أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي - المسار - العدد 12















المزيد.....



المسار - العدد 12


الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي
(The Syrian Communist Party-polit Bureau)


الحوار المتمدن-العدد: 5773 - 2018 / 1 / 31 - 10:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




المسار- العدد (12)- كانون ثاني/يناير2018


الافتتاحية:
حول الوضع الاقليمي
يقول ستيفن كاهان كاتب ومخرج فيلم "syriana" الى أن هذا المصطلح يشير "الى سعي الانسان المستمر لإعادة خلق منطقة جغرافية لكي تتناسب مع حاجاته الخاصة", وسمع به لأول مرة في مراكز الدراسات الاميركية بواشنطن. وأنه فهم عام 2002 ان هذا المصطلح يدل على "اعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط" ولكن العالم الآن وليس فقط الشرق الأوسط يضج بالتغييروباستعارة عبارة كوندليزا رايس فان العالم حاليا يشهد مخاض ولادة جديدة. فإدارة ترامب تقوم بقصد او بغير قصد من خلال التركيز على مصلحة اميركا المباشرة وتجاهل مصالح الحلفاء علىتغيير قواعد اللعبة التي اعتمدتها اميركا بعد الحرب العالمية الثانية وهي تقوم بتشكيل واقع جديد يدفع الكثير من القوى العالمية للبحث عن ذاتها ومصالحها. فأوروبا بدأت تشعر بانكشافها امامروسيا ووقوعها بين فكي كماشة (بوتين وترامب) فكلاهما يتمنيان وربما يسعيان لتحطيم الاتحاد الاوروبي كما يشجعان التيارات الشعبوية والتي تتنامى في القارة من شرقها حيث يزداد التعصب ومعادات الاجانب وصولا الى بريطانيا التي صوتت بدفع من هذه الحركات لاجراء استفتاء للخروج من الاتحاد الاوروبي, ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية تصل الشعبوية الى المانيا قلب اوروباومجرد عودة الذكريات لهذا البلد تثير فزع العالم. وبريطانيا العظمى التي ترى نفسها مستشارة ومرشدة أميركا تجد نفسها متجاهلة من قبل ادارة ترامب بل لا تعرف متى ستوقع على اتفاقاقتصادي جديد مع اميركا بسبب خروجها المنتظر من الاتحاد الاوروبي, وتركيا ترى ان حليفها الاقرب في الناتو يتحالف مع عدوها الاول (والوحيد القادر على ايذائها من الداخل) حزب العمالالكردستاني في سوريا. وايران ترى عودة العداء الاميركي المباشر لنظامها بل وتسعير العداء بشكل لم يسبق له مثيل من قبل السعودية قوميا وطائفيا وشعبيا. وروسيا المتوسمة خيرا بترامبأعادت حساباتها فالعداء الاميركي لروسيا أصبح أشد والعقوبات بدل أن تزال ازدادت قوة ودقة واوكرانيا اصبحت تتلقى أسلحة نوعية والتلاقي الوحيد مع الادارة الاميركية في سوريا غير اكيدوالاتفاقات المبرمة بين الطرفين ربما لن توضع في التنفيذ القريب, كل هذا وغيره يجعل العالم أكثر هيولى واقل استقرار أي أكثر "syriana".
بعد أزمتي السويس عام 1956 واحتلال العراق عالم 2003هذه هي المرة الثالثة بعد الحرب العالمية الثانية التي تتعرض به العلاقات الاوروبية الاميركية لأزمة حقيقية وبعد التنافر بين ميركلوترامب وعدم اكتراثه برئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي وجد الأوروبيون صلة بينهم وبين الادارة الاميركية عبر الرئيس الفرنسي ماكرون الذي حاول مد جسور بين ضفتي الاطلسي والوصول الى قواسم مشتركة وقد نجح مرحليا في الحفاظ على الاتفاق النووي وفشل في قضية المناخ. اذا كان الوضع عالميا بهذه الهيئة فعند الوصول لمنطقتنا تزداد الامور تعقيدا, فقد عاد ترامب فيالمنطقة الى مثلث التحالف الذهبي السعودية ومصر واسرائيل بغية تشكيل حاجز قوي بوجه ايران, ولعبت السعودية رأس الحربة في هذه الاستراتيجية بينما ظل الدور المصري مساندا ومستترا تحضيرا لدور جديد لمصر في المستقبل القريب, وكان الامير السعودي الشاب محمد بن سلمان قــاد مجموعـة من التغييرات الداخلية حيث غير من قواعد الحكم ولجم المؤسسة الدينية عن التدخلفي حياة الناس واستعدى الامراء بأقصائهم عن شؤون الحكم وبحملته على الفساد؟ وتغييرات خارجية بدئها بحرب اليمن الى العداء مع قطر ثم الخلاف مع ايران والتنسيق المحتمل مع اسرائيل حول ايران, كل هذا يجعل السعودية في حالة استنفار واستنزاف دائم ولا تقبل بالخروج عن مشورتها في المنطقة.
وتحاول الادارة الاميركية سحب العراق من المظلة الايرانية عبر شق البيت الشيعي ودعم تحالفات جديدة داخل العراق وبين العراق والدول الخليجية. كما ان اسرائيل رجعت لموقعها الرئيس كقاعدةامامية لأميركا والغرب وما اعلان القدس عاصمة لإسرائيل سوى تعبيرا عن هذه السياسة, كما تحاول تحجيم ايران في سوريا عبر التفاوض مع روسيا وهذا ما عبر عنه حرفيا تيلرسون. ان جديد المنطقة عما قبل "الربيع العربي" هو روسيا فلم تعد دولة بعيدة بل اصبحت بعد التدخل في سوريا والقواعد الروسية تعتبر دولة جوار لدول المنطقة وان استقرار روسيا في المنطقة وبحثها عنمشاريع نقل النفط والغاز يدفعها لإقامة علاقات جيدة مع دول المنطقة فلم توفر جهدا لاستعادت العلاقات مع تركيا وبالتشارك مع ايران توصلت لمؤتمرات استانا التي ضمنت مصالح الدول الثلاث في سوريا وشبكت مع مصر علاقات متميزة كللتها باتفاقات اقتصادية ضخمة حيث بدأت بتنفيذ المدينة الصناعية الروسية بجانب قناة السويس واشترت روسنفت 30% من حقل ظهر العملاق أكبر حوض غاز في المتوسط ووقعت مصر وروسيا في 11 كانون أول تنفيذ محطة الضبعة النووية العملاقة, وانضمت السعودية الى راغبي العلاقة مع روسيا وبعد زيارة الملك السعودي لموسكووتوقيعه لاتفاقات اقتصادية معها وشراء صواريخ s400 تكون روسيا للمرة الأولى في تاريخها شبكت علاقات متميزة مع الدول الاقليمية الأربع الكبار, تختزل زيارة بوتين في يوم واحد ثلاثة دول سوريا ومصر وتركيا وتوقيعه اتفاقين نوويين في الضبعة ومرسين بداية عصر روسي جديد في المنطقة يقوم على ملئ اي فراغ تتركه الولايات المتحدة بدون اي صدام معها, وهذا ما عمل عليه في سوريا عبر شراكة تركية ايرانية ومحاولة ارضاء السعودية عبر الوفد المفاوض وأخذ تعهدات من الرئيس السوري لإبداء مرونة وبعض التنازلات في جنيف وبهذا تهيء للمرحلة الثانية من الأزمة السورية وتحضيرا لإمكانية اتفاق في جنيف وجلب الاموال الدولية لتكون سوريا نهاية زلزال الحركات المسلحة (الاسلاموية) في المنطقة وبداية عودة الدول المركزية المدعومة خارجيا.
تبدو الأزمة السورية في مرحلة مختلفة كليا عما مضى وان وجود وفد مفاوض مقابل وفد النظام ينزع اي حجج لبدء مفاوضات جدية وان الضغط الدولي قد يدفع للوصول لاتفاق مقبول من الطرفين, كما أن روسيا لازالت تلوح بمؤتمر سوتشي في وجه المعارضة والدول الغربية حال فشل جنيف, ولكن هل استعدت المعارضة لليوم الذي يلي أي اتفاق؟
------------------------------------------------------------------------------------

روسيا بعد الاتحاد السوفياتي .... والصراع على البلقان الأوراسي

أطلق برجينسكي مصطلح البلقان الاوراسي على جمهوريات القوقاز (جورجيا، وجمهورية أذربيجان، وأرمينيا) وآسيا الوسطى (كازاخستان، أوزبكستان، قرغيستان، طاجاكستان، تركمانستان، أفغانستان)، وإلى حد ما كل من إيران وتركيا، بالإضافة الى البلقان الاوربي، والذي اعتبره قلب العالم الاوراسي الممتد من البرتغال الى مضيق بيرينغ ومن لابلاند الى ماليزيا، والتي شكل تاريخيا منطقة النفوذ لأي امبراطورية كان لها سيطرة عالمية.
شكل انهيار الاتحاد السوفيتي فراغا جيوبولتيا في هذه المنطقة، وبشكل استثنائي سيطرت عليه لأول مرة في التاريخ قوة غير اوراسية (الولايات المتحدة)، ولم تكن هذه السيطرة استثنائية فقط من حيث انها قوة غير اوراسية ولكن ايضا من حيث مقومات هذه القوة فأميركا كانت تحتل مرتبة عليا في المجالات الحاسمة الأربعة للقـوة العالمية :
وهي المجال العسكري الذي تملك فيه قدرة وصول عالمية لا مثيل لها، والمجـال الاقتـصاد الذي تبقى فيه ذات قدرة تحرك رئيسية في النمو العالمي. حتى ولو واجهت تحديات في بعـض المظاهر من قبل بعض الدول (لا تملك أي دولة منهما المزايا الأخرى للقوة العالمية), والمجال التكنولوجي حيث تحافظ فيه على المجالات الحساسة في الابتكار؛ والمجال الثقافي الذي تتمتع فيه، بالرغم من بعض السلبيات،راء لا يمكن منافسته، وخاصة بين شبان العالم، الذي يرون في الولايات المتحدة دولة تملك نفوذاً سياسياً لا تقترب أي دولة أخرى من مجال القـدرةعلى منافسته. وهكذا، فإن الجمع بين هذه المجالات الأربعة هو الذي يجعل من أميركا تلك القوة العظمى العالمية الوحيدة.
كان الجهد الرئيسي الأمريكي متوجها لمنع ظهور قوة اوراسية جديدة تهدد هذه الهيمنة الامريكي الاستثنائية. فعملت خلال العقد الأخير من القرن الماضي على إعاقة إعادة الهيمنة الروسية على البلقان الاوراسي الذي شكل منطقة الاشتباك بعد المشاكل التي واجهها اندماج روسيا مع الغرب في عهد يلتسن، والتي كانت تتوقع احتراما أكبر لها ولمصالحها في شرق اوربا ووسط اسيا.
سيطرة على روسيا بعد سقوط الاتحاد ثلاثة اتجاهات رئيسية:
اتجاه بزعامة يلتسن ووزير خارجيته ايغور غيرار كان يعول على الدعم الغربي وقروض صندوق النقد الدولي لحل مشاكل روسية الاقتصادية.
واتجاه يركز على العلاقات مع الدول الأورواسيوية ويدعو الى علاقات جيدة مع الصين والخصخصة البطيئة والتعاون مع الغرب.
واتجاه يضم تجمع من القوميين والشيوعيين الذي كان يرى في الغرب عدوا ويدعو الى انشاء سلطة مركزية روسية قوية وإعادة السيطرة على الجمهوريات المستقلة عن التحاد السوفيتي.
حاول يلتسين تقديم نفسة شريكا ليبراليا للغرب, وحاول دمج روسية في الهياكل الاقتصادية والسياسية للغرب, وقام باتباع سياسة اقتصادية تعتمد على الصدمة لتحقيق اثر إيجابي على الاقتصاد تمثلت بمحاولة ابعاد الدولة عن الاقتصاد والتخصيص السريع لقطاعات الدولة في محاولة لجذب الرساميل الغربية, ولكن كانت النتيجة كارثية على الاقتصاد الروسي, وعلى العكس لم تحصل روسيا على الا على مساعدات قليلة من الغرب بالإضافة الى اتهام المخابرات الامريكية بدعم المتمردين في الشيشان، وفهمت هذه الاجراءات في الغرب بأنها إعلان هزيمة روسيا حسب ما جاء على لسان بوش الاب الذي أعلن أمريكا القوة الوحيدة المسيطرة في العالم.,
ظهرت نتائج السخط في روسيا على الاهانة الامريكية في انتخابات 1995 حيث سيطر الشيوعيون على البرلمان الروسي، وتم تعيين الشيوعي المخضرم بريماكوف المؤيد لتقارب مع الصين وإيران وزيرا للخارجية كدليل على النية بتعاطي مختلف مع الغرب.
كانت الاستراتيجية الامريكية تركيز على دعم الدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي, وتنمية النزعة الاستقلالية لديها بدعمها اقتصاديا, او بضمها الى حلف شمال الاطلسي والاتحاد الاوربي , التي كانت ترى فيه رأس الجسر الديمقراطي (بحسب تعبير برجينسكي ) والتي يشكل استمرار توسعة توسعا لنفوذ امريكا وهيمنتها على المحيط الحيوي لروسيا, ففي عام 1999 تم ضم ثلاث دول لحلف الناتو كانت تعتبر ذو اهمية عسكرية كبيرة في حلف وارسو هي المجر بولندا وجمهورية التشيك لتعود وتنضم للاتحاد الاوربي في عام 2004 بالإضافة الى استونيا ولاتفيا ليتوانيا وسلوفكيا وسلوفينيا بالإضافة لضمها ايضا للاتحاد الاوربي , وفي عام 2007 تم ضم بلغاريا ورومانيا للاتحاد الاوربي وكذلك كرواتيا في 2013, بالإضافة لنشرها قواعد في. كل من اوزباكستان وقرقيزستان الجمهوريتان السوفيتيتان السابقتان
احتلت أوكرانيا وأذربيجان مكانا خاصا في حسابات صناع القرار في كل من روسيا وامريكا، فبحسب رأي برجنسكي تحتل أوكرانيا مكاناً جديداً وهاماً في رقعة الشطرنج الأوراسية، فهي دولة محورية جيوبوليتية لأن وجودها ذاته كدولة مستقلة يساعد علـى تحويـل أو تغييـر موقف روسيا. وهكذا، فإن روسيا بدون أوكرانيا لا تشكل إمبراطورية أوراسية, فأوكرانيا بملايينها الاثني و الخمسين ومواردها الكبيرة ووجودها على البحر الأسود، ومرور خطوط الطاقة فيها، فاستعادتها تعني بشكل أتوماتيكي استعادة ثروات هائلة ويجعل من روسيا دولة إمبراطورية قوية، ممتدة عبر أوربا وآسيا. وكذلك، فإن فقدان أوكرانيا لاستقلالها سوف يترك تأثيرات كبيرة على أوروبا الوسطى، دافعا بخطوط المواجهة بعيدا عن موسكو التي تبعد فقط 300 كيلو متر عن اوكرانيا، هذا الموقع الاستثنائي لأوكرانيا جعلها في حالة عدم استقرار سياسي وأمني منذ انهيار الاتحاد السوفيتي بسبب الصراع الروسي الغربي. وبالرغم من صغر حجم (مساحة) أذربيجان وضآلة عدد سكانها، فإنها تعتبر، بما تملكه من مصادر طاقة كبيرة، حساسة جيوبوليتياً. فهي سدادة الزجاجة الحاوية على ثروات حوض بحـر قزوين وآسيا الوسطى والتي يمكن أن تصبح لا قيمة لها إذا أصبحت أذربيجان خاضـعة كليـاً لسيطرة موسكو. يمكن أيضاً أن يتم إخضاع الموارد النفطية الهامة جداً في أذربيجان للـسيطرة الروسية. وإن أذربيجان المـستقلة والمرتبطـة بالأسـواق الغربية بأنابيب نقل النفط التي لا تمر عبر أرض يسطر عليها الروس، تصبح أيضاً صلة وصل رئيسة بين الاقتصادات المتقدمة والمستهلكة للطاقة من ناحيـة وبـين الجمهوريـات الآسـيوية الوسطى الغنية بالطاقة من ناحية ثانية.
في منتصف الشهر السابع من عام 2009، أبرمت اتفاقية في العاصمة التركية أنقرة تمهد الطريق أمام إقامة مشروع خط أنابيب غاز ضخم (نابوكو’) لنقل الغاز من وسط اسيا الى اوربا .بدأت فكرة المشروع عام 2002 مع بداية هذا القرن، واتخذت أول خطوة عملية فيه في بداية عام 2002 حينما وقع بروتوكول للاشتراك في المشروع بين كونسورتيوم من شركة (أو إم في جاز) النمساوية و(بوتاش)التركية و(إم أو إل) المجرية و(ترانس جاز) الرومانية و(بلغار جاز)البلغارية، والهدف الرئيسي من هذا المشروع هو ربط احتياطيات الغاز في آسيا الوسطى عبر بحر قزوين بأوروبا من خلال خط أنابيب يعبر بحر قزوين إلى أذربيجان ثم إلى النمسا، دون المرور بأراضي دولة روسيا،
وقفت روسية بسبب ازماتها الاقتصادية مكتوفة الايدي في الحرب ضد صربيا والعراق وأفغانستان، متخلية عن مناطق كانت تعتبرها ذو اهمية كبيرة عسكريا واقتصاديا ايام الاتحاد السوفيتي.
وكانت روسيا تعيش منذ صيف عام 1998 أزمة اقتصادية وسياسية عميقة مع تراجع سعر صرف الروبل، وتزايد عدد الفقراء، وانهيار القدرات الصناعية وفقدان السكان ثقتهم بالرئيس بوريس يلتسين. وفي هذه الظروف اختار يلتسين بوتين خليفة له، وعينه في أغسطس/آب عام 1999 رئيسا للوزراء.
في البداية لم ير أحد مستقبلا سياسيا لبوتين الذي كان شخصية غير معروفة وبدون شعبية تذكر، ومن اللافت أنه كان خامس رئيس حكومة خلال 18شهرا. حيث قال غينادي سيليزنيوف رئيس مجلس الدوما آنذاك "إذا أعلن يلتسين شخصا ما خليفة له، فذلك يعني أنه يقضي على المستقبل السياسي لهذا الشخص، لقد حصل ذلك مرات عديدة".
وجاء تعيين بوتين رئيسا للوزراء بالتزامن مع توغل مسلحين شيشان في أراضي داغستان. ورد بوتين على هذه التحديات بحزم بالغ إذ أطلق عملية عسكرية في الشيشان التي كانت تتمتع باستقلال شبه كامل منذ الحرب الشيشانية الأولى (1994-1996) ونال رئيس الوزراء بفضل موقفه هذا تأييدا شعبيا متزايدا، إذ كان 31% فقط من المواطنين الروس يؤيدون خطوات بوتين في أغسطس/آب عام 1999، لكن عدد مؤيديه ازداد بحلول يناير/كانون الثاني عام 2000 إلى 84%.
حقق بوتين في مهمته في الشيشان نجاحا باهرا بعد 15 عاماً على بدئها، والتي لم يعتمد فيها فقط على القوة العسكرية، بل أيضا على مهاراته الدبلوماسية وعلى قدرته على بناء علاقات طيبة مع النخبة المحلية. وهو لم يتمكن من استعادة السيطرة على الجمهورية المتمردة فحسب، بل وساهم في إعمارها واستعادة الاستقرار الأمني وإطلاق عملية النمو الاقتصادي المستدام حيث تشكل الان اقل المناطق فقرا في روسيا.
أعلن بوريس يلتسين تخليه عن السلطة في الرسالة الرئاسية التقليدية إلى الشعب بمناسبة حلول سنة 2000 الجديدة. وأصبح بوتين قائما بأعمال الرئيس ومرشحا بارزا في الانتخابات الرئاسية المبكرة.
خاض بوتين الانتخابات الرئاسية ضد كتلة شكلها السياسيون المخضرمون مثل يفغيني بريماكوف ويوري لوجكوف وشايمييف، بدعم من الأوليغارشي ميخائيل خودوركوفسكي.
قام بوتين بسلسلة من الاصلاحات الاقتصادية كان من اولى نتائجها الاطاحة بحلفائه، ومن أشهر هؤلاء كان الملياردير ميخائيل خودوركوفسكي الذي قضى 10 سنوات في السجن بعد إدانته بالعديد من الجرائم الاقتصادية، وايضا بوريس بيريزوفسكي الذي توفي في عام 2013 في المنفى ببريطانيا بعد أن هرب من روسيا في عام 2003 , حيث وجهت إليه تهم جنائية كثيره وتمكن بوتين خلال فترة قصيرة من إعادة بناء منظومة الإدارة وتعزيز مؤسسات السلطة المركزية والمحلية وتشكيل فريق من المدراء الفعالين. وغير وجه الحياة السياسية في البلاد، وذلك بعد تشكيل حزب "روسيا الموحدة" الحاكم، وظهور أحزاب قوية جديدة، وتراجع حاد لشعبية الأحزاب الليبرالية القديمة. ومنذ سنوات تسيطر على الدوما (مجلس النواب) بأكمله 4 أحزاب فقط، هي "روسيا الموحدة" والحزب الشيوعي والحزب الليبيرالي –الديمقراطي بقيادة فلاديمير جيرينوفسكي وحزب "روسيا العادلة" اليساري بزعامة سيرغي ميرونوف.
وفاز بوتين في الانتخابات ونال 71.3% من أصوات الناخبين. تجدر الإشارة إلى أن الدستور الروسي يمنع الرئيس من الترشح بعد قضائه ولايتين رئاسيتين متتاليتين. ولذلك بعد انتهاء ولايته الرئاسية الثانية، انتقل بوتين للعمل في منصب رئيس الوزراء، فيما تولى دميتري مدفيديف منصب الرئاسة. وركز بوتين في الفترة 2008-2012 على المسائل الاقتصادية بالدرجة الأولى، وعلى إصلاح الحكومة والمؤسسات المرتبطة بها. وتجاوزت البلاد خلال هذه الفترة الأزمة الاقتصادية عامي 2008 و2009بسبب تلك الاصلاحات وارتفاع اسعار النفط، ومن اهم تلك الإصلاحات هو تقديم الدعم لشركة غاز بروم الروسية التي تسيطر الحكومة الروسية على51 %من اسهمها والتي تقوم ب توريد32%من حاجة الاتحاد الاوربي من الغاز, حيث قامت شركة غاز بروم عام 2009 بشراء الغاز من تركمانستان التي تنتج حوالي 80مليار متر مكعب من الغاز سنويا بالإضافة الى شرائها غاز اذربيجان مما جعل خط نابكودون مصادرحقيقية للغاز.
مثل خطاب بوتين في مؤتمر ميونيخ للأمن في عام 2007 م نقطة تحول استراتيجية في الموقف الروسي، عندما انتقد الاحادية القطبية واعتبرها تدمير للعالم وللسيد الوحيد، علما بأنه كان خلال ولايته الرئاسية الأولى ينطلق من ضرورة وجود تحالف بين روسيا والغرب. وجاء تعديل موقفه على خلفية التدخل الأمريكي في العراق، والدعم الغربي لما عرف بـ "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا، والانتقادات التي وجهها الغرب بشأن قضية خودوركوفسكي, والتطورات الأخرى في السياسة الداخلية لروسيا.
بدأت اولى الترجمات العملية لهذا التوجه الروسي الجديد في ردة الفعل الروسية ف2008 ضد الهجمات الجورجية على اوسيتيا وابخازيا، والتي ترك فيها الغرب وحلف الاطلسي جورجيا وحيدة في مواجهة روسيا، وعلى المستوى السياسي كان الاعلان الرسمي عن تأسيس نظام ثنائي القطبية في قمة البريكس في حزيران 2009 والذي كان يعكس في الاصل رغبة بالتحرر من الهيمنة الامريكية اكثر منة تشكيل لقطب عالمي جديد.
يعكس وصف وزير الخارجي الامريكي الاحتلال الروسي للقرم (بالعمل العدائي المحير) التخبط الامريكي والنقلة غير المتوقعة من قبل امريكا والغرب، وكان الاعتراض الاوربي على العقوبات الامريكية على روسيا بسبب تضرر مصالحها من تلك العقوبات اولى مظاهر التخبط الامريكي في مواجهة روسيا والتي كان يعتمد بشكل دائم على التنسيق مع اوربا في كل خطوة تجاه روسيا.
يأتي التدخل العسكري الروسي في سوريا في 2015 ضمن هذا السياق الممتد من وصول بوتين الى السلطة الى2013 حيث جنبة حليفة الإيراني مصير القوات السوفيتية في افغانستان، هذا التحالف الذي قال برجنسكي عن امكانية تشكله عند تسلم بريماكوف لوزارة الخارجية الروسية في عهد يلتسن والمعروف بدعواته لتحالف مع إيران والصين، ان امريكا ليست غبية بما يكفي لسماح بإقامة هكذا تحالف.
وجدت تركيا في انزياحها باتجاه المحور الايراني الروسي فرصة للحفاظ على دورها الاقليمي, بعد ان تلقت رسالة واضحة من الاتحاد الاوربي بأنه غير مرغوب فيها، وبعد احساسها بتخلي امريكا عنها بعد اسقاط الطائرة الروسية ودعم الاكراد في شمال سورية، وخصوصا بعد الانقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016والذي وجهت فيه أصابع الاتهام لفتح الله كولن الموجود في الولايات المتحدة , وكان من ابرز نتائج هذا التقارب الروسي توقيع اتفاقية لمد انبوب غاز عبر تركيا لتوريد غاز اسيا الوسطى الى اوربا والتوقيع على اتفاقية لتزويد تركيا بمنظومة اس 400 لأول مرة في التاريخ تشتري فيه تركيا سلاحا استراتيجيا من روسيا بعد ان كانت تعتمد بالكامل على الغرب في هذا المجال,وكذلك التنسيق في القضية السورية , ليرسم بذلك بوتين بنار والتحالفات خط يمتد من أوكرانيا الى سوريا تؤمن به روسيا السيطرة الكاملة على مناطق انتاج الغاز وطرق إمداده الى اوربا, وتقضي بذلك على إمكانية تحييدها.
تعكس تصريحات المسؤولين الاتراك والروس والايرانيين مؤخرا حجم الخلافات مع الولايات المتحدة, فمدفيدف يرى بأن العلاقات الروسية الامريكية هي الاسوأ منذ عهد خروتشوف هذا التصريح لا يعكس فقط سوء العلاقات بين الطرفين وانما الهوية الروسية التي بات المسؤولين الروس يرون روسيا بها، وصرح اردوغان ردا على محاكمة امريكا لتاجر تركي بسبب تعامله مع ايران بان امريكا ليست العالم , وكذلك رفض الجنرال سليماني الاطلاع على محتوى رسالة امريكية عبر وسيط، وهذا التحالف وبسبب العلاقات الاثنية والدينية والتاريخية والاقتصادية مع جمهوريات أسيا الوسطى بإمكانه ازالة الخطر الامريكي من تلك المنطقة نهائيا.
هذا التمدد الروسي لم يكن ناجما فقط عن التحسن في الوضع الاقتصادي والعسكري الروسي , وانما ايضا بسبب ضعف الرغبة الامريكية في التدخل العسكري بسبب عدم وجود تأييد داخلي امريكي ,هذا العامل الذي حذر برجنسكي من تأثيرة على الهيمنة الامريكية على العالم , وهذا ما ظهر واضحا في الحملة الانتخابية لترامب بتركيزه على سياسة امريكا اولا والتي كانت سبب في وصولة لسلطة. لا يمكن لأي دولة في المدى القريب ان تصل الى مستوى امريكا من العالمية، او حتى لتحالفات، سوأ على المستوى الاقتصادي أو العسكري، انما نحن اما نشوء دول وتحالفات اقليمية قادرة على حماية مصالحها ضمن محيطها الحيوي سوف يؤدي تدريجيا لإضعاف الهيمنة الامريكية على العالم, والتي سوف يكون من نتائجه القريبة بحسب رأي صموئيل هنتكتون وبريجنسكي والبروفسور جيمس يورك الفوضى على مستوى العالم فنحن نعيش الان بداية عصر ما بعد الهيمنة الامريكية المطلقة
----------------------------------------------------------------------------------------------
موسكو وواشنطن:هل بدأ اهتزازالقطب الواحد الأميركي للعالم؟ -
- محمد سيد رصاص - جريدة "الاتحاد"- الإثنين 18كانون أول2017

كانت ثورة أوكتوبر 1917 الروسية حدثاً طبع القرن العشرين بطابعه في الضد والمع.أيضاً فإن انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه عام1991بعد قليل من هزيمة موسكو أمام واشنطن قد حدًدا معالم ومسار القرن الجديد،الذي كانت من أهم ملامحه تحول الولايات المتحدة الأميركية إلى القطب الواحد للعالم في مرحلة مابعد 1989.مارست واشنطن القطبية الأحادية للعالم في أحداث مفصلية :(حرب خليج1991- حرب كوسوفو1999-غزو أفغانستان2001- غزو العراق2003).مارست موسكو مع باريس وبرلين تعويقات للأميركان في الحدث العراقي منع واشنطن من استخدام مجلس الأمن منصة لتشريع الغزو ،بخلاف ماكان عليه الحال في حرب1991،ولكن ذلك لم يكن عائقاً حقيقياً للأميركان وسرعان ماعاد مجلس الأمن ليقوم بتشريع الاحتلال الأميركي للعراق في الشهر التالي لسقوط بغداد.في العقوبات ضد ايران بين عامي2006و2010التي اتخذها مجلس الأمن بسبب برنامج طهران النووي لم يكن الكرملين معيقاً للبيت الأبيض.
عانت روسيا عقب الانهيار السوفياتي من فترة من الضعف لم تشهدها خلال قرون خمسة مضت،حيث تمدد الأميركان إلى العديد من الجمهوريات السوفياتية السابقة،ومن ثم بدأت التصدعات في بناء الاتحاد الروسي ابتداءاً من الحرب الشيشانية عام1994.كانت الضربة الكبرى لموسكو في ابتعاد أوكرانية منذ عام2004عن المدار الروسي باتجاه الغرب عبر "الثورة البرتقالية" وهو ماتزامن مع حدث مماثل في جيورجيا.منذ تولي فلاديمير بوتين الرئاسة الروسية في أول يوم من عام2000من بوريس يلتسين كان واضحاً أن برنامجه هو وقف التشققات في البناء الروسي عبر انهاء الحرب الشيشانية بوسائل كانت بالغة القسوة ثم الانتقال نحو "الحديقة الخلفية القديمة "في الجمهوريات السوفياتية السابقة قبل الولوج في النقطة الثالثة وهي :العالم.
بدأت معالم الاستيقاظ الروسي في يوم8/8/2008مع الحرب الروسية- الجيورجية.في عام2009أوقف بوتين امدادات الغاز عن أوكرانية،مع بوادر انشقاقات في صف"الثورة البرتقالية"،قبل أن يصل عام2010رئيس موال لموسكو للرئاسة الأوكرانية عبر الانتخابات.في هذه الفترة استطاعت موسكو أن تعيد نفوذها لجمهوريات سوفياتية سابقة أوأن توازن النفوذ الأميركي بها(أذربيجان- تركمانستان- أوزبكستان- قرغيزيا)فيماظلت كازاكستان وطاجكستان وأرمينيا وبيلاروسيا في حالة عدم الحيدان عن المدار الروسي،بينما انخرطت جمهوريات البلطيق الثلاث (ليتوانيا- لاتفيا- أستونيا)في حلف الأطلسي.ظهرت بوادر التحدي الروسي للأميركان عالمياً في حزيران2009مع تأسيس مجموعة دول البريكس:روسيا- الصين- الهند- البرازيل(انضمت جنوب افريقيا عام2010)التي دعت إلى "عالم متعدد الأقطاب"في ظل نشوب الأزمة المالية- الاقتصادية البادئة في نيويورك منذ أيلول2008،وفي ظل الفشل الأميركي في العراق.ولكن لم تبدأ المجابهة الروسية مع الأميركان سوى من خلال الأزمة السورية عبر الفيتو الروسي- الصيني المزدوج في مجلس الأمن يوم4تشرين أول2011.كان الأميركان قبل يومين قد أنشأوا تنظيماً معارضاً سورياً اسمه"المجلس الوطني السوري"بالتحالف مع تركية كان يراد منه أن يكون غطاءاً محلياً لتدخل عسكري خارجي ينفذه أردوغان كمافعل مجلس مصطفى عبدالجليل عبر ساركوزي في ليبيا حتى تم اسقاط القذافي من باب العزيزية قبل شهرين.في نيسان2012قال لافروف لوفد من هيئة التنسيق السورية المعارضة زار موسكو:"ندافع عن موسكو في دمشق".يبدو أن الكرملين كان يرى يومذاك أن نجاح التحالف بين الأميركان و(الاخوان المسلمون) في المنطقة العربية سيكون جدول أعمله التالي عند مسلمي الاتحاد الروسي والجمهوريات الاسلامية السوفياتية السابقة.ترافق التقارب الروسي- الأميركي منذ اتفاق7أيار2013في موسكو بين كيري ولافروف مع تخلي واشنطن عن حلفها مع الاسلاميين الذين بدأوا كموجة بالتراجع والسقوط ابتداءاً من انقلاب السيسي على مرسي في 3يوليو2013وبدء تباعد أميركي- تركي مازالت مفاعيله قائمة،ومع تخلي واشنطن عن برنامج التغيير عبر "الربيع العربي".كان من مظاهر الأمر الأخير التخلي الأميركي عن المعارضة السورية المسلحة والغطاء الأميركي للدخول العسكري الروسي إلى سوريا منذ يوم30أيلول2015.
لم تعد الأجواء الروسية- الأميركية في عام2017كماكانت في مرحلة مابعد7أيار2013 :كان سقوط الموصل بيد داعش بيوم10حزيران2014قد عزز التقارب الأميركي- الروسي مع اقتناع واشنطن والأوروبيين بأولوية مكافحة الارهاب والاستقالة من مشروع"التغيير العربي".مع اقتراب داعش من الأفول بدأت تظهر التباينات والخلافات الأميركية- الروسية تجاه شرق أوسط مابعد داعش:إدارة ترامب ترى (ايران أولاً)وتتجه نحو تشكيل تحالف دولي- اقليمي إما لاقتلاع النفوذ الايراني الاقليمي أولتحجيمه.كل الضغط الأميركي والاسرائيلي منذ صيف2017على موسكو هو من أجل دفعها للمساهمة في ذلك ضد طهران عبر الساحة السورية.لم يستجب بوتين الذي يبدو أصبح،بعد المكاسب الروسية في سوريا،يرى نفسه قادراً على العمل بمعزل عن التنسيق مع واشنطن في الشرق الأوسط.لايمكن قراءة مؤتمر قمة سوتشي الثلاثية بين بوتين وروحاني وأردوغان إلابوصفه تعبيراً عن تشكيل تحالف دولي- اقليمي جديد وإذا قرأنا سورياً ماتعنيه (سوتشي)فإن طرح مؤتمر سوتشي كمسار سياسي لحل الأزمة السورية يعني انهيار التفاهم الأميركي- الروسي البادىء في 7أيار2013بموسكو الذي أنتج مسار جنيف بدءاً من جنيف2عام2014وجنيف3عام2016وماتلاهما من جنيفات.لم يخف الأميركان معارضتهم لمؤتمر سوتشي،وكانت تصريحات ماتيس حول البقاء العسكري الأميركي في شرق الفرات السوري يعني اعلاناً عن اللاتفاهم الأميركي- الروسي حول سوريا،وبالتالي عن انهيار فرص التسوية السورية ،وهو مايبدو مترافقاً مع اللاتسوية في فلسطين التي يعنيها قرار ترامب الأخير تجاه القدس،واللاتسوية في اليمن التي لوكانت قريبة تسويتها فإن الحوثيين ماكانوا ليقتلوا علي عبدالله صالح وماكان ليحصل تقارب الرياض وأبوظبي اللاحق مع (الاخوان المسلمون)في اليمن.
يدل السلوك الروسي في الشرق الأوسط،والذي يجب أن نقرأ في إطاره الاتفاقات الاقتصادية الكبرى الروسية مع مصر وتركية ،على أن هناك تهزهزاً في وضعية القطب الواحد الأميركي للعالم على الأقل في منطقة وصفها الجنرال ديغول بأنها "قلب العالم":الصين التي تمتد غرباً ،عبر استئجار مرفأين في باكستان وميانمار ووصلهما بشبكات طرق وسكك حديد وأنابيب نفط وغاز عملاقة بالبر الصيني من أجل تفادي المرور الصيني بمضيق مالاقا حيث القواعد الأميركية عند ذلك المضيق الواصل بين المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي والمحيط الهادىء،تقول حركتها بأن هناك تهزهزاً في وضعية الأميركان في آسية،وبأن هناك اتجاهاً صينياً لتطويق الهند التي تظل ترى الولايات المتحدة حليفها الرئيسي وليس دول مجموعة البريكس.التقاربات الصينية – الروسية،وتلك الروسية- الايرانية،تدل على فشل واشنطن التي كانت تريد من تقارباتها مع موسكو أساساً ابعادها عن كل من بكين وطهران.
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
التكييف القانوني للاتفاقيات والمعاهدات المبرمة من الإدارات والأقاليم المحلية

في البداية لابد من تعريف المعاهدات حسب قواعدالقانون الدولي، فقواعد القانون الدولي العام تنظم العلاقات بين الدول والمنظمات الدولية، كما تخاطب قواعد هذا القانون أيضا"الأفراد مباشرة"، او حكام الدول، وتعتبرالمعاهدات الدولية من اهم مصادرالقانون الدولي العام، فالدول والمنظمات الدولية هي فقط من يحق لها إبرام المعاهدات الدولية، وهذا الحق لا يعطى لغيرهما، وأيضا"الدولة التي يحق لها إبرام المعاهدة يجب ان تكون كاملة السيادةعلى كامل أراضيها، فالمعاهدات هي أهم مظاهر هذه السيادة، وقد اكدت اتفاقية فيينا لعام 1969على هذا الأمر، فاعتبرت المادة السادسة من هذه الإتفاقية، والمادة السادسة من اتفاقية فيينا لعام 1986المتعلقة بالاتفاقيات التي توقعها الدول والمنظمات الدولية، أو المنظمات الدولية فيما بينها. ما سبق يؤكد ان القانون الدولي لم يعطي لأي ولاية في إتحاد فدرالي أي حق في ابرام المعاهدات والاتفاقيات والتوقيع عليها، باعتبار أن هذه الولايات لا تكتسب صفة الدولة كاملةالسيادة بحسب قواعد القانون الدولي وهذا الرأي ثابت في القانون الدولي العام مع وجود بعض الاستثناءات عندما سمح دستور الإتحاد السوفييتي لعام 1977لبعض الجمهوريات المكونة للاتحاد الفدرالي بحق ابرام المعاهدات، وذلك لأسباب سياسية ومن هذه الجمهوريات أوكرانية وروسيا البيضاء، وهناك بعض دساتير الدول الإتحادية نصت على عدم أهلية الولايات والمقاطعات المكونة للدولة الإتحادية لإبرام المعاهدات الدولية. ففي المادة الأولى،الفقرة العاشرة من دستورالولايات المتحدة الامريكية نصت على : لا يجوز لأي ولاية أن تعقد أي معاهدة أو تدخل في حلف أو إتحاد.... "، أما علاقة الكانتونات السويسرية بالحكومة المركزية فهي تنطوي على قدر كبير من اللامركزية، ولكن لا يشمل ذلك الشؤون الخارجية مثل عقد المعاهدات مع الدول الأجنبية أوإرسال أو قبول الدبلوماسيين، والتمثيل في المؤتمرات، حيث يبقى ذلك من إ ختصاص الحكومة الإتحادية، وهنا تطرح الأسئلة حول مدى أهلية الأقاليم المحلية أو مايسمى"الإدارات الذاتية" للقيام بإبرام الإتفاقيات الاقتصادية أو السياسية أو غيرها من الإتفاقيات أو العقود النفطية مع دول أو شركات تتبع لدول أجنبية؟............. إذا تم تطبيق مفهوم المعاهدات الدولية على هذه الإتفاقيات أو العقود تبين لنا أنها لاتدخل ضمن مفهوم المعاهدات الدولية، وانما تمت بين أطراف تنزع نحو الإنفصال عن حكومتها المركزية ،بإستغلال النزاعات الحاصلة في بلدانها وفرض الأمر الواقع فتقوم بإبرام ما يسمى العقود الدولية مع شركات أجنبية تابعة لدول أخرى، وهذه العقود لا يمكن أن تقع ضمن نظام القواعد الدولية المتعارف عليها ، ويمكن أن تندرج هذه العقود ضمن قواعد القانون الدولي الخاص. يمكن أن نعطي أمثلة على هذا النوع من العقود ما حصل في إقليم كردستان العراق عندما قام هذا الإقليم بإبرام العقود النفطية مع شركات أجنبية وعلى الأخص الشركات الأمريكية، في مخالفة صريحة لنصوص الدستورالعراقي الإتحادي،حيث أكدت المادة 111من هذا الدستور على : ان النفط والغاز هو ملك للشعب العراقي في كل المحافظات والأقاليم . وجاء في المادة 112 من نفس الدستور :1ـ تقوم الحكومة الإتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول مع حكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة ، على أن توزع وارادتها بشكل منصف يؤمن التنمية المتوازية للمناطق المختلفة من البلاد، وينظم ذلك بقانون .
2ـ تقوم الحكومة الإتحادية وحكومات الأقاليم والمحافاظات المنتجة معا" برسم السياسات الإستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز .وهذه المواد السابقة من الدستور العراقي أوضحت بشكل لا لبس فيه عدم أحقية أي محافظة أواقليم محلي إستخراج النفط أو الغاز اوادارته دون التنسيق مع الحكومة المركزية، والأولى الاَ يحق لهذا الإقليم ابرام عقود يشمل هذا النفط والغازمع دول أو شركات أجنبية، وقد تثار أيضا مسألة طبيعة المسؤولية في حال نشوب نزاع بسب إخلال أحد الأطراف بإلتزاماته، وهذه العقود لا تحكمها قواعد القانون الدولي العام ، وإنما تخضع لقواعد القانون الدولي الخاص مما ينفي المسؤولية الدولية وما يترتب على ذلك من نتائج سلبية على الأطراف الموقعة عليه، ويرى بعض الفقه الدولي أن هذه العقود أصبحت تأخذ في الآونة الأخيرة ببعض قواعد القانون الدولي العام، ومنها الاخذ بنظرية تغير الظروف، وبمقتضاها أصبح يجوزلأحد المتعاقدين الإعفاء من الإلتزام الناجم عن العقد أوتعديله أو إنهائه، لأنه لم يعد من مصلحته نتيجة لتغير الظروف. مما جعل الخارجية الأمريكية تقدم تحذيرها لشركات النفط الأمريكية ومنها شركة <اوكسون موبيل> بعدم المخاطرة القانونية والسياسية، بالتوقيع على عقود مع أي طرف في العراق دون إقرار إتفاق وطني مع حكومة بغداد في هذا الشأن. وإذا ما أردنا إسقاط التحليل السابق في هذه الدراسة على الواقع السوري، فهو قد يكون مشابها"لما يحصل في العراق ،و إن لم يكن أخطر بكثير، وخاصة بعد قيام ما يسمى"بالإدارة الذاتية"التي تشكلت إثر سيطرة "وحدات حماية الشعب الكردي " على المناطق الشرقية من البلاد بسبب ضعف الحكومة المركزية في هذه المناطق بإستغلال النزاع السوري لفرض سياسة الأمر الواقع بدعم أمريكي سافر، بغية السيطرة على مقدرات هذه المناطق التي تعتبر ذي أهمية إستراتيجية للدولة السورية وللشعب السوري ، و قيام المشرفين على هذه المناطق بعقد الإتفاقيات، أو إبرام العقودا لنفطية مع شركات أجنبية او دول، وإقامة القواعد العسكرية لدول أجنبية مختلفة ، هدفه الأساسي فرض الأمر الواقع والتمكين من الإنفصال دون أخذ رأي أغلبية الشعب السوري في هذا الأمر في ظروف طبيعة بعد التوصل لتسوية نهائية للأزمة السورية، وهذهالتصرفات لا تجد مستند لها لافي أعراف أو فقه أو قواعد القانون الدولي العام.

-----------------------------------------------------------------------------------------


- رحيل مناضلة -

في أوائل شهر كانون ثاني2018توفيت في كندا الدكتورة أسماء رشيد الفيصل بعيداً عن بلدها سورية ومدينتها حمص .
ولدت الدكتورة أسماء في مدينة حمص عام1931وتخرجت من كلية الطب بجامعة دمشق عام1956.انتسبت للحزب الشيوعي السوري أثناء دراستها الجامعية،هي وأخويها يوسف وواصل حيث كانا يدرسان في كلية الصيدلة،ثم أرسلها الحزب للدراسة في(معهد الماركسية- اللينيية )بموسكو لمدة أربع سنوات.تزوجت من رياض الترك عام1965الذي كان سكرتيراً لمنطقية حمص للحزب ثم عضواً في المكتب السياسي للحزب بعد المؤتمر الثالث للحزب عام1969ثم الأمين الأول للحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي بعد المؤتمر الرابع عام1973.انتخبت الدكتورة أسماء في عضوية قيادة اللجنة المنطقية للحزب في حمص بالسبعينيات حتى اعتقالها في شهر تشرين أول1980أثناء الحملة العامة على الحزب التي بدأت في السابع من الشهر المذكور والتي شملت قيادات وكوادر وأعضاء الحزب وكان من ضمنهم الأمين الأول للحزب الذي اعتقل بعدها بأسابيع في يوم28من الشهر المذكور.
خرجت الدكتورة أسماء من السجن بعد عامين ونصف،وكانت مثال الأم في الاعتناء ببنتيها أثناء غياب الأب في المعتقل لثمانية عشر عاماً،ومثال للزوجة التي تعتني بزوجها لماتم السماح بزيارته في المعتقل بعد عشر سنوات من التغييب لمرة واحدة كل سنة.
مازالت تذكرها مدينة حمص ومحافظتها في سيرتها الطيبة كطبيبة في المستشفى الوطني وفي الهلال الأحمر،كمايذكرها الشيوعيون وقيادات وأعضاء كافة القوى السياسية المعارضة الذين استضافت المئات منهم في بيتها أثناء زيارتهم للأمين الأول للحزب كمثال للكرم والطيبة.
الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي يعزي ذوي الفقيدة وكل المعارضة السورية.
------------------------------------------------------------------------------------------

خواطر بصدد مراجعات لمسيرة الحراك السوري المعارض

الدكتور جون نسطة

في بداية ماأسماه برنامج حزبنا ب"الحراك الاجتماعي المعارض الواسع" في العام ٢٠١١ جرى لقاء ثقافي في برلين ضم عدداَ كبيراَ من الجالية العربية وبأغلبية فلسطينية،وجاء الكلام ،بطبيعة الحال، حول موضوع الساعة، أاعني الحراك السوري ضد نظام الاستبداد. وكانت معظم المداخلات تتضمن الكثير من الريبة والشك والتشكيك حيال ما يجري على الساحة السورية وتخوفات على القضية الفلسطينية ومصائر دعمها من قبل النظام السوري، الذي كان يدعي المقاومة والممانعة. في هذا الجو المحموم وقفت وأخذت الكلام مخاطبا الجمع قائلا: (أنتم جميعا تعرفون الشعب السوري الذي دافع منذ عشرات السنين عن القضايا العربية جميعها وفي الصدر منها القضية المركزية للعرب، قضية الشعب الفلسطيني، التي يعتبرها قضيته أيضا،وقدم في سبيلها أغلى التضحيات. هذا الشعب يا إخوتي إن انتصر سيكون في طليعة القوى في الدفاع عن الشعب الفلسطيني وقضاياه العادلة، لأن أيضا قضيتنا واحدة فنحن في سوريا نعاني منذ حرب ال٦٧ من احتلال جزء غالي من وطننا هو الجولان الحبيب. فأنا لا أرى بأي شكل من الأشكال سبباَ في دواعي تخوفاتكم وشكوكم، بل العكس تماما ،وأتوقع دعمكم ومناصرتكم للسوريين المعارضين الذين نزلوا للشارع في مظاهرات سلمية، حرصا منكم على قضيتكم وقضيتنا فلسطين، الأرض المقدسة.).
بالواقع هذا الذي تكلمت به كان يعبر عن مشاعر أغلبية الشعب السوري، الذي خرج إلى الشوارع مطالبا بحقه بنيل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، واستلام مقادير حاضره ومستقبله، ليتابع مسيرته التاريخية في بناء دولة القانون والديموقراطية، ومواكبة قطار الحداثة والتقدم، على طريق تحرير اراضيه بكل الوسائل المشروعة، والتضامن مع أشقائه العرب وفي الطليعة شعبنا العربي في فلسطين كل فلسطين.
وتابعت أحداث الحراك السوري المعارض بكل عفويته وعدم وجود قيادة داخلية له،وعدم ظهور برنامج متكامل له، مع استخدام النظام كل الأساليب في القمع، وظهور معارضة أغلبها تعيش في الخارج سلمت أمور توجهاتها إلى بلدان عديدة عربية رجعية لا تؤمن بالديموقراطية ولا تناصرها، وأجنبية لاترغب للشعب السوري نيل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وسعيه لتحرير أراضيه ومعاداة إسرائيل. وهذا الأمر شكل بذاته سرقة صارخة لقضية الحراك السوري المعارض من أيدي رجالاته المخلصين.
وكنتيجة لهذا الخطأ القاتل، بدأت الأمور تسير باتجاه ما كان يتخوف منه الكثيرون وما نبهت إليه شعارات هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي من مخاطر الطائفية واللجوء إلى العنف والتسليح وطلب أوالاستعانة بالتدخل الخارجي.وهذا الأمر شكل السرقة الثانية للحراك المعارض واختطاف مقاليده وبدء الثورة المضادة.
فبدلا من أن تتوجه قيادات الحراك إلى مخاطبة الجماهير الشعبية العربية ومنظماتها الوطنية والقومية والتقدمية والتحررية وبعض الدول العربية، طالبة دعمها وتأييدها، بعد شرح وتوضيح أهدافها الوطنية التحررية الديمقراطية بدأت شعارات البعض تهاجم وتشتم هذه القوى، وتغازل إسرائيل حتى إن بعض أشخاصها مثل الدكتور كمال اللبواني ربما غيره كفهد المصري قاموا بزيارتها، دون أن تلقى هذه الأفعال المشينة أية إدانة وتجريح يذكر من قبل المعارضة الخارجية في (الائتلاف الوطني)وغيره.
وهناك أصوات كانت تنصح قوى المعارضة الخارجية بالتواصل مع روسيا وايران في البدايات، لتطمينهم بأن انتصار المعارضة لا يعني معاداتهم وعدم مراعاة مصالحهم، والوقوف مع الدول الرجعية والغربية ضدهم.
في عام2011 كان برهان غليون في زيارتي ببيتي في ألمانية وصرح أكثر من مرة أمامي بأنه في حال االانتصار فإن أول عمل سيقوم به هو زيارة صداقة لإيران لأن إيران ليست عدوتنا على حسب ما قال في حينه.
إن القيادة الخارجية للمعارضة تخلت عن الالتصاق بشعبها وجماهيرها ومحيطها الشعبي العربي وألقت بجميع بيضها في سلة الخارج المعادي بطبيعته لأهداف الشعب السوري التي تدعي تمثيله وتتنطع لقياداته. بل راهنت، وربما لاتزال تراهن على التدخل الخارجي العسكري .
لقد بقيت هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي تقول لسنوات طويلة شبه وحيدة بالحل السياسي التفاوضي للأزمة السورية. بعد استعصاء الحل العسكري واستحالته، بدأت قوى واقعيه في (الائتلاف الوطني) تميل إلى الإعتراف بالواقع ووتتقرب رويدا الى الحوار مع هيئة التنسيق الوطنية، فكان لقاء باريس في شباط2015 والأهم لقاء بروكسل في تموز ٢٠١٥ بدعوة من الاتحاد الأوروبي والتوافق علي الحل السياسي وإدانة الإرهاب لأول مرة في البيان المشترك بين الطرفين.
ثم جاء مؤتمر الرياض في نهاية العام٢٠١٥وجاء في بيانه الختامي بأن الحل السياسي هو الحل الأفضل، وبعد هذا المؤتر بدأت مرحلة جديدة من المفاوضات في جنيف وبضغط نسبي من الجانب الروسي.
إن تلكؤ المفاوضات، لا بل فشلها إلى حد بعيد ،يعود من وجهة نظري إلى سبب واحد رئيس هو عدم توفر القناعة، لدى الطرفين، بأن لا أحد منهما قد إنتصر أوسينتصر على الآخر. بل أنهما يتوهمان بالنصر العتيد. وكلا الطرفان يفرضان شروطاَ على الآخر، شروط المنتصر، وهو مايجعل من المستحيل نجاح لمفاوضات في ظل هذا الوهم المريب.
جاء قرار الرئيس الاميركي ترمب بشأن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس من تل ابيب، واعتراف الحكومة الأميركية بالتالي بالقدس كعاصمة للدولة اليهودية، ضربة موجعة لأصدقاء اميركا وحلفاؤها وعملاءها في المنطقة العربية وعرتهم أمام الشارع العربي الغاضب، وبينت للجماهير العربية بأن الإمبريالية الاميركية وإسرائيل هما أعداء العرب الحقيقين، بعكس ما حاولت القوى الرجعية العربية ودولها، على مدى عدة عقود من السنين، إقناع الناس بأن عدونا الرئيس هي الدولة الإيرانية، وبأن إسرائيل هي حليفنا. لقد انقلب السحر على الساحر.
إن الخطوة الاميركية العدوانية والمخالفة للقوانين والقرارات الدولية، يمكن وصفها بالغبية أيضا، لأنها وحدت الشارع العربي لأول مرة منذ سنين طويلة، وأظهرت بأن الاصطفافات الحالية في العالم العربي ليست طبيعية ولا عقلانية وعلى الأغلب ليست دائمة. فهل نحن على أبواب تحالفات سياسية جديدة تعيد الامور إلى نصابها؟.
------------------------------------------------------------------------------------------

تعريف(الاحتلال)
مقدمة: لماكان مصطلح الاحتلال يتداخل في بعض جوانبه مع الكثير من المصطلحات، ويثيرإالتباسا"عندالكثييرين، فكان لابد قبل الدخول في تعريف الاحتلال أعطاء لمحة عن هذه المصطلحات.
1ـ الفتح ـ هوإخضاع دولةلإقليم دولةأخرى كلا" أوبعضا"، بواسطة القوات المسلحة للدولة الفاتحة وضمه إلى إقليمها، ويكون الفتح بعد إنتهاء الأعمال الحربية، ويتم بإعلان من جانب الدولة الفاتحة، بضم الإقليم المفتوح، ويبلغ الإعلان لسا ئر الدول ، بالطرق الدبلوماسية، تمهيدا"لإعترافها بالضم صراحة" أو ضمنا"، ولكن الفتح قدأصبح غيرمشروعا"في عهد عصبة الأمم المتحدة وأيضا"في ميثاق الأمم المتحدة .
2ـ السيادة الناقصة: وهذا المصطلح ينطبق على الدول التي لا تتمتع بكافة إختصاصات الدولة الأساسية، وذلك بسبب تدخل دولة أجنبية في شؤونها، ومباشرة لبعض إختصاصاتها، فتصبح الدولة ذات السيادة الناقصة في حالة تبعية، أو خضوع للدولة أو الدول المتدخلة، غير أن الدول ذات السيادة الناقصة تتمتع بوصف الدولة، أي أنها ذات حقوق وواجبات يقرها القانون الدولي ، وإن كانت شخصيتها الدولية غير كاملة، وهي تختلف قانونا" عن المستعمرات لأن المستعمرات تعد جزءا"من إقليم الدولة المستعمرة، ولاتتمتع بأي كيان دولي، والسيادة الناقصة قد تأخذ عدة أشكال منها: أـ التبعية ـ وهي رابطة بين دولتين، متبوعة وتابعة، وكانت تتم بموجب نص داخلي موقوت بزمن معين وتصبح الدولة التابعة في نهايته كاملة الإستقلال أوتلحق نهائيا"بالدولة المتبوعة. وكانت الدولة المتبوعة تتمتع بالإختصاص الخارجي، وتجعل الدولة التابعة خاضعة للمعاهدات السياسية، والإقتصادية التي تعقدها، وتفرض عليها ضريبة سنوية، بحيث تسمح لها التصرف تحت رقابتها في الشؤون الداخلية ، كالتشريع والتجنيد وسك النقود والمواصلات .. الخ ، أمثلة على هذا النوع من التبعية {تبعية مصر للباب العالي بين عامي 1840و1882، وتبعية صربيا ورومانيا والجبل الأسود للإمبراطورية العثمانية منذ معاهدة باريس عام 1856 حتى معاهدة برلين عام 1878}.
ب ـ الحماية ـ وهي علاقة قانونية تنتج عن معاهدة دولية تضع بمقتضاها دولة ضعيفة تسمى الدولة المحمية نفسها تحت حماية الدولة الحامية ، وتلتزم الدولة الحامية بالدفاع عن الدولة المحمية مقابل حق الإشراف على الشؤون الخارجية للدولة المحمية و التدخل في إدارة إقليم تلك الدولة. والحماية قد تكون نتيجة للضغط أو الاحتلال العسكري المباشرمن قبل الدولة الحامية، والأمثلة على الحماية الدولية{ سان مارينو تخضع لحماية إيطاليا نتيجة لمعاهدة أبرمت بين الدولتين عام 1898، وإمارة موناكو تخضع لحماية فرنسا بموجب معاهدة 17 أيار عام 1948} ، وتنتهي الحماية بإنتهاء الرابطة التي تجمع الدول الحامية والدول المحمية كما حصل بالنسبة لمصر سنة 1922 وتونس ومراكش ودول الهند الصينية لتصبح دولا" مستقلة.
ج ـ الإنتداب ـ على إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى قامت الدول المنتصرة في هذه الحرب بفرض نفوذها على الاقاليم التابعة لتركيا وألمانيا المهزومتين، حيث عمدت هذه الدول الى وضع صياغة قانونية لتبريرهذا الشكل من الإستعمار فظهر ما يسمى نظام الإنتداب ونصت عليه المادة 22 من صك عصبة الإمم المتحدة حيث جاء في هذه المادة : "نظرا"لأن هذه البلاد مسكونة بشعوب غير أهل أن تحكم نفسها بنفسها في الظروف الحرجة التي يجتازها العالم، فإنه يجب وضعها تحت إشراف بعض الدول المتقدمة، التي يمكنها موقعها الجغرافي وتجاربها الإنتداب على تلك البلاد تحت رقابة المنظمة ، فقرر وجوب تقديم تقرير سنوي لمجلس العصبة، ويحيل مجلس العصبة هذا التقرير إلى لجنة خاصة تسمى لجنة الإنتدابات الدولية، وهي تقوم تقوم بدراسته وتبين المخالفات التي تكون قد إرتكبتها الدول المنتدبة وتشير بما تراه في هذا الصدد .
وإعتبرت المادة الثانية والعشرون من صك العصبة أن الإقليم الواقع تحت الإنتداب يحتفظ بكيانه المنفصل ولا يعد جزءا"من الدولة المنتدبة، فلايخضع لسيا دتها ، ولا يتجنس سكانه بجنسية تلك الدولة، إلا إذااختاروها بمطلق إرادتهم، وبولادة الأمم المتحدة وميثاقها عام1945 انتهت أنظمة الإنتداب، إما بمنح الدول المنتدب عليها الإستقلال بعد كفاح طويل، أوبوضع الأقاليم المنتدبة تحت نظام الوصاية عملا"من المادة 78 من ميثاق المم المتحدة.
د ـ الوصاية: قام الحلفاء ببحث مصيرالأقاليم التي كانت موضوعة تحت الإنتداب ، والأقاليم المنتزعة من دول المحور بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية ، فوضع الحلفاء للأقاليم الموضوعة تحت الإنتداب نظام الوصاية، ووضعواالأقاليم االاخرى تحت ما يسمى نظام الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي.
وـ الإرتباط بمعاهدات غير متكافئة: ويتجلى ذلك في إرتباط دولة من الدول بمعاهدة مع دولة أخرى، أقوى نفوذا" بحيث تصبح الدولة الأولى في وضع سياسي وقانوني، يؤدي إلى حرمانها من بعض مظاهر سيادتها،الخارجية ، أو إختصاصها الداخلي لصالح الدولة الأقوى. وأمثلة عن ذلك{ هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى عبر معاهدة فرساي وفي الحرب العالمية الثانية، وتوقيعها معاهدة إ ستسلام ، تقبل فيها مكرهة بشروط تحد من سيادتها } .
ك ـ الخضوع للنفوذ: هو خضوع دولة من الدول للنفوذ السياسي، أو الاقتصادي لدولة أقوى منها ،مما يجعلها تابعة لهذه الدولة، فتكبل سيادتها بقيود ثقيلة، وهذا النوع من النفوذ منتشر كثيرا" في العلاقات الدولية فيما سبق والأن { النفوذ الصريح للولايات المتحدة الأمريكية في مختلف بلدان العالم من أمريكا اللاتينية إلى عالمنا العربي، وأيضا النفوذ الذي كان يفرضه الإتحاد السوفييتي السابق على البلدان التي تتبع حلف وارسو، و تدخله العسكري في تشيكوسلوفاكيا عام 1968 لمنع هذاالبلد من الخروج عن خط سياسي اختطته ما يسمى دول المعسكر الإشتراكي في ذاك الحين}.
تعريف الاحتلال : يعرَف الاحتلال بأنه الوضع الذي ينتج عن إحتلال جيش دولة ما ، الأراضي التي التي تتبع لدولة أخرى بالقوة العسكرية، وما ينتج عن ذلك من حرمانها الدولة التي تتعرض للإحتلال لسلطتها الشرعية للبلاد أو للمنطقة المحتلة منها، فتقوم الدولة الغازية المهيمنة على إدارة الأراضي المحتلة بدور السلطتين التشريعية والتنفيذية لضمان مصالحها الخاصة، وخلق أوضاع تمكنها من السيطرةعلى ثروات الدولة الموضوعة تحت الاحتلال ، وقد تضطر دولة الاحتلال أحيانا" من مراعاة بعض الحقوق الوطنية للأفراد وحقوق الملكية، ودائما" تعتمد دولة الاحتلال على القوة العسكرية والعداء لمواطني الدولة الواقعة تحت الاحتلال، وامثلة عن الإحتلالات كثيرة منها{ إحتلال الولايات المتحدة الأمريكية لفيتنام وكمبوديا، الاحتلال البريطاني والفرنسي لمعظم الأراضي العربية في القرن الماضي، والإحتلال الصهيوني لفلسطين في أربعينيات القرن الماضي والذي ما زال مستمرا" إلى الأن وتحوله إلى إحتلال إستيطاني وأمثلة كثيرة أخرى} ، ولا ينطبق هذ التعريف على الحالات التي تكون فيها القوات العسكرية متمركزة فوق أرض محايدة أوصديقة، وهي حالات يستبدل فيها عنصر العداء بعنصر الرضا والقبول.
وقد مر ت مراحل تاريخية حتى وصل مفهوم الاحتلال الى ما هو متعارف عليه الآن في القانون الدولي ، فكانت اول المعاهدات الدولية التي فرضت على أطرافهاالحد الأدنى من الحقوق في المناطق المحتلة هي معاهدة لاهاي عام 1907، ومن ثم معاهدتي جنيف 1929وعام 1949،وتنص المادة 42 من لائحة لاهاي لعام 1907على أنه" تعتبر أرض الدولة محتلة حين تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو ، ولا يشمل الاحتلال سوى الأراضي التي يمكن أن تمارس فيها هذه السلطة بعد قيامها". وجاء في المادة الثانية المشتركة من إتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 على "ان هذه الإتفاقيات تسري على أرض يتم إ حتلالها أثناء عمليات عدائية دولية، كما تسري أيضا" على الحالات التي لا يواجه فيها إحتلال أرض دولة (ما) أي مقاومة مسلحة".
وينظم ميثاق الأمم المتحدة الاحتلال ويعتبر ان قانون الاحتلال واجب التطبيق ، سواء اعتبر شرعيا"أم لا. وإعتبرفقه القانون الدولي أنه يجب توفرثلاث عناصر لقيام الاحتلال الحربي
1ـ قيام حالة الحرب أونزاع مسلح بين قوات دولتين أو أكثر
2ـ قيام حالة إحتلال فعلية تحتل فيها قوات مسلحة اجنبية أراضي دولة أخرى، وتضعها تحت سيطرتها وشل قدرتها على المقاومة وأسكات فاعليتها ، والإحتلال يظل وضع مؤقت غير دائم كونه مرحلة من مراحل الحرب ، في إنتظار نشوب القتال من جديد، أو إنهاء حالة الحرب والإنسحاب من الأراضي المحتلة.
3ـ أن يكون الاحتلال مؤثرا": يجب أن تسيطر قوات الاحتلال على الأراضي التي غزتها ، ويوقف المقاومة المسلحة فيها، وتتمكن من حفظ الأمن والنظام في الأراضي المحتلة، وبالتالي عند توفر هذه الشروط الثلاث تسري أحكام قانون الإحتلال الحربي.
الاحتلال وتطبيق القانون الدولي : إعتبرت المادة السادسة من إتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي تعمل على حماية المدنيين وقت الحرب أن هذه الإتفاقية يوقف تطبيقها في الأراضي المحتلة بعد عام واحد من إنتهاء العمليات الحربية بوجه عام ، ومع ذلك تلتزم دولة الاحتلال باحكام المواد التالية من هذه الإتفاقية من 1الى 12ـ م 27ـ م 29 الى 34 ـ م47 ـ م49 ـ م 51 ـ م52 ـ م53 ـ م 59 ـمن م 61 الى المادة77 ـ م 143ـ وذلك طوال مدة الاحتلال، ما دامت هذه الدولة تمارس وظائف الحكومة في الأراضي المحتلة. وأكدت المادة الثانية من معاهدة جنيف الثالثة لعام 1949 بشان معاملة اسرى الحرب على أن " بنود هذه الإتفاقية تطبق في حميع حالات الإ حتلال الجزئي أو الكلي لإقليم أحد الأطراف السامية المتعاقدة ، حتى لو لم يواجه هذا الاحتلال مقاومة مسلحة"، بالإضافة إلى الإتفاقيات السا بقة هناك البرتوكول الإضافي الأول ، وقواعد القانون الدولي الإنساني العرفي .
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------

مفارقات في اقليم الشرق الأوسط

يلفت النظر في الواقع الاقليمي مفارقات هي أمامنا واقعياً على الأرض:أصدقاء أميركا (السعودية- مصر- تركيا- قطر)في حالة خصام وصراع،بينما من يعلنون العداء لأميركا في حالة تفاهم.هناك مفارقات أبعد نجدها في حالتين:غزو واحتلال العراق من قبل الأميركان عام2003كان بتفاهم أميركي- ايراني ضد إرادة أنقرة والرياض والقاهرة،وهو ماتكرر عام2015أثناء توقيع الاتفاق النووي الأميركي- الايراني الذي تم بمعزل عن رضا الرياض ومجمل دول الخليج.هناك ظواهر تلفت النظر:تأييد غربي للحوثيين أوصمت عنهم في اليمن،وهناك الكثير من المؤشرات على أن دخولهم صنعاء عام2014كان بتفاهم أميركي- ايراني في ذروة المفاوضات حول البرنامج النووي الايراني بين واشنطن وطهران.هنا يلاحظ أن مشاريع الوسيط الدولي لليمن اسماعيل ولد الشيخ كلها تميل كحلول للأزمة لصالح الحوثيين،وكذلك تقارير المنظمات الدولية حول اليمن وهذا شيء معروف في أروقة الأمم المتحدة بنيويورك أنه لايتم بمعزل عن إرادة واشنطن التي تريد دائماً منذ أيام علي عبدالله صالح أن يكون اليمن شوكة في الخاصرة السعودية،مثلما الآن تستخدم الولايات المتحدة الأميركية "يساريي" حزب عبدالله أوجلان وفرعهم السوري ضد رجب أردوغان الذي بلده هي عضو في حلف الأطلسي.من يراقب تلفزيون bbcيلاحظ مدى تأييد الحوثيين ضد السعودية في تغطيته الاعلامية.
يبدو أن سكوت واشنطن منذ عام1979عن نشاط طهران التمددي في المنطقة وخاصة بعد التسليم الأميركي للعراق إلى الايرانيين لايبتعد عن النظرة التي قالها كيسنجر عام2007عن ضرورة استثمار واشنطن الصراع الشيعي- السني (الذي تنبأ كيسنجر بأنه سيكون شبيهاً بحرب المئة عام التي جرت في أوروبة) لبناء الهيمنة الأميركية على المنطقة وإعادة صياغتها بمايناسب السيطرة والهيمنة الأميركيتان عليها زائد تصريف السلاح الأميركي إلى دول ترتجف أمام التهديد الايراني.هنا يجب أن لاننسى منع واشنطن لشاه ايران من قمع ثورة الخميني1978-1979 ثم استضافة الأخير في باريس التي تحولت إلى مركز قيادة للثورة الايرانية لمدة أربعة أشهر حتى عودة الخميني بطائرة الخطوط الجوية الفرنسية لطهران في شباط1979.لم تكن عين واشنطن آنذاك فقط على تفجير المنطقة من خلال الصاعق الشيعي عندما يتمدد في منطقة أغلبيتها سنَة نظام شيعي أصولي ويسيطر على بلدان ويثير سكان محليين بانتماءات ماقبل وطنية ويجعل الكثير من شيعة البلدان العربية وباكستان وأفغانستان موالين ويأتمرون بأمر (الولي الفقيه) وإنما أيضاً كان ذلك من أجل استخدام الاسلام بطبعته الشيعية وأيضاً السنية ضد الاتحاد السوفياتي وضد النظام الذي سيطر عليه الشيوعيون في أفغانستان عام1978 .
ليس الرضا الأميركي الضمني عن هيمنة الأحزاب الدينية الشيعية الموالية لايران في بغداد ببعيد عن مثيل له يحصل في بيروت بعد حرب2006عندما نلاحظ كيف هناك رضا ضمني أميركي عن هيمنة (حزب الله)على الحكم اللبناني ولو مع الكثير من الكلام الأميركي المعاكس.
يراد من المفارقات المطروحة سابقاً ،وهي وقائع factsيقول عنها علماء السياسة أنها بحركتها التراكمية هي التي تشكل الحقيقة reality،الوصول إلى طرح أسئلة للتأمل:هل تستقيم هذه المفارقات مع وجود مايسمى ب"المقاومة"و"الممانعة"؟....أم أن الشعارات الأخيرة لاتعدو كونها بروباغندا دعائية هي أقرب إلى قنابل دخانية للتغطية على الوقائع المعاكسة؟..
--------------------------------------------------------------------------------------
الجمعة، ١٠ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٧ جريدة "الحياة"

في أنّ أميركا والغرب يهبطان بينما الصين وآسيا تصعدان؟

حازم صاغيّة

هل صحّت أخيراً نبوءة ماو تسي تونغ من أنّ «ريح الشرق تغلب ريح الغرب»؟ هذا ما يجيب عنه بـ «نعم» جدعون راشمان في كتابه «تشريق– الحرب والسلم في القرن الآسيويّ» (فينتيدج)، إذ يتناول الموضوع الذي ربّما كان حاليّاً أكثر مواضيع عالمنا سخونة، والذي هو بالتأكيد الأشدّ تأثيراً في مستقبل البشريّة.
إنّه صعود الصين وآسيا مقابل هبوط الولايات المتّحدة والغرب. وراشمان ربّما كان ألمع كتّاب صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانيّة، وأحد أكثر المتابعين الغربيّين لشؤون آسيا، خصوصاً الصين، التي يعتبر أنّ هذا القرن سيكون قرنها بالمعنى الذي كان فيه القرن العشرون قرناً غربيّاً، أوروبيّاً فأميركيّاً.
من التاريخ نبدأ
الكاتب يبدأ بالتاريخ: فما كان يحصل في أوروبا على مدى قرون خمسة، تبدأ بالكشوفات الجغرافيّة التي انطلقت من البرتغال وإسبانيا، هو ما كان يرسم مصائر البشر في آسيا وأفريقيا والأميركيتين. ولئن ارتكز هذا التفوّق الغربيّ على سيطرة اقتصاديّة وتقنيّة، بالتالي عسكريّة، فإنّ حربين عالميّتين شرعتا تقوّضان ببطء هذه المكانة الأوروبيّة: في الحرب الأولى تنازع أوروبيّون وأوروبيّون كما تصدّعت الإمبراطوريّات العظمى في شرق القارّة ووسطها. لكنْ بعد الحرب الثانية، وخلال النصف الثاني من القرن الماضي، استقلّت الهند عن بريطانيا وأجليت فرنسا عن الهند الصينيّة والجزائر كما غادر الهولنديّون إندونيسيا قبل أن يغادر البرتغاليّون النصف الجنوبيّ من أفريقيا. إلاّ أنّ بروز الولايات المتّحدة بعد الحرب الثانية، وهي ابنة أوروبا وأكبر ثمارها، بصفتها القوّة الأولى في العالم، أطال زمن الهيمنة الغربيّة أو أعاق نهايتها أو موّه تلك النهاية، خصوصاً أنّ الاتّحاد السوفياتيّ كان أيضاً قوّة أوروبيّة، أي غربيّة.
لكنْ على امتداد تلك التحوّلات، كانت تنكمش سيطرة الغرب على الاقتصاد الكونيّ في صورة متعاظمة. وفي الستينات بدأت موجة أولى من «التشريق» هبّت من اليابان ثمّ كوريا الجنوبيّة، وفي السبعينات راحت تايوان وسنغافورة وتايلندا، ثمّ ماليزيا، تتقدّم. بيد أنّ هذه الدول، بما فيها أهمّها، اليابان، بعدد سكّانها البالغ في التسعينات 120 مليوناً، ليست قادرة على قلب التوازنات الاقتصاديّة للعالم، وهذا فضلاً عن صلتها السياسيّة والاستراتيجيّة بالغرب الذي هو، بمعنى ما، صانعها في شكلها الحديث، وذلك منذ احتلّها الأميركيّون ووضعوا لها دستور الجنرال ماك أرثر بُعيد هزيمتها في الحرب الثانية.
أمّا مع الثمانينات، فبدأ الأمر يختلف بصعود الصين والهند، وكلّ منهما يزيد عدد سكّانها على البليون نسمة.
الاقتصادات الأكبر
لقد ظلّت الولايات المتّحدة، منذ سبعينات القرن التاسع عشر، صاحبة الاقتصاد الأكبر عالميّاً، غير أنّ الخمسين سنة الماضية بدأت تسجّل تآكل هذه القوّة، وكان أوّل المنعطف الكبير انتقال التحوّلات الاقتصاديّة إلى الصين ابتداء بـ1979، في ظلّ تولّي دينغ هشياو بنغ قيادتها والانعطاف بها عن الماويّة. وفي 2014 اعتبر صندوق النقد الدوليّ أنّ الاقتصاد الصينيّ، لا الأميركيّ، بات الأكبر عالميّاً إذا ما قيس الأمر بالطاقة الشرائيّة. وبالقياس نفسه، وهو موضوع خلافيّ بين الاقتصاديّين، باتت ثلاثة من الاقتصادات الأربعة الأكبر في العالم آسيويّة: الصين أوّلاً والهند فاليابان ثالثاً ورابعاً، وبينها تنحشر الولايات المتّحدة في الموقع الثاني.
فإذ انتقل الاقتصادان الصينيّ والهنديّ في الثمانينات إلى اعتماد استراتيجيّات رأسماليّة تركّز على تنمية التصدير، بعد الحقبتين الماويّة والنهرويّة– الأنديرية، بتنا أمام النقلة النوعيّة الجبّارة، بحيث انكمشت، ما بين 2001 و2010، حصّة الغرب في الاقتصاد العالميّ بنسبة العُشر، أي بما يفوق مجموع التراجع الذي حصل في الأربعين سنة السابقة على ذاك التاريخ. هكذا انطلقت السيرورة على النحو الآتي: في 1990 شكّل الاقتصاد الصينيّ 6 في المئة من الاقتصاد الأميركيّ، لكنّه صار في 2000 يشكّل 12 في المئة منه، وفي 2008 30 في المئة، وفي 2011 50 في المئة...
وتأتي الصين دوماً في المرتبة الأولى، لا سيّما في ظلّ تفوّقها على اليابان التي يضمر ويشيخ عدد سكّانها فيما تُغرقها الديون، وعلى الهند التي لا يزال شوطها لتذليل الفقر أطول من الشوط الصينيّ. فقبل عشرين عاماً كانت الولايات المتّحدة السوق الأهمّ لمعظم الاقتصادات الآسيويّة الكبرى، كما كانت استثمارات الشركات اليابانيّة أكبر الاستثمارات الأجنبيّة في جنوب شرقي آسيا. وتلك أيّام ولّت، إذ الصين اليوم الشريك التجاريّ الأهمّ لكوريا الجنوبيّة واليابان وأستراليا ومعظم بلدان المنطقة تلك. وهي حاليّاً سوق التصدير الأكبر لـ43 بلداً في العالم فيما الولايات المتّحدة سوق التصدير الأكبر لـ32 بلداً فحسب. وأخيراً، وفي دراسة له، توقّع «مجلس الاستخبارات الوطنيّ الأميركيّ»، الذي يشمل جميع الأجهزة الأمنيّة بما فيها «وكالة الاستخبارات المركزيّة» (سي آي أي)، أنّه «في 2030، ستتجاوز آسيا الولايات المتّحدة وأوروبا مجتمعتين في القوّة الكونيّة لجهة ارتكازها على النواتج المحلّيّة العامّة وحجم السكّان والإنفاق العسكريّ والاستثمار التقنيّ» مأخوذةً معاً.
أثينا وإسبارطة
بيد أنّ القفزات المتتالية التي راحت الصين تحقّقها، مع اعتناقها الاقتصاد الرأسماليّ وانفتاحها على الخارج، لم تجعلها منافساً اقتصاديّاً للولايات المتّحدة فحسب، بل جعلتها أيضاً منافساً سياسيّاً واستراتيجيّاً. هكذا يتبدّى أنّ العالم بات أمام احتمال صدام كبير في آسيا– الباسيفيكيّ تتكرّر معه التجربة التي سبق للتاريخ أن استعرضها مراراً: قوّةٌ ناشئة تطمح إلى إزاحة القوّة السائدة المنهكة، وقوّة سائدة تنوي الحدّ من صعود القوّة الناشئة. وبحسب المؤرّخ غراهام أليسون، فمنذ 1500، انتهت 12 من أصل 16 حالة كهذه بالحرب، وهو ما يستخدم في وصفه تعبير «فخّ ثوسايديدس»، حيث رأى المؤرّخ اليونانيّ القديم أنّ حرب أثينا وإسبارطة في القرن الخامس قبل الميلاد إنّما سبّبها خوف إسبارطة من صعود أثينا. وبدورها، لن يكون سهلاً على الولايات المتّحدة أن تتخلّى عن موقعها كقوّة آسيويّة– باسيفيكيّة جبّارة، بعد انخراطها العميق والحاسم في تلك المنطقة إبّان الحرب العالميّة الثانية، ثمّ خوضها حربي كوريا وفيتنام، فضلاً عن إبقائها حتّى اليوم 50 ألف جنديّ في اليابان. وهذا ما يدفع الصين لأن تسرّع تطوير قوّتها البحريّة بحيث تتجاوز القوّة الأميركيّة التي لا تزال الأولى، فضلاً عن بناء القواعد العسكريّة في جزر لا يزال الكثير منها موضع تنازع وخلاف مع بلدان أخرى.
فالبحر، في آخر المطاف، سيكون المسرح المرجّح لأيّة مواجهة قد تطرأ بين الطرفين الصينيّ– الأميركيّ. ذاك أنّ الصينيّين الذين يخوضون هناك سباق تسلّح ضارٍ، يشاركهم إيّاه معظم الدول الآسيويّة على تفاوت في النُسب، يدركون الأهميّة الاستراتيجيّة الفائقة لمضيق ملقا: فتماماً كما تربط قناة باناما الساحل الشرقيّ للولايات المتّحدة بالباسيفيكيّ، يربط المضيق المذكور المحيطين الباسيفيكيّ والهنديّ، ويُعتبر سبيل الصين للتزوّد بإمدادات الطاقة من الشرق الأوسط وأفريقيا، علماً أنّ نقطة العطب الأبرز في الاقتصاد الصينيّ هي الاعتماد على واردات تصل عبر البحر، أهمّها النفط.
بيد أنّ التأزّم الأميركيّ– الصينيّ هذا يتغذّى على عنصرين أساسيّين: فمع وصول شي جايبينغ إلى زعامة الحزب الشيوعيّ والدولة الصينيّين في 2012، تعاظمت النبرة القوميّة في خطاب الصين وسلوكها، وذلك تحت شعار «إعادة تجديد» القوّة الصينيّة. حصل هذا بعدما اتّسمت الحقبة السابقة بقدر من الانكفاء والميل التصالحيّ الذي يؤثر تأمين أجواء ملائمة وغير متوتّرة تحيط بقفزات الصين الاقتصاديّة، وهو ما أسماه الصينيّون «الصعود السلميّ». وسلوك كهذا لا يُعدم أصوله في الحساسيّة التاريخيّة للصينيّين حيال الأجانب والمهانات التي أنزلوها ببلدهم كما بالهند واليابان. فوفقاً للأيديولوجيا الصينيّة السائدة، عانى البلد «قرناً من الإذلال» الغربيّ قبل أن «ينقذه» الحزب الشيوعيّ في 1949. وفي عموم آسيا، يتّضح عمق التعبير عن هذا الشعور في تغيير أسماء البلدان والمدن. ففي الهند، وابتداء بـ1995، أصبحت بومباي مومباي، وفي 1996 صارت مدراس شِنّاي، وفي 2001 انقلبت كلكوتّا إلى كولكاتا، ممّا يُفترض أنّه استعادة لأسماء أصليّة سابقة على الحقبة الكولونياليّة. لا بل سبق أن غُيّرت أسماء بلدان فصارت بورما، في 1989، ميانمار، بعدما كانت سري لانكا السبّاقة في 1972 حين تخلّصت من اسم سيلان.
ضعف أوباما؟
لكنّ العنصر الثاني يطاول نقاط الاحتكاك الفعليّ بين الصين والولايات المتّحدة، وهو احتكاك جعلته رئاسة باراك أوباما (المولود في هونولولو والذي عاش أربع سنوات في إندونيسيا) أكثر حدّة. ذاك أنّ الأخير هو الذي أعطى الأولويّة في التركيز الأميركيّ لمنطقة آسيا– الباسيفيكيّ، مدفوعاً بالجاذبيّة الاقتصاديّة النامية هناك مقابل الشرق الأوسط الذي اعتبره متراجعاً على الأصعدة جميعاً، كما صنّفه حقلاً من الأزمات المعقّدة التي تعجز أميركا عن حلّها فيما تتهدّد طاقاتها بالاستنزاف. غير أنّ العمل على تجنّب التورّط في الشرق الأوسط لا يلغي احتمالات تورّط أكبر في آسيا– الباسيفيكيّ: فهناك الالتزام الأمنيّ الأميركيّ حيال اليابان التي تربطها خصومة بالصين موضوعها ملكيّة جزر غير مأهولة في بحر الصين الشرقيّ، يسمّيها الصينيّون جزر سينكاكو، واليابانيّون جزر ديوايو. ولا يستبعد الكاتب أن يتحوّل هذا النزاع، في حال انفجاره، إلى ما كانته سراييفو في 1914 حين اغتيل فيها الأرشيدوق فرانز فرديناند. ثمّ إنّ الخلاف الصينيّ– اليابانيّ تغذّيه ذاكرة الاحتلال والامتهان اليابانيّين للصين في الثلاثينات ثمّ في الحرب العالميّة الثانية، والتي لا تقلّ حمولتها العدائيّة عن تلك التي تنضوي في الذاكرة الصينيّة حيال الغرب. وهناك أيضاً مسألة تايوان التي يقدّر البعض أنّ غزوها أحدُ استهدافات البناء العسكريّ للصين التي تشعر أنّها لا تُستكمل كأمّة ووطن من دونها. وأخيراً تبقى السيطرة على الشطر الغربيّ من الباسيفيكي أمراً حارّاً ومُلحّاً في بكين كما في واشنطن.
لكنّ الأوباميّة، من جهة أخرى، هي لحظة التآكل في القدرة الأميركيّة على التأثير في العالم تبعاً لتركّز الثراء في آسيا على نحو متعاظم، أكثر ممّا تبعاً لأوباما وقيادته. فالأدقّ قوله بالتالي أنّ ضعف أوباما هو انعكاس لضعف أميركا المستجدّ، بدل القول السائد من أنّ أوباما هو مَن أضعف أميركا. فبشكل مختلف عبّر دونالد ترامب عن استشعار هذا الضعف، لا سيّما حيال الصين التي واجهها، منذ البداية، بنبرة عدوانيّة، وإن لم ينتج عنها إلاّ الضجيج الذي يتلوه تراجع. لكنْ قبل فوز ترامب، كان بيرني ساندرز قد عبّر عن نزعة حمائيّة، تنمّ بدورها عن انقلاب الموازين الاقتصاديّة كونيّاً، وهي النزعة التي اضطرّت أن تتبنّاها المرشّحة هيلاري كلينتون في حملتها الانتخابيّة.
واليوم تبدو الصين المسؤول الأوّل عن حال الاقتصاد العالميّ وعن معالجة بؤر التوتّر التي قد ترتّب آثاراً اقتصاديّة ضارّة. فهي المدافع الأبرز عن حريّة التجارة، كما ظهر في قمّة دافوس الأخيرة، وهي صاحبة المشروع المعروف بـ «الحزام والطريق»، حيث تعهّدت إنفاق عشرات بلايين الدولارات كاستثمارات في البنى التحتيّة للبلدان التي كان يعبرها «طريق الحرير» القديم، معيدةً إنشاء الطرق التجاريّة القديمة بين الصين وجيرانها إلى الغرب، في آسيا الوسطى والجنوبيّة. وهي أيضاً الحريصة على نظافة البيئة والمؤيّدة لاتفاقيّة باريس. وإلى هذا، فحين يصعّد ترامب ضدّ كوريا الشماليّة، تتصرّف الصين بصفتها الطرف العاقل الذي يمتصّ احتمالات الصدام الكارثيّ.
وحيال التنافر المتصاعد بين عملاق الأمس وعملاق اليوم، استطاعت الصين أن تحقّق مكاسب سياسيّة فعليّة، فضلاً عن المكاسب التجاريّة، مكرّسةً تحالفاتها مع بلدان كباكستان، الخائفة من الهند، أو ككمبوديا ذات المخاوف التقليديّة من فيتنام، وكذلك مع لاوس وكوريا الشماليّة، وكلّها بلدان مثقلة بالفقر، ولكنْ أيضاً متلاعبةً على حياد بعض الدول تجاه خلافها مع الولايات المتّحدة. ففي حالة تايلندا مثلاً، تستثمر بكين في انزعاج الغرب من انقلاب 2014 العسكريّ وتردّي حقوق الإنسان ممّا لا تعيره الصين أيّ اهتمام، والشيء نفسه يصحّ في الفيليبين التي قرّبها الرئيس دوتيرتي من بكين، على رغم العداء التقليديّ، وذلك ردّاً على استياء الدول الغربيّة من سجلّه في حقوق الإنسان. وفي حالة سنغافورة تخاطب الصين كونفوشيوسيّتها وما تتضمّنه من تحفّظات ثقافيّة وأخلاقيّة صارمة على القيم الليبراليّة الغربيّة «المائعة». وعلى العموم، تستشعر هذه البلدان الحياديّة بأنّ الولايات المتّحدة، المتردّدة والمرتبكة، قد تكون أقلّ قدرة من الصين على حمايتها، فيما لو انفجرت بينهما أزمة كبرى ما.
ضعف الغرب
وتطول اللائحة التي يمكن إدراجها تحت عنوان ضعف الغرب والتي تصلح للتوظيف الصينيّ: فالتباعد الأميركيّ– الأوروبيّ في ظلّ ترامب يُضعف فكرة «الغرب» الموحّد، لا سيّما وقد ظهر هذا التنافر بعد أزمة 2008 الماليّة التي ضربت نموذجيّة الغرب كمرجع تقليد، فيما بدا التأثّر الصينيّ بها محدوداً وعابراً. وفي الشرق الأوسط، تحطّمت الصياغة الغربيّة للمنطقة المذكورة بعد «الربيع العربيّ»، خصوصاً بعد «داعش»، بينما انكشفت محدوديّة القدرة الأميركيّة في سوريّة عام 2013، وهذا قبل أن يتدخّل الروس في 2015 دعماً لنظام بشّار الأسد المتداعي. وفي أفغانستان، وعلى رغم الجهود الحربيّة الكبيرة التي بذلتها الولايات المتّحدة وحلف الأطلسيّ، لم يمكن القضاء على «طالبان» التي قد ينتهي الأمر إقراراً بشرعيّتها.
أمّا روسيّا فجاء احتلالها شبه جزيرة القرم في 2014 ليشكّل أوّل إلحاق ترابيّ يحصل عسكريّاً في أوروبا ما بعد 1945. والأمر، هنا، لا يخلو من عنصر أيديولوجيّ: فبعد النظر إلى الغرب كنموذج مرتجى في سنوات ما بعد سقوط الاتّحاد السوفياتيّ، انفجرت على نحو موسّع الأفكار السلافيّة القديمة التي تؤكّد الملامح الآسيويّة للهويّة الروسيّة، ابتداء بالميراث المونغوليّ وليس انتهاء بالعمق الجغرافي الآسيويّ. وشيء مشابه حصل في تركيّا في العقد الماضي. فالدولة التي انضمّت إلى الناتو في 1951 لم تعد تملك الحماسة التي تدفعها إلى العمل لإتمام الانضمام إلى الاتّحاد الأوروبيّ. ومع الجرعة الإسلاميّة المرتفعة التي يمثّلها رجب طيّب أردوغان، بات التنافر السياسيّ والإستراتيجيّ يتغذّى على تنافر أيديولوجيّ أيضاً. حتّى في أفريقيا، من إثيوبيا والسودان في الشرق إلى جنوب القارّة، هناك ارتياح إلى النموذج الصينيّ الذي لا تفرض العلاقة به أيّة قيود في ما خصّ الفساد أو الالتزام بمعايير حقوق الإنسان.
كذلك أطلق التفاوض مع إيران حول «الملفّ النوويّ الإيرانيّ» نشاط طهران التدخّليّ والتوسّعيّ في بلدان مجاورة عدّة على نحو يجافي نفوذ أميركا ومصالحها، فيما أساء ذاك الملفّ وتداعياته إلى علاقاتها بحلفاء وطيدين كإسرائيل أو بلدان الخليج، ممّن تراجعت ثقتهم بقابليّتها للحماية، أو بقدرتها على توفيرها، فاتّجهوا إلى عقد صلات، وتطوير أخرى، بقوى آسيويّة كالصين وروسيا والهند وباكستان. وهي وجهة قد تنعكس مزيداً من الإضعاف للعلاقات الأميركيّة– الخليجيّة إذا ما قاد النفط الصخريّ في الولايات المتّحدة إلى تقليل الاهتمام بنفط الشرق الأوسط.
وهذا كي لا نضيف التخبّط الترامبيّ في البيت الأبيض، أو الأزمة السياسيّة والاقتصاديّة الأوروبيّة التي تطرح أسئلة متزايدة حول شرعيّة الاتّحاد الأوروبيّ، خصوصاً بعد استفتاء بريكزيت البريطانيّ وتعاظم الحركات الشعبويّة والقوميّة على امتداد القارّة.
وما لا شكّ فيه أنّ أوضاع الولايات المتّحدة تبقى، على رغم كلّ شيء، أسلم وأمتن من أوضاع البلدان الأوروبيّة، إلاّ أنّ بعض اعتلالها عائد أيضاً إلى اعتلال حلفائها وإلى ضعفهم السياسيّ والاستراتيجيّ. ففي أوروبا كما في آسيا، تنكمش مساهمات الحلفاء الماليّة في الدفاع المشترك، وهو ما يفسّر بعض الصراخ الترامبيّ في المطالبة برفع تلك المساهمات والتشكيك بجدوى الناتو، بينما تمارس دول كبرى كبريطانيا وفرنسا خفضاً متواصلاً لأحجام قوّتهما العسكريّة.
لقد رتّب فشل التورّط في أفغانستان، عبر الناتو، الكثير من التحفّظات حول أيّ دور عسكريّ خارج القارّة. لا بل حتّى داخل القارّة، يرنو الأوروبيّون إلى الأميركيّين بصفتهم الطرف القادر على ردع الروس، تكراراً منهم للتدخّل الذي حسم حرب البوسنة في التسعينات. ولئن كانت ألمانيا لا تزال الحالة الأكثر صحّيّة على الأصعدة جميعاً، فاللافت هو عزوفها، بسبب تجارب الماضي وعِبره، عن الأدوار الكبرى خارج حدودها، السياسيّة منها وخصوصاً العسكريّة. أمّا بلد أوروبيّ مركزيّ كإيطاليا، فتجعله أزمته الاقتصاديّة المتفاقمة خارج الحسابات جميعاً.
والشرق الأوسط، وفقاً لجدعون راشمان، لعب ويلعب دوراً ملحوظاً في إضعاف قوّة أميركا والغرب ممّا يُترجَم تجرّؤاً صينيّاً عليهما. فبعد فشل حربي جورج دبليو بوش في العراق وأفغانستان، جاء «الربيع العربيّ» ليسجّل أنّ القوى الديموقراطيّة والحديثة التي راهن الغرب عليها هي الأضعف في مجتمعاتها: فلا وائل غنيم رمز الثورة الفعليّ في مصر، ولا محمّد البرادعي رئيس الجمهورية الثوريّة الجديدة. وفضلاً عن صورة الضعف التي ألحقها بأوباما تخاذله أمام الأسد في سوريّة، تلاقى الخصمان الإسلاميّ والعسكريّ في مصر عند التشهير بالولايات المتّحدة لأسباب مختلفة. وكانت ثالثة الأثافي مقتل السفير الأميركيّ في ليبيا. لقد اندفع أوباما، ذو النزوع الآسيويّ، بكثير من التردّد إلى الشرق الأوسط، متأثّراً أساساً بـ «الربيع العربيّ» والأفق الجديد الذي تراءى أنّه يفتحه، كما بديبلوماسيّة جون كيري الذي حلّ محلّ هيلاري كلينتون في وزارة الخارجيّة، مراهناً على حلّ النزاع الإسرائيليّ– الفلسطينيّ. بيد أنّ هذا التورّط سريعاً ما ارتدّ إلى موقع دفاعيّ بحت محكوم ببند أوحد هو مكافحة الإرهاب الإسلاميّ.
ضعف الصين
لكنّ الصين تعاني، إلى ذلك، من نقاط ضعف هائلة قد تقطع عليها طريقها إلى القمّة، إن لم تؤدّ، وفقاً لأكثر النقّاد تشكّكاً بتجربتها، إلى انهيار سلطتها المركزيّة نفسها. فهناك أساساً الفساد الذي تشاركها إيّاه الهند، ويحتمي بعضه بمقدّمات في الثقافة القديمة والتراتبيّة الموروثة. وبما أنّ التأثيرات السلبيّة للفساد أضحت تهدّد قيادتها الاقتصادَ المعولم، نفّذ زعيمها كشي حملة مضادّة استهدفت أكثر من مليون شخص متورّط. وهناك طبعاً مسألة الديموقراطيّة وحقوق الإنسان التي تعاظم انتهاكها في السنوات القليلة الماضية، مع ما رافق، ويرافق، ذلك من تطوير لتقنيّات الحجب والضبط للتواصل الاجتماعيّ ممّا يُخلّ بريادتها المأمولة للعصر ما بعد الصناعيّ. وهذا مع العلم أنّ إعادة هونغ كونغ إلى البرّ الصينيّ في 1997، بتراثها «البريطانيّ» في الديموقراطيّة، يمنح الحركة الديموقراطيّة في الصين زخماً أكبر وقاعدة أوسع وأنشط وأشدّ خبرة. ويبقى أنّ نظام الصين غير الديموقراطيّ، على عكس مثيليه الهنديّ واليابانيّ، يضاعف دائماً الخشية من تحوّلها، في أيّ وقت يبدو ملائماً لذلك، إلى بلد أقلّ سلميّة وأكثر تهديداً لجوارها وللعالم. إلاّ أنّ لا ديموقراطيّة ذاك النظام، وافتقاره إلى قيم كونيّة يتقبّلها الآخرون نموذجاً لهم، بالتالي اصطباغ سياساته الخارجيّة بقدر مدهش من الانتهازيّة، لم تحظ بما تستحقّه من هجاء الكاتب، وإن حظيت بإشارات تخلّلت كتابه.
بيد أنّ أكثر ما ينبّه إلى ضعف الصين، وهذا ما يصعب إخفاؤه، هو علاقتها بذاك الجوار الآسيويّ. فهي، بسبب خليط من الأسباب الحدوديّة والتاريخيّة، تثير المخاوف في بلد كبير هو فيتنام (17 حرباً في التاريخ بينها وبين الصين)، وتقليديّاً وشعبيّاً في الفيليبين (على رغم توجّهات نظام دوتيرتي)، وكذلك في بلد كبير آخر على درجة بعيدة من الاستقرار الديموقراطيّ هو أستراليا، فيما تتخوّف كوريا الجنوبيّة من علاقة بكين المتينة بكوريا الشماليّة. إلاّ أنّ المشكلات الأكثر حدّة وخطورة تبقى مع البلدين الأقوى، أي اليابان والهند (التي خاضت مع الصين حرباً في 1962). وهؤلاء جميعاً لا يكتمون الخوف من تنامي القوّة العسكريّة الصينيّة. لا بل هناك نقاط قوّة قابلة أن تنقلب نقاط ضعف: ففي إندونيسيا مثلاً، وهي أيضاً تملك مخاوفها من بناء الصين للقواعد العسكريّة في الجزر، ثمّة أقلّيّة صينيّة ضخمة هي أشبه بلوبيّات مؤثّرة لخدمة التقارب مع الصين. غير أنّ النزاع الإسلاميّ– الصينيّ في إندونيسيا، والذي أُوّلت تصفية الحزب الشيوعيّ الإندونيسيّ أواسط الستينات كتعبير عنه، يجعل كلّ انحياز إلى الصين سبباً لتفجّر النزاع الأهليّ الضامر. والأمر نفسه يصحّ في بلد كماليزيا حيث العلاقات الأهليّة المالاويّة المسلمة– الصينيّة مشبعة بأسباب التوتّر والمخاوف.
وعلى عكس الغرب، حيث يمكن الحديث عن «حلف» هو الناتو، وحيث الحوار دائر حول إقناع الولايات المتّحدة الترامبيّة بضرورته، وحول رفع المساهمات الماليّة للحلفاء بهدف الإبقاء عليه، فالمؤكّد أنّ التناقضات الآسيويّة تجعل الكلام عن «حلف شرقيّ» أقرب إلى المستحيل. فالصين، قياساً بالاتّفاقات الرسميّة، لا تملك إلاّ حليفاً واحداً «كاملاً» هو كوريا الشماليّة. وفي مقابل مطالبة الغربيّين بأن تكون أميركا قويّة، فإنّ قوّة الصين ليست سوى مدعاة لخوف الشرقيّين الآخرين. وهذا فضلاً عن عدم استقرار يضع الصين في جوار نزاعات، قد تنقلب نوويّةً، بين الهند وباكستان أو في ما خصّ كوريا الشماليّة، وهو بالطبع ممّا يخلو منه العالم الغربيّ.
ضمانات السلام؟
والكاتب المنحاز إلى «التشريق» لا ينفي المصاعب الكبيرة في وجه الصين وآسيا، لكنّه يذكّر بأنّ الصعود الأميركيّ نفسه ترافق مع حروب كالحرب الأهليّة في الولايات المتّحدة كلّفت مئات آلاف القتلى، ومع مواجهات وخضّات، حربيّة واقتصاديّة، لا حصر لها. وبالمعنى نفسه، تجاوزت الصين محنة ساحة تيان آن مين، كما تجاوزت الاقتصاداتُ الآسيويّة أزمة 1997 الماليّة ماضيةً في خطّها الصاعد.
وفي النهاية قد تكون الضمانة الأقوى للسلام في منطقة آسيا– الباسيفيكيّ أنّ أيّة حرب أو أزمة كبرى بين بلدان الاقتصادات الأكبر في العالم إنّما تعني تدمير الاقتصاد العالميّ برمّته. وهذا فضلاً عن مصالح مشتركة كثيرة، بعضها اقتصاديّ وتجاريّ أمكن تحييدها عن السياسة، وبعضها بيئيّ، وبعضها الثالث يتّصل بمكافحة التطرّف النضاليّ الإسلاميّ. فليس محتّماً علينا أن يكون يومنا هذا تكراراً لما حصل في أثينا وإسبارطة قبل ستّة وعشرين قرناً. إلاّ أنّ عقلانيّة كهذه قد لا تشكّل عاصماً راسخاً أمام الصعود القوميّ المتعدّد الأضلاع. فالزعماء الآسيويّون الثلاثة الذين تولّوا السلطة في بلدانهم في الفترة نفسها، أي بين 2012 و2014: كشي جينبينغ، أمين عام الحزب الشيوعيّ الصينيّ، وشينزو أبي، رئيس حكومة اليابان، وناريندرا مودي، رئيس حكومة الهند، تجمع بينهم القوميّة المتشدّدة والإمعان في استنهاض تواريخ العداء ورموز النزاع مع البلدان الأخرى وإذلالها. وقد شهدت سنوات العهدين الأوباميّين محاولات لإنشاء حلف مناهض للصين أفشلتها المبالغات القوميّة. فاليابانيّون، مثلاً، في إصرارهم على روايتهم «البريئة» والمتفاخرة عن الحرب العالميّة الثانية، والمنكرة للفظاعات التي ارتكبوها، نفّروا الكوريّين الجنوبيّين من ضحاياهم.
والحال أنّ شينزو أبي حفيد وتلميذ لنوبوسوكي كيشي، الذي أشرف على إدارة منشوريا المحتلّة في الحرب العالميّة الثانية، ثمّ سُجن ثلاث سنوات بعد الهزيمة اليابانيّة بصفته مجرم حرب (وإن أعاد لاحقاً ترميم صورته ليتولّى رئاسة الحكومة بين 1957 و1960). أمّا المناضل القوميّ الهندوسيّ ناريندرا مودي فكان رئيس حكومة ولاية غوجارات إبّان مذبحة 2002 التي حلّت بالمسلمين، وقد حالت مسؤوليّته هذه دون حصوله على تأشيرة دخول إلى الولايات المتّحدة، الشيء الذي استمرّ حتّى تولّيه رئاسة حكومة الهند في 2014.
وحالات كتلك ستبقى عرضة للتأمّل في عهد دونالد ترامب الذي قد يفوق أوباما براعة في التعامل مع هذا الصنف من القادة، من غير أن يفوقه براعة في إنشاء الأحلاف وتفعيلها. وقد يقول واحدنا في ما خصّ مستقبل «التشريق»: من يعش ير. لكنّ المؤكّد أنّه حتّى لو صحّت الصرخة الماويّة من أنّ «ريح الشرق تهزم ريح الغرب»، فإنّ الشرق الذي قصده ماو ليس الصين والهند الرأسماليّتين واللتين، للأسف، تتنافسان على التوصّل إلى أفضل العلاقات مع... إسرائيل!
----------------------------------------------------------------------------------------------




___________







زوروا صفحتنا على الفايسبوك للاطلاع و الاقتراحات على الرابط التالي
http://www.facebook.com/1509678585952833-/الحزب-الشيوعي-السوري-المكتب-السياسي
موقع الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي على الإنترنت:
www.scppb.org

موقع الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي على (الحوار المتمدن):
www.ahewar.org/m.asp?i=9135



#الحزب_الشيوعي_السوري_-_المكتب_السياسي (هاشتاغ)       The_Syrian_Communist_Party-polit_Bureau#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- استبيان حول جريدة المسار‎
- المسار - العدد 11
- المسار - العدد 10
- المسار - العدد 9
- المسار - العدد 8
- المسار - العدد 7
- البرنامج السياسي ل (الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي)
- المسار - العدد 6
- المسار - العدد 5
- المسار - العدد 4
- المسار العدد 3
- المسار العدد 2
- وثائق2003-2013
- المسار - العدد 1
- بيان


المزيد.....




- مؤلف -آيات شيطانية- سلمان رشدي يكشف لـCNN عن منام رآه قبل مه ...
- -أهل واحة الضباب-..ما حكاية سكان هذه المحمية المنعزلة بمصر؟ ...
- يخت فائق غائص..شركة تطمح لبناء مخبأ الأحلام لأصحاب المليارات ...
- سيناريو المستقبل: 61 مليار دولار لدفن الجيش الأوكراني
- سيف المنشطات مسلط على عنق الصين
- أوكرانيا تخسر جيلا كاملا بلا رجعة
- البابا: السلام عبر التفاوض أفضل من حرب بلا نهاية
- قيادي في -حماس- يعرب عن استعداد الحركة للتخلي عن السلاح بشرو ...
- ترامب يتقدم على بايدن في الولايات الحاسمة
- رجل صيني مشلول يتمكن من كتابة الحروف الهيروغليفية باستخدام غ ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي - المسار - العدد 12