و الأحداث التي ينغمس فيها الوطن العربي .

***
حين اكتب على الورقة البيضاء اسمك
أرى حصانا عربيا يخرج من رأس قلمي بدل الحبر
يولد و ينتصب و يركض على سطور ورقتي
و تتحول طاولة الكتابة الى حقول شاسعة
يركض عليها الحصان
ثم يغطس في ضباب سري ..كحبك الدامس
في دمي تنتحب أجيال من النساء المؤيدات
لكنني مصرة على إن أحبك تحت الشمس و على مرأى من
رماح القبيلة

***
ليلة أزف الى عرسي
لن تبدو على وجهي المزرق سعادتي بذلك
لن يعرف احد إنني عبر جفني المغلقين كنافذتين ما زلت
أرى بوضوح ما يدور حولي و اسمع ما يدور
بفرح ساري قبيلة من أحبابي تدخل إلى بيتي لتلتف حول
جثتي
و يحدق فيها الحضور بدهشة لأنهم لا يعرفون إفرادها
وحدي سأعرفهم حين يحيطون بتابوتي
أنهم إبطال قصصي و قد غادروا صفحات رواياتي و
قصصي
سيأتون من دمشق و بيروت و لندن و فينيا و باريس و جنيف و بقية أقطار تشردهم حيث رميت بهم سيأتي دريد و حازم و إياد و مصطفى و خليل ابو الملا و جورجيو و سيرقصون حول جثتي باحتفاء و فرح و أنا أغادرها فهم وحدهم يعرفون إنني لم أمت ما داموا هم إحياء !
و أنا أغادر جسدي المتهرئ و انزلق في جسد أخر لانضم
إليهم
و امضي معهم إلى حيث لا ادري ...

في هذا النص تتحدث (غادة)عن متقاربات تريد إن تصلها عبر تساؤلاتها لان فصول الأربعة لا تكتمل إلا حين نضيف لها فصل أخر هو فصل الحب وهو الفصل الخامس لفصول السنة الذي يطعم كل فصل لونه لنظل سجناء له رغم كل طقس يأتي بلونه الخاص ولكن لونها الآن يتجه نحو الغربة والوحدة تحت القمر لتحاوره بما هو حبيس في صدرها تريد إن تبكي ولا تريد....! وهذا ما يقودها في تأويل الاغتراب على حدود أفكارها بالألم والمرارة والعذاب .

***
جديلة من الأعصاب العارية و القلب العاري في عالم متوحش
تجدله العاصفة : هذا أنت
الألم يقصك كسنبلة على حد منجل
تتمنى لو كنت شجرة بقشرة تحميها لا يجرحها إلا عاشق يسطر الحروف
الأولى من اسمه و اسم حبيبته داخل قلب فيه سهم " كوبيد "
تتمنى لو كنت خرتيتا او فيلا بجلد سميك
تتمنى حتى لو كنت مثلي : بومة !
بومة تتقن تخويف أعدائها و هي أكثر خوفا منهم !
تتمنى و تتمنى ...
لكنك لو كنت شيئا آخر غير ذاتك
لما كنت شاعرا !
***
حين التقي بصديق غدر بي
اشعر بما يشبه الغبطة
فقد تحققت ظنوني و كان حذري في محله

***
ترتدي أحزاني " الشورت " و " الميني جوب " و فساتين السهرة
العارية الكتفين و القمصان الجلدية المطرزة بالمسامير المعدنية البراقة.. ترتدي إحزاني ثيابا باريسية و لندنية براقة عصرية
و لكنها إحزان لم تنسى أصلها إحزان قادمة من الناي العتيق ذاته الذي كان ينوح في حارات دمشق القديمة خلف الجامع الأموي
حيث بيت جدها ما زال شامخا منذ مئات السنين،
انه ناي القلب ...

هذا التعبير ((الألم يقصك كسنبلة على حد منجل)) ما هو إلا رمز لتعبير، عن الحب فترمز باله (كوبيد) الذي تنطلق به (غادة السمان) والذي ما هو إلا تحديد أمر ما قد نضج في مخيلتها, وأن الحزن والأسى قد وصل إلى أقصى حده, ولم يبقى إمامها سوى فعل التنفيس عن النفس, فالحزن واليأس في تصاعد و نمو وتكاثر بما يفوق الاحتمال, ولم يعد لديها القدرة الكافية لاحتمال كل هذا الحزن, فتطلب وتتمنى روح هذا الحب المساعدة من أي شيء يحيط بها, ((تتمنى حتى لو كنت مثلي : بومة، بومة تتقن تخويف أعدائها و هي أكثر خوفا منهم!)) فهذه اللغة في مخاطبة الحب ما هي إلا مخاطبة الذات، بمعنى أخر روحها تخاطب جسدها عن طريق نفسها، بعنف وأمر, لأنها تعرف مدى ضعف هذا الجسد الذي يحمل هذه الروح, وما أصعب أن توجد روح قوية في جسد ضعيف لا يليق بها، فهذه دعوته هي دعوة للمشاركة في لوحة ما, أو في فعل ما, ولكنها في حقيقتها هي فكرة موغلة في الفلسفة والعمق, لان (غادة) تخفي المعنى المقصود, فهي دعوة للتأمل .

***
أنا بومة تعيش بقلب مزروع
تدور حول العالم بقطارات من غيم على سكك من قوس قزح ترحل و تكتب و تثرثر بعدة لغات
و لكن بقلب مزروع :
اهو قلب جدي الذي ينبض في صدري ؟

***
لم يعد بوسعه إن يسمى الأعمى الذي يقود القافلة باسمه أو يقول له انه غير مبصر بل عليه إن يدعوه يا أمير غض النظر لم يعد بوسعه تسمية " معلمه " عديم السمع بعبارة أطرش بل عليه ان يقول :يا سلطان الإنصات إلى اللا مسموع
لم يعد بوسع قبيلة البوم إن تقول لأي من حكامها انه يبدو لها عاريا بل عليها الإنشاد : ما أبهى أثوابك
تكاد قبيلة البوم تنسى إن كلمة الليل لا ترادف النهار مهما كانت سطور المجاز و إن الفرح لا يرادف الركوع
و المجاز لا يجوز فوق تلال الجماجم و الأقنعة
قبيلة البوم ملامة لان أغانيها " تبويم"
ماذا سوى " التبويم " حين لا تجرؤ على الحديث عن نفسك بضمير المتكلم بل بضمير الغائب ؟
ماذا سوى " التبويم " حين تعي انك الحاضر / الغائب ؟

هنا (غادة السمان) تطرح رأياها وتصوراتها بلغة الشعر الالكتروني أو الشعر المعاصر مبلورة تشكيلات الألم والأحلام عبر الإبحار في موضوعات تلامس وجدانها بتعبير إيحائي وهذا ما اكتنف هذا النص بشيء من غموض بكون (غادة) أبحرت في إيحاءات عبر اشراقات الروح وقد جاء ذلك نتيجة عودة الإحساس إليها بالغربة وهو مفهوم يسيطر عليها وهذا ما يجعلها إن تواصل الإبحار عبر إسقاطات ذاتية اللا واعية على مرافئ الأحلام، فان سمة إنتاج النص وقع أسير ما بين اللغة العادية ولغة النص الرمزية، إضافة إلى كون الأداء اللغوي قد جاء وفق الإيحاء اللغوي من نوع خاص موازيا لروح النص الكامل لـ(الرقص مع البوم) وهذا ما قاد (غادة السمان) بان تستخدم لغة الحديث الذاتي مشحونا بطاقات إبداعية تتلاءم مع مواقفها في الحب والحرية التي تعبر عنه .

***
علقك الحزن على صدري وساما
و قال لي : طوبتك عاشقة فحلقي بمجد الحب و اكتبيه
أيها القريب البعيد
إذا كان قلبي بحيرة بوسعك المشي فوق مائها دونما غرق
إذا كان قلبي قنفذا ستصير أشواكه مخملا و حريرا لخطاك
اذا كان قلبي منارة ستشرق فيها شموس إذا مرت بها مراكبك
و إذا كان قلبي بومة
فستطير حتى القمر اذا قلت لها انك تحبها !
قال لي الحزن الذي علقك وساما على صدري:
لقد أدخلت الحبور على قلبي بأناشيدك البومية و صدق العشاق ولو كذبوا ! ...

في هذا النص صورة من الحداثة الشعرية في غاية الإثارة تبدعها قريحة (غادة السمان ) فالصور - في هذا المقطع أو في المقاطع الآتية - هي في حقيقة استدراجها وتتابعها في النص، وهو تتابع صوري تثير الدهشة والمفاجأة في تركيبية حداثية في قلب المناخ الشعري المعاصر لتؤسس في نتيجته النهائية مركزا لاستقطاب الحركة والديمومة في النص لا ينتهي بنهاية القصيدة بل يعطيها قوة ونشاط حيوي يتفاعل بالديمومة مع مراحل الحياة دون تاطيره في اطر الزمان والمكان، إنها لغة (غادة) المفعمة بالحركة والتي تركز عليها في كل صورة تذكرها في نصوص (الرقص مع البوم)، أي في بنية القصيدة ذاتها، فمستوى التراكيب الصور والمفردات اللغة تشكل عند (غادة السمان) جوهر القصيدة التي تنشرها في الحداثة الشعرية والمعاصر وان مكامن هذا التحديث في شعر (غادة) يكمن في قدرة الكاتبة في بث روح الحياة وحركة النص ومعناه بشكل طري وطازج في لغة الشعر تصل أهدافه لتكون حاضرة بقوة في المشهد الشعري المعاصر في كل مكان وزمان، وهذه المقدرة الفنية التي تملكها(غادة) في خلق الصور الشعرية يأتي لتلافي النص من الجمود والسكون وليكون في ديمومة الحركة وإعطاءه معاني شتى بالدلالات جديدة تكتشف في النص بعد كل قراءة تلي القراءة الأولى وهذه هي ميزة الحداثة الشعرية المعاصرة في أشعار (غادة السمان) بكون نصوصها في صيرورة دائمة الحركة .

***
بدأ حبنا في سفينة المرح "لاف بوت " شمس و رقص و ابتسامات و غزل نظرات بلا عبرات
و برك سباحة مليئة بالعسل و بأجساد مثقلة بالشهوات
و كما في كل حب كاد ينتهي حبنا في باخرة " التيتانك "
الغارقة في قاع المحيط الصقيعي البارد الكابوسي
حيث التنهدات من جليد
و قد تحجر كل وحشة
محدقا في صاحبه بعينين من زجاج و هو يتثاءب إمام التلفزيون و يتجشأ …
و الفم مزروع بالعشب الجاف بدلا من كلمات الغزل
وحده الفراق ينعش قلب الحب و أنا أهجرك لاحتفظ بغرامنا في " سفينة المرح " بعيدا عن القاع الصقيعي
حيث يقيم العشاق الضجرون غارقتين مع " التيتانك "
" شبيك لبيك ايها الحب " تعني : صباح الخير أيها الفراق الموسمي!

***
كل صباح
تحلق لحية قناعك بالموسى
و تزجج حاجبي قناعك و شاربيه تغسله و تعطره
و إمام المرآة ترسم على شفتيه أحلى الابتسامات
فقد صار القناع وجهك و صار الرحيل بوصلتي

هنا نحن إمام تكوين إيحائي عن إنسانة حاولت الحب وتحاول وتعشق و تود إن يحملها الحب وعشقها إلى موطنها ولكن بحدود عزلتها وخيالها في الغربة، فهي خائفة وبقدر خوفها فالأخر يخافها ولكن لا يعرف كم هي خائفة منه....! وهنا تتناغم الإشكال في هذا المقطع بين الذهول والتخيل عبر ذاتية الكاتبة من خلال العلاقات غير مستقرة وغير متفاوتة تطغي عليها طابع القسوة والبلادة ليمهد لها كل ذلك طريق الضياع، فكما وجدته ضيعته في باخرة (التيتانك)، فهذا الوعي الذي توعيه هو وعي لا يعيه ولا يراه احد سواها في عالم الغربة، لان الأخر ضاع ولم يكشف وجهه رغم يقينها من هو ليكون وجها كوجه الباخرة التي غرقت وأغرقت العشاق ولكن نجاتها جاء متوجا لها غربة لا تنتهي في أعماق ذاتها .

***
((....قالت لي البومة :
يا للمفارقة الخارقة!
هل لاحظت يا سيدتي كم تشبه المرأة الفحولة..
لا يحتفي الرجل بها
إلا بعد إن يخسرها ؟

***
منذ اليوم الذي عرفتني فيه
و أنت دوما في مكانين معا في آن..
فأينما كنت أنت أيضا معي تقطنني ؟

***
قرات قصيدتك التي تزعم فيها كاذبا انك تحبني ...
وفرحت حتى الثمالة
الم اقل لك: صدق العشاق ولو كذبوا !

***
العين ثرثارة كأرملة ضجرة
العين نافذة بلا ستائر
العين لم تسمع بكلمة الكتمان
العين لافتة إعلانية عن إسرار القلب
و لذا احرص على ارتداء نظارتي السوداء حين التقيك!

المعاصرة في اللغة الشعر عند (غادة السمان ) أساليبه وطرائقه و فنيته، التي تعبر من خلالها عن رؤيتها تجاه الموضوع ما، حيث تعتمد إلى الحديث عن الأشياء بوضوح ومباشرة تارة.. وتارة أخرى تلجأ إلى التنوع في الأساليب مابين (التصوير) و(الرمز) و(الإيحاء) كما جاء في المقاطع السابقة، وهنا يكمن قوة التعبير بقدرة (غادة) على الإجادة في تلك الأدوات الفنية التي يتكون منها العمل الشعري، ولما كان غاية الشعر- بصورة عامة - هو تعبر و إشارة إلى الأشياء وإبرازها على شكل فني دون إن تكون غايتها هو توضيح حقيقة هذه الأشياء عند الحديث عنها، فالحقيقة والبحث عنها هو شان الفلسفة أما الشعر فإنه يكتفي بالإشارة وببلورة الأشياء في قالب فني في الإيحاء الغير المباشر يمس الحقيقة ويشير إليها، وقد يكون ذلك مقصودا ولكن ليست تلك غاية الشعر، لأن الشعر موقف وموقف (غادة السمان) الشعري هو بيان درجة حساسيتها تجاه الأشياء لأنها تعبر من خلال شعورها وفي نفس الوقت تعبر من خلال عقلها بكون رؤيتها الشعرية رؤية تنطلق من وجدانها الذاتي والموضوعي المفعم بالحدث الذي تعبر عنه بكل شفافية ووضوح ودون مآربه .

***

لا تضع سماعة الطبيب لتنصت الى دقات قلبي حين نلتقي
فغابة بولونيا الباريسية كلها تنبض مع جنونه بك : الأشجار و الإزهار والإعشاب و الغيوم
تريد ان تسمع هدير دورتي الدموية و أنا معك ؟
أنصت إلى وقع خطر المطر المجنون فوق قرميد سطوح باريس العتيقة
أنصت إلى وقع خطى تلك المهرة الراكضة على السحب فوق الغابة
أنصت إلى تغريد البوم في ليالي الساحرات العاشقات الراكبات فوق
مكانسهن المكهربة باللذات
و حذار ..حذار إن تقول لي احبك فتلك الكلمة تلسعني كعقرب ؟
كل اللذين حاولوا قتلي سنو سكاكينهم على كلمة " احبك"
و لا تغضب إذا لم اقل لك : احبك
طالع الكلمة على أجنحة البوم حين نحلق معا
هناك سطرت رسائل حبي إليك إلى أبدنا معنا

هكذا تحب، وهكذا تريد من تحب أن يقرءا كل حركاتها، لأنها تعبر بها عما في كيانها، لان كل شيء فيها يفضحها بالحب الذي لن تعلنه، ولا تريد من يحبها أن يعلنه، لأنها كما تقول تلسعها لان الكلمة (احبك) تلسعها كلسعة العقرب لان لها في ذلك تجارب، لذا لا تريد إعادة الاسطوانة المشروخة هذه على لسان من يحبها بصدق، لا لأنها بليدة وقاسية، بل إن كيانها ووجودها خلق للحب وكل حركاتها هي إيماءات في الحب، وجل ما تخشاه هو عيونها لان لغتهما تفضحها، ولهذا تحب ارتداء النظارة السوداء لكي يبقى سرها دفين ذاتها، هنا الوعي الشعري يتكامل من مرادفات اللغة التعبيرية كحالة معبره عن الإحساس وما تريد قوله بما تشعر، ولا تريد إعلانه لأحد، هو إحساسها الصامد الذي لا يصدر منه أي صوت لان الطبيعة هي التي تفصح عما يدور في خلدها، من المطر.. والغيم .. والأشجار.. والزهور هي نبضاتها الحقيقية وليس ما ينبض به القلب لان عملية النبض في القلب هي ميكانيكية وان الطبيعة فعها تعبيري يلامس المشاعر والإحساس وبالمكان الذي نختاره لنمضي فيه لأنه يوحي بكل ما في القلب ويرسل رسائلها إلى من تحب .

***
" الطالبان إخوان " بأسمائهم المختلفة و تقمصاتهم المتجددة يريدون مني إن ارتدي خيمة حين امشي في الشارع
و هم يمشون في الأرض مرحا على أشلائي
" الثوريون إخوان " يريدون إن أنادي بشعاراتهم
و ارتاد اجتماعاتهم لأغلي لهم القهوة في المطبخ التقدمي الثوري
الحزبيون يريدون إن أوقع العرائض معهم دفاعا عن حرياتهم
و هم يدوسون حريتي بجزماتهم كامرأة و كمواطنة !
الشعراء يريدون إن أنجب أطفالهم و أتغزل بقصائدهم و اقتات بالأوهام و الأبجديات المنقرضة
و لذا تطير البومة عن ذلك الجحيم متعدد الطبقات و اللهجات
الى النسيان في باريس و الحب و الحرية في باريس
و شعارها : اطلبوا الحرية ولو في المنفى !

هنا يرتفع صوت (غادة السمان) إلى قمة التعبير في استقصاء فلسفي لقيمة الحياة التي تنجس بالأفكار التي تولد وهي ميتة، هنا يكتمل في النص قيمته الجمالية باختزالات دلالية، هنا (غادة السمان) تكشف زيف الشعر والثقافة العرجاء للمنظمات وأحزاب فاشستية فاشلة يعيشون في عزلة الرؤية والوعي وهو ناتج عن تناقضات مع المبادئ غير مستقره عمياء وغير قادرة على إحساس بواقع الحضارة وقراءته بواقعية فيصدرون ثقافة الموت، فهذا الصراع الذي تنطلق منه (غادة ) هو انطلاق بتصور قاس لواقع نعيشه بغير استقرار وهذا ما يبرر عزلتها كشاعره وكاتبه وإنسانة، لذا فهي كما تقول ((اطلبوا الحرية ولو في المنفى))، فيولد في إحساسها بالاغتراب، وهنا يولد الحب بهذا الإحساس الذي هو الأخر يجسد العزلة في ذاتها .

***
نعم : اعرف إن الأرض لا تدور حول الشمس فالأرض تدور حولك
لكنني استطيع إن اقسم أنها وقفت ساكنة في فلكها
ليلة قلت لي للمرة الأولى : أحبك!
كرس " السان فالنتان " تلك الليلة عيدا له و للعشاق
إما البوم الذي يجد تبويمي هذا لا منطقيا
فليقل لي : أين المنطق في الحب ؟

***
لا تقل لي ذات يوم ليس ثمة ما يدعى " ذات يوم"
و انه ثمة اليوم فقط
فالبهاء الذي عشته معك " ذات يوم "
يعادل عمرا مستقبليا ضوئيا في كوكب آخر و يعادل الماضي الأزلي لكوكب الأرض بأكمله ...
و أنت امتزاج الأزمنة
فكيف انسي ذكرياتي الآتية معك؟

تترك (غادة السمان) فسحة لتنفس عن عمق وجدانها ومشاعرها وأحاسيسها باتجاه الحب ومن أحبته، بل أخذت من عطاء الحب لتغوص في أعماقه بتجليات صوفية للكشف عن وجدانياتها، فشده الحب قد عصف بها وجعلها لا تحس ما حولها (( اعرف إن الأرض لا تدور حول الشمس فالأرض تدور حولك .. لكنني استطيع إن اقسم أنها وقفت ساكنة في فلكها .. ليلة قلت لي للمرة الأولى : أحبك! ))، فهذا الإحساس هو إحساس في تدفق النشوة جعلها تتيقن بان (عيد الحب في يوم فالنتان) قد اتخذ رمزه من تلك اللحظة التي عاشتها في لحظة إعلان الحبيب حبه لها، وقد عاشت تلك اللحظة فحسب وعدا ذلك عدا كل ما أتى تحت عنوان الحب وهما وخداعا (( إما البوم الذي يجد تبويمي هذا لا منطقيا .. فليقل لي : أين المنطق في الحب... ؟))، فهي متيقنة بأنها عاشت الحب للحظة واحدة فحسب، ولكن تلك (اللحظة) التي أتت بأنسابية وصدق وبما شعرت بتدفق شلال روحها بالعواطف والنشوة والهيام واللذة تعده عمرا كاملا لها (( فالبهاء الذي عشته معك " ذات يوم " يعادل عمرا مستقبليا ضوئيا في كوكب آخر و يعادل الماضي الأزلي لكوكب الأرض بأكمله ... و أنت امتزاج الأزمنة.. فكيف انسي ذكرياتي الآتية معك...؟))، هكذا عاشت حياتها أسيرة تلك (اللحظة) والتي في يقين ذاتها تكون مرادفة لكل ما أتى ومرا في حياتها فيما بعد .

***
حين أموت احرق جسدي الخاوي كقشرة
و عبء رمادي داخل ساعة رملية و ضعها على طاولة مكتبك
لتتذكر ان العمر اقصر من ان يهدر في البكاء علي او الشماتة بأعدائك !
كل حبة رماد من بقاياي ستهمس بلغتك المالية و هي تسقط في ساعتك
الرملية : عش الآن فاليوم " كاش " و الغد " كمبيالة " مؤجلة و"شيك " بلا رصيد على بنك في زلزال …
كل حبة رماد من بقاياي ستهمس و هي تسقط في ساعتك الرملية : ثابر
على التحليق يا حبيبي ففي النهاية ستحرق الشمس الأجنحة كلها …
و اذا لم تصدقني فأسال " فاوست " صديق البوم و اسأل البوم و كل من رحل عن كوكبنا بدءا من بآدم و مرورا بنوح : فالطوفان لا يوفر أحدا
و حتى اللذين نجوا في سفينة نوح أبحروا إلى الموت !
فعش يا حبيبي إكراما لموتي !

***
فقط حين نقول جملا بلا معنى و نهذي
نعلن صدق القلب فصدقه مظلم و غامض
بجمل كالماس الخام مليئة بالشقوق و الضمرات
فقط حين نرتبك كالأطفال في يومهم الأول في الحضانة نقول صدقنا
نحن العشاق الحقيقيين المستضعفين في الحب !
فالحب ديكتاتور صغير
نهتف له باستمرار : شبيك لبيك أيها الحب
و نكتشف الجني في أعماقنا …

ينقلنا النص في هذا المقطع إلى عالم الموت والفناء ليغدو عالما آخر يؤثر في فينا تأثيرا فكريا وسلوكيا، حيث يكون الموت نهاية طبيعية في الزمان والمكان ضمن هذا التوصيف، فـ(غادة) تخلق لنا مكان موحشا وهي تفصح عن هواجسها ووجدانياتها بما أشارت إلى فساد القلوب والحب الذي شبهته بالديكتاتور(( فالحب ديكتاتور صغير..نهتف له باستمرار : شبيك لبيك أيها الحب .. و نكتشف الجني في أعماق))، فالحب في يقينها هو عطاء الروح إن صح.. صحت النفس كلها.. وإذا فسد.. فسدت الروح كلها، فالحب والمشاعر تتدفق من القلب، وان فساد القلوب هو ما يؤدى إلى انتهاج مسالك مظلمة وغامضة و إيذاء بمن كان صديق الأمس، وهذا ما نسميه بـ(الغدر)، ومع كل ذلك فنحن نثني ولا نثني تلك الأفعال لأننا كما تقول (غادة):- ((نحن العشاق الحقيقيين المستضعفين في الحب)) .

***
((...ولدت قبل إن يولد الديناصور
و شاهدت الممالك تشيد و تنهار
و القردة تتعلم ارتداء معاطف الكشمير
و الذئاب تتعلم الأكل بشوكة و سكين من ذهب
و تدعوا نفسها جنسا بشريا
و تتنطح لكتابة المواعظ و الشعر و الخطب الحماسية و
الشيكات!
ولدت قبل ان يكتشف النغم الناي
قبل ان يقطن العبير في الإزهار
و شهدت على هزائم القمر إمام مناجم الماس
شاهدت الثلج يغطي المواقد في عصور جليدية للرهافة
الإنسانية
شاهدت حريق الغابات حتى طرف قلبي و اشهد على مذابح
و أوبئة و
زلازل و تنينات متوالدة معدنية و أجناس بشرية " أنبوبية
اصطناعية "
اشهد على كوكب يمشي في المدارات الكونية مرحا و تيها
و اشهد قبل ذلك كله أنني لولا حبك
لتناثر جسدي حفنة من الرماد في ليل كوني بلا قاع و لا نهاية و لا ضوء
في أخر النفق
لولا حبك لفقدت صبري و بوصلتي و مظلتي و تبويمي

***
حين أعلن أنني احبك
حين انحرف عن مدارات الحزن إذ التقيك في ليل النجوم و
عيد العشاق
تنحرف نواميس الكون قليلا إكراما لحادثة حب :
يهطل الشلال من الأسفل إلى الأعلى
يركض الحلزون كما حصان السباق و تقفز السلاحف
تزهر البراعم في الخريف و تصيح الديكة وقت الغروب
ينبت الياسمين فوق الصخور المالحة للشواطئ
و بحنان يراقص سمك القرش صبيا سابحا
بدلا من قضم ساقيه
يلاطف التمساح غزالا سقط في الماء و يحمله الى بر
السلامة
يأكل الثعلب و الأرنب في صحن واحد
يقبل العقرب سلحفاة مائية حملته إلى الشاطئ الآخر و
يشكرها بدلا من
لسع عنقها العاري ..
الضفدع يصير أميرا للوسامة دون إن تقبله شفاه أميرة أسطورية
انه الحب الحقيقي في زمن التكاذب بالتراضي
انه السحر الحلال …فقل لي انك أيضا تحبني
ولو سحرتني من بومة الى امرأة ! ......))

هنا نلاحظ حجم الوعي الشاعرة الذي يبرر عزلتها فيكون إحساسها بالحب هو المساحة الذي تتنفس في ظل الاختناق فتظهر قدراتها التخيلية في رسم فلسفة للحياة تكتمل فيها قيم الجميلة تنتجها لنا ثقافة الاغتراب وآلامها، وهذا ما يجعلها تسكب لنا مواعظ في ظل الثقافة المحيطة بها في زمن الاغتراب في باريس فيبسط عليها الحب بعد طول الإجهاد والعبثية التي عانت منها ومن وساوس التي تدور في مخيلتها وفي وعيها لضمان الاستمرارية في زمن الإنسان القصير الذي لا يمكن هدر عمره بمواقف لا جدوى منها .

***

العصفور الصغير المغرور يتوهم العاصفة أنشودة الريح لعظمته
البرق مرآته الجوارح جنوده الخلود دميته الأبجدية خادمته
العصفور الصغير المغرور يتوهم إن دجاجات ألقن يتغنين بسحره ليل - نهار ، و لذا لا يصمتن
العصفور الصغير مات غروره حزنا حين اسر له فزع الطيور بالحقيقة
عن " مكانته " الكونية
و من يومها انكسر قلبه لكنه بدأ يكتب أحلى أشعاره و صار ينشد ألحانا
نقلها موزار على الورق و انتحلها و اشتهر بها
العصفور الصغير لم يعد حبيبي لكنه صار شاعرا كبيرا
قبائل البوم تحتفل الليلة معي في ضوء القمر بوفاة حبيب وولادة شاعر
حتى شفيع العشاق " السان فالنتان " يحتفي معي
فثمة أجيال من العشاق و لكن من يخلد عشقها غير شاعر لم يعد يتطرق
جنون الحب إلى قلبه
بل جنون الشعر وحده ؟
حين يعشق الشاعر حقا يعجز عن الكتابة و يصير قادرا على الموت فقط
حين يهجر الشاعر الحبيب يكتشف أبجدية الحب ...
هكذا قالت البومة و أضافت :
أنت لا تطلق سراح اللحن إلا حين تكسر العود

***
ثمة غارات جوية داخل دورتي الدموية
و قصف من عدة قارات فوق رأسي و حواسي
في الملاجئ تقبع إحزاني لتنجو من موتها
و لا أنجو من فجائعي
ثمة كلاب بوليسية تتسلل إلى جواريري
لتشم الثياب الداخلية لأبجديتي
ثمة من يحاول فك شفرة ذاكرتي في مختبرات التدجين
ثمة من يهتف بحياة الثعالب
الجالسة فوق قمة رايات البرج متسببة بموتنا اليومي
فهل نلوم الثعالب وحدها
ام نلوم الشاعر المرتزق الذي يتغنى بجماليات انيابها
هي تنغرس في لحمه العاري شاتما شؤم البوم ؟
دوما أتساءل : كيف يتغنى شاعر بجماليات سوط يجلده
و سيجلد أبنائه من بعده و يلعننا نحن شعب البوم ؟
ما أغرب شعب البشر

***
شائعات ..شائعات
عن رقة الفراشات عذوبة العصافير وداعة الحملان
شائعات عن وفاء الكلاب و شرور البوم
زود السلحفاة بلسان أفعى
و أعطي الحملان أنيابا مفترسة
و سيحدث في الغابة ما حدث لي
حين صدقت وداعة سلحفاتي و هجرت بوماتي..
ترى هل اللطف مصادفة بيولوجية
و الحب لحظة مزاجية عابرة كسمكة زينة ملونة
في " اكواريوم " شاسع من اسماك القرش ؟

***
امشي بحذر على إطراف ثوب حبنا
مثل لص يحاذر إيقاظ أصحاب البيت
حين يستيقظ الحب و يصحوا جيدا
يرتدي أجنحته و يطير هاربا
كأي بوم متطير من " لاوفاء " البشر العشاق .....

الاغتراب اخذ مأخذه في أعماق (غادة السمان ) فعلمها كيف يكون الحب الحقيقي الذي حين اكتشفته هاجرت حبيبها، لان الحب هو شعور وإحساس بان الوصول إلى الحبيب محال، وإحساس بالسباحة بعكس التيار، فالمبدع أيا كان شاعر أو أديبا أو فنان حين يعشق فانه كما تقول (غادة) يعجز ((عن الكتابة و يصير قادرا على الموت فقط .. وحين يهجر الشاعر الحبيب يكتشف أبجدية الحب ...))، وعدا ذلك فليس ثمة إبداع بل تملق وهي ترفض تملق المبدع وتحديدا (الشعراء) حين يسرفون بمدح جلاديهم فتأول المفردة لعدم المباشرة بمفردة (الثعالب) وهؤلاء هم الرؤساء الدكتاتوريين الذين يقمعون شعوبهم فتقول : - ((ثمة من يهتف بحياة الثعالب
الجالسة فوق قمة رايات البرج متسببة بموتنا اليومي
فهل نلوم الثعالب وحدها
أم نلوم الشاعر المرتزق الذي يتغنى بجماليات أنيابها
هي تنغرس في لحمه العاري شاتما شؤم البوم ... ؟))،
و(البوم) هنا يمثل المعارض الذي يرفضه مجتمع هؤلاء المرتزقة، هذا الموقف الجريء عند (غادة السمان) كان سببا من أسباب نفيها وعدم سماح بنشر كتبها في بعض بلدان الشرق، وفي أكثر من وقفة نصحت الشعراء بعدم التمادي في مدح الرؤساء لان في ذلك تشجيعا لهم على ارتكاب مزيدا من قمع على شعوبهم، فالمبدع عليه إن يرفع عن ذلك وهنا تقول عبارة في غاية ألبلاغه:
((.. أنت لا تطلق سراح اللحن إلا حين تكسر العود))، هنا تكتمل فلسفة (غادة السمان) وتلخص كل شيء بهذه العبارة التي لها أكثر من مدلول أضاف لها خط العزلة الذي أصبح قدرها في رفض الاندماج ضمن ثقافة مزيفه والخضوع مهما كان الثمن لان الاستسلام لنمط الحياة المحيطة بها أمر ترفضه بالمطلق مهم كان ثمن الغربة في الضفة الأخرى بعيدا عن التملق الزائف لان شعارها هو (( اطلبوا الحرية ولو في المنفى))، لان الحب في أعماقها حي يقظ، ولان من يستيقظ بمشاعر الحب يفر هاربا ويفضل الموت كي لا يستعبده أحدا فتقول :
((حين يستيقظ الحب و يصحوا جيدا
يرتدي أجنحته و يطير هاربا
كأي بوم متطير من " لاوفاء " البشر العشاق))، وبهذا الشكل تحطم (غادة) كل أنماط والقوالب الجاهزة و تختزل المفاهيم بغير قيود لأنها ترفض الجمود من اجل ارتقاء إلى لغة الجمال والفكر ذي مغزى فكري عميق .

***

أنا البومة ثقيلة الأحمال
أحمل على جناحي خطايا الناس
و جثث قتلاهم الأبرياء و شعاراتهم و هياجهم
و هزائمهم الملقبة بانتصارات و هذيانهم الحماسي
أحمل أعيادا بلا مناسبات و أطفالا بلا جذور..
أفلا يحق لي أن أتشاءم من البشر؟
و ما ذنبي إذا كان البشر يرون في مرآه لشرورهم؟
و هل نجاتهم في قتلي أم قتل شرورهم؟
و هل شاهد احدهم بومة تضطهد رجلا كما يفعلون هم بي؟
اتبع رجلا يدلك على مذبحة
الحق بالبوم يدلك على الليل الجميل …
فالقمر مرآه البوم ...
***
أنا البومة التي صادقت الظلمة
كي يفشل الضوء في إلقاء القبض عليها
و سوقها مغفورة إلى استعراضات التفاهة
لا أتقن التعري إلا في ظلمات شرايينك
و لا أريد شاهدا على توهجي غير كتمان كعزلتي هي المرض المعافى
في وجه بذاءة الجوع الى شاهد و " بصباص"
و حاسد و مصفق

تتنفس (غادة السمان ) في هذا المقطع عميقا بما يعتريها من حمل الجراحات والعذاب والمعانات بعد إن خيب الواقع ضنها بما أفرزته المشاهد المؤلمة التي مرت على حياتها، حيث مشاهد القتل والتعذيب والتدمير وسلب إرادة الآخرين في الحياة بدون وجه الحق بأكثر من موقع، فالصور والدلالات تلك شكلت في ذاكرتها هواجس مرعبة مما حدا بها إلى الابتعاد والعزلة، فهي من تقول: ((أنا البومة ثقيلة الأحمال
أحمل على جناحي خطايا الناس
و جثث قتلاهم الأبرياء و شعاراتهم و هياجهم
و هزائمهم الملقبة بانتصارات و هذيانهم الحماسي
أحمل أعيادا بلا مناسبات و أطفالا بلا جذور..
أفلا يحق لي أن أتشاءم من البشر؟))، وهذا العذاب هو ما فجر أعماقها بمرارة الخيبة والألم فجعلها تتشظى خلف شعور الألم، وهذا ما جعل مفرداتها شديدة الإيماء بالتشاؤم فتفيض أعماقها.. ولأكنها لا تفصح....! وبقدر ما تشير بإيماءات وبالأحاسيس والرؤيا، ((اتبع رجلا يدلك على مذبحة
الحق بالبوم يدلك على الليل الجميل …
فالقمر مرآه البوم ...))، ويمكن من خلال كلماتها إن نتعسس ما هجست به ((أنا البومة التي صادقت الظلمة.. كي يفشل الضوء في إلقاء القبض عليها))، وهذه العبارة تحفز بالإيحاءات للمخيلة بلغة أنيقة وبصورة رمزية رائعة ففيها الكثير من العمق والدلالة، وهذه هي اللغة المتفوقة بعمقها الفلسفي والفكري بكون أسلوبها في المقاربة وبناء الجمل يتصاعد تدريجيا نحو الإضاءة ليشرق نوره بنص فائق المحتوى والشكل تظهر فيه (غادة السمان) مدى العناية التي صيغت هذه الجمل لتواكب هواجسها بشكل يستوعبها النص، رغم يقيننا بأنها تفوق النص لان عمق (غادة السمان) مليء بالهواجس لحجم معاناتها ومرارات التي ذاقتها من الحياة، رغم كونها بارعة في اصطياد وصياغة المعنى والتراكيب والجمل والدلالات .

***
قضيت عمري و أنا اهرب من لقائك
و حبيباتك يبكين أكاذيبك على كتفي
و كلما اقترب كوكبي من كوكبك
تحاشيت الصدام و غادرت مداراتك
عطلت ألغامك كنست النجوم التي تنثرها قصائدك فوق ثوبي
ظننت العمر قد مر بسلام بمنأى عن عواصفك المغناطيسية
ظننتني نجوت من سحر أكاذيبك حتى مستني عصا لقائك
و أدركت إن لا نجاة لي من بئرك و أفاقك و حرائقك
و جنونك و عذوبة أناشيدك الكاذبة ..
فلتكن مشيئتك أيها الشاعر جميل الكذب
لتغمرني مياهك المشعة المظلمة الغامضة ألف سنة ضوئية
لعلي أولد من جديد
ولادة حقيقية داخل كذبة ناصعة اسمها حبك

***
أتذكر دونما حنين
تنهيدة الراحة اللا مسموعة التي تطلقها من مساماتك
حين تكذب علي و أتظاهر - كاذبة - بتصديق أكاذيبك
و تتوهم انك ربحت جولة
و اعرف إنني خسرت حباً !

هنا تتكاثف آراء وأفكار وخيالات (غادة السمان) في صور عاطفية مفعمة بالمرارة ولكن يبقى حلمها الذي ترنو إليه كمحاولة لتنفيس عن مشاعرها عبر صور الشعر، حلم تبحث عنه في أغوار النص الشعري الذي تلجا إليه (غادة) لبناء صور جديدة مفعم بالحداثة ليوازي تجربة العاطفية التي تمر بها، لتصنع مناخا يتفاعل معه المتلقي لهذا النص (( قضيت عمري و أنا اهرب من لقائك
و حبيباتك يبكين أكاذيبك على كتفي
و كلما اقترب كوكبي من كوكبك
تحاشيت الصدام و غادرت مداراتك
عطلت ألغامك كنست النجوم التي تنثرها قصائدك فوق ثوبي
ظننت العمر قد مر بسلام بمنأى عن عواصفك المغناطيسية
ظننتني نجوت من سحر أكاذيبك حتى مستني عصا لقائك
و أدركت إن لا نجاة لي من بئرك و أفاقك و حرائقك
و جنونك و عذوبة أناشيدك الكاذبة ..
فلتكن مشيئتك أيها الشاعر جميل الكذب
لتغمرني مياهك المشعة المظلمة الغامضة ألف سنة ضوئية
لعلي أولد من جديد
ولادة حقيقية داخل كذبة ناصعة اسمها حبك ))، فهذه الاستعارة تعطي للمنطق يقينه بحالة الكاتبة وأجواء التي تتنفس من خلالها في صور القصيدة فتكثيف التراكيب اللغوية وطرحه بشكل حداثي يجعل من النص مدهشا لتعدد المعاني المطروحة لدرجة التي تصبح لدينا تفاعلا يجعلنا من الصعب أدرك الصورة المجازية التي استعير من الآخر نتيجة هذا التفاعل العميق بين صور والدلالات والمجازات الشعرية في وقت الذي نتيقن بان صورة في هذه المقطع هي صورة في ذاتها أي ذات الكاتبة، ((حين تكذب علي و أتظاهر - كاذبة - بتصديق أكاذيبك
و تتوهم انك ربحت جولة
و اعرف إنني خسرت حباً !))، بكون ما تطرحه هنا قد جاء من الفضاء الداخلي الذي تتحرك فيه (غادة السمان) وليس تشكيلا تزويقيا زائفا، لان جوهره يكمن بكونه تخطيط لسيرة ذاتية للكاتبة، فورود الكلمات بهذه العاطفة لدرجة الذوبان روحها في النص يحمل لنا مشاعر في جنون الإبداع تنساب داخل النص كما تنساب داخل ذاتها، فتتضوء جمالياتها في الكلمات ليفوح منها عطر الياسمين، نشم نسمته في المحتوى المتدفق بالمشاعر النابضة من عمق قلبها وعقلها، فتركيب الخيال مع المشاعر والعواطف عند (غادة السمان) تعوم بين التأمل والتداعي لترسم لنا نصا شعريا حداثيا بكل معاير الحداثية والمعاصرة، ففيه فيض من المشاعر نستشف منها عن بعد الذي تم انطلاقه عبر مأساة ومرارة الحياة وقسوة الاخر، فالإبعاد المخفية فيما وراء النص نلتمس خيوطها في سياق المأساة والمعانات واثأر الهزيمة، لأننا نقرا تأويلاتها ورموزها في النص كونها تنساب لرسم معالم الحب بما يذوبها في لحظة الانحباس وانطلاق عواطفها فتعترف بسلطة الحب وتعلن عنه في تراكيب النص والجمل (الشعرية – الدرامية) لان نص (غادة السمان) ينطلق بين الشعر والدراما وهي تتمازج بينهما من اجل تقديم أقصى تعبير عما يجوب في مكنونات ذاتها، ولهذا يأتي النص وهو مليء بالإحساس والشعور والشاعرية .

***
أنا " ألصوص " المسكين المحشور في ألقن الكبير
أكتب فروضي المدرسية في مديح ولي أمري
لكنني لا أعرف شيئا عنه حقا ..
ذلك الديك الأزلي
الذي سأساق إلى الذبح حين اكبر لتزيين مائدته اذا رسبت في مدرسة الكذب

***
يثرثر و يتوهم هراءه أمثالا و حكما و شعرا و روايات
القطيع يصفق و القردة تحمله على أكتافها
هو يكذب و هي تصدقه
هي تكذب و هو يصدق إعجابها به
فهل التكاذب المتبادل قصة حب تاريخية ؟

***
انظر ورائك تجد أغانيك مصلوبة على عمود الشعر
انظر إمامك ترى المدعي العام " يحشرج " ضد قصائد التفعيلة
تحتك كتب الإعراب الصفر فكيف تحلم بالنصر
و ليس إمامك إلا الحرية ..و الحرية …
بما في ذلك حرية اختيار حبال السيرك أو " حبال الهواء "؟

***
تمتدحين رجلا اذلك و قهرك و غدر بك و خانك
كذب عليك و كرهته حتى الموت موته الذي أنقذك منه ..
و ها أنت اليوم تخترعين له الفضائل و المزايا إكراما لابنكما
تحولينه الى بطل و تعادين كل من يخدش الأسطورة بقول الصدق
فقد كان في النهاية والد طفلك الذي ولد بعد موته بأيام !
لا تخافي ..سيتم تكريس الأكذوبة ملحمة بطولة
فكلنا يعشق حكاية حبه مع " الكذبة "

***
كل شاعر شهريار من نمط خاص
يقضي عمره و هو يكذب بصدق مفرط
لكنه يقص راس الحبيبة لحظة تصدق أكاذيبه
اعرف انك لست بحاجة إلي حقا
بل إلى كذبك الشعري الجميل
فلا تخشى مني يا حبيبي الشاعر
اكذب علي و انتحب إمامي و اطمئن
لن أخذلك يوما بتصديقي إياك
قل لي في الأول من نيسان انك تحبني
لو صدقت ليلى مجنونها قيس لكف عن كتابة الشعر لها
و لخانها مع حسناء الخيمة المجاورة
اليس حب الشعراء كذبة ملتبسة
يقتلها تسليط ضوء المعايير الأليفة العادية عليها ؟ ......))

نلاحظ هنا حجم التكثيف في المواقف الوجدانية والشعورية لنستشف بان (غادة السمان) كثيرا ما تلجئ إلى ابتكار الجمل القصيرة كما ورد في مقطع :
((يثرثر و يتوهم هراءه أمثالا و حكما و شعرا و روايات
القطيع يصفق و القردة تحمله على أكتافها
هو يكذب و هي تصدقه
هي تكذب و هو يصدق إعجابها به
فهل التكاذب المتبادل قصة حب تاريخية ؟))، ففي هذا المقطع -على سبيل المثال وليس الحصر- من قصيدة (الرقص مع البوم) تكتب جمل قصيرة تختصر فيها الكثير مما قد يذكر في عشرات المقاطع، فما تذكر(غادة السمان) هنا يكون على شكل ومضات خاطفه تختصر فيها صور كثيرة تبهر المتلقي لها ، بكون مساحة المكابدة التي تعيشها (غادة) وصدقها مع نفسها يجعلها دوما إن توظف الفعل لغاية (ما) وهذا يأتي من خلال ثقافتها وتجربتها الغنية بالمعرفة وبقوالب اللغة عبر المجازات والاستعارات والحوار مع الذات من اجل الوصول إلى اليقين بطرح أسئلة وحوارات المتضادة والمتداخلة لنلاحظ بان الفكرة من خلال هذا الطرح يفرز عنه ظلال المحيطة به وهو ما يكشف المظاهر الصاخبة للفعل ذاته كما في هذه الجملة:(( ذلك الديك الأزلي الذي سأساق إلى الذبح حين اكبر لتزيين مائدته إذا رسبت في مدرسة الكذب ))، فهذه الجملة لها ظل أخر إضافة إلى ما فصحت عنه، بان (الشاعر) الذي هو (الديك) حين ينتهي دوره في مدح (السلطان أو الحاكم) الذي هو كما تذكر((في مديح ولي أمري)) سيساق إلى المقصلة لا محال لان تملقه الكاذب قد فشل، لنكتشف من خلال جمل هذه القصيدة فيها إيقاع مترابط وراءه نسق تعبيري تذهب (غادة) في كثير من الأحيان في هذه القصيدة إلى تدوير الرمز للحدث ذاته لتفتح فضاء فكري جديد أكثر رونقا وجمالا مما سبق سواء في المعنى أو في اللغة ومعالجاتها، وقوام كل ذلك يكون النص مزحوما بالدلالات و رؤى أكثر عمقا بعد إن تبسط لغتها الرمزية لتفرغ مزيدا من خزينها العاطفي والانفعالي وشحناتها التي تعيد شحنها وتشكها على شكل إيحاء شعري وفي ذلك نذكر(( فكلنا يعشق حكاية حبه مع الكذبة .... كل شاعر شهريار من نمط خاص.. يقضي عمره و هو يكذب بصدق مفرط .. لكنه يقص رأس الحبيبة لحظة تصدق أكاذيبه ..))، فهذه الدلالات والرؤى وهو قوام الشعر عند (غادة السمان) كونها واثقة من مشاعرها ومسكونة بالأحلام مع انكسارات الروح، ولهذا فهي تنساق إلى الدلالة الخفية للبوح بها، لأننا نعيش عصر النفاق والكذب والاستحواذ والكيل بمكيالين لان الكل في مواقف (ما) يضع أقنعة، حتى أصبح اليقين بان الناس أصبحوا متعددي الأقنعة ليصبح العالم في نظر (غادة) مكان لاحتواء التناقضات وهذا ما انساق بها إلى النظرة التشاؤمية نحو العالم ولم تترد (غادة السمان ) من التعبير عنها بصورة متميزة سخرت الكتابة والكلمة، فكان لجوئها إلى (البوم) الذي يتشاءم منه الناش ولكن الناس لا يعلم بان هذا الطائر يتشاءم منهم بحجم جرائم التي يرتكبها ليس بحق ذاته وبحق بني جنسه بل بحق الآخرين من غير جنسه فيكون لها في ذلك هذا النص:

***
ولدت البومة في غابة الأقنعة
لم يستشرها احد : أي اسم تحب إن تحمل
إلى أي حقل تريد إن تنتمي
أي بحار تعشق و أية رياح تهوى
ولدت و اكتشفت البومة أنها جزء من قطيع لم تختره
عليها واجبات نحوه لا تروق لها
كالطاعة و القناعة و قبول الأكاذيب و المشاركة في المهرجانات
ولدت البومة " مفعولا به " لا "فاعلا "
و منذ ذلك اليوم و هي تعمل كي تتحول من مفعول به إلى فاعل
التيس الأسود الكبير يحاكمها و يقمعها و يضع على فمها الكمامات
يتهمها بخيانة كذبة …و يجرها من منصة الولادة إلى منصة المقصلة
و لكنها تعلمت كيف تتحول الى بومة متوحدة
تتقن طيران الليل و الحرية و تتحدى كذب قامعها
تلك باختصار سيرتها الذاتية!

***
تشبه حصنا اثريا مهدما تعبره الرياح من الجهات كلها
تزيده خرابا و هو مستسلم لكنه يباهي بمجده الغابر
أشبه بئرا خرابه جزء منه ...
يضمر خريفه و صيفه
و لا يسر بأغاني قاعه لغير الظلام الفسفوري المشع..
اتحسس عنق الذكريات
ما تزال شرايين الحب الغابر تنبض بإصرار
تشي بزمن الأحلام الكبيرة
لقد خسرنا الحب و الحرب معا يا صديقي فمن يعيد إلي اليقين بعد دهور
من الأكاذيب و الهزائم
و الانكسارات و العنفوان و الذل ؟
آه ليت حبك الكذبة الأخيرة و البكاء الأخير و الهزيمة الأخيرة ....

بهذا الصراع المرير تتواجه (غادة السمان ) هذه الحياة المليئة بالتناقضات والأضداد بين الحلم والحقيقة بين الخيال والألم، ولهذا دخلت عالم ألكتابه لتروي ظمأها الوجداني بكلمات لتبحر الشعر والقصة، فذاتها لا تصافح ولا تتصالح إلا بالكلمات التي تتسامى فيها مشاعرها وأحاسيسها فتتدفق بالاعتراف عن سلطة العاطفة وتعلن عن كل ما في قلبها كإنسانة وشاعرة وأديبة مبدعة تمضي بمشاعرها بعد طول العذاب والمعانات تطوي نفسها في الليل مغتربة فيتداعى تأويل والتأمل لظروف محيطها بكيانها وروحه وبعقلها ونفسها لتقارنها بطائر (البوم) هذا الطائر الهارب من الضوء ليحتمي بالليل مأواه بعيدا عن عالم موحش مفترس لا يعرف إلا لغة القتل والدمار والإبادة، فيغرق تصورها بهذا الاتجاه لتضع نفسها على إطراف الحياة في الليل كما يفعل (البوم) وهناك يعيش عالمه الحر - كما تعيش هي - تتقمص في الليل تراكيب الخيال لتشكل صورها في الحضور بصور شعرية ذات مباني فكرية وفلسفية وبمعاني حية تعبر في سياقاته أجمل الجمل تعبيرا وإحساسا عن قيم الإنسانية الضائعة بوحشية العالم وبتخلفه الفكري، فتزهو لغتها بنصوص إنسانية مفعمة بأحاسيس ومشاعر مرتبطة بمفاهيم فياضة بثقافة واسعة من الأفكار والفلسفة فيأتي سياق تعبيرها وفق هذا التسلسل الفكري للكتابة الواعية المتفننة بشكل متقن بين العالم اللاواعي والواعي فينسج خيالها مقارنات ومقاربات بين صورة وصوره لسرد أفكارها عبر طرح الأسئلة واستفهام، وكفلسفة يكمن أهميتها في طرح الأسئلة وليس الإجابة ...! فان (غادة السمان) تطرح الأسئلة وأسئلة محرجة جدا وتترك لنا حرية البحث عن جواب لها، فهل حقا نستطيع...؟
- اشك ....! لأننا كلنا متهمين....!
لأننا لا نقول الصدق وأننا نحمل أقنعة مزيفه ..(( ولدت البومة في غابة الأقنعة
لم يستشرها احد : أي اسم تحب إن تحمل ....))، وتمضي (غادة السمان) في بناء أفكارها الفلسفية بمفهوم المنطق، أي أنها تطرح مقدمه ثم مقدمة ثانية لتصل إلى نتيجة لا يمكن نفيها، وإذ جاز لنا تفصيل ذلك فان (المقدم الأولى) في النص المطروح هو:

((ولدت البومة " مفعولا به " لا "فاعلا "
و منذ ذلك اليوم و هي تعمل كي تتحول من مفعول به الى فاعل)).

إما (المقدمة الثانية) في النص هو:
(( التيس الأسود الكبير يحاكمها و يقمعها و يضع على فمها الكمامات
يتهمها بخيانة كذبة …و يجرها من منصة الولادة إلى منصة المقصلة ))

ليكون (الناتج للمقدمة الأولى والمقدمة الثانية) هو:

(( و لكنها تعلمت كيف تتحول إلى بومة متوحدة
تتقن طيران الليل و الحرية و تتحدى كذب قامعها
تلك باختصار سيرتها الذاتية!)).

هذا هو منطق الذي تبني (غادة السمان ) سياق الجمل لتجعلنا نصل إلى وقائع يأخذنا سياقه لغوص في منهج التحليل النفسي للرؤى المطروحة، فالثوابت الواعية في نصوصها امتزجت بالنص كل الامتزاج وعلينا التأويل والمقاربة تلك الثوابت لأنه يتحكم لفهم النص، لان غاية (غادة السمان) من ذلك هو إيقاظنا في عمق النص ومن الملاحظ هنا فان نقطة مهمة تيقظه فينا (غادة السمان) مع قراءة النص بان إحساسنا الذي يثير ويحزن ويتألم ويشمئز و يتعالى ويصرخ ليس إلا صدى لهذه اليقظة وهذا الامتزاج .

***
أنا تفاحة نيوتن
التي تمردت على قانون الجاذبية
و أصرت على السقوط الى اعلى !

***
أهدتني أمي مرآه سحرية ..
ارى فيها اين حبيبي و ما الذي يفعله سرا عني في كل لحظة اغيب فيها
و من يومها هجرت عشاقي جميعا
و اخترعت ابجديتي و حروبي المرحة مع المستحيل !

***
الحب لا يجعلنا روحا واحدة في جسدين
الحب لا يجعلنا شخصا واحدا
لا اريد ان تشبهني او اشبهك
و لا ان اتحد بك
و لا احب ان اكون صورتك في المرآة
و لا ظلك و لا عصفور زينتك في قفص ذهبي افتراضي
وحدة المسارين في الحب
ضرب من المحال ...
أحب ان اظل مقيمة داخل جسدي
كي اذهب اليك و افرح بلقائك
و ليظل حبنا غرفة لشخصين داخل ذاكرة
نلتقي فيها في اجازة من اشباحنا و انهياراتنا و فيضاناتنا و هواجسنا غير
المشتركة
الحب لحظة جمالية عابرة مترعة بأجمل اكاذيبنا
و لن نبني " تاج محل " جديدا لكل وهم عشناه
فلا تقترب كثيرا كي لا تصير بعيدا

هنا يتراقص إيقاع القصيدة بشكل مثير, أشبه ما يكون بمعزوفة صاخبة بإيقاع جنوني, فالنص يفيض بالإيقاع المدهش وبجمل قصيرة - كما ذكرنا - فالكلمات تتحرك بهدوء شديد ثم تتعالى لتثير دهشتنا ((أنا تفاحة نيوتن التي تمردت على قانون الجاذبية و أصرت على السقوط إلى اعلي)), مع أن النص في المجمل سريع الحركة وفق قانون الجاذبية أمام عيوننا, ولكن المشهد مع سرعته يجعلنا نركز في المعنى وفي التخيل والنتيجة، فـ(غادة السمان) الروح التي لا يمكن مسها ولا يمكن اتحادها مع شيء أخر، هي تبحث عن المطلق الحر واللا حدود وترفض تقيدها بالزمن فهي تعيش المعجز في حلمها الذي تراه بعين بصيرتها، يتحرك ضوئها بسرعة داخلية وإيقاع سريع في عالم مطلق فتصرخ بوجه من تحب (( لا تقترب كثيرا كي لا تصير بعيدا )) إن هذا التناقض هو في الحقيقة ليس تناقضا بقدر ما هو عشق حقيقي، ترغب بقاءه بين شد وجذب أو في حالة من الدهشة ليبقى تأثير هذه الدهشة عميقة في ذاتها، حقيقة إن هذا الحب هو (قمة الحب)، وهذا ما يدهشانا عند قراءة النص, فـ(غادة) هنا لا تطلب المعجزة أو تتمناها فقط, بل هي تريد ان تعيشها !
فهذا التوظيف في لغة التعبير عبر تراكيب الجمل القصير بما لها من موسيقى تحملها الكلمات إنما تقدمها (غادة السمان) من اجل استيعاب الدلالات وبما تحملها من معاني عميقة ومؤثرة بعمق وتأثير تفكيرها، فالنصوص هنا مترابطة بشكل متقن ما بين المعنى والدلالة وعلى ضوء ذلك يتحرك النص أفقيا وعموديا ومن خلال التخيل والتصور والإدراك الحسي وهذا ما يعطي للنص جماليات إضافية في روح النص ذاته لان (غادة السمان) تبني نصوصها وفق الأسس النفسية فتستعين بأساسيات البلاغة في التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية ومن الرموز والأساطير، فتطرح صور (شعرية – درامية) منبثقة من عمق ذاتها ومتصل بالجانب النفسي لها، فـ(غادة السمان) تطرح ذاتها في هذا النص - وكل نصوص الرقص مع البوم - من خلال (الصور) وهذا ما نلاحظه حجم تكاثف (الصور) في عموم (الرقص مع البوم)، ولهذا فان هذه (الصور) هي ملامح الأسلوبية لـ(غادة السمان) التي تتميز بها، وهي خاصية يلتفت اليها القارئ لنصوصها بكون ما تورده من صور مبتكره غير مستهلكه ولم تطرح وتثير الدهشة والانبهار وهي تقنية (غادة ) في إثبات بكون نصوصها حداثية ومعاصرة بكل المقاييس، ولهذا فهي ممن ينفرد في الحداثة والمعاصرة بامتياز .


***
أهرب منك الى الحبيب الفرنسي
فحبك شرفة على مقبرة بيروتية
و انا اريد ان انسى لا ان اتذكر
تعبت من تجميدك للحماقة و تغزلك بالطيش
تعبت من مذابحك و مباهاتك بغبائك الذي يتناسل ملقحا ذاته
و تبجحك بتاريخك مع تاريخ يعيد نفسه بكل رعونته
تعبت من ميكروفوناتك و مهرجاناتك و كذبك الذي تصدقه
و اتهامك لي بالخيانة اذا لم اصدقه ..و ادعائك البطولة...
و لن اقيم بعد اليوم في خيمة تتوسط ساحة حروب
لم تعد تخصني
تعبت من دور القاتل و القتيل و الشاهد ايضا
و ارفض ان يلعب المجرم دور القاضي الذي يحاكمني كل يوم..

فـ(غادة السمان) هنا تعكس تجربة الحب الذاتية التي عاشتها لتكسب القصيدة دلالة في ظروف النفسية التي أحيكت فيها فأرهقت مشاعرها وانفعالاتها بالحالة التي أحست باضطراب نبضات قلبها وروحها وهي تعيش الغربة والنفي والوحدة والحرمان فهي وان كانت تحاول الهروب من موقعها الأولى تحت ظروف قاهره، ولكن تجد نفسها هاربة من منفاها إليه دون إرادتها، وهذا التناقض التي تعيشه يأتي بقوة الحب وانفجاره الذي يفجر أعماقها ويقينها بالغموض الذي ضجرت منه ومن الأعيب وكذب والخداع الآخر لذا فهي تصف الحب في ظل من أحبته بقولها : (( فحبك شرفة على مقبرة بيروتية
و انا اريد ان انسى لا ان اتذكر))، فقلبها ينفر من حب لا تجد فيه إلا بكونه إطلالة على مقبرة، ولهذا فان قلبها لم يعد كما كان بعد أن استنفذت تجربة الحب أثرها، وبعد إن تعبت من حماقات الأخر وأكاذيبه ومباهاته بغبائه وتبجحه وكما تقول في واحدة من اقسي نصوص (الرقص مع البوم) وكأننا إمام مشهد نرى البطلة ثائرة تصرخ بوجه الأخر بكل غضب وبانفعال محموم في مواجهة عنيفة وبصوت عالي تعصر أوتاره وتصرخ قائله:
((تعبت من تجميدك للحماقة و تغزلك بالطيش
تعبت من مذابحك و مباهاتك بغبائك الذي يتناسل ملقحا ذاته
و تبجحك بتاريخك مع تاريخ يعيد نفسه بكل رعونته
تعبت من ميكروفوناتك و مهرجاناتك و كذبك الذي تصدقه
و اتهامك لي بالخيانة اذا لم اصدقه ..و ادعائك البطولة...
و لن اقيم بعد اليوم في خيمة تتوسط ساحة حروب
لم تعد تخصني
تعبت من دور القاتل و القتيل و الشاهد ايضا
و ارفض ان يلعب المجرم دور القاضي الذي يحاكمني كل يوم..))، هكذا تحزم أمرها بوضع النقاط على الحروف، فالصورة الشعرية هنا خلق روحا جماليا مبتكرا بشكل متقن معبر ومشحون بالعاطفة والإحساس المرهف، وقد جرى تمثيله تمثيلا رائعا بالمعاني ومبتكرا بالصورة الشعرية مما جعله صورة مرئية معبره بكل المقاييس التعبير الجمالي والروعة .

***
اذا كنت تعرف رعشة الكوابيس الاستثنائية
حين تطير بين قارة منتصف الليل و قارة الفجر ...
اذا كنت تصغي بمساماتك قبل اذنيك
و ترى باصابعك حين تتحسس جسد التحليق
و تصافح حزني بأنفاسك ..
اذا كنت تقرأ بشفتيك رعشة صوتي
تصير جديرا بالانضمام الى طيراني البومي الليلي .

***
لا تطلبي الكثير من حبيبك الشاعر
فصخور الشواطىء لا تتذكر وجوه الغرقى كلهم
و لا أجساد الذين لفظهم البحر على اعتابها
و لا ملامح السابحات العابرات و المقيمات
صخور الشواطىء لا تميز بين القتلى و المنتحرين و الشهداء
فلا تكوني شهيدة حب شاعر
بالنسبة لصخور الشاطىء
هنالك اللذين مضوا و اللذين بقوا و هذا كل شيء !

فبعد عنف المواجه وتحديد موقفها ورفضها لكل سلوكيات الشاذة والمنحرفة لكائن من كان، تعود (غادة السمان) بثقة واتزان إلى ذاتها لان مبادئها في الحب هو يقينها بكون الحب بناء ليبقى، بناءا متماسكا لا ينهار في أول خلاف أو حاجز أو شجار، لان عمق الحب الصادق والحقيقي هو الاستمرار والانتصار مهما كان الألم أو الحواجز أو العوائق، لان الحب هو التحدي.. والمواجه.. والاستمرار.. وهذا هو يقين (غادة السمان) وفلسفتها في نصوص (الرقص مع البوم)، وفلسفتها هو النضال من اجل الحرية ليتم إزالة المكبوت ولا يمكن الوصول إلى ذلك دون تنقيب والبحث عن معانية الفلسفية ومراميه النبيلة، نعم إن يقين (غادة) في الحب هو الاستمرار إخلاصا له، ومن يخلص للحب لن يخسر رغم ما يتم لمن يؤمن بعالمه إيمانا مطلقا، كإيمان (غادة)، فانه لا محال سيدفع ثمن ذلك من القلق النفسي والاغتراب والسهر والعذاب و الآلام، ورغم كل ذلك فالمخلص للحب يفهم الحب لذاته، ويضل يغني به ليل- نهار، ولهذا فان نص الحب عند (غادة السمان) يبقى يستقصي في (الرقص مع البوم) كل مساءل الحب بعواطف والانفعالات إنسانية مرهفة يبحر في رموز والدلالات والأسطورة تتخللها نصوص القصيدة لتحتمل كل الاحتمالات الممكنة في التحليل النفسي لمسالة الحب. فنصوص (غادة السمان) هنا ترتقي بنصها الشعري لغاية إثارة (الدهشة)، فهي تكسر أفق المتوقع، وما ممكن إن نتوقعه، ولكن فجأة تصدمنا بمعنى معاكس تيقظ وعينا في محمل رؤيتها لسياق الجملة بقصد إثارتنا في أفق التي تبحر هي فيه، لتأسس لنا أفق جديد نبحث عنه عبر ملتقى من المعاني الجديدة، فالحب ترفضه بسياق جمع (كم واحد زائد واحد يساوي اثنان)، هذه المعادلة لا وجود لها في ذات (غادة)، لان شخصية كل طرف تخالف الأخر وهذا الاختلاف هو نقطة الشد والجذب والتجاذب والتنافر فيما بينهما، لان الحب هو حالة الشعور بالوصول المحال والزورق الذي يبحر ويتجه بعكس الأمواج ولا يعرف الاستقرار، فهي ترفض قراءته بلغة الحروف و وضع النقاط عليها، بل تحب إن تقرأه بلغة الرموز والإيحاءات والدلالات والدخول إلى أفق مفتوح، أفق الحرية والفضاء المفتوح لتتجاوز كل المعاير المثلية في الشكل والموضوع، ليكون سفرها كسفر الرياح بلا اتجاهات أفقيا وعموديا على ضوء نظرتها الكلية تشمل كل الاحتمالات إلا العبودية، فإيحاءات النص يكمن فضائه من خلال الإطار العالم للنص .

***
ولدت مرات عديدة
ولدت على عامود احراق الساحرات
ولدت في الصحراء في حضن السراب
ولدت في صدفة في قاع البحر
ولدت على غصن شجرة له افعى و تحته تمساح و مستنقع
ولدت في العرس
ولدت في المقبرة تحت الثلج
ولدت على عتبة محكمة تفتيش
ولدت في القطارات و الطائرات و قاعات ترانزيت المطارات
ولدت في العصر الحجري
ولدت على شاشة الانترنت
ولدت ألاف المرات و احترقت
و خرجت من رمادي لأجرب موتا جديدا كل مرة
و حين تضم امرأة عربية الى صدرك
بين ميتة و اخرى من ميتاتها
فانت لا تضم اليك امرأة
بل تاريخ مجرة
من المباهج و الاحزان و الاستمرارية رغم كل شيء

***
كان حبنا سلسلة من المرايا المحدبة و المقعرة
نرى فيها وجهينا و تاريخنا مع حبنا
و حروبنا المرحة و شجاراتنا الهزلية و غرامياتنا الطريفة الباكية …
فقط في قمر الفراق وجدنا مرآة الصدق
و لمحنا وجهينا الحقيقين
و ضحكنا حتى البكاء لحروبنا المرحة :
في الحب للجميع وجه مهرج نصف فاشل


الإيقاع الداخلي في هذه المقاطع تمنح القصيدة (الرقص مع البوم) جرسا موسيقيا نحس ونلتمس مشاعر واحاسيس الكاتبة أثناء قراءة النصوص، وهو أمر يتوارد في عموم مقاطع القصيدة وغالبا ما تراهن عليه (غادة السمان) في قصائدها النثرية على هذا النمط من الإيقاع لتضمن لنصها النثري الثبات والاستمرارية لدى متلقيه - وهذا التوازن يتم ضمن القصيدة - ومن أمثلة الإيقاع الداخلي على مستوى تكرار الحروف الوارد على نحو((ولدت مرات عديدة ..، ولدت على عامود.. ، ولدت في الصحراء ..، ولدت في صدفة.. ، ولدت على غصن.. ، ولدت في العرس..، ولدت في المقبرة.. ، ولدت على عتبة.. ، ولدت في القطارات.. ، ولدت في العصر الحجري..، ولدت على شاشة الانترنيت..، ولدت ألاف المرات و احترقت....))، فهذا النمط من التكرار يكشف لنا قوة الانتقاء و الاختيار الذي تعتمده (غادة السمان), لضخ المعنى الفلسفي في ثنايا القصيدة وبغية من الكاتبة للانتباه وتركيز على هذه الجمل ليتسع تأويلات المراد منا، ليتم تسلط الضوء عليها بكونها تمثل عند الكاتبة مركز الإشعاع في الدلالة وإيقاع داخل النص، فمن خلال هذا الإيقاع تركب الجمل بالانسجام داخل النص لأنه في مضمونه يقوي الإحساس بوحدة النص الدلالية وتصبح الكلمات الواردة مفاتيح لا يمكن التغاضي عنها أو تجاوزها في القصيدة .

***
احزاني تاكل اظافرها في العتمة
مثل صبي خجول في ركن باحة مدرسة الأيتام
اتستر على احزاني
مثل سكير يتستر على رائحة انفاسه في ماتم والده

***

كبومة عاشقة اشتعلت بك و بأبجديتك حبا …
فسحرتني و حولتني الى سمكة
كي ارحل في مجاهل بحار جسدك
سحرتني الى سنونو كي اظل اطير خلف ربيعك
سحرتني الى نملة كي اظل اجمع قمح قصائدك
سحرتني الى غزالة كي اظل اطاردك في براريك
حين سئمتني سحرتني الى خفاش
كي اقف راسا على عقب و اصدق اكاذيبك كلها
ثم سحرتني الى غيمة
و قلت لي امطري بكاء حتى التلاشي
لكن سحر شعب البوم حولني من غيمة الى صاعقة حارقة
و الآن جاء دورك للاشتعال بصاعقتي
جاء دورك لتقاسي غصات الغرام ببومة !
و لتطاردها في دهاليز زئبق الليل و الظلال
و العوالم الممدوة على تخوم هلام الحقيقة و صخور الوهم …
فاهلا بك في الجحيم البومي الجميل ...!

***
لانها تخشى سطوة التقاليد
و لا تغادر عشها لطيران الليل السري
و لانها احبته استقبلته في احلامها مرات
و عاشرته بجنون كبتها
و عاشت معه كل ما تشتهيه و تخجل منه في آن
لم يدهشها بعد ذلك ان تكتشف
انها حامل من دون ان يمسها بوم !

المتناقض هنا يصبح شرط الاتصال بالمستحيل على ضوء تركيبة علاقات واستبدالها بعناصر منفصلة بالأضداد لتفتح النص مع ذهن المتلقي لفضاء يبحث فيه عن عملية تواصل في خضم صراع مع الحضارة فـ(غادة السمان) تفيق كإنسانه على حرارة مشاعرها لسبك كلمات الشعر تستحضر تفاصيل كثيرة مما تشعر به و مما عانته فتدفع كل ذلك المخزون في الذاكرة لتناظر بين المعقول واللا معقول وهي تذق اللسعات ما بعد اللسعات على حرارة مشاعرها ويقظتها فهي الشاهد العنيد على المواقف كانت فيها ذات يوم مأخوذة بالعشق ولكن اللسعات حولتها كما تقول : من ((غيمة إلى صاعقة حارقة، و الآن جاء دورك للاشتعال بصاعقتي.. جاء دورك لتقاسي غصات الغرام))، فغادة تستيقظ على الوخز، ومن الوجع تقذف بالصور الشعرية، تخرجها قريحتها المفزوعة من الحياة لتشتعل ذاتها وهي التي تضغط بمشاعره بهذا المدار الفوضوي العارم من الإحساس ومن دوامات متتابعة، لتفاجئنا جمل وعبارات (الرقص مع البوم) التي تضيء لنا بومضات، فضاء مثقل بغيوم وبعواصف....!، وبقدر ما تحرك مشاهد الكتاب تحرك مشاعرنا باتجاهها ونسترجع تلك اللحظات التي عاشتها(غادة السمان) بعيون محترفة التصوير في واقع الصور التي نراها في الكتاب وكأنها لحظات الاسترجاع حقيقية في وسائط التعبير في اللغة الحداثة الشعرية، وبقدر ما تدفعنا كلمات هذا الكتاب إلى الإمام فان صوره ترمينا إلى الخلف لنستشرق بحجم العواطف المكبوتة في أعماق (غادة السمان) عندما تبوح التعبير بمكنوناتها الذاتية بهذا الشكل الجريء المطروح.
فالحزن.. والليل.. والغربة.. والإحساس الملتهب.. والغيوم المتلبدة في الصدر.. و زمن الذات خارج سلطة الرقابة.. هو ما ينضج إبداعها في لغة التعبير التي تختزل جرأتها وحريتها بصدق وشفافية تتكامل إبعادا لحظات التعبير، فتنطلق المفردات بالحداثة والفرادة والمعاصرة بكونها تختزل الكثير المفردات في لحظة اشتعال إحساسها بالغربة، فترسم رؤاها بما يبوح مكنونات ذاتها وهي واعية بما تشهق وبما تتألم بمحسوسات محيطها، فبقدر تعسس (البوم) في محيط الظلام والليل، فان (غادة السمان) تتعسس بمحيطها في كل لحظات وعيها واستيقاظها، فترسم ألامها ودهشتها لتعبر بصدق بذات واعية تدرك محيطها ولكن لا تستطيع تأقلم....! لذا فهي تهرب إلى الإمام لتلجا إلى الليل لان ما من احد يواسي الآم غربتها سواها وهي متمسكة بوعيها معتزة بإنسانيتها وهي تواكب كل تغيرات التي تشهدها الأرض التي أرغمتها إلى الغربة بإحداث سياسية واجتماعية ودينية تتقاطع بما تؤمن بالتعدد والتنوع المجتمعي والحرية، فالغربة وظفت مشاعرها باتجاه ما يغترف في الوطن ليكون نزيف التعبير في لغة الكتابة هويتها المبدعة والمتميزة عبر مفردات قادرة ان تفصح في لغة المخالب لتصيب الهدف بدقة متناهية كما تصيب البوم إثناء الاصطياد، فلغتها تواكب إبداع ذاتها مع الحياة والحضارة والكون لان ذاتها تبقى مستيقظة في الأنا الإنسانية المعبرة بكل ميولها وتجلياتها و تشظياتها عن قيم الإنسانية والحرية .

***
قضيت عمري و انا احمل القلم بيد و الكفن بالاخرى
و انا احمل " الكلاشنكوف " بيد و الوردة باليد الاخرى
و انا احمل جواز سفري و ذاكرتي بيد
و بطاقة الطائرة و امنياتي بيدي الاخرى
الآن اريد ان ارمي بذلك كله الى البحر
و اعانقك باليدين معا

***

انا قطرة حبر صارت غيمة زرقاء
طاولتي من ورق سريري من ورق حبيبي من ورق
حين اموت سيكون كفني من ورق و تابوتي من ورق
و حين تبكيني ستنتحب على الورقة البيضاء
اكراما لعمر مشترك من الخبز و الملح و الورق

***

غازلني الصفر و قال لي انه اهم من الارقام كلها
قلت له : انت لا احد بدون سواك
قال لي : انا العاشق الازلي …لا اصلح لشيء بدون حبيبتي
و لذا انا الاهم و الاعظم

الإشارات البارزة في النص (غادة السمان) تكمن في خاصية عرض مقدمات لإعطاء قيمة للنتيجة تكون كحاصل تحصيل لها وحتمية لا تنازل عنها، هي رغبة الذات في (الحب ) فكل نصوص (غادة السمان) تطلق من هذه التقنية التي تظهر بوضوح كبير في قصائدها النثرية لأنها تمنح اللغة سطوعها الفلسفية والشعرية عن طريق خرق البنية التركيبية لتوليد طاقات تعبيرية تنسجم معطياته مع ما يتيحه النص النثري من دلالات، ويمثل تكثيف الصور من سمات كتابة النص في (الرقص مع البوم) وهو ما يتخذ عنه كانطباع أوليا لأي تحليل لهذه القصيدة ليكون بمثابة هوية النص عند (غادة السمان) والذي يكشف الوجه الآخر للقصيدة من التخيل والتأمل والدلالي المتعاطية في روح النص والتي تستنفر فيها الإحساسات الروحية لبلورة رؤى وأفكار (غادة السمان) التي تشير إليها النصوص بأصابع التأويل، وكما سنشير هنا إلى ذلك في النص:
(( غازلني الصفر و قال لي انه اهم من الارقام كلها
قلت له : انت لا احد بدون سواك
قال لي : انا العاشق الازلي …لا اصلح لشيء بدون حبيبتي
و لذا أنا الأهم و الأعظم ))، فهذه هوية النص التي هي من سمات الحداثة بإحداثياتها التي تمهد المعاصرة في النص المقدم في (الرقص مع البوم) فنسيج الكتابة من حيث التحليل والمقارنة يؤسس في مجمله الحاسة المتمردة المتحدية القادرة على اختراق اليأس والموانع والطرق المغلقة والممنوعة من الدخول، مما يعطي لها عنوان برؤية نافذة لها القدرة على الحضور والاستمرارية .

***
قالت البومة:
كلما سمعت كلمة حب شهرت مسدسي
فما من كلمة اكثر التباسا …
الحب ؟ عش من العقارب مغطى بالبنفسج و الفل
مصيدة فئران تحت العشب الحي المتوهج
مستنقع رمال متحركة متنكر في زي بحر
قال الديكتاتور : كلما سمعت كلمة ديمقراطية شهرت مسدسي
قالت الصبية العاشقة : كلما سمعت كلمة حرية
فتحت نوافذ قلبي للعصافير وضوء القمر و الريح
قال الشاعر : كلما سمعت كلمة فراق فرحت
فذلك يعني لقاء مترعا بالجنون مع ابجديتي
حبيبتي وحدها تقف عائقا في وجه الحب و الشعر !!

***

أأنا البوم الوحيد لتلقى تبعات الهوى على كتفي ؟
نعم انا واحدة من رعايا الجنون و الاشواق
وريثة العشق العربي من قيس الى ولادة
نعم ثمة زلازل تسري في دورتي الدموية
مع طلوع البدر فوق جسدي الصحراء
و هيجاء محيطات السندباد
و تدليك علاء الدين لمصباحه السحري
و لكنني عاجزة عن الوفاء لمن غدر بي
و لا اتقن حياكة اردية النسيان و لا قطبة الغفران
أأنا البوم الوحيد لتلقي علي تبعات غدرك على كتفي ؟


هنا نرى كيف إن (غادة السمان) توظف (الحب) و (الحرية) بتنظيم خطوط الصور داخل النص بمقدامات لتصل إلى النتيجة فيكتمل التكوين في محيط هذا البناء السلس والمتدرج نحو الأفق، فاختيار المفردة قد جاء في هذا النسق و له فعاليته في عملية التلقي نحو الفضاء الواسع بالحرية ليشكل البناء إيقونة مجسمة بالاندماج النص في كليلة واحدة لا يمكن الفصل بين المحتوى والمضمون، فكل أيقونه في النص تشكل محورا لهدف واحد وهو (الحب) و (الحرية)، فهنا نلاحظ كيف الدلالات تتصاعد في البناء لتثبيت الرؤية عند المتلقي فتساعده للوصول إلى المعنى بلغة حديثة لها إيقاع سلس بكلمات شفاف وكأنها مرسومة برسم توضحي لنصل إلى محتواه بالحداثة ذاتها وهنا يكمن قيمة النص عند (غادة السمان) بكونه نص حداثي يحدث الرؤية إليه شكلا وموضوعا، لأنه نص يمكنه عند قراءته في استعادة الزمان في لحظاته وكأنه يرمم الذاكرة في تلك الإشارات التي خلدت في الروح فتسقط الرؤى عليها لتشكل ومضات تيقظ إحساسنا بومضاتها فنمضي معها .

***

سجل الليل في محضر تحقيقه مع حبنا
العلامة الفارقة : عاهة الملل!

***
لا اريد تبرئة نفسي من مدن قلبي
و من كل ما عشته و ما لم اعشه و ما ساعيشه
لا اريد تبرئة نفسي من مخالبي و تخويفي لمثقلي الضمير
و لا من حكايا حبي و اناشيدي الليلية
اريد فقط تبرئة نفسي من جريمة هدر العمر بلا طيران ليلي
فانا لم اسفك دم اللحظة
و عشتها " بتبويم " و امتلاء من كل لحظة
و رقص ريشي بطرب للحياة
في صيف للحب و صيف للنسيان
و انتحب ايضا كما لم ينتحب عصفور آخر
ما من جريمة تعادل جرم ان تعيش بومة من دون ان تحيا حياتها

هنا صورة النص الشعري عند (غادة السمان) يفرز من خلال جوهر النص الشعري الحقيقي، فعبر تسجل تجربتها والحالة التي تعانيها وتقاسيها تجئ صورها مدهشة وملتهبة، فالصورة الشعرية التي وردت هنا ما هي الا مظهر من مظاهر خصوصية الكاتبة الفنية وهي التي تفرز وتحدد على مدى قدرتها على الابتكار والخلق، وهي من عناصر تكوين في تجربة النص المتميز فنيا وسط سياق القصيدة ، فتهب في إن واحد وسيلته وغايته في روح النص، فالابتكار والإبداع في خلق الصور هي من سمات القصيدة المعاصرة الحداثية ببصماتها الفنية، وهي هنا جزءا من أسلوب (غادة السمان) الذي تتميز بها برفضها التجاوز والاجترار الزائف فجـاءت صـورها مفعمة بالحيوية وبالمشاعر الفياضة ، لأنها تتبنى مبادئ الصدق وقول الحق ورفض الكذب والتملك الزائف وتبحث عن حريتها وحرية المجتمع ، لذا فان مظهر الخيال المتفنن عند (غادة السمان) هو ذاك الإلهام الذي يعتبر عن نضج القيم من تحصيل وتفكر لتعبر عنها بشكل غير متوقع عبر قراءات وتأملات ومشاهدات و معاناة، وقد انفتحت هذه القصيدة (الرقص مع البوم) كقصيدة حداثية على الصورة الشعرية المليئة بالمعاني ودلالات ورموز والإيحاءات لا يمكن تجاهلها والمرور عنها مرور الكرام – كما يقال- ففضاء هذه القصيدة أنتج عالما رحبا مليئا بالصور الشعرية التي تنطلق التعبير منها وهي تدور في فضاء متعدد الاتجاهات، انطلاقا من الهواجس الذاتية إلى التأمل الكوني المطلق بالموضوعية، متخذة من سمة التجربة الذاتية التي تؤلف بين الموجودات المتنكرة إلى صور موضوعية فكرية تدهش ذوق المتلقي والثقافة الجمالية .

***
وحده البوم يعرف
ان العبير هو اسلوب الوردة
في التعبير عن وحشتها

***

ولدت في دمشق
واشتهيت فقط ان اسمع صوت الطيور
فطرت الى بيروت
ثم اشتهيت ان اسمع صوت طيور البحار كلها
ومن يومها وانا اطير
تلك حكايتي باختصار وبالتفصيل !

***
لطالما أعلنت حكمتي
وأكدت إنني لن اخلط بين الرسالة وساعي البريد
ولكنني اعترف انك قتلت قدرتي
على الحب حين مت في قلبي
وكنت قبلها الرسالة وساعي البريد في آن
وها أنا أطير خلف النسيان في الليل الباريسي الجميل
وأتابع (تبويمي) حتى ينام الليل فجرا .. ولا ينام جرحي

في هذه النصوص تأخذنا (غادة السمان) إلى استثنائيات في جمع المعنى في مقاربات الصور فحينما تقول ((وحده البوم يعرف ان العبير هو أسلوب الوردة في التعبير عن وحشتها ))، فهذه المقاربة تتجه إلى أفاق لا حدود لها في الحرية والتي تبحث عنها، فالمفردة في جملها تأتي في المعنى ليس كما هو، بل بصور تأويله على كل الاتجاهات الساعية باتجاه (الحرية) و (الحب) ليتم استكمال ما يمكن التكامل معه، فـ(غادة) لا تتعامل مع الحدث بل تنشئه، فـ(الليل) و(البوم) و(الحب) و(الحرية) هي مدارات القصيدة (الرقص مع البوم) ووعاء التعبير الكلي في بنية هذه القصيدة التي تفتح أفاقها الرحبة نحو كل الاتجاهات بمشاعر الضاغطة في وجدان (غادة) لتتنفس بعمق الليل وصمته.
فالنص هنا يفتح أبواب الإرهاصات نلتمسها في عنفوان الكلمات ومفردات ورموزها ودلالاتها وفي هذا التمحور البلاغي تفصح (غادة السمان) عن مشاعرها الهائجة لإثبات عن حالة الغربة المثقلة على نفسها بالآهات والتعب والأرق والألم لإثبات ما هو قائم في أعماقها من حب وحنان للوطن، وضمن هذا الأفق هي تمد الرؤية على مساحة اللغة للبوح عن حالة الصراع النفسي التي تعيشه في خضم ما تفرزه غربة المشاعر بين الروح والجسد، فالصراع الذاتي القائم ما بين مشاعر الندم و بين مشاعر القرار ولا مجال إمامها لتردد لان صهوة الارتحال لا بد إن تمتطيه وهي متيقنة من مشاعرها بان مداد الحنان في ذاكره سيختصر الزمن والمسافة للوصول إلى ربوع الوطن متى ما أغرقها الشوق والحنين لان مسافته مهما طال فان أناملها لقادرة على تحريك مداد القلم لتعبير فوق صفحات الأوراق، وان وجدها ونار أشواقها لقادر على اجتياز الموانع لإيصال رسائلها البريدية ليس عن طريق ساعي البريد وإنما عن طريق نشر قصائدها حيث تختصر فضاء الزمن والمكان، لان قراءة الغربة في ذاتها يفصح ويؤشر في أعماقها بخط عريض وبلون احمر، فلا التعايش والآلفة والاندماج في مدن الغرب قادر على فك الارتباط عمق الحنان وقلع جذورها من ارض الوطن، ولا شيء يجبرها على ذلك لان وطنيتها فوق أي اعتبار، لان الغربة لا يمكن تحديد أطرها ما لم تعيش مفرداتها و (غادة السمان) عاشت وتعيش هذه المفردات، فالكيمياء السام الذي تفرزه الغربة في جسد المغترب لا يمكن إن يفهم ما يفرزه من مشاعر الألم والعذاب وانحسار واعتصار الروح مهما حاولنا الإسهاب في وصفها، لذا فان ما يجوب في عمق (غادة السمان) وما تعبر هو إنتاج لهذا الإحساس الذي يداهم أعماق ذاتها، فهي تفهم ما يجري في أعماقها ولهذا تأتي بمفردات لا تشابه مفردات ولا صور تشبه صور النمطية والاعتيادية، هي مفردات وصور ثائرة ومجنونة تنبثق من الوعي متفجرة متمردة باحثة عن الحرية وعن الحب والانطلاق لا يعيقها شيء رغم قسوة المعطيات وظروف وهي أبواب فتحت كتاباتها للحداثة والمعاصرة بكل خطوطها وفهمها .

***
مات العديد من الذين أحببتهم مرة
مات مرات على تخوم قلبي
وكنت ارفض ان اصدق
وأغلق عيني كأية بومة يؤلمها التحديق بالشمس
وليلة فتحت عيني
شاهدتهم يتساقطون واحدا تلوى الأخر من طائرة عمري
وما زلت احلق وما زلت قبطاني!

***
كم يشبه حبك الموت يثقب قلبي ليخطف أنفاسي
يثقب ذاكرتي ليمسح كل ما فيها قبله
يحتويني بلا شريك
وسرعان ما ينتقل إلى سرير "محتضرة" أخرى؟
كم يشبه حبك الأطفال
متغطرسة ويبكي بلا مبرر ويضجر سريعا !
بعيدا عنه أطير.. بحثا عن صيف للنسيان في باريس...!

فالماضي عند (غادة) يتداخل مع الحاضر بل إن الحاضر يستغرق في ألماض ورغم الإشارات الزمنية المعاشة في حاضرها وتكاثفها في النص ولأكن تبقى أسيرة الماضي بكونها مع وفاق مع ذاتها بكل ما يشمله من حب ومن رسائله التي تفيض في أعماقها وهذا ما يفسر ارتباطها بمكان الماضي والرجوع إليه ليكون ذلك الماضي الجميل رهين لمبادرة ذاتها المعبرة والمتكلمة، ويقينها بان واقعها قد تغير وانه يأخذ حيزا من اهتماماتها ولكن واقعها مليء بالمتناقضات في إحساسها له ومن خلال ذاتها وحالة التي تعيشها من الانعتاق ومن الغياب ومن ضجر المكان الذي لا تجد فيه الراحة والتي يسبب لها الأرق والاضطراب، ولهذا تتمنى إن تكون كـ(البوم) لتعيش في الوحدة وسكون وهدوء الليل بعيدا عن الضوضاء والضجر هي رغبة في الانعتاق مما هو حاضر وهذا ما يسلب حضورها نحو الماضي وطفولتها في حارة دمشق القديمة، هو هذا لارتباط العميق في الذاكرة في مكان الطفولة الأولى حيث الألفة والمحبة ولهذا فان الخيال يستعيد ذاكرة إليه حينما تبتعد عنه

***

انتمي الى قبيلة الضوضاء والغبار والضباب والثرثرة
لا شيء صلبا سوى لحى الأجداد
ولذا نتمسك بها
ونتدلى منها مثل الخفافيش المعدنية
في الليل الفضائي للألفية الثالثة!

***
حبي الكبير! اه كم عذبني
تخليت لأجله عن أهلي ووطني
حبي الكبير اسمه الحرية
اما هديته لعشاقه الكثر مثلي فهي مقصلة الغربة!

نستدل مما تقدم بان النص عند (غادة السمان ) مشحون بالدلالات والرمز والإيحاءات - كما قلنا سابقا - ويأتي كل ذلك بلغة تعبيرية مخملية شفافة نابعة من أعماقها وهي تعبر بكل ما يجيش في خواطرها، وهذا ما يميز نص عند (غادة السمان) بكونه نص جماليا التعبير ولغة ناضجة ببلاغة وعمق الرؤية و روعة التواصل والحضور، فهي لا تصنع التعبير بقدر ما ينطلق التعبير من خلجات ذاتها بلغة المغالب كإنسانة متمردة تتحدى الظلم وتواجه الغادر بشراسة الكلمات والتي تنساب بعفوية لحجم ما عانت وما ذاقت من مرارة وبؤس الحياة و من المتاعب والمصاعب، ولكن بصبرها وقوة إرادتها وتحديها وعدم الاستسلام وقوة إدراكها العميق و لثقافتها وإمكانياتها الفكرية والفلسفية استطاعت ببراعة ان تقولب كل تعبيراتها عن الحالة تلك وهذه إلى الكلمات عبر فن اللغة وصناعته فأتي تعبيرها عبر ربطها ما بين الفكر وماهيته وبين الذات وينابيعها وهذا ما اخرج نصها بلغة الإشارات الرمزية وبالمعاني المضمرة وبالأسلوب المختصر بكون موضوعاتها تمزج ما بين الذات والقضايا العامة وبإبعاد إنسانية، ليتشكل نصها من خيوط النسيج الشعري والروائي لوحات إبداعية وترانيم تتمازج معا لتتألف بمضامينها وموضوعاتها نشيدا جماليا يملئ في طياته هموم الإنسان الباحث عن الحرية وعن الوطن وهي تعيش ألغربه ليكون نصها هو الضمير المتكلم عن الوطن والحرية وعن شقاء الروح وبؤس الغربة، ليعطي كل هذه المقومات للنص (الرقص مع البوم) قوة مؤثرة يسكن في أعماقنا دون استئذان...! ومن خلاله نشم رائحة الوطن والعشق و الياسمين، فهذا الأحاسيس وهذه المشاعر تنقلها لنا (غادة السمان) بتقنية عالية وهي تهذي بحسها المرهف تحت وطأة الاغتراب وعالمه الموحش لتنساب مشاعرها وهمومها بومضات مكثفة عبر صور شعرية تنساب بلغة أنيقة وبأجراس مفردات هادئة.
وبتنوع حالة الذات عند (غادة السمان) تتنوع نصوصها بين السريالية والرومنتيكية والتعبيرية والرمزية فتكون تجلياتها بإيقاعات جمالية فائقة تأثير في النفس بما تعبر عن وجدانها وإحساسها وعواطفها الجياشة، فتنساب كلماتها في القلب وتلامس الشغاف، لان النص عند(غادة السمان) لا يخرج إلا وهو متقن التعبير بين الكلمات المعبرة لفكرتها، كون (غادة السمان) حينما تنطلق بكتابة النص نحسها بأنها في تلك اللحظات تكون على أتم جهوزية بإمكانية الوعي بعنصر الزمان والمكان في التوقيت الصحيح لمسار الكتابة النص فتنطلق بلا قيود غير مهزومة.. ولا مترددة.. ولا متأزمة.. ولا شيء يوقفها عن التعبير بما تشعر وتحس .
ولهذا فان الصور والرموز المطروحة تتكاثف لديها، وهذا ما يمنح لها الموضوعية والتكامل في البناء المفردات والجمل بمنطق فكري وفلسفي يمنح للمعنى إبعاد جمالية نتذوق فيها الإحساس الجميل والمشاعر الفياضة النابعة من عمق التأثير وحجم التأثير بوجدان الكاتبة، على رغم إننا من خلال قراءتنا للنص نستشف بأنها لا تحدد الأشياء بذاتها وبمستوى واحد بل تطرحها بالصور المعاني وإشكالها وبتعيينات مختلفة وفي إبعاد متباينة ومتداخلة ومتعمقة في الرمزية لتفتح كل المدارات وفضاء القصيدة نحو عمق الإحساس والإسقاط الداخلي الغير قابل للانتهاء لان مداره مفتوح، ومن هنا نجد صور عند (غادة السمان) تتشعب بكل الاتجاهات وتذكر أماكن وشخصيات وساحات ومناطق متعددة وتبني فكرتها من خلال ذلك بشكل مذهل كما سنلاحظ في المقاطع الآتية:

***

قولي لنا أيتها البومة من أنت
- أنا بومة الحرية
لكنني واحدة من شعب الله المختار للحزن واللطم والنكد والعويل وجلد الذات والهزائم
- لماذا تنامين في النهار وتستيقظين في الليل؟
- لأنني فشلت في إن أكون مواطنة صالحة لجمهورية البوم المطيع
في الليل أعيش حياتي الحقيقية سرا
فأطارد الدهشة والفرح والسور
في النهار اهرب إلى النوم كي لا أساق الى الخدمة الإجبارية في أقفاص الببغاوات
-انت مسافرة أم منفية أم مهاجرة
- ما الفرق؟
المهم إنني احلق بعيدا عن مباهج المخاتلة وأفراح الرياء وحفلات التكرم والتأبين والثرثرة المتأدبة حيث حفلة مجون (اورجي) الكاذب بدءا بالخطباء ومرورا بالمستمعين
اكره كرنفالات الزيف والأعيب الأقنعة
هل شاهدت مرة بومة ترتدي قناعا ؟
- كم عمرك ايتها البومة؟
- عشت (حيوات)عديدة ومع كل حب أعود جديدة!
الا تراني في حفلة الراقص للمبتدئات بالفستان الابيض ؟
وهل نسيت إن أقول لك إنني عاشقة من جديد؟
- تسامحين مع مهاجميك وأعدائك ولا تردين عليهم أهي الطيبة
- لا بل رد الجميل !! لولا أعدائي لما عرفت إنني ما زلت حية وقادرة على الاستفزاز الحي في مدائن الموتى المالحة
- بماذا تشعرين نحو اللذين يتهجمون واللواتي يتهجمن عليك
- اشعر بالامتنان
فهن يؤكدن لي إنني ما زلت قادرة على اثارة الحسد والغيرة
كل طعنة من الخلف في ظهري تؤكد لي انني ما زلت امشي في المقدمة!
- لماذا ترتاحين للظلال؟
- لأنني البومة التي احترقت بها المصباح
- بدلا عن ان تحترق به كفراش هشة

***

- هل تخافين من الموت؟
- حاولت القبور تخويفي
وفتحت فمها وبانت أسنانها المنخورة بديدان الزمن وبسوسه ولكنني جلست بهدوء على طرف القبر وكتبت ورحلت وأنا أناشد للحياة ما دام الموت أتيا
- أنت متهمة بالخروج على المألوف ومطلوبة حية أو ميتة
- أنا مطلوبة حية و حية
حين أموت سيخترعون لي بعض المزايا كما يفعلون دائما مع أمواتهم خوفا من موتهم الأتي وانكشاف عوراتهم
- ولكن لافتات الشوارع تقول انك مطلوبة حية او ميتة كالمجرمين
- المطلوب معاقبتي لأنني حية في مدائن الموتى الراكضين بجثثهم في المهرجانات والمواكب والولائم والجنازات المطهمة وعروض الملاهي وصالونات المساج ومتسولي براميل القمامة يصرخون وما من مغيث
- ماذا تكرهين؟
- كلام المعلوك كاللبان
الذي يتم اجتراره من فم إلى فم على مدى عصور
- ما اعتراضك عليه؟
انه يحاول إخفاء فقر دمه الإبداعي بتكرار المفردات المرضي عنها وقت قولها وفي مكان قولها
- هل تحبين رجل السياسة؟
- يقفز كالقرد المعدني عصريا هنا
ويقدم يده للتقبيل في الحفل الولاءات التقليدية هناك فكيف أحبه
أحب إن يكون رجل السياسة إنسان أولا يقدس الحرية وهذا نادر
- ما ترين أيتها البومة؟
ارى غبارا و كلابا تنبح ولا أرى قافلة
في صحراء دائرتها القرن الأتي كله
ولكنني بومة متفائلة!

من صور الحداثة التي تركز عليه (غادة السمان)هي تطعيم النص الشعري بالصور الدرامية لتخلق تركيب متمازج بين النص الدرامي والنص الشعري وهذا التسخير بين النص الدرامي والشعري يأتي وفق قناعات تخيلية تتبلور صورها في مخيلة الكاتبة ليتم حبكها في النص باعتبار ما يتم نسجه من صور درامية مستوحى من خلال صور حياتية نعيشها في يومياتنا هي مرتبطة بالأساس بمشاعر الإنسانية وخلجات الروح، ومن الطبيعي فان الشاعر أو الكاتب يتأثر بها فينقلها في صور الدراما، ولكن هذا النقل في كثير من الأحيان لا يكون نقل مباشر بل يقوم المبدع بنسج مشاعره بإدخال مجازات وباستخدام الخيال والاستعارات والرموز ليعطي لنص روحا شعريا وهذا ما يخرج المشهد الدرامي بشكل شعري يرصد الواقع من جهة ويعبر عن ما في الوجدان من مشاعر اتجاه تلك المشاهد من جهة أخرى، وهذا ما تلجئ إليه (غادة السمان) في نص (الرقص مع البوم) ونلاحظه في أكثر من مشهد في الديوان، ليكون هذا الاستحداث ثمرة الحداثة المعاصرة في الشعر العربي المعاصر تستوضح معالمه في نصوص الشعرية التي تقدمها (غادة السمان) عبر انتقالات محبوكة بشكل هارمونيك بين النص الشعري والنص الدرامي، كما نلاحظ في هذا النص :
(( - لماذا تنامين في النهار وتستيقظين في الليل؟
- لأنني فشلت في إن أكون مواطنة صالحة لجمهورية البوم المطيع
في الليل أعيش حياتي الحقيقية سرا
فأطارد الدهشة والفرح والسور
في النهار اهرب إلى النوم كي لا أساق الى الخدمة الإجبارية في أقفاص الببغاوات
-انت مسافرة أم منفية أم مهاجرة
- ما الفرق؟
المهم إنني احلق بعيدا عن مباهج المخاتلة وأفراح الرياء وحفلات التكرم والتأبين والثرثرة المتأدبة حيث حفلة مجون (اورجي) الكاذب بدءا بالخطباء ومرورا بالمستمعين
اكره كرنفالات الزيف والأعيب الأقنعة
هل شاهدت مرة بومة ترتدي قناعا ؟))، وهذا الترابط بين النص الشعري والنص الدرامي يرتبط بشكل أساسي او لهدف واحد هو التعبير المعبر بصدق وبعمق الوجدان عن ما يجول في خواطرها من خلال انتقالات من أزمنه وأمكنه المتغيرة في حياة (غادة السمان) والتي تركز عليها بإعطاء المسحة الشعرية على النص الدرامي من جهة ومن جهة أخرى إعطاء المسحة الدرامية على النص الشعري، وهذا يأتي وفق قناعات الكاتبة بما يدور في أعماقها وطريقة التعبير عنها بروح ومشاعر إنسانية متألمة كما نلاحظه في المقاطع السابقة او كما في هذا المقطع :
(( - هل تخافين من الموت؟
- حاولت القبور تخويفي
وفتحت فمها وبانت أسنانها المنخورة بديدان الزمن وبسوسه ولكنني جلست بهدوء على طرف القبر وكتبت ورحلت وأنا أناشد للحياة ما دام الموت أتيا
- أنت متهمة بالخروج على المألوف ومطلوبة حية أو ميتة
- أنا مطلوبة حية و حية
حين أموت سيخترعون لي بعض المزايا كما يفعلون دائما مع أمواتهم خوفا من موتهم الأتي وانكشاف عوراتهم
- ولكن لافتات الشوارع تقول انك مطلوبة حية او ميتة كالمجرمين
- المطلوب معاقبتي لأنني حية في مدائن الموتى الراكضين بجثثهم في المهرجانات والمواكب والولائم والجنازات المطهمة وعروض الملاهي وصالونات المساج ومتسولي براميل القمامة يصرخون وما من مغيث ))، فـ(غادة السمان) هنا تعيش الإحساس والحب و الحياة بلذعاتها وحلوها لأن (غادة ) اتشحت بوشاح العصر الذي تعيش فيه، فان كان الاغتراب قد تبلور عندها برحيل أصدقاؤها ومحبوها فتكتشف في رحيلهم معنى الخوف والقهر ويتمدد الخوف ليصبح خوفا من كل الأشياء، إذ ترى حالة الاغتراب قد آذن بالاقتراب ففتحت أفاق الطيران دون استقرار. فــ(غادة) توظيف مشاعرها وأحاسيسها إلى عمق الرؤيا التي تبلورها في هذه النصوص، وأستطيع أن أقول إن ما تبحث عنه هو عودة الروح التي فقدت فاعليتها وأصبحت لا تكترث لأي شيء صغيرا كان أم كبيرا، قليلا كان أم كثيرا، وهي كمبدعة معنية ببث روح الطموح والأمل والبحث عن موقع الجمال في الواقع الذي تعيشه، ليتم لها فيما بعد بمحاولة لبناء عالم جديد آخر يتوافق مع رؤيتها وحسب ما تراها والتي لا تتميز ولا تختلف في مضمونها وجوهرها عن الحقيقة التي يجب أن تكون، لأنها ترغب في التماس دورها المتمثل في كنه الإحساس بالوجود الحر والفعال لها ولواقعها.

***
لا تترنم بأغاني الحب في ازقة "مونتمار"
ولا تهمسها في أذني بشفتين من عسل ونار
ولا تقل أني حبك الوحيد الكبير
ونحن نقطع جسر "التروكاديرو"
وبرج ايفل منتصب كجني معدني حارس للعشاق او شاهد زور
لا تستعن علي بسحر باريس
فانا اعرف منذ البداية إنني لست أكثر من قطعة حطب في موقد غرورك
وكي تنام مرتاح عليك ان تدم اسمك بالنار على جلدي كما يدمغون الماشية الليلة يا صديقي ل تنام
فالومة ليست خروفا ولم يدمغ احد وشمه على جلدها بعد
الليلة يا صديقي بعد إن أغادرك خائبا
ستتوهم انك تحبني هذا ريثما تمتلكني
وانا البومة الحذرة انفر من حكايات الحب
التي لا يشعل جمرها الا الغرور والحرمان والتحدي
هل عرفت لماذا جعل اليونان من جدتي البومة رمز للحكمة؟


***
أنت تحب التوهم انك غزال صحراوي
بنتحب مع الربابة وتتقمصه رو الخيول
في المسافة بين الكثبان والسراب والشمس
وأنا البومة أراك بوضوح ليلا
حين ترهف الظلمة حاسة البصيرة والبصر لدى
أراك مزيجا من راسبوتين وبوتين
بشفتين شهيتين حادتين كشفرات بريطانيتين
أراك سعيدا في مطعمك المفضل الايطالي
تلتهم "الكارباتشيو" وترتدي شروالك اللبناني
تدخ سيجارتك الكوبي وإمامك مفتاح سيارتك المرسيدس الألمانية
تغازل على هاتفك المحمول اليابني حسناء فرنسية
وتبدأ بتناول الحلوة الصينية
وتدون لي عنوان قصرك السويسري بقلمك الذهبي الامريكي
الذي تشتم به العولمة ي مقالات مطولة
وبعد ذلك كله تتهمني بالانطوائية لأنني أطير بعيدا عن شؤمك

نجد هنا كيف ترتبط الصور الشعرية عند (غادة السمان) بموقفها من الحياة، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على خبرة الشاعر ونظراته وتشخيصها الدقيق إلى كل أمور الحياة، لذا فان صور (غادة) الشعرية تنقل مشهدا حيا ، كما تلخص خبرة وتجربة إنسانية من الواقع - وهي وإن ظلت حسية - لأن صور الحياة في تجربتنا تأتي عبر استخدم العناصر الحسية، ولكن ما يميزها هو إضافة عنصر الخيال المبدع لتلك الاستخدامات وذلك عبر تفتيت تلك الصور عن طريق الخيال وبطريقة مبدعه بتأثير والانفعال الفنان أو الكاتب، بشكل لا نهائية لأن الخيال المبدع يبدع صور وأشكلها من خلال المدرك الحسي، و المدرك بهذه الصفة لا يكون كذلك إلا من قبل (ذات مدركة)، كما في فلسفة (فينومينولوجيا)، بكون موضوع المدرك هو في الناتج ((محصلة لا متناهية لسلسلة من ادراكات غير محددة))، لذا فان موضوع (غادة السمان) هنا يعد موضوعا حاضرا ومدركا لا يستـنفد، فصور الشعرية عند (غادة) والتي تستند للمدركات ألا تستنفد ولا تتناهى خلال مقاطع القصيدة بل تظل دائمة الحضور في النص الكلي للقصيدة (الرقص مع البوم) .

***

الليلة التقيت جثتي للمرة الأولى
ودهشت وكدت لا اصدق
أهذه النحيلة الذاوية كعشبه بحر
هي البومة التي حلقت بين خمس قارات خمسة عقود؟
أهذه الهشة كحرير مبتل في المطر
هي التي سببت زلازل و براكين
وركضت خلفها لي القبيلة بالعصي والسكاكين؟

***
أهديتني تمثالا نحته لي فحسدته
لتمثالي جناحان أطول من جناحي
وعينان أكثر اتساعا من عيني ولا تجاعيد في رخامه
لا يصاب بالزكام
ولا يبكي في الظلام سرا
ولا يئن وهو يتابع تحليقه الليلي بحثا ع حب صادق
ولا يغمض عينه لحظة التقبيل!

فهذا التشكيل كما قرائنا فيه ضغط معمق بالإحساس تفرزه (غادة السمان) كإسقاط ذاتي لا ينتهي ولكن يكشفه التعبير عبر بنية القصيدة والانتقالات بين صورة وأخرى ليتدرج البناء من الذاتية إلى الموضوعية ومن السرد إلى البناء الدامي أو الروائي ضمن الطابع العام للقصيدة بدون إن يحدث أي إرباك في المؤثرات في بنية ألقصيدة، فنلاحظ كيف إن (غادة السمان) تطرح أسئلتها وتجاوب ذاتها بشكل دقيق وصريح بحيث تفرز كل ما يجوب في أعماقها كأسئلة وهي تجاوب بصراحتها عليها، فهذا النمط من الحوار الدرامي تجيده (غادة السمان) بشكل رائح، ولا ننسى بكونها روائية أساسا قبل إن تكون شاعره، ولهذا فإنها تجيد تجنيد وتسخير البناء الشعري في الدراما و بالعكس، تجيد تسخير الدراما في فن الشعر، ولحجم ثقافة (غادة) ودراساتها الأكاديمية والعامة وتأثيرها الكبير بالأدب العربي و الأوربي فقد استفادت في توظيف ذلك في بناء القصيدة المعاصرة عن تجارب مبدعين أوربيين في الشعر الميكانيكي او السريالي، وكان لهذا التأثير هو خروج قصيدتها بالغموض نتيجة تعدد الدلالات واستخدام (غادة السمان ) إلى رموز الأساطير لان تجربتها الشعرية في (الرقص مع البوم) يفتح أفاق واسعة في القصيدة العربية المعاصرة والحديثة بكل المقاييس، فان كان التنوع في بناء القصيدة (غادة السمان) قد فتح التعبير في بنية القصيدة بعناصر الدراما لتخاطب الضمير والعقل في مواقعه والمشاعر والأحاسيس معا، ليمتزج النص بالتعبير فائق في لغة (ألانا) الممتزجة بالموضوعية، فما بين الذاتية والموضوعية توظف قصيدة(غادة السمان) اللغة بشكل إيقاعي متماسك يفرز جوهر الموت والاغتراب وهي تواصل مسيرتها في الألفية الثالثة بتخفيف الضغط النفسي بلجوئها إلى لغة الدراما لكي تتنفس أكثر عمقا ولتخفف من وطء الواقع على نفسها، وهو - كما قلنا- إتقان تجيده (غادة) في بناء القصيدة الحديثة لخلق الدراما او موقف درامي وإضافة الرمز على بنية القصيدة لتوسع في النبرة الموضوعية لها، وهذا ما جعل (غادة) توسع مداراتها في استعارة بالتراث العربي والأوربي معا وتسخيره في بناء حبكة القصيدة وهذا قد أتى نتيجة ثقافتها العالية فوظفت الثقافة في شعرها بشكل واضح المعالم، فغادة تطوف في أفاق التاريخ وفنه وأساطيره وحضارته المعاصرة فتأخذ منها متكأ ومرفئا ووسيلة تحمل أفكارها وأرائها في هذه القصيدة، قصيدة (الرقص مع البوم)، ولهذا تميل القصيدة إلى المد في طولها ولهذا جاء الكتاب بنص مطول كامل الموضوع مع القصيدة الواحد ولما حملته من أمور وما أفرزته من إحساسات ومشاعر متسلسلة متكاملة .

***

ذلك الغليان في أجنحتي
اهو جنون الربيع أم حبك
ذلك القارع لطبول الانتشاء في ليل الدفء؟
يا شاعري لا تعاملني كما كنت أسطورة "بومة"
ولا تكتب لي قصائد الخلود
ولا تقدم لي البحر والنجوم والأقمار كهدية
كل ما أتمناه لمسة إنسانية
كان تقطف لي من الحديقة وردة
تعد لي نجانا من القهوة بالهال
وتقول لي صباح الخير
لحظة غياب الشمس في البحر البيروتي خرافي لجمال
فيوم بومة مثلي يبدا باكر مع الغروب

***

فقط حين شعرت انه لم يعد لدي ما أقوله لهم
دفاعا عن نفسي ولم اعد أبالي بهجوم او افتراء او تحرش مغرض
فقط حين صرت حقا بومة ليلية لا مبالية
لا بالشهرة و لا بالتصفيق ولا بهراء الأضواء
وكارهة حقا "للفلاشات" لأنها تضايق تحديقي الليلي في الإسرار
فقط حين توهموا إني سئمت
بات الكتابة بشهية ليلة حقيقية مفعمة بالحرية
واكتشفت ربيع محبرتي وفرحاتي الأبجدية !

فالأرض والإنسان والحركة والتغير وأزمة الهوية هي مستويات متداخلة في هموم (غادة السمان) في (الرقص مع البوم) وكل ذلك يأتي في نصها متداخلا عبر الإيحاءات والرموز وبإشكال متنوعة مباشرة وغير مباشرة، فالنص هنا هو مدخل لاكتشاف الذات في غربتها، فهي أزمة في التحرر وأزمة ملتبسة في اكتشاف الذات وأزمة ممزقة للانتماء والغربة فهذا التداخل يفرز غموض النص لحجم وظيفة الإقناع بكون حالة النص يفتح أفاقه الأكثر خصوصية إلى مستوى الموقف، ومن هنا فتكاثف الرمز يأتي في وظيفة دلالية بما تشعر الذات من حالة التناقض والتأزم فيأتي استحضار الأفعال المعاشة يوميا لمراجعة حركة الدلالات المقدمة في النص وعلاقته بالآخرين، فيتوتر حضور (غادة) في فضاء يفضي بمشاعرها وشعورها بالغربة في وقت تحاول تأكيد باستيعاب واقع حضورها في زمن ومكان الغربة ولكن دون جدوى لان جذورها مازال متجذرا في الوطن وبه تتنفس وتحيى بكل إشكال الضغوط وتوتر ومعانات الواقع، وهذا ما يسجل صداه في مفردات الكتابة هنا ويرسم شكل الهوية التي تعيشها ولغة المخالب التي تخاطب الأخر وهذه القسوة تأتي كشكل من إشكال إثبات الذات، وهي متعطشة للحب من اجل الحب السامي الصادق وهو ينهمر من وجدان القلب والضمير في محيط غادر عنه هذه الملامح وصار وجوده نادرا في نموذج زيف الواقع وغياب الاستقرار، لتستيقظ الذات على دوام القلق في محيط يلثم بضاعة الضمير وروح الحب، فقلق (غادة السمان ) هو مظهر يجعلها أكثر حذرا لاحتواء أي عارض من مما قد يتوارد ليكسر صمت الذي تفضل الركون إليه و السكون فيه، كما تحاول (البوم) الاحتماء بالصمت والسكون والليل لتنشد وقت ما تشاء إثناء شعورها بالأمان وعداه فهي محتمية بالظلام اختفاءا من الأخر، حيث تنظر وتراقب في ضل صمت وسكون وهي في أوج استعدادها للمواجه بكل مخالب التي تمتلكها، وهذا الانغلاق النفسي هو رد فعل طبعي للمظاهر القاسية من المحيط في العالم الخارجي، ومغالب (غادة السمان) هي مخالب اللغة ومفرداتها ورموزها وهو شعور الحاضر في عنوان الغربة والاغتراف والحب والحرية وهذا هو في دلالاته يخلق في قلب اللغة وكلماتها قيمة موضوعية لنص (غادة السمان)، وهذا هو بحد ذاته جهد ترسخه موضوعيا في كتاباتها المتسمة بالحداثة والمعاصرة، بكون (غادة السمان) تمتلك قوة المغامرة فكريا فيتكاثف في كنفها التقنية والترميز إلى حد كبير، وهذا التكثيف يعطي انعكاسا آليا في عملية التطور والتعبير في النص الذي ظل يلازمها منذ نعومة أظافرها مما جعلت من كل شيء نقطة تحدي وهي تواجه بصمت وبقوة اللغة ومفرداتها كفعل من القوة وليس فعل في القوة التي ترفضها غادة بالمطلق لان القوة الحقيقة عند (غادة السمان) هي قوة العقل والحكمة والفكر السليم .

***

ليت الناس تطلع كتبي
بالشهية ذاتها التي يطاع فيها موظفوا الأمن جواز السفر
كلما سافرت إلى مجدستان قرب قمعستان
ليت حبيبي يقرأ روايتي مثل موظف الرقابة
بإمعان بما وراء السطور وما بين السور
فلو فعل لأدرك جنوني بالحرية
أم إن الرقيب وحده قارئي الحقيقي
والحبيب الحقيقي لأبجديتي ..؟

***
حتى في الربيع للمقموعين أسنان
وصحيح ان الأسماك خرساء لا تعوي
لكنها تعض
البوم لا يصدق حقا أوهام ليلة صيف جميلة
يعرف جيدا تمرد الأسماك ربما لأنه يشبه تمرده الصامت
إلا من بعض الأغاني الليلية هنا وهناك
أنصت أغاني البوم الليلية تبدو نذير للقتلة
ولذ يخاف أهل الضمائر المتأزمة
ما من حصانة ربيعية لأهل الأذى
والبوم يدين اغتيال القمر كل ليلة والأسماك تعض!

***
حين تعاملني كشبح أصير شبحا
وتعبرني إحزانك كما تعبر السيارة ظلا تخترقه وتغادره
دون إن تخلف أثرا فيه ولا ذكرى
هكذا تكتب النهايات نفسها في حكايا حبي
وقلبي ليس مسمارا على جدار
تعلق فوقه لافتات الحب وتنزعها حين يحلو لك
يا صديقي الذاكرة بالذاكرة
والنسيان بالنسيان والبادئ اظلم
تلك حكمة البوم

***
تدق مسمار في جدار غرفة نومك
بدلا من تعلق صورتي تحاول تعليقي على الجدار
اهذا ما يدعوه البشر بالحب
كيف أتخلى عن الطيران ليل الحرية والإسرار "العالق"في اجنحتي
وغبار الظلال التي تلطخ ريشي لأتحول إلى صورة محنطة؟
أهذا ما تدعوه العاشقات البشريات بالوفاء؟

***
لماذا اكتب ؟ ربما لان أبجديتي
تنتقم من الطغاة الذين يحاولون صبغ أحذيتهم بمحبرتي
وهذا النبيذ الذي انسكب الآن على ورقتي
يبدو لي دم الأبجدية
فخذوه واشربوه..
بالحبر خمرة الصحو

تتدرج وتتداخل شخصية (غادة السمان) في هذا المقطع من القصيدة بين السرد والبناء الشعري والحدث والحكاية معا لدرجة التي يتم بناء الحوار وفق صراع الذات مع الحدث الموضوعي من خلال الحوار الدرامي، فهي لا تريد التزييف او المديح لكل من يعلن عليها الحب، بقدر ما تريد الإحساس به والتماس منه لمسة إنسانية تطغي على علاقتها، فمن مرارة التي لذعتها من الحياة غدت غير مبالية لا بالشهرة ولا بالأضواء بقدر حبها إلى الحرية والحب الصادق، فإحساسها بالخيبة والانكسار والغربة هو ما يحملها إلى إن تسافر مع الإحزان في رحلة البحث عن شيء (ما)، تريد إن يعرف حبيبها والآخرين عن بطبيعة معاناتها وتتمنى منه ومنهم إن يطالعوا ما تكتبه بعمق كما يفعل (الرقيب) حين يتمعن بقراءة النص وكل حرف وسطر، بل يبحث عن الرموز والغاز وما اخبأ ما وراء السطور وما بينها، (( ليت حبيبي يقرأ روايتي مثل موظف الرقابة
بإمعان بما وراء السطور وما بين السور
فلو فعل لأدرك جنوني بالحرية
أم إن الرقيب وحده قارئي الحقيقي
والحبيب الحقيقي لأبجديتي ))، فكتابة النص عند (غادة السمان) ما هو إلا تجسيدا معرفيا يعاد إنتاجه وتجسيده بتعبير الذات وبتقنيات ذاتها فحين تقول :
(( وصحيح ان الأسماك خرساء لا تعوي
لكنها تعض
البوم لا يصدق حقا أوهام ليلة صيف جميلة
يعرف جيدا تمرد الأسماك ربما لأنه يشبه تمرده الصامت
إلا من بعض الأغاني الليلية هنا وهناك
أنصت أغاني البوم الليلية تبدو نذير للقتلة
ولذ يخاف أهل الضمائر المتأزمة
ما من حصانة ربيعية لأهل الأذى
والبوم يدين اغتيال القمر كل ليلة والأسماك تعض!))، فهذه الفلسفة تبدعها (غادة) بالبنية الجمالية للمعنى ذات مفهوم خلاق لما يتضمنه من دلالات جديدة وفي ذات الوقت متجددة ومبتكره يمنح للنص شموليته وديمومته بحجم المعاني والأفكار والمفاهيم التي عبرت قريحتها داخل النص لتحريك المخيلة وللكشف عن كل ما هو سلبي وفج لكي يتم تنوير الأخر عن أماكن المظلمة في السلوك والعقبات التي تحول دون كشف مواقع الشر، فجدلية الفلسفة في نص (غادة) له إبعاده الفكرية في تنوع صياغة المفردة ودلالاتها ففي المقطع الأول تقول: ((صحيح ان الأسماك خرساء لا تعوي لكنها تعض ))، نعم إن السمكة خرساء لا تعوي ولكنها تعض، فالسمكة هي (غادة) المبتعدة من الضوضاء الكاميرات والصحافة وضجيجها و مكتفية بالانزواء في بحار العميقة في الكتابة والقراءة، وفي هذه البحار تعيش عالمها الخاص، لا تثرثر ولا مكائنها تصدر جعجعة بلا طحن، ولكن تعرف كيف (تعض) من يحاول خدشها، وعضاتها عضات ....! ولكن عضات (غادة) هي اللغة ومفرداتها وكما قلنا و وصفنا لغة (غادة السمان) بأنها لغة مخالب ...! فحين تقول ((بان الأسماك خرساء لا تعوي ولكنها تعض)) إنما هو وصف وتعبير عن ذاتها وتعريف بهوية (غادة السمان) ذاتها، فمن لم يعرف من هي (غادة السمان) عليه ان يعرف من هي عبر هذا الوصف ((الأسماك خرساء لا تعوي ولكنها تعض))......!
وفي المقطع الثاني تقول: ((حين تعاملني كشبح أصير شبحا
وتعبرني إحزانك كما تعبر السيارة ظلا تخترقه وتغادره
دون إن تخلف أثرا فيه ولا ذكرى
هكذا تكتب النهايات نفسها في حكايا حبي
وقلبي ليس مسمارا على جدار
تعلق فوقه لافتات الحب وتنزعها حين يحلو لك
يا صديقي الذاكرة بالذاكرة
والنسيان بالنسيان والبادئ اظلم
تلك حكمة البوم ))، فهذه النصوص لا يمكن وصفها الا بنصوص مفتوحة تضخ الدماغ بدماء جديدة لكي يتنفس ويفكر بعمق ولكي يغذني بقية أعضاء الجسد للوصول إلى رؤية زاخرة بتجليات الفكر المنور يشكل حضوره سمة إنسانية وحجاتها المعرفية بأعلى درجات الوعي، لذا فان عذابها لا ينتهي ولا تؤلف الحياة بما آلت إليها الوقائع والحب وكما تقول: ((تدق مسمار في جدار غرفة نومك
بدلا من تعلق صورتي تحاول تعليقي على الجدار
أهذا ما يدعوه البشر بالحب ))، ولهذا أحبت (غادة) الطيران بعيدا عن عالم الإنسان وأضواءه، لتلجئ إلى الليل كـ(البوم) لان صمت الليل ينسجم مع نفسها ودفئه يتدفق مع ذاتها فتخاطب المطلق البعيد: (( لماذا اكتب ؟ ربما لان أبجديتي
تنتقم من الطغاة الذين يحاولون صبغ أحذيتهم بمحبرتي
وهذا النبيذ الذي انسكب الآن على ورقتي
يبدو لي دم الأبجدية
فخذوه واشربوه..
بالحبر خمره الصحو))، لتتمسك (غادة) بهذه الكتابة التي لا تملك سواها صديقا ينتظر منه ومنها كل ما يروي ظمؤها وظمؤه وظمئ كل من يريد إن يصحوا من كابوس الحياة .

***
لعلك تتساءل لماذا استمر معك
بعدما كذبت وخنتني وغدرت بي حتى الإذلال؟
حياتي معك هي عقابي لك
لقد عاقبتك مرة بدفعك إلى هجرها
وأعاقبك كل يوم
بذلك القتل البطيء لك في ملكوت فتوري وابدية لا مبالاتي
وقبلاتي يوضاس كذبي
أليس الحب كذبة لطيفة متبادلة؟
البوم قليل الثرثرة لكنه يصيب هدفه كسهم في ذاكره

***
هل الأصداف دفاتر مذكراتي الغرقى
ولذا ينبت اللؤلؤ في بعضها ؟

***

ساروي لك قصة حياتي باختصار شديد
خوفا عليك من الضجر
لقد اقترفت أخطاء كثيرة في حياتي
هي التي أنقذت حياتي !

***
في مدينة الموتى تصير الوجوه أقنعة
والأصوات أشرطة تسجيل
للميكروفونات المعتمدة المقبولة المدموغة بالرضى
في أعياد التأبين يتم تطويب التافهين عباقرة
والأوغاد نماذج لوفاء الزوجي والوطني
بدعم من الجمعيات المنتفعين من بيع الجثة بالمزاد
في التابين يصيير القط نمرا والعنكبوت فراشة
لم يأت احد إلى حفل تابين جدي سنمار
الذي عاقبه صاحب القصر بالقبر
حدها بومة لا مبالية بكتبه وانتحبت
رافضة فرمان الصمت
ومن يومها سفكوا دم البوم ودللوا الببغاء!

حينما تلجئ (غادة السمان) إلى القصدية في طرح السؤال والإجابة عليه من قبل السائل نفسه، إنما هناك مقاصد بلاغية يراد منها إيصال رسالتها والإشارة بعلمها و بوعيها وإدراكها بكل جرم يرتكبه الأخر بحق العشرة والحب، فسؤالها تطرحه على نحو الأتي :
((لعلك تتساءل لماذا استمر معك
بعدما كذبت وخنتني وغدرت بي حتى الإذلال..؟))، فأتى رد فعلها بشكل ذكي وغير متوقع بجوابها بالقول :
((حياتي معك هي عقابي لك
لقد عاقبتك مرة بدفعك إلى هجرها
وأعاقبك كل يوم
بذلك القتل البطيء لك في ملكوت فتوري وابدية لا مبالاتي ))، في هذه اللغة التي اسميها لغة المغالب، تفصح (غادة السمان) عن سرها في البقاء مع من كذب وخان وغدر ليكون ذلك غير عقاب لمن خان ليبقى الأخر في عتبة الانتظار والترقب مصلوبا ينتظر رد فعلها ولكن كما تقول: (( البوم قليل الثرثرة لكنه يصيب هدفه كسهم في ذاكره))، وهذه هي حكمتها، توظفها توظيفا دراماتيكيا في الصراع، فنرى كيف (غادة) تبني الحوار في القصيدة بهذه السلاسة في بناء الحدث ورسم دراما القصيدة وإبعاد الشخصية وذلك بتلوين الإيقاع بالأحاسيس المكبوتة، فعبر دفاتر ذكرياتها هناك الكثير ولكن في بعضها ما لا يمكن نسيانها لأنها تلمع في حياتها كلؤلؤ ((هل الأصداف دفاتر مذكراتي الغرقى
ولذا ينبت اللؤلؤ في بعضها ؟))، ومن خلال ذلك تقول:
((ساروي لك قصة حياتي باختصار شديد
خوفا عليك من الضجر
لقد اقترفت أخطاء كثيرة في حياتي
هي التي أنقذت حياتي ..))، لنستشف من الأمر عن حجم الشبكة الواسعة من العلاقات التي كانت بالنسبة لها تماثلية متفاعلة في حياتها التي أنقذت حياتها من كبت والضمي والضغوطات التي يضمر في وجدانها، وهذا ما يجعلنا إن نبحت عن ما وراء السطور لان لبحث عن أصالة المحتوى يكمن في الدلالات الرمزية في داخل بنية القصيدة ، ولهذا فان تلك الإلغاز هي من تدعونا إلى التحليل والبحث، لان الحقيقة لا تظهر في (الشكل) لكتابات (عادة السمان ) بل في (جوهرها)، رغم إن كلا الأمرين في بناء القصيدة عند (غادة السمان) يتماثلان إلى أقصى درجات التماثل (الهارمونيك)، وهو ما يقودنا إلى تلك التفاصيل التي تظلل فوق وتحت الكلمات التي نستشف منها تجليات الكاتبة، لأنه من خلال مد القصيدة نسمع في ظلالها أصوات التي تئن وتبكي بصمت وسكوت حيث هناك تكمن حقيقة الروح في عالم وحدتها وغربتها، ولكن علينا إن نتيقن من إن الذي ينوح بهذا الشكل لا يعني انه قد انتهى في مضجعه في عالم الحزن، لان النواح الصامت البعيد قد يكون أمره كالهدوء الذي يسبق العاصفة، او كما تقول (غادة السمان) : ((الأسماك خرساء لا تعوي، لكنها تعض))،وهي تعرف متى تعض ...! نعم إن حوار الهامس في أعماق (غادة السمان) منكسر بالآلام الروح وكلماتها تأتي وهي محض الآلام والحزن والاكتئاب والوحدة رغم إن كل ذلك يأتي مع نسقها الشعري رقيقا ومرهقا إلا انه محض العناد والتحدي القاسي والشرس يقاوم ويخرج من رحم عقلها مبطنا بالانتصار، لأن عقلها حامل بالحرية وأنه يضع مولوده الفكري وستربيه (غادة) لغاية هي بناء قيم في الحداثة والمعاصرة، لان دمها الحار يسري في عروقها وهي متيقنة كل اليقين حجم الزيف والتزييف الذي يساد وراء الستار الحريرية الناعمة وما وراء الأقنعة التي لا روح فيها فقول: (( في مدينة الموتى تصير الوجوه أقنعة ))، نعم تصبح الوجوه أقنعة مزيفه غير آبه بما تفعل وبما تقترف من الأخطاء بحق الأخريين، فكما تقول: (( والأوغاد نماذج لوفاء الزوجي والوطني
بدعم من الجمعيات المنتفعين من بيع الجثة بالمزاد
في التأبين يصير القط نمرا والعنكبوت فراشة...))، وهكذا تضيع القيم ويضيع الإنسان بهذا التزييف .


***

لقد كنت دائما زورقا من ورق
طواه طفل عابث مشاكس
ورمى به في البحر إلى ليل التيه والإسرار والرحيل
من يومها وأنا ابحث عنه
ذلك الطفل الذي رسم أقداري العابثة لا شكره على ذلك !

***

أحببتك رغم غرابة أطوارك
تكتب لنفسك الحب وقصائد المديح
على أنغام أنشودة " أمجاد يا عرب أمجاد"
يعدها يحلو لك إن تنام
توهم نائم منذ قرون لكنه حلمك المفضل
يا حبيبي النرجسي
حبي لك وحده هو الشي المشترك بيننا فكلانا نحبك وأنت وإنا
تقول لي: حدثيني عن عظمتي
ما من موضوع أخر يهمني!
أقول لك: احبك أيها الخرافي الرائع
تقول لي : اتفق معك في الرأي فانا أيضا احبني!!

فالنص كما نراه في كل نصوص (غادة السمان) هو الضمير المتكلم عبر الضغط النفسي الشديد والانفعال الداخلي ليكون أداة لتوازن النفسي يثري بلغة تعبيرية تنتقل مفرداتها بين الرمز والإيحاء، وهو ما يقودنا للبحث عن هذه الحقيقة في الذات المتألمة وما تم فيها من تهشيم وتكسير، لان التعبير الذي تنطلق منه (غادة ) يأتي كمغامرة واعية لتعويض وتصحيح مسار الخيبة والخسارة والفقدان ما كان عزيزا، فحين نمعن في النص الأتي سنرى ما هو مخفي خلف الدلالات التي تشير إليها بشكل ناعم ولكن في جوهرة يكمن قسوة المعنى والمشهد، فتقول :
(( تكتب لنفسك الحب وقصائد المديح
على أنغام أنشودة " أمجاد يا عرب أمجاد"
يعدها يحلو لك إن تنام
توهم نائم منذ قرون لكنه حلمك المفضل
يا حبيبي النرجسي
حبي لك وحده هو الشي المشترك بيننا فكلانا نحبك وأنت وإنا))، فالتعويض يأتي بالكتابة الإبداعية المتفوقة في التعبير بلغة المخالب، وهي متمرده تزحف بجراحاتها فوق الانفعال الداخلي، ففي وقت الذي كانت الجيوش العربية تلاقي هزائمها في نكسة حزيران عام 1967 كانت الإذاعات العربية تصدع ليل نهار وتملئ الأثير بنشيد (أمجاد يا عرب أمجاد) وهذا التناقض تشبهه بتناقض حبيبها وتصرفاته فتقول: ((أحببتك رغم غرابة أطوارك
تكتب لنفسك الحب وقصائد المديح
على أنغام أنشودة " أمجاد يا عرب أمجاد" ...))، ومن هنا نلاحظ حجم تكاثف المجازات في الوصف ودلالات في تصوير المشهد بإبعاد متخيله يكون بمثابة الهدف المشار إليه في الزمان و المكان، ورغبتها المتمردة في التمرد عليه، فالصور المرسومة في النص الشعري عند (غادة السمان) هي صور متحركة لتسليط الضوء عن هذه ألصورة بتلك، لاستذكار واستحداث بالدلالات الفكرية بين الصورتين ليبقى المشهد في الذاكرة في حالة البحث والاستفسار الدائم لا يعرف السكون ولا استقرار رغم ما يستبد بها من حالة القهر والحزن الذي هو حافل في تاريخ الشرق، وغادة تضع هذا التاريخ متأرجحا فوق أرجوحة تتطاير في الليل مأواها في أفاق العالم تشهق حريتها وهي على أوج يقظتها تتعسس كل ما هو حولها وهنا يتكامل النص بما هو في ذاتها ويندمج بينهما اندماجا صوفيا وهو ما يجعل ذاتها اشراقية المطلاع في كل لحظات يقظتها كرغبة لا تتراجع عنها بغية لتأسيس عالم قائم بالحب الصادق والحياة الكريمة والحرية المشرفة بعد طول المعانات وبؤس الحياة .

***

الصندوق الأسود في طائرتي محطمة
الميكروفون العوائي بمنطق العصور الوسطى في لقرن الواحد والعشرين
مكيفات الهواء المعطلة في البورصة
الكهرباء المقطوعة في بيوت تفور بالصراصير والسوس والجرذان العملاقة والتماسيح
وما من فراشات في كوكبنا إلا العثة
الأكياس الواقية من الايدز الملونة المعطرة كقناع ذهبي على وجه الموت
الغرامات الليلية الوهمية البائسة في فنادق الشوارع مكشوفة المجارير
الحب المزعوم الكئيب كما العشاء وحيدا في "دراج ستور" نيويوركي نصف معتم
في الجادة الحادية والثلاثون من منهاتن
يمنع التدخين ويفوز الدخان من مقلاته ومرحاضه ومخدراته
البيوت المزيفة ببقايا قذائف لم تدمرها كلها
حراس الليل الذين يرقون نهار الناس
المخافر المحشوة بأجساد تسيل عرقا ودما
واعترافات كاذبة أمليت عليها
المشانق السرية والمقابر الجماعية
والقتل المدعو انتحارا او نوبات قلبية
المذابح والحروب والمجاعات
المصحات العقلية المزدحمة بالأصحاء
"عقلة الإصبع" في مجسمات ضمة في شوارع في ملصقات الساحات والمطارات تتغزل بفحولته
تعبت من ذلك كله
فهل في جزيرتك يا روبنسن كروزو
متسع لبومة مثلي هاربة من هذيان الإنسانية
بومة شديدة التشاؤم من البشر؟

***

كانت العجوز تحتضر على فراشها
جاء القسيس لصلاتها الأخيرة
قالت وهي تلفظ أنفاسها:
سترى كيف ساشفي مع الوقت !

***
يا صديقي الفنان ارفضهم كالريح
لا تدعهم " يؤستذون" عليك
فهم كلما اجتروا عتيقهم ووعدوا خواءهم واهتراءهم
طعنوك باللؤم وسألوك عن عطائك الجديد بإلحاح اكبر!

***

بأغنية ليلية من نسائم الارز أناديك
وحين استقل معك تلفريك الحب
ينزلنا دائما في قمة بركان الإحزان
في وطن كل ما فيه ينعق باستثنائي أنا البومة!

***

انه مخلص للقضية منفتح على العالم
بربطة عنق باريسية وسيجار كوبي وعشيقة روسية
انه مخلص للرفاق الذين ماتوا من اجل القضية
وفي حديقة قصره سيعمر مقبرة بروليتارية لهم جميعا
ومزارا مدفوع الاجر للزيارة
مع "بسطة " لبيع الكوكا كولا والهامبرغر
لا لن ينساهم!!

تقودنا (غادة السمان) هنا إلى سر عذابها وشقائها وآلامها، فتكشف عما تم تسجيله في الصندوق الأسود في طائرتها المحطمة حيث فيه الكثير من تفاصيل الحوار مع الذات الخائبة، المنكسرة، المرهقة، المثقلة بمعانات التي فجعت بها حياتنا بمنغصات الحروب، والدمار، والإبادة الجماعية، والمشانق، والبؤس، والتشرد، والضياع، (( الكهرباء المقطوعة في بيوت تفور بالصراصير والسوس والجرذان العملاقة والتماسيح
وما من فراشات في كوكبنا إلا العثة
الأكياس الواقية من الايدز الملونة المعطرة كقناع ذهبي على وجه الموت
الغرامات الليلية الوهمية البائسة في فنادق الشوارع مكشوفة المجارير
الحب المزعوم الكئيب كما العشاء وحيدا في "دراج ستور" نيويوركي نصف معتم
في الجادة الحادية والثلاثون من منهاتن
يمنع التدخين ويفوز الدخان من مقلاته ومرحاضه ومخدراته
البيوت المزيفة ببقايا قذائف لم تدمرها كلها
حراس الليل الذين يرقون نهار الناس
المخافر المحشوة بأجساد تسيل عرقا ودما
واعترافات كاذبة أمليت عليها
المشانق السرية والمقابر الجماعية
والقتل المدعو انتحارا او نوبات قلبية
المذابح والحروب والمجاعات
المصحات العقلية المزدحمة بالأصحاء
"عقلة الإصبع" في مجسمات ضمة في شوارع في ملصقات الساحات والمطارات تتغزل بفحولته ..))، فمن خيبة إلى خيبة اكبر، ومن حزن إلى حزن أشرس، ومن مرارة إلى مرارا ألذع، تخر الدود أجسادنا ونحن إحياء فنهرب ونغترب ولا ندري أين نهرب من هذا الجحيم فتقول: ((..تعبت من ذلك كله
فهل في جزيرتك يا روبنسن كروزو متسع لبومة مثلي هاربة من هذيان الإنسانية
بومة شديدة التشاؤم من البشر؟))، نعم لحجم ما بات البشر يقترف من جرائم.. بتنا نتشاءم منه.. لأننا بغياب الوعي، بتنا ضائعين، حائرين من الواقع المحزن الذي نعيشه، لترتفع كلمات (غادة) هنا بصوت ((عجوز)) فتقول وهي تحضر: ((كانت العجوز تحتضر على فراشها
جاء القسيس لصلاتها الأخيرة
قالت وهي تلفظ أنفاسها: سترى كيف سأشفي مع الوقت ! ))، أي حينما تبتعد عن عالم البشر ستشفى جراحاتها، بمعنى أخر لا يمكن الخلاص من معاناتنا إلا بالموت ، فهنا (غادة) تخاطب النفس و الروح لتأشر إلى واقعنا اليومي الذي نعيشه بهذا السواد القاتم في الفجائع، كل يوم نصبح على فاجعة، وهذا ما يقود (غادة) إلى التمرد لتواصل ثورتها في وسط إشكالية (الحياة) و(الوطن) لمن يقوده وهو تائه مع مباهج وكما تقول: ((انه مخلص للقضية منفتح على العالم
بربطة عنق باريسية وسيجار كوبي وعشيقة روسية
انه مخلص للرفاق الذين ماتوا من اجل القضية
وفي حديقة قصره سيعمر مقبرة بروليتارية لهم جميعا
ومزارا مدفوع الأجر للزيارة
مع "بسطة " لبيع الكوكا كولا والهامبرغر
لا لن ينساهم!!))،
ليكون مغزى كلامها للإنسان: أين انتم من كل هذا يا إنسان الوطن...؟ والناس في طوابير تشتهي خبز المغلف بنظراتهم وهم جياعا لا تستطيع الوصول إليه.....! انه واقع الحزن الذي تهرب منه (غادة) وأهلها في الشرق تحت فاقة العوز والحرمان والفاقة .

***

كلما ضممتني إليك
عدت عذراء من جديد
وشعرت أنها ليلة عرس..!

***

لن اكون سبحة بين أصابعك
تلهو بها وأنت تغزل أخرى

***
اتقيت اليوم بالطفلة
التي تشاطرني جسدي من زمان وتجهل كيف تكبر
طفلة تعيش حياة مزدوجة بين "ديزني لاند" وديزني لادن"
تلك الطفلة ذهبت من "حزن لاند"
حيث ولدت وستدفن حيث تقيم
الى"ديزني لاند" حيث تلعب في ضاحية باريس
ركبت الطفلة في علة مدينة الملاهي المسحورة وأنا معها
ضحت مع بقية الأطفال للمهرج وأنا معها
حين شاهدها أصدقائي أخفيت وجهي خجلا منها
لكنها مدت لهم لسانها ساخرة
الطفلة التي تشاطرني جسدي
تنابت لي باني سأموت في "فرح لاند"
فجأة على دولاب مدينة الملاهي وأنا أقهقه
من دون إن ادري إنني أموت
أنها كالشعراء تتوهم أمنياتها نبوءات!

هواجس (غادة السمان) من أفكار وأمور الحياة وهموم لا يطفئها إلا همسات وصراخ الشعر، فكل ما يدور في خلد من هذه الهواجس لا يطفئها إلا الكتابة فهي تروى وتنشد خلجات نفسها والتي تشبهها بحالة (الاحتضان) التي وحدها توقد المشاعر بالإحساس النشوة وكما تقول :(( كلما ضممتني إليك
عدت عذراء من جديد
وشعرت أنها ليلة عرس))، التي وحدها في ضل هذه المشاعر تظل ظامئة لا يروى ظمأها سوى لحظ احتضنها من تحب، فهنا تستخدم التشبيه لان إطلاق العنان لهواجسها فيه راحة نفسية لها ، معللة كل ما يدور في خلدها من الهموم والإحزان وكل ما عصف حياتها، وإنها لو تناستها فسرعان ما تجد نفسها في خضم إحداثها، فهي كتلك (الطفلة) التي وصفتها بأنها ((تعيش حياة مزدوجة بين "ديزني لاند" وديزني لادن")) فان طريقها يسير بها نحو ذلك الحنين والذي يعصف جوانحها. فبعد طول الانكسارات تبقى البراءة والأمل في أعماق (غادة) يتجه نحو ألأمام والى المستقبل المجهول، ولكن منابعها للحرية يجرها نحو الأمام دون يأس ودون تراجع وتتحدى وتواجه، تواجه بالحب لان أعماقها قد احتلها الحب والحرية وأصبح أمل حياتها في الحب، وبين إن تحب أو تحب، وهذا هو قمة الحب والإصرار والتمسك بأعماقه دون هروب ودون نفيه، رغم يقينها بان الحب بات بإصباغ و مزوق كلام فتقول: ((كلما ضممتني إليك.. عدت عذراء من جديد وشعرت أنها ليلة عرس..!)) لتعود في خضم هذه النشوة بأنها يقظة بفعل رغباتها وهي في أوج انفعالاتها وهيامها بأنها (( لن أكون سبحة بين أصابعك تلهو بها وأنت تغزل أخرى))، وفي هذا السياق فان المعنى بتأويل المتوصل إليه يضع الدلالة عند مستوى الفهم المجازي بمعنى إن النص يمثل الواقع الذي تنطلق منه (غادة).

***

استجوبت القبيلة طويلا القتية
بن ميتة وأخرى من ميتاتها
وجنازة وأخرى من جنازاتها السرية والعلنية
وحكمتها بالموت مررا بتهمة الصدق
ووأدتها مرات عقابا
ولم تنجح في الخلاص من تلك التي تحبها وتكرهها في إن كانت البومة دوما تعود
والقتيلة لا تغادر القبيلة إلا لترجع
فالحب مد وجزر
وفي الجزر تعربد القواقع الهلامية والأصداف الصغيرة وثعابين الماء وسرطاناته
ومدعو النبوة وتجار السفن الغارقة وقراصنة بيع الأطفال حتى الذين لم يودوا بعد
أنا بومة الإسرار التي دوما تعود
ولم يعد احد يعرف أهي امرأة من لحم ودم
أم انه شبح من لهبة شمعة لا يزيدها النفخ لإطفائها إلا اضطراما؟

***

لا تشدني إلى حلبة الرقص الباريسية
لا ترش فوق شعري الأوراق الملونة
لا تنفخ في إذني صفارات العيد زماميره انتصارا على سنة اخرى مرت ولم نمت فيها
لا تجرني الى شوارع بالمهرجان بين الشانزليزيه وساحة الكونكورد
لا تسلط الأكذوبة العتيقة التي تتحد عن سنة جديدة
لا تسلط على الأضواء البسيكاديليك إذا راقصتك
فالبوم لا يرى إلا في الظلام
حدق جيدا في الظلام كما يحدق البوم
سترى إن ولادة بنت المستكفي ما تزال تعمل ساقية
في حانة أبي عبد الله الصغير
الذي يتسول بطاقة "الإقامة" في اسبانيا بعد طرده من ملكوت "الغريد غاد" في أمريكا
عبد الرحمن الداخل ما زال يبيع التذكرات للسياح
على أبواب منارات العز الغابر في غرناطة و قرطبة واشبيلية
زياد بن ابيه شيد قصرا في ريف "غربستان"
وصار يحضر سباق"الاسكوت" بالقبعة البريطانية
خالد بن وليد أزال بعملية تجميله اثأر الطعنات وجارح السيوف عن بشرته
وها هي المدلكة الهوليودية تعيد بالضاحية اللندنية
سيف الدولة في رحلة سياحة جنسية إلى الشرق الأقصى
يعاقر النسيان في كؤوس الروم
" ولكن خل عينيك تدمعا"

***
اذا مات صديقي القديم اياه!
لم احزن ولم اذرف دمعة
فقد سبق له إن مات في قلبي من زمان
وبكيته وبومت طويلا ونسيته
غريب أخر عابر في سنة أخرى عابرة لا أكثر ..

هنا ( غادة السمان) ترفع بهذا المجاز اللغوي إلى مجازات أكثر اتساعا ولكن النص بمحتواه لا يتراجع عن هذا الايطار الموضوعي الذي لا تحيد عنه (غادة) لكي تمهد إليه الطريق لبث الأفكار أكثر عمقا في القيم الإنسانية العالية بالوفاء والأمانة والصدق والإخلاص والتضحية لكي يتم تفاعل المتلقي بالنص فتصل رسالة الكاتبة بكل شفافية بكون صورة الحياة التي التمستها من خلال الوعي والتجربة ألمعاشه بأنها لم تكن قط جزء منها وان عاشت تجاربها، فان تكرار كلمة (لا) كما ورد في النص الأتي :
(( لا تشدني إلى حلبة الرقص الباريسية
لا ترش فوق شعري الأوراق الملونة
لا تنفخ في إذني صفارات العيد زماميره انتصارا على سنة اخرى مرت ولم نمت فيها
لا تجرني الى شوارع بالمهرجان بين الشانزليزيه وساحة الكونكورد
لا تسلط الأكذوبة العتيقة التي تتحد عن سنة جديدة
لا تسلط على الأضواء البسيكاديليك إذا راقصتك ....))، إنما تعطي دلالات واضحة للرفض، بمعنى إن (غادة) تهرب من الحياة اليومية الرتيبة المملة لتعيش في الحلم فتحتضن الليل لأنه يشعرها بوجودها في غياب الأخريين الذين يسعون إلى تدمير ذاتها وحريتها فهي تركض نحو الظلام لترتدي لباسه ولهذا في تقول:
(( فالبوم لا يرى إلا في الظلام
حدق جيدا في الظلام كما يحدق البوم ..))، و ((سترى))....! سترى كل ما هو مخفي خلف الكواليس...!، لان النظر من خلال هذه الزاوية يغني بصور كثيرة، لتكون بصيرتها بالأشياء نافذة لإمكانية قراءة كل شيء والتي هي معرفتها التي تغور في أعماقها لفهم كل شيء وسترى إن (( ولادة بنت المستكفي ما تزال تعمل ساقية
في حانة أبي عبد الله الصغير
الذي يتسول بطاقة "الإقامة" في اسبانيا بعد طرده من ملكوت "الغريد غاد" في أمريكا
عبد الرحمن الداخل ما زال يبيع التذكرات للسياح
على أبواب منارات العز الغابر في غرناطة و قرطبة واشبيلية
زياد بن ابيه شيد قصرا في ريف "غربستان"
وصار يحضر سباق"الاسكوت" بالقبعة البريطانية
خالد بن وليد أزال بعملية تجميله اثأر الطعنات وجارح السيوف عن بشرته
وها هي المدلكة الهوليودية تعيد بالضاحية اللندنية
سيف الدولة في رحلة سياحة جنسية إلى الشرق الأقصى
يعاقر النسيان في كؤوس الروم))، وبعد كل ما ستلاحظه عبر هذه المشاهد، وهي مشاهد فيها أكثر من دلالات وإشارات ورموز يتطلب منا الغور في أعماقها لكشف ما هي الدلالات وما هي الإيحاءات التي توحي بها (غادة) عبر ذكر هذه الصور ومشاهد....!
لنستشف بان كل ما يتم تزويقه هنا وهناك ... هو تملق وكذب ونفاق يدحض عبر هذه الصور التي هي مشاهد من الواقع نشاهدها في مدن الغرب وكيف آلت إليه صور من كنا نعرفهم أو كنا نسمع عن أمجادهم، وهي مشاهد للأسف مؤثرة مؤسفة على ما آل إليه مشهدنا العربي، وكما تقولها بلغة عامية " ولكن خل عينيك تدمعا" مع كل ما يؤل إليه المشهد، ومع ذلك فإن (غادة السمان) لن تذرف دموعها على من مات.. ولن تبكي، فتقول:
((اذا مات صديقي القديم اياه!
لم احزن ولم اذرف دمعة
فقد سبق له إن مات في قلبي من زمان
وبكيته وبومت طويلا ونسيته ..))، فـ(غادة السمان) لن تخالط نفسها ولا تصطنع التمثيل لأي مشهد وهي على علم بجوهر موضوعه وبتفاصيله لأن رؤيتها كرؤية (البوم) قادرة على قراءة الليل قراءة جيدة وتتعسس بكل شاردة وواردة.

***

كنا نطالب بتحرير كامل تراب ارض الوطن
فصرنا نطالب بتحرير ضفة
كنا نتحدث عن وحدة من المحيط إلى الخليج
صارت العبارة نكتة دامعة
وصرنا نحلم بتوحيد الشرقية والغربية في بيروت قلبا لا مظهرا
وكنا نتحدث عن اقتحام العالم
وصرنا ننام ونصحو على هاجس اقتحام بيت الجيران
فيا حسرتا على ما سيكون وما كان !!

(الرقص مع البوم) نموذج للمعانات الإنسان في يومياته المؤلمة تسلط الضوء على الحلم الذي يتكسر كلما اقتربنا من الصحو، لنصحو ونحن نتقوقع في محيط اقصر من ظلال أجسادنا على الأرض فلا أفضل من واقع المر الذي نعيشه، فان كنا بالأمس نطلب ونحلم ونتمنى أشياء .. وأشياء .. وأشياء....! أصبحنا لحالة التي صحونا عليها ونحن فيها حيث الفواجع والمأساة ومن تحطيم وتمزيق نطالب فقط إن يتركوننا نتنفس دون تعذيب وتجريح وآلم، لتجيد (غادة السمان) تأدية المعنى من صور التي استدرجتها من ان (( نطالب بتحرير كامل تراب ارض الوطن)) إلى ((تحرير الضفة)) ومن ((وحدة من المحيط إلى الخليج)) إلى ((توحيد الشرقية والغربية في بيروت)) ومن التحدث عن ((اقتحام العالم)) فصرنا ((ننام ونصحو على هاجس اقتحام بيت الجيران .. فيا حسرتا على ما سيكون وما كان ))، فهذا الأداء الذي قدمته (غادة) ليس عنصر لتزين أو لزخرفة القصيدة بقدر ما هو صورة فنية عالية التعبير عن هموم الإنسان العربي، انسكب الألم والحزن انسكابا في أعماقه الحزينة، ولهذا فان الرقص مع البوم، نموذج للقصيدة المعاصرة ليست سهلة بقدر ما يتطلب منا البحث عن كل مقاطعها لاكتشاف ما يغور في أعماقها السحيقة من معاني ودلالات وإيحاءات، لان (غادة السمان) تطرح مواقف وأسئلة جوهرية تخص واقع عالمنا العربي وإنسان الشرق، ولعل ما يميز هذه القصيدة هو حالة الهذيان، والألم، والغربة، والاغتراف، والحزن، وكل ذلك ما هو إلا ظاهرة من ظواهر القصيدة المعاصرة الحديثة وقد أبدعت قريحة (غادة) كل الإبداع، لأنها تعاملت مع بناء القصيدة شكلا وموضوعا تعاملا فنيا رائعا إلى جانب تعاملها بالقيم الإنسانية انطلاقا من وعيها الفكري والثقافي والشعري ومن إحساسها المرهف والمتألم بأوجاع الإنسان العربي، فتغوص (غادة) مبحرة في عوالم القصيدة (الرقص مع البوم) بومضات شعرية بلغة معاصرة تتضمن نصوص اندهاشية مفتوحة مع الكثافة في العمق والرمز وفي المعنى والتعبير بغية لمنح مجالا أوسع للتعبير عن كل ما هو في الذات وما هو في الواقع المعاش لتفصح عن أفكارها الفلسفية على نحو فني يبعد عالم القصيدة عن المباشرة والسطحية ليتوغل إلى اللامباشر والى عمق الإيحاء والترميز والإشارة بعد تمكين ألأداء بربط بين الفكرة والبناء الفني للقصيدة وذاتها وبين واقع الإنسان العربي الممزق و المغيب، فهي تكشف على صعيد آخر عن حالة التصدع سواء على مستوى المحيط أو الذات، ليشكل في النهاية كل ما تكتبه وتؤرخه عبر القصيدة (الرقص مع البوم) ضوءا يسلط على المنطقة بتاريخها السياسي و الثقافي والاجتماعي، لتبقى القصيدة في جوهرها تقدم رسما للهوية الممزقة المتصدعة، فصارت (الوحدة ) التي ننشدها نحن العرب كيانا متفردا قائما على وحدة تؤلف بين عناصر النص وتقدم موضوعها بطريق إيحائي باستخدام التكنيكات وتقنيات اللغة الفنية المعاصرة عن طريق تكثيف في تقديم الأفكار عبر الصور المستلهمة في معاني و في اللغة الشاعرة .

***

في الربيع تخلع السلحفاة صدفتها
وتتحول إلى فراشة
نادرة هي اللحظات التي تداعبت فيها السماء أخمص قدم الأرض
وتحلق العصافير حتى مصابيح النجوم
ولكن ذلك ما يحدث حين تلثم قلبي هامسا:
كل ربيع وخريفك خير أيتها البومة


***
لا ترش مسوق الكوكايين فوق طعامي خلسة لاشتعل
يكفيني غرام من الملح الصخري
من شواطئ لبنان الربيعية لأطير واحلق

فالنص بصياغته للأشياء المحيطة تمازج بما يتم لها عن طريق الحدس والشعور تارة وتارة أخرى بالفكر والعقل وهي سمة تنفرد بها (غادة السمان)، وهذا الاندماج بين العقل والحدس وبين الفكر والشعور ينقل نصها الحداثي المعاصر من طور المجاز والتشبيه إلى طور يضاف إليهما صور الرمزية والأسطورة والصور الذهنية بطاقات اللغة والإيحاء ليكون غايتها من ذلك أداء دلالية لفهم النص عبر صورة ثلاثية الإبعاد لروح الكاتبة وفكرها وخلجاتها وكل ما يعكس لها ضمن مواقعها في ألازمنه والأمكنة المحيطة بها، وهي صور تصورها عن تطلعات وحالات انفعالها وكل ما افرز جراحاتها وهي في يقظة الضمير تتحدى جراحات الغربة والوطن والحب وتحمل بكل شفافية وصدق أحاسيسها عبر الرمز ولإيحاء ((لا ترش مسوق الكوكايين فوق طعامي خلسة لاشتعل
يكفيني غرام من الملح الصخري
من شواطئ لبنان الربيعية لأطير واحلق))، هكذا تصور وتنقل هذا الحب فتوظف الخيال والواقع ودلالة المفردة في صور النص ليعبر ما هو خلف مكنونات الذات وانفعالاتها ومواجعها بكل وضوح .

***
اينما حلقت أطير دوما صوبك
وقلبي بوصلة تشير إليك
لا أريد ان أذكرك ولا استطيع نسيانك
إن تحبني أو لا تحبني
تلك هي المسالة..

***
قال الخل للنبيذ : انا اصغر سنا منك
قال النبيذ: اجل لكنك في الربيع القادم
ستصير خلا عتيقا وسأصير أنا نبيذا معتقا
أننا مختلفان فالزمن ضدك لكنه حليفي
من يحالف الزمن هو الرابح
تلك حكمة البوم

التكثيف في المضمون النص وفي بنية الصورة الشعرية هو مفتاح البناء الفني العالي للقصيدة، وهذا التكثيف هو ما يمهد إلى تأويله، وهو الأمر يقودنا بتنوع وبتعدد القراءة النص لما يحمل من كم هائل مما هو مرادف له، فالنص المقدم بهذه الصورة يمارس فعل العطاء والتنوع كون محتواه يتجلى ما بين التركيز والتكثيف ليمنح لنا فرصة لتأمل اعمق لاستيعاب الصورة بما يحتويه النص من دلالات وعواطف تكون قابلة للعطاء وللاتساع عبر التأمل وإنشاء الترابط الموضوعي بين مكونات النص الشعري والتي جلها ترتبط وتنطلق بترابط بين تطلعات (غادة) وعالمها، ففي هذا المقطع:
(( قال الخل للنبيذ : انا اصغر سنا منك
قال النبيذ: اجل لكنك في الربيع القادم
ستصير خلا عتيقا وسأصير أنا نبيذا معتقا
أننا مختلفان فالزمن ضدك لكنه حليفي
من يحالف الزمن هو الرابح
تلك حكمة البوم ))، نجد بان الفكر المطروح يرتقى بإبعاد فلسفية ليشكل نموذجا راقي من عطاء الفكري عند (غدة السمان)، نستشف منها دلالات وعبر، فحرية الرؤية هي التي تنتقي المفردة عبر الفكر وفق تأثير الذات وما يرتبط بكنهها، ليتم تشكيلها تشكيلا فكريا موحيا في أعطاء الشكل وثراء الدلالة بكل مستوياتها.

***
ترتجف الشمس بردا حين نفترق
ينتحب البدر هلعا من كسوف ليلي
يدا بيد يمشي حزني مع فرحي
فالفرق موت لكن الفراق حرية والحرية حياة
الموت السعيد كما دائما ثمن الحرية!

***
الحب الجديد هو إن ينمو بستان من شقائق النعمان الأحمر الربيعي فوق حقول رماد السنة الماضية
الحب الجديد هو إن تنمو الحدائق فوق ارض حرائق ما كان
وان يبدو لي ما كان غابرا حتى النسيان

***
الذي يحبلون بالليل سنين طويلة
قد ينجبون شمسا إذا عشقوا الأمل
وضوء عينيك مشروع ربيع

البلاغة سمة الكاتبة والشاعرة (غادة السمان) في النص، فالبلاغة حاضرة مع زمن القصيدة، وتضرب في عمقها الدلالي واللغوي والجمالي والمعاصرة أسلوبها وهي تعني الحداثة والمعاصرة، فعوالم (غادة) وانصهارها في الحب والحرية مرورا بحالات الإحباط العاطفي في كتاباتها وإفراز مداخلاتها بالأسباب والعلل مرورا بتجاربها وفواجعها والغربة والاغتراف العاطفية ومحاولة التمرد انتهاءا بتوظيف فلسفتها وثقافتها في استخدام الرموز وتكثيف الصور تأتي موازية لما تملك (غادة) من طاقات إبداعية وما تنطوي عليها من فاعلية مؤثرة تكسب كتاباتها هذه القدرات الفنية والدلالية التي نراها في نصوصها ونلتمسها من خلال التراكيب اللغوية العميقة السعة والشمول والتي تعطي لبنية القصيدة (القص مع البوم) نسيجا فريدا من الدلالات والمعاني والرموز التي تتجه إلى العالم (التبويمي) الغامض الخفي الذي تناشده في هذه القصيدة لتجسيده على مستوى الفكري والنفسي والإنساني .

***
كنت تريد تسير حياتي بـ "الريموت كونترول"
كما تدير خاتمك في إصبعك
وكنت ابحث عن أفق شاسع يتسع لجموحي
فكيف تهديني جدارا وقيدا ذهبيا وكمامة
وأنا بومة الضوء والحرية والأفق ؟

***
في الحلم عدت إلى دمشق
سألني بيتي : من أنت أيتها البومة المشردة؟
لم يعرفني خشبة ولا "السقاطة" المعدنية التي علقها جد جدي على الباب المنقوش بالآيات القرآنية والحكم
قلت لبيتي:
فتك بي الحنين إلى حب الشام ودفء الشام
لحظتها فقط وعيت إنني النسخة النسائية العصرية من "عوليس"
ووعيت أيضا إنني رحلت طويلا طويلا
بأكثر مما يتسع له عمر واحد
حاولت إقناع الربيع بان يشهد لي
عند شرفة البت العتيق اللامنسي حيث كنت أقف طويلا
رفض الربيع
وحده شبح جاري المراهق العشق
الذي كان ينشد تحت شرفتي في الثلج منذ عقود وعقود عرفني
ولو لم يشهد شبحه إنني كنت هنا
لما تذكرني بيت أجدادي
ولما عرفني ربيع الشام
استجوبني الربيع : أيتها البومة لماذا تهيمين وتكتبين؟
اكتب يا سيدي الربيع لكي لا اقتل

الأفق.. والضوء.. والحرية مفردات ترمز إلى اللا حدود والى المد المفتوح، وهي صور تراد منها (غادة السمان) رفع مستوى التفكير لارتقائه إلى مستوى العبر والحكم من خلال البناء المتدرج والترميز لتبث روح الجمال في النص، فالمجاز اللغوي والإيحاء دائرتها لان (غادة) تمتلك رؤية سحرية في اللغة لحجم امتلاكها الإبداعي وقدرتها في إعادة صياغة الحكايات والحكم لتكون كمثل لمقياس الحق وفرز الباطل، ولهذا فإننا من خلال نص المقدم نراها تتجه إلى تراث وتختار حكايات و شخوص باعتبارها امتدادا إلى الحاضر وكرد إلى ذلك الماضي فتصوغ جمل نقرا من خلالها حكايات ونلتمس منها إحساساتنا لنعي كيف تحملنا مشاكلنا في متاهات الطريق فتقول : (( في الحلم عدت إلى دمشق
سألني بيتي : من أنت أيتها البومة المشردة؟
لم يعرفني خشبة ولا "السقاطة" المعدنية التي علقها جد جدي على الباب المنقوش بالآيات القرآنية والحكم
قلت لبيتي:
فتك بي الحنين إلى حب الشام ودفء الشام
لحظتها فقط وعيت إنني النسخة النسائية العصرية من "عوليس"
ووعيت أيضا إنني رحلت طويلا ..طويلا
بأكثر مما يتسع له عمر واحد ))، فالوعي هنا توظفه (غادة) توظيفا فنيا معاصرا، فالماضي ليس هدفها بقدر ما يراد منه تبيان جمالياته، وهذا التجميع هو بناء تكاملي بين الحداثة والأصالة والمعاصرة بتعبير درامي الذي تبدعه (غادة) بكونها لها قدرة على إمساك بخيوط الدراما والشعر لنسج معطيات الفكر نقف عندها .
فـ(غادة السمان) عبر هذه الفضاء تنقلنا إلى صور تنزف ما بين الألم والأمل وهي معذبة بنار الأرض و الغربة والحرية وفي تجليات رحلة لا يعرف لها نهاية وهي ما تقودها إلى الكوابيس، تخفق أنفاسها بمطبات الغربة لتشتعل دواخلها بنيران الحنين تتذكر الحارة والأزقة القديمة في دمشق موطنها، فتمر بأزمات لا تستطيع إيقاف استيقاظ الخيال على ماضيها فتنشطر روحها بين الأرض الوطن والغربة، فتتقد أعماقها وهو ما يستنفر لغتها في الكتابة بشدة الصدمة من سفر المنفى، فتدخل فضاء الحرية وهي إليه تختزل مشاعرها بما يمكنها التعبير عن الألم والعذاب وهي النافذة التي تطل من خلالها لتتنفس عميقا بين مفاصل الوطن والغربة والحب والشوق والحيرة والمنفى والغياب حيث كل ذلك يختزل معانيه وهي تقتنص لحظة التأمل في الليل فتاتي تأملاتها وأسئلتها وتطرح قضايا الوطن والإنسان والأرض والحرية في رؤية تواجه العالم بأسره عن كل الحقائق التي يراد إخفائها وتظليلها عن رأي العام من خلال (الرقص مع البوم)، حيث أصعب الاستفهام في عالمنا تطرح فيها بمقاصد بلاغية ليزيد من قناعتنا في أهميتها والمسؤولية الأخلاقية التي يترتب عنها تحملها في هذا الأفق الذي تعلنه (غادة السمان) بين الوطن وأهات والعشق والجسد والآم والغربة التي أجاد نص القصيدة التعبير عنها و تسليط الرؤية إلى صورها والتي يتكاثف فيها عناوين الوطن والوجع والأنين والحنين وبرد الغربة بما هو سبب في إفراز كل هذه المعطيات.


***
اتامل صديقي الشاعر الشاب
وهو ينتحب ليلا ويشحذ أسنانه على كريستال النجوم
واكتشف كيف تولد الثورات من إحزان التمرد والرفض والعصيان
ريثما يجيرها سماسرة الثورات لمصالحهم
ثم ماذا؟ ثم يلتهمون الشاعر على مائدة تكريمه
بعد إن يمتلئ فمه بالطعام كخروف معلوف وتشل حنجرته

***
المحاولة الطفولية المرتبكة للإحاطة بجماليات حبك
تشبه محاولة تنظيم المجرة في ابراج البخت
أنت المحيط والتنظير لك عنك ساقية؟

في داخل هذا النص تحاول (غادة السمان) عبر اللغة الشعري باختزال المعنى وتكثيفها ليتم تركيب البنية الجديدة وبثه في روح الشعر، فاللغة المجازية هنا تكمن في مجموعة من المجازات والاستعارات البلاغية والمقارنات بين طريق الثورة والتمرد وبين أفعال السماسرة وشراء الذمم، وباختصار هي لغة حادة سخرت الشعر في داخل هذه اللغة، ولا شك إن (غادة) تبدع في هذا المنحنى كل الإبداع وبلغة معاصره، وهذا الابتكار لا يعني في المطلق في الدلالات اللغوية الغير الوارد في معاجمها بل هو تجديد في صلب اللغة من حيث التشكيل والتركيب والدلالة بكون (غادة السمان) لا تجاري اللغة الدلالية بل تثور عليها لتخلق موضوعا مع بنيته التركيبية لتشكل بحثا بمعنى جديد عن الحقيقة مرتبط بين الذات والموضوع .

***
فتوحات النسائية كلها لا تخيفني ..
ها أنا أتمدد على قمة بركانك وأنام ملء جفوني!
معك شاهدت الكوب دائما ممتلئا حتى نصفه
حتى حين يكون فارغا..
صدقت حبك الوهمي حتى وأنت تخونني
الهاذا تعود دوما إلى وكري البومي؟
وهل يعشق الرجل أكثر النساء حماقة مثلي
واكثرهن عشقا - مثلي - لزين الشباب؟

***
في الليل كتبت على جدران قصر الحمراء في غرناطة:
جدي مر من هنا من زمان..
فكتبت لي الجدران
جدك ذهب يبكي من زمان ولم يعد!

من هذه العبارة ((معك شاهدت الكوب دائما ممتلئا حتى نصفه حتى حين يكون فارغا..)) يكون منطلق (غادة السمان) قد انطلق التعبير في قدرة الرمز على الانفتاح في النص الشعري، وهذه ذروة الفلسفة تتقنها (غادة) حين تنتفض ثورتها من صلب الحواس والتشبيه والمقارنة كونها تعاين وقائع التمستها، ولهذا جاء توظيفها على شكل رموزا تستند إليها في الإشارة وإيصال فكرتها والتلميح, (على ما كتب على الجدار وما نطق بها الجدار) لتوظيفها كوسيلة فنية متطورة لخلق صورة ذهنية للمتلقي بين الثنائيات الضدية، فالنص يرتقي بالمعنى - وهو في غاية الأهمية - من خلال ما يحمله من تناقضات، فهذا النص لـ(غادة) لهو قادر على الأداء الرمزي لبلوغ مرحلة في إيضاح الفكرة عبر التأمل الفلسفي لهذه الجملة الشعرية، وهنا في تصوري تأتي أهمية النص في مقاربة المتضاد من كونه يشكل عنصر المفاجئة، وهذه المفاجئة تغدو فاعلة لفعلها الفلسفي تطرحها (غادة) بقدرة تحليله عالية في صناعة المفردة الشعرية الحديثة والمعاصرة كنوع متطور من الدراما في النص الشعري.

***

من أي بهاء أبدا وأية شفاه اقبل؟
الشفاه الحجرية الحية للتماثيل من " ساحة الكونكورد" ام تماثيل حديقة"اللوكسبورغ"؟
ام شفاه لوحات مجانين الرسم في "مونتماتر" حول " الساكريكور"؟
هل اقبل شفاه "الحي الاتيني"
التي تروي تاريخا من الجنون والذكريات والشمس الغاربة؟
أنا امرأة عربية عمرها ألف عام من الحروب والغزوات والحرائق والإحزان والفجائع
وبين هدنة وأخرى يشن على بعض ذكور القبيلة حروبهم
وكلما نجحوا في وادي قرنا طلعت من تحت رمالي لأطير
تعبت من الموت وحضارة الموت وإعلامه وأصواته المعولة ونياشينه "وميكروفوناته" وجماجمه المرسومة على الأبواب
أريد إن أعانق حياتي لا موتي
فكيف لا أعانق تظاهرت الحياة اليومية على رصيف " الشانزيليزيه" ومهرجان الفرح والسياح والعشاق؟
وكيف لا أضم الى بسطات الكتب الجميلة
على أرصفة "الضفة اليسرى " والسان ميشيل"؟
وهل اصدق ان " الحبيب الفرنسي" الذي راقصني
على سطح مركب يتهادى فوق نهر السين
و حقا احد إبطال رواية من روايتي
وانه ولد على أوراقي وسيموت عليها حين اقتله؟

***

في قصرك الخرافي "نويشفنشتاين"
التقيتك يا ملك الوسامة والحب والجنون والموسيقى
يا لودفيك الثاني عاشق موسيقى فاغنر وولي نعمته
اقتدتني إلى شرفاتك التي تطل من
على خضرة بحيرة وسط خضرة الوادي
وأفهمتني إن "اللانهاية" بحيرة بافاريه
وجبلا "البيا" من جبال القلب قبل جبال الألب
لكنك لم تدلني على البحيرة التي قتلوك فيها
و زعموا فيما بعد انك انتحرت
قال لي شبحك انك انتشرت في الريح بعد موتك
شعاعا بين المطر والبحيرة والأفق
صرت بعضا من موسيقى فاغنر .. وكنت تكذب يا مولاي الملك فقد التقيتك بعدها في قبو كنيسة "ميكايل كيرشة" في ميونخ
كنت هذه المرة داخل تابوت يحمل اسمك بحروف نصف ممحية
اه يا صديقي الملك لودفيك الثاني
كلنا نمشي في الجبال والغابات والعصور والمدن والأبجديات مرحا
كلنا نمشي في الارض مرحا
وننتهي كأي صعلوك صغير تجلد في حديقة عامة
داخل تابوت اقصر من قامة أحلامنا
وحتى اقصر من قاماتنا
كتابوتك في الركن المعتم في قبو الكنيسة
كأننا لا نتعلم الحكمة الا داخل القبر !

***
في الطائرة إلى "انسبروك"
كنت احلم بشهقة من الأوكسجين النقي بين الجبال المحيط بها
وبكلمة "احبك"
تحت "السقف الذهبي" الشهير في الحي التاريخي القديم
كان تمطر حتى الانتحاب
حين التجأنا إلى مقهى " غدينا" في شارع" برادلسترابه" وجاءت الطيور تاكل عن شفاهنا بقايا الحلوى
بالعسل الأسود والقبلات الضجرة
وتحت "السقف الذهبي" قلنا وداعا للعصر الذهبي لحبنا!
الحمقى وحدهم يبكون رحيل الحب
فالحب كالورود الجميلة ولد ليموت
لكن عمره ملايين الأعوام...كالوردة

***

تعول الريح الخريفية الأوربية فوق جسر نهر سالز
تعول النوافذ المغلقة لبيت كتب على لوحته الرخامية
هنا ولد قائد الاوركسترا الكبير فون كاريان..
تطالع اللوحة كمن يقرا شاهدة قبر ..
تطالع الريح كمن يقرا الوداع والفراق والنسيان والذاكرة
بين أصوات الكمنجات والبيانو.. وانتحاب القيثارات
تعول الريح حول البيت الذي ولد فيه موزار والساحة امامه
وانا لا اسمع شيئا غير موسيقة موزار في مدينته الأم
أطارده و هو يركض إمامي طفلا ضوئيا
يعزف على " المزمار المسحور"
الحق به وهو يتسلق جبال الالب من دون ان تمس قدماه الأرض
اركض في الجبال خلف موسيقى " المزمار المسحور"
وإذ بي وجها لوجه مع حبيبي الدائم " رجل الثلج"
أجمل ما في الجليد لحظة الذوبان فالغليان
فيا سحر رجال الثلج!

هنا نشعر حقيقة مدى حرقة (غادة السمان) وتأجج فوأدها وهي تسرد وتروي ما وغز ضميرها من صور الخداع والتزييف والتملق الزائف وبناء العلاقات وفق المصالح، فهي مقرفة من هذا النفاق فتصور البلادة والضجر والملل ضمن بيئة ملوثه فيجتاح أعماقها ثورة تمرد عارمة بما تعانيه من قلق وصراعات وإحباط، و بما ترى وتسمع من صور واقعية وهي تعلم عما يدور حولها فتلتمس كل ما يهري مجتمعاتنا العربية من تفشي آفات مرضية و حدة التناقضات، فراحت تسخر من هذا الواقع عبر صور ومشاهدات فتصور وتلتقط مشاهد من هنا ومن هناك وبأسلوب رمزي تعاينه في كل لقطة وهي تحدد ملامحه عبر رؤية من خلال زاوية التي تقف فيها (غادة) وبما تضفر رؤاها الذاتية وإحساسها والذي يمكننا ان نعينه بكونه شديد الخصوصية بتحديده في النص المقدم، لندرك حجم القسوة التي تعانيها، ليتم لها أبرز هذه الأمكنة والأزمنة بما يدار حولها الآن......!
فتذكر (قصر الحمراء في غرناطة) و (ساحة الكونكورد) و (حديقة اللوكسبورغ) و (مونتماتر) و ( الساكريكور) و(الحي الاتيني) و (الشانزيليزيه) و( أرصفة الضفة اليسرى ) و (السان ميشيل) و(نويشفنشتاين) و(موسيقى فاغنر) و ( بحيرة بافاريه) و (جبلا البيا) و( جبال الألب) و(ميكايل كيرشة) و( ميونخ) و(الملك ودفيك الثاني) و (انسبروك) و(مقهى غدينا) و(شارع برادلسترابه) و(فوق جسر نهر سالز) و(قائد الاوركسترا الكبير فون كاريان) و(موزار ) و(المزمار المسحور) و (رجل الثلج)، فهذا التكثيف في ذكر الأماكن والأسماء هي رموز لتحريك خيالنا الذي يمهد لنا قيمة التعبير الشعري عند (غادة السمان) باعتبار الخيال يبث في الأعماق (الإيحاء) الذي هو تعبير الحرمان والمكابدة لرغبة البقاء في بيوتنا و أوطاننا كما نشتهي البقاء من خلال أحلامنا محققين طموحاتنا كبشر، فتكثيف ألماكن والأسماء ليست إلا مجاز رمزيا رائعا تقدمه (غادة السمان) بلغة شعرية رصينة وهي متيقنة بهذا الهذيان ألذي يشاطرها في الإحساس المتكئ على نزيفها وبما يجيش في أعماقها من انفعالات عاشتها في تفاصيل الإيحاء والإسقاط الصورة عن صورة والماضي على الحاضر وتطرحه وهي محملة بالدلالات كرسائل موجه لعالمنا العربي (المحاصر) بالقسوة والحرمان فهي غير أسفه ولن تبكي عن كل ما ضيعته فتقول بقسوة بالغة التعبير عن الألم وأعماقها متكسرة ولكن بلغة التمرد والتحدي. فان كان نص (غادة السمان) ذو مسحة تشاؤمية يهيمن عليه الحزن والفراق والألم والعذاب ولكن لمجرد تعبير عنه هي ملامح للبشارة الخلاص من ذلك الواقع المتأزم فخرجت لنا بهذا المقطع المعافى :
((الحمقى وحدهم يبكون رحيل الحب
فالحب كالورود الجميلة ولد ليموت
لكن عمره ملايين الأعوام...كالوردة))، وهذا يعني ان (غادة السمان) كشاعره وكاتبه بالرغم كل ما أحاطها من حصار ما زالت كاتبه وشاعره متألقة تمارس دورها في التحدي والتمرد من خلال كتاباتها الرائعة وهي وليدة العاصفة وعدوة الكذب، والتملق، والدجل، والجهل، وهي شاكست هذا الأفق من التنميق الغير المجدي .

***

لكثرة ما الصقوا الصدفة على أذانهم
توهموا انها الناطقة باسم البحر
وصوت الموج على الأرض
ترى هل النجوم
ثقوب حفرها الشعراء في جدار الليل الصلد
ليرى الناس عبرها المدى و الأبدية؟
تتسكع البومة بين النجوم والمجرات
في مركبتها الفضائية الروحية
محفوفة بالأشباح اللطيفة
وتسبح الخالق العظيم للأكوان واللانهايات
ولا تسمع أصوات ضفادع المستنقع
وهي تتآمر على أجنحتها ...

***

كيوبيد اله الحب يشع كراهية وعدوانية
وهو يرسل سهام الحرب الملتبسة
التي يلقبها الناس بالحب
يكره كويبيد العشاق جميعا
ولذ لا يرشقهم بوردة بل بسهم الحب
المغموس في سم المرارة والخيانة و المكائد
ألهذا ما من حب سعيد
إلا في لحظة ما قبل إطفاء الضوء؟
ألهذا يشبه الحب العداوة أكثر من الصداقة والود ؟
فليكن حبنا مرحا بالغرم من انف كويبيد
ولنعش معا حكاية حروب مرحة لا منسية
ففي الحب الكل غالب ومغلوب!

***

لن اغفر يوما
لمن أكل السكر واللوز والحرية على يد لبنان
ثم عض الأصابع التي أكرمته
لن اغفر لمن شرب الضوء من بئره ثم رمى بأصبع ديناميت
ارحل وعلى كتفي حقيبتي
وعلى الكتف الأخرى رجل جمارك
يصرخ بي في مطارات ثلاث قارات:
ما الذي تخفينه في حقيبتك ؟
اخفي في حقيبتي حبا لا منسيا
وملايين الخيبات واللحظات الدهرية
حقيبتي مثل قبعة الساحر
مليئة بالأرانب والمناديل الملونة للوداع
والدموع السرية والإزهار والتنهدات
في حقيبتي تعويذة هي حفنة من تراب لبنان
لقلبي سقف من القرميد
لم يعد قلبي يشبه صورته في كتب الطب
بل صار شبيها بخارطة لبنان
يا من غدرتم بذلك الوطن النادر
انظروا إلى حالكم
انتم دونه في عراء التاريخ ..!


حين تختم (غادة السمان) قصيدتها (الرقص مع البوم) بهذه الأحاسيس المرهفة التي اجتاحت وجدان الكاتبة والتي أفرزت كل المشاعر التي أرادت ورغبت في إيصال معانيها إلى ضمير الإنسان الحي، وفعلا قد وصلت رسالتها إلى عمق تذوقنا لجماليات القصيدة بشقيها الظاهري والباطني رغم إن ثقل القصيدة يرتكز في عمقها الباطني، فالماضي ضل حاضرا يطارد الشاعرة بغيابه وحضوره، لان (غادة) تعبر عن أزمتها الوجودية بطريقتها ومن خلا ل اعترافاتها للخلاص من اللعنات التي تطاردها، فالهروب من الوحدة والاختناق هو الذي يخلق في ذاتها عوالم من الخيال تنثر بذور زراعتها بكل إحساسات ليثمر إنتاجها هذا الكم من التعبير النابع مما عانته من صراخ الروح ومن تمزيق القلب، وما التجائها إلى الحلم إلا بعد إن وجدت استيقاظها مستحيلا في وقت الذي هي مستيقظة وفي أوج الاستيقاظ، وفي عمق وجودها وإدراكها، وهذا التناقض هو الذي يفرز هذه الصراعات النفسية التي تعاني منها ويجعلها تصرخ بوجه الأخر لاستيقاظه بما هو ماضي إليه دون مبالاة، فالسهم (كيوبيد) اله الحب ليس كما يضن بان يرشق سهامه لإيقاع المحب بحبه بل هو كما تضن (غادة السمان) سهام ( يشع كراهية وعدوانية.. وهو يرسل سهام الحرب الملتبسة..التي يلقبها الناس بالحب ) فـ(كويبيد) كما تقول:
((يكره كويبيد العشاق جميعا
ولذ لا يرشقهم بوردة بل بسهم الحب
المغموس في سم المرارة والخيانة و المكائد
ألهذا ما من حب سعيد
إلا في لحظة ما قبل إطفاء الضوء؟))، ومن هنا فان الرمز الذي يفصح عنه بهذه الجمل مراده... بأن (غادة) لا ترسل لنا نصا لمجرد قراءته وإنما ترسل نصا هو كسهام (كويبيد) مغموس في سم المرارة.. والخيانة.. والمكائد، لنستيقظ على نصوصها إلى أين نحن ماضون ......!
فالصورة الشعرية هنا هو جزء من أسلوب (غادة السمان) في رفض الاجترار الزائف لما هو سائد، ليأتي نصها بصورة صادمة لملتقييه لأنها تنبئ عن واقع وحقيقة (ما) دامغة يخشاها المجتمع، وهذا في اعتقادي الإلهام الذي يعتبر نضجا مفاجئا غير متوقع لكل ما طرحته (غادة السمان) من قراءات ومشاهدات وتأملات و معاناة من تحصيل وتفكر في اختيار المفردات الرمزية او الأسطورية الموحية والمشعة بالصور، بحيث توحي اللفظة بأجواء نفسية خاصة وانفعالات عاطفية التي تكابدها (غادة)، فقلبها الذي تفطر بتصدعات الكذب والخيانة وذاقت المرارة لدرجة التي أوصفت حالتها بكونه صار شبيها بخارطة (لبنان) كما تصف نفسها، فتصرخ بعبارة جدا قاسية بوجه المجتمع لتختم كتابها ( الرقص مع البوم) بعبارة لا يمكن نسيانها في المطلق لحجم قسوة العبارة فتقول:
(( يا من غدرتم بذلك الوطن النادر
انظروا إلى حالكم
انتم دونه في عراء التاريخ ..! ))، نعم نقولها نحن أيضا مع (غادة السمان: (( يا من غدرتم بذلك الوطن النادر
انظروا إلى حالكم
انتم دونه في عراء التاريخ ..! ))، هذه هي البلاغة الحقيقية، وقمة التعبير الشعري، والتي انطلقت منها (غادة السمان) من خلال لهيب التجربة والمعانات، صورة مدهشة وملتهبة في آن واحد، وهذه الصورة هي مظهر من مظاهر خصوصية (غادة السمان) على مدى قدرتها على (الابتكار) و(الإبداع) و(الخلق)، كونها جندت كل مقومات اللغة وتعاطت مع أدواتها ومع العناصر المختلفة في قصيدة (الرقص مع البوم)، من الإيقاع، والموضوع، والرمز، والأسطورة، داخل النص، فهذا التكثيف الذي لاحظناه في القصيدة تم بتقنية ومغامرة في الترميز والسرد الروائي بين الشكل والمضمون القصيدة ليبقى النص في التشكيل الشعري بصمة من بصمات الحداثة والمعاصرة حيث استحدثت قصيدتها المطولة هذه (الرقص مع البوم) بمشاعر صادقة فرضت نفسها على النص لتلامس جماليات التعبير لتصطبغ بها قصيدتها بعمق وجمالية فنية عالية الدقة والتصوير والترابط بين أجزائها وتتابع المعنى وخلوها من الحشو، لتجعل (غادة) من النص الشعري في (الرقص مع البوم) لها ثقله و وزنه لما تحمل القصيدة في أعماقها من معاني عميقة وعميقة جدا يصعب الغوص فيها إلا من له اطلاع موسع للإعمال (غادة السمان) ليكون على بينة بأسلوبها، لان أسلوب (غادة السمان) وتحديدا في هذه النص من (الرقص مع البوم) الشعري معمق جدا لما يحتمل التأويل بكل الاتجاهات، فتكثيف الصور عند (غادة السمان) يعطي ثراءا في النص الشعري لما له من دلالات رمزية يعمق عطاءه فيما وراء النص لأنه يساعد على إثراء المعنى وهذا ما يكسب لنص قيمته في الفكر الإنساني ويحقق انفتاح نحو عوالم غير مرئية عبر إيحاءات اللغة التي تساهم تجربة الكاتبة باكتشافها في عوالم غير محدودة، فالرمز هنا هو الدلالة اللا متناهية يضاء وجوده حينما نتقصى ونبحث عن منابعه عبر القصيدة، فقصيدة (الرقص مع البوم) فيها الشيء الكثير من إسقاطات هذه الرموز ما بين الماضي و الحاضر وخروجها من ذلك الماضي إلى الحاضر وهذا ما يجعل نص القصيدة أكثر عمقا لما له من بعد إسقاطي بعد إن يمنح التعبير الذاتي بعدا دلاليا معمقا بما يحمله الرمز المقدم من خلال النص إلى معاني أكثر شمولية من نص ذاته، وهذا الفعل ضل حافز عند (غادة) لإخراج نصوصها بهذا البعد الفكري والفلسفي .
فتكثف الرموز الأسطورية والإيحاءات وجمل القصيرة والطويلة ودلالاتها تصنعها (غادة السمان ) في نصوصها الشعرية كأي صناعة بمهارة وتحبكها بإتقان بغية تحقيق الاندهاش وفعل المفاجئة الغير الماطر بحدود معينه ليبقى النص مفتوحا لكل الاتجاهات والى ما لا نهاية، فخطوط كتاباتها هي أشبه بخطوط سريالية وتكعيبية و وحشية و واقعية مبلورة كل خطوط هذه المدارس الفنية في صنعتها الكتابية لتشكل كتاباتها وتحديدا في هذا النص في (الرقص مع البوم) كنص معاصر حداثي وبإيحاء ومحاكاة المفردة الالكترونية التي ليس لها نهاية لحجم الخيال والحلم والانفتاح والدهشة والمغامرة المكثفة في صور النص وهو بذلك يكتنز كل الدلالات الجمالية المفتوحة والمتحررة في أفاق الفن من حيث الألفاظ والتراكيب المنجزة في العمل ليكون لنا وعلى طوال رحلتنا في قراءة النص(الرقص مع البوم)، عالم متحرر يكشف ما فيه من عوالم إبداعية مبهرة في بنائه. فـ(غادة السمان) عبر هذا النص بما يحمله من صور ورموز والمحبوك موسيقيا بالألفاظ ومخارج صوتية جميله عبر تقنية الحوار الفني جمعتها معا لدلالات نفسية إرادتها إيصالها للقارئ عبر النص، فهذا النص المفتوح يوازن بين مشاعر الكاتبة وانفعالاتها وطريقة تعبيرها وإيصال صوتها إلى الأخر لتأكيد الحالة النفسية التي تندبها ليتم توازن إثناء التعبير عنا كحال لإفراغ الشحنات العاطفية من أعماقها، فيخرج النص على مستوى من الجمالية وبأسلوب فني متميز أتى بصدق الإحساس المعبر عن وجدانها بعمق وبكل شفافية و وضوح، ومن هنا يأتي الإيقاع الداخلي منسجما مع النص و موازيا بين الشكل والمضمون فالتوازن بين الصورة والدلالة النفسية نكتشفه من خلال إيقاع النص ومن خلال مداخله ومخارجه والذي يعبر بمجمله بما يواكب حالة الكاتبة الانفعالية والنفسية وهذا ما يميز به هذا النص في (الرقص مع البوم) بكونه شكلا تعبيريا متقن بمعطياته من التخيل والرؤية والرمز في سياق التراكيب الجملة مع وحدة الموضوع و شفافية الرؤية وبرؤيته معاصرة وحداثية ومتجاوزا النمطية والقوالب الجاهزة ليواكب المعاصر والحداثة ويساير حركة الحياة ومتطلباتها، إن لغة (الرقص مع البوم) التي تنطلق منها (غادة السمان) هي لغة شفافة موازية بين الواقعية والوضوح، و هي سمة كتاباتها وهذا المسعى يأتي حين تكون الشاعرة واعية بأدواتها الفنية، وهذا ما يتطلب منها الانغماس في كل تفاصيل الحياة التي عاشتها وتعيشها ومن حيث الاستحضار والتمعن بكل تراكمات النفسية ليتم استنطقها في ظروف هذه القصيدة فنحس بأجوائها المؤثرة وكأننا نعيش تجربتها من جديد وهنا تفاجئنا القصيدة بالوقائع ما تثير دهشتنا وكأننا جزء من الحالة المطروحة في موضوع القصيدة سلبا وإيجابا.
فحين تترجم القصيدة لغة (الخير) و (الشر) في الإنسان وترسم ملامحه بهذا الشكل او ذاك وتكشف كل ما في أعماقه من رغبات ومشاعر وأمال وطموح والآم لتشكل منها صورا بلاغية عبر التخيل والمجاز لتعبير عن التساؤلات التي تطرحها قصيدة (الرقص مع البوم) وعن كل ما تحجبه في تأويلات الرمزية للمواقع والوقائع والواقع .
فتنوع صور التعبير ومعانيه وتعريف الأشياء عند (غادة السمان) هي سمة المفاجئة في شعرها لان عالمها الفكري غير متناهي و الأمر الذي يدعونا إلى مزيد من التأمل في قوالب التي تسكب فيها (غادة) مفرداتها بلغة منتقاة بدقة وإبداع لا يخلو من الدهشة والإثارة، ونحن لا نقول ذلك جزافية بقدر ما نصل إليها كحقائق نستشفها من خلال النص ذاته كون ما يورد فيها هو محاولة منها لـ(تغير) الحياة وليس (التعبير) عنها فحسب، وهذا ما يقودنا إلى تعميق في قراءة النص عند (غادة السمان) لان النفس الشعري في كتاباتها قائمة على المعرفة من جهة ومن جهة أخرى يؤدي إلى الدلالات والتعدد والتأويل والتنوع، ومن هنا لا تكون كتاباتها مجرد تعبير أو تحليل أو تفسير واقع معين بقدر ما هو محاولة لتغير وبناء كيان في خلق جديد ونقد للحياة وتحدي يتسم بوعي، ولا شك بان في ذلك يكون غايته خلق عالم غرائبي ولغايات جمالية أكثر رونقه للحياة يبدع في مكنوناتها كل الإبداع، وهنا تكمن الحداثة والمعاصرة في كتابات (غادة السمان) .
فالنموذج الذي تقدمه (غادة اسمان) في (الرقص مع البوم) يتمتع بكل عناصر المعرفة كنموذج إبداعي له مكانته ودلالاته الفكرية لحجم ارتباط النص بواقع الحياة وأحداثها والتي تتغذى بجذوره عبر الزمان والمكان من لحظة ولادة النص عبر لغة متحررة التي تمهد مداخلها لـ(تغير) نمط الحياة عبر تعميق الفكر بالمعرفة، فيحمل في جوهره توازنا (هارمونيك) بين المحتوى والمظهر وفي عمقه يوازي ضمنا سمات النقد في الطرح والتحليل والتقديم كعملية إبداعية موحدة في النص ذاته، فتكون أداة هذا التعبير هي اللغة المتحررة التي تلجئ إليه (غادة السمان) في التعبير، كتجديد وكمسار للمعاصرة النص والانغمار في أسلوب الحداثة والإبداع بأي قالب كان دون تحديد مقوماته سلفا وإنما وفق ما يأتي التعبير في سياق السرد النابع من المخيلة وهي لا تأبه بالمألوف بل تتجاوزه، ولا بالاختلاف فتشاكسه، ولا بالهدوء بل بالجنون، بغية التعبير بأقصى درجات التعبير هروبا من التكرار والملل والقوالب الجاهزة والنمطية الغير المجدية في زمن الحداثة والمعاصرة، فيتم معالجة النص وفق هذا السياق، ولذا فان النص الشعري المقدم في نصوص (غادة السمان) يكشف ملامحه عبر تفكيك هذه الشفرات بكونه نصا صيروريا (دايلكتيكيا) عبر ولادة صورة وموتها ثم ولادة صورة جديدة وموتها وهكذا يتطور المشهد الشعري والدرامي عند (غادة السمان) ليقدم إنتاجا إبداعيا ملئه بالحيثيات الدلالية ضمن منظومة النص . فالنص ليس كلمات بل منطلقات فكرية التي تتوارد عبر الكلمات أو المفردات التي تتجسد في النص عبر الرموز والدلالات والإيحاءات واليات التعبير والتي هي مقومات النص المعاصر في تعمق الرؤية بين الفكر والمضمون من جهة ومن جهة أخرى بين الفكر والشكل وبطبيعي الحال فان التعبير هو من يغير لا شعوريا في نمطية هذه القوالب بغية التنوع وتقديم ما هو مفاجئ لتجاوز إشكالية الرتابة والتخبط العشوائي للمفردات والتي وان أتت في النص المعاصر إنما هي رموز ومختصرات للرؤية من هنا ومن هناك لتقديم حجم التشويش الحاصل في الحياة المعاصرة في تفكير الإنسان وهي في جلها مناورات الشاعر للكتابة الإبداعية لتجسيد تحرره، فتجليات الرؤية هي مسلمات الإبداع والاندهاش في أسلوب اللغة وصولا للرؤية الجمالية عبر مظاهر (فينومينولوجيا) التي تتمخض في الرؤية عبر الخيال الذي يقوم بدوه في تزويد الفكر بصور لتعبير عن المضامين المعبرة داخل النص والتي يقوم الشاعر بابتكارها في نص القصيدة عبر الرؤية والتركيب .
فالحداثة في (الرقص مع البوم) ليست سمة كتابات (غادة السمان) الشعرية فحسب، وإنما هو موقف من الحياة للانطلاق الشامل بالفكر الإنساني والحضاري والمعرفي لفهم الحياة وفق المنظور المعاصرة والتطور، وإعادة صياغة قيم الإنسان بالثقافة والفكر وخلق العالم وفق قيم العدالة والحرية، فـ(غادة) تطرح فلسفة الحياة والحب بالمفهوم الحضاري والتطور والمعاصرة، ولهذا فان أطروحاتها الفكرية ومواقفها من خلال ما تكتبه من نصوص هو بحد ذاته مظهر من مظاهر الحداثة والمعاصرة وليس (التجدد) لأنه يفوق عنه، لان يقيننا بان (ليس كل جديد هو حديث)، لن الحداثة تطرح مواقف فكرية وقضايا إنسانيه بكون الحداثة الشعرية التي نقف عنها في تفسير نصوص (غادة السمان) لا يتعلق مفهومه بقضايا المتعلقة بشكل القصيدة العربية من حيث الوزن والقافية و من حيث نثريتها وتجديد في تفعيليتها، وإنما في مضمونها الفكري والإبداعي والجمالي والتعبيري وهو يمثل (الشهيق) الذي تتنفس من خلاله القصيدة المعاصرة، وبغيره فان القصيدة تولد وهي ميتة ليس فيها الروح، لان الروح تعيش في هذا (الشهيق) الذي يغذي النص بالحياة والحيوية، وهو شهيق الشاعر، شهيق (غادة السمان) فنصوصها الشعرية تتميز بهذا الشهيق الذي نتنفس به كما تتنفس به (غادة السمان) عبر ابتكارها للغة تعبيرية مليئة بالأفكار الفلسفية والقيم والحب، وهذا الابتكار هو ما يخلق النص المفتوح في المعاصرة والحداثة بكونه نص مليء ومشحون بالعاطفة والإحساس والتعبير المتميز بلغة (غادة السمان)، فصور الشعرية التي تقدمها (غادة) تنبثق من أعماق ذاتها انبثاقا سلسا وشفافا ومحاكا بأسلوب فني ليكون وسيله تعبيرها عنه بصور شتى مبدعة عبر التجريد و الرمزية والأسطورة فكل ذلك يأتي انسيابية لغزارة ثقافتها وإمكانياتها الإبداعية، ومن هنا فان قيمة الصور في النص الذي تقدمه (غادة السمان) وهو نص مبتكر بكونه وسيلة أي كاتب وشاعر يبحث عن المعاصرة والتجديد وفي إيجاد الترابط والعلاقات بما يتجاوز المألوف والدارج وفيه من الدلالات الفكرية وهو ما يجذب القاري بشكل ملفت إلى هذا النموذج من النص، الأمر الذي يقوده في الإبحار فيه، لان كل صورة مقدمة في النص إنما هي صور لها صلة بنفسية ومشاعر (غادة السمان) -لا محال- ولهذا فان فهمنا نص المقدم والغني بالصور يجد ثنائية مع روح (غادة السمان) في المجاز والحقيقة، ليكون التعبير بحالة نفهمها من عمق النص بين الصور والمعنى ومن خلال مفردات اللغة والتراكيب والدلالات الإيقاع وبين التقابل والتجانس وبين التضاد والترادف، وكل ذلك يعتمد على ثقافة (غادة) وأسلوبها في بناء الصور والأفكار والتي معا تكون جسد النص في نصوص الشعرية لـ(غادة السمان) وتحديدا في (الرقص مع البوم) حيث الفكر يكون سمة أساسية بنص الشعر موسوما برؤية جمالية لتتكامل شخصية (غادة السمان) ككاتبه كتاباتها متوازنة بين التعبير الفكري و التعبير الشعري ليكون الترابط بين عالم الشعر وعالم الفكر كفضاء مشترك فيم بينهما لتعبير والكشف واختراق المغلق وهو عمل تنفذه بجهد و برغبة وابتكار في صميم ما تقدمه من الإعمال الشعرية كما جاء في (الرقص مع البوم) .
نعم إن القصيدة (الرقص مع البوم) فيها من الألم.. والشجن.. والوجع.. والقلق.. والحزن.. و المشاعر الملتهبة.. والجنون.. والغربة.. والاغتراف.. والكثير من هذه المعاني المخبأة في ثنايا القصيدة نصل إليها عبر كل قراءة لها بشكل أخر، وهذا هو قيمة القصيدة الحديثة والمعاصرة التي تعطي معاني متعددة وكثيرة تتعدد وتتنوع بتعد وتنوع القراء لها، وهذه الديناميكية في الحركة وصيرورة القصيدة يجعل من فهم القصيدة يتنوع ويتعدد معانيها عن الآن عما يفهم عنها في المستقبل، وهذا الرؤى تستشف معانيها عبر تأويلات القصيدة والرموز واللغة المشفرة المحبوكة في الدلالات التي تنشطر وتتعدد وتتنوع وتتشظى بتلك الذات التي عبرت عنها من خلال ذات (غادة السمان) الشاعرة والكاتبة والإنسانة لأنها تستحضر (ذات تصرخ) من الأعماق بوجه الأخر، ليتعدى صراخها حواجز الزمن والمكان، لأنه صراخ الضمير، ومن خلاله تتحدى مأساة الغربة.. والاغتراف.. والانا المعذبة، وفي قصيدة (الرقص مع البوم) غربة (الأنا) هي لست غربة (الأنا) لوحدها، بل تتعدى غربة الذات الآخرين، بكون (غادة السمان) في (الرقص مع البوم) قد شحنت مشاعرها بشكل مضغوط، وقد أشارت الدلالات في سياقها الشعري كل الإبعاد النفسية والفلسفية التي كانت حاضرة مع (غادة السمان) إثناء كتابة العمل، وهذا التحليل التمسناه من خلال النص وليس من خارجه، لان ظلاله كانت محسوسة ومنها كنا نستوحي قراءتنا متابعين أثارها النفسية العميقة في عمق النص، وكيف إن (غادة السمان) تنتقل من العقل الباطني إلى الظاهري، ومن الشعور إلى اللاشعور، فتبرز مخزونها الفكرية في الأحلام وأحلام اليقظة، وتتبحر في العالم الخارجي كما في العالم الباطني، لتأخذ منافذها لنفوذ بخلجات نفسها في أعماقها لتعبير عنها وبلغة (المخالب) كما اصف لغة (غادة السمان) الأدبية في هذا العمل، الذي لا يوصف إلا بكونه من روائع الإعمال النصوصية الشعرية في الحداثة والمعاصرة .



#فواد_الكنجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثالث من شباط ذكرى يوم الشهادة القومية الأشورية
- الجزء العاشر والأخير/ غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري ف ...
- الجزء التاسع/ غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداث ...
- الجزء الثامن/ غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداث ...
- الجزء السابع/ غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداث ...
- الجزء السادس/ غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداث ...
- الجزء الخامس/ غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداث ...
- الجزء الرابع/ غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداث ...
- الجزء الثالث/ غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداث ...
- الجزء الثاني، غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداث ...
- الجزء الأول، غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداثة ...
- عام يمضي.. وآخر يأتي.. وفي خلدنا أمنيات و أسئلة......!
- حرقة الأحزان .. أنستني متى ضحكتُ في هذا العمر....!
- كلما أتي إلى هنا .. كلما أمر من هنا .......!
- سأمضي .. لأنني أريد أن أمضي ......!
- جلال الطالباني كان محور اللقاء بين العراقيين
- هل سيكون مطلب الكرد في الاستقلال كمصير مطلب الأشوريين في الا ...
- لا أطيق ......!
- الإبداع الأدبي والفني والتحليل النفسي
- جماليات الشعر المعاصر وحداثته


المزيد.....




- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فواد الكنجي - النص الكامل لكتاب ((غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداثة و المعاصرة)) تاليف .. فواد الكنجي