أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ابراهيم منصوري - النباتي والكهرباء والماء وأنا















المزيد.....

النباتي والكهرباء والماء وأنا


ابراهيم منصوري

الحوار المتمدن-العدد: 5731 - 2017 / 12 / 18 - 10:15
المحور: كتابات ساخرة
    


التقيته ذات يوم من أيام البرد القارس في قرية كبيرة من كبرى قرى الجنوب المغربي. كان ولا يزال رجل سلطة متمرس يحسب له ألف حساب عند الساكنة المحلية قرويا وحضاريا. أي إنسان يدب في تلك الأرض والتقيته إلا سماه "صاحب سعادة". أ لديه مفتاح السعادة فعلا؟ من أين له السعادة وهو رجل سلطة حتى النخاع والسلطة ليست بالضرورة مرادفا للسعادة؟ احترت في كل حين نطق الفلاح والحلاق والعون والمعلم وراعي الغنم وربما كل من يدب في تلك الأرض باسم "صاحب السعادة" ناعتا ذلك الشخص بالكائن المثالي.

سألته عن أحسن حلاق في تلك القرية الكبيرة فدلني على ذي صالون مرتب ومزركش بأحلى الصور. دخلت ذلك الصالون فألفيت شخصا ذا هندام لائق والابتسامة لا تفارق محياه...كنت في ذلك اليوم في حالة بلغ فيها شعر رأسي طولا لم أعتده قط حتى ليخيل للناظر أني بلغت مشارف الجنون. جلست على كرسي مرن قابل للاستلقاء وأنا أنتظر خدمات صاحب الصالون. نظر فجأة إلى شاشة البلازما المعلقة ملأ الجدار ثم نقر على "الريموت كونترول" وإذا بألحان جميلة تنبعث من الجهاز كما تنبعث أمواج من اللؤلؤ والمرجان من الفردوس الأعلى. كانت ترانيم وألحان مجموعة "ناس الغيوان" المغربية تشدو في الأفق وإذا بشعر رأسي يُدَز دزاً ولكن بطريقة هندسية عجيبة... كنت أرى ذلك في المرآة ملأ عيني فاندهشت لدربة ذلك الحلاق. تبادلنا أطراف الحديث حول الأغنية الشعبية المغربية فقلت: "عجبا لهؤلاء فهم ليسوا أهل علم عَمِيم ورغم ذلك فهم مُبْدِعُون". رد الحلاق بكل يقين: "الله يهديك يا سيدي فالعِلْمُ في ثلاث كلمات هو الممارسة ثم الممارسة ثم الممارسة". أكدت ما قال ثم أضفت بعد أمثلة متعددة: "ولكن يا سيدي، ألا ترى أن ِمهَناً كثيرة تستوجب العلم الدقيق؟ تلك اللوحة المتبتتة على الحائط وتلك السيارة التي تطوي الطرقات وتلك الطائرات التي تسبح في السماوات وهذا الهاتف الخلوي الذي يقصر المسافات و، و، ...".

رد ذو الصالون معقبا: "بالطبع يا سيدي، هذا يستوجب العلم وليس الممارسة فقط"، لتمارس لا بد من العلم أولا، هكذا يريد أن يقول. كفانا شرا من أولائك القوم المفتونين الذين يريدون أن يبينوا للملإ كذبا وبهتانا أن العلم هراء وهو ليس بهُرَاء. لما فتح العرب بلاد فارس والعهدة على ابن خلدون وهو الراوي في مقدمته الشهيرة، اغتصب الأعراب من الفارسيات ما اغتصبوا حتى أوقفهم قائد جيوش المسلمين في بلاد فارس آنذاك سعد بن أبي وقاص الذي لاحظ ما للفرس هنالك من مِؤلفات علمية قيمة فبعث برسالة إلى أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب يقترح فيها أن يؤْتى بذلك الكنز العظيم فيترجم إلى لغة الضاد ثم يُفَعلَ فتتمخض عنه قفزة نوعية على مختلف الأصعدة. قرأ الخليفة عمر الرسالةَ كما أتتْ بِهَا الحمامةُ الزاجلةُ فأجابَ: "مِنْ أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب إلى قائد جيوش المسلمين في بلاد فارس، سعد ابن أبي وقاص؛ أم بعد، فقد قرأْنا رسالتك وفهِمْنَا ما فيها فالقِ بذلك كله في البحر أو احرقهُ، فإن كان كلهُ حقائق فنحن نمتلك أحسنَ منها وإن كان كله أكاذيبَ فقد نجانا الله مِنها".

واصل الحلاق الحديث عن الموضوع ثم توقف فجأة فأردف قائلا: " أين صاحب السعادة؟"، وكان هنا يقصد كما العادة رجل السلطة المعروف في تلك القرية الكبيرة النائية بجنوب المغرب الأقصى. نَبَسَ بكلمة "صاحب السعادة" وفق حساباتي في ذلك الوقت للمرة الخامس عشرة والله أعلم. التقيت أُناساً آخرين ولكل حرفته فلاحظت أنهم بالإجماع ينادونه باسم "صاحبِ السعادة". كيف لصاحب سلطة أن يصبح أو يمسي صاحب سعادة؟ تناسلت الأسئلة في ذهني أياما عديدات حتى التقيت أحد مساعدي رجل السلطة ذلك. دون أن أسأله قال: "لقد علمت أنك التقيْتَ صاحب السعادة وعَرَفْتَ حق المعرفة أنه رجل عظيم". أردفت قائلا: "نعم يا سيدي، لقد التقيته وناقشته في أمور عديدة وهو في الحقيقية رجل عظيم مضياف صبور ومتزن إلى أبعد الحدود؛ ولكن، لماذا تنادونه باسم "صاحب السعادة؟". رد المساعد معقبا: "إنه فعلا يا سيدي صاحب سعادة وكيف لا يكون كذلك وهو يسعد الناس بسلطته أو من غير سلطة؛ إنه سخي أبي شهم لا يظلم الناس ويوثر الناس على نفسه".

قلت في نفسي: "هذا جميل جدا، جميل جدا أن ينعت رجل السلطة هذا بصاحب السعادة رغم أنه بلحمه وشحمه صاحب سلطة وليس صاحب سعادة؛ بل أجمل من ذلك أنه يعطي السعادة ولا يحتكرها، إنه وهذا أهم من ذلك يؤثر الغير على نفسه ولو كانت به خصاصة".

دعاني "صاحب السعادة" ذلك المساء لتناول طعام العشاء معه ببيته المحاط بسور واسع كأنه سور الصين العظيم. : كنت أريد أن أسبر أغوار نفسية وفكر هذا الرجل ذي الأطوار الغريبة جدا حتى أن أحد زملائه في المهنة قال لي ذات يوم إنه رجل سلطة ناجح إلى أبعد الحدود. قدم لي "صاحب السعادة" أطباقا مختلفة من شتى اللحوم والخضر والفواكه وخبزا من مختلف الفطائر. تناول "صاحب السعادة" من الخضر والفواكه ما اشتهت نفسه ثم اختفى وإذا به يدخن النرجيلا ملأ فيه مرددا: "أنا نباتي يا سيدي؛ أنا لا أحب لحومكم". كان يردد تلك المقولة واقفا في هيأة هندي نحيف وطويل جدا كلأنه جدع نخلة باسقة فعاجلته بالسؤال: "هل أنت فعلا صاحب سعادة؟" فقال: "من قال لك يا سيدي أنني صاحب سعادة أو شقاء؟ الله وحده هو القادر على منح السعادة أو الشقاء". عقبت بعد ذلك مسترسلا: "كل الناس في هذه المداشر ينعتونك بصاحب السعادة يا سيدي لأنك كما يحلو لهم سخي ندي شهمٌ فهنيئا لك على هذا الشرف". تبادلنا أطراف الحديث حول مواضيع شتى بعد ذلك حتى تعبنا فبتت الليلة نائما في ذلك القصر الفسيح الوارف الضلال.

استفاق "صاحب السعادة" ملأ عينيه ذلك الصباح والشمس مشرقة حتى جاوزت الضحى بينما كنت أغط في النوم غَطاً. استيقظت بعد خروج "صاحب السعادة" بساعة أو أكثر فنظرت إلى أطراف القصر الشاسعة فرأيتها كلها مضيئة لا واحدة خافتة ولا طافئة". نسي "صاحب السعادة" أن يطفئ المصابيح وأغلب الظن أنه ينساها في كل وقت وحين. يا إلهي، كيف يكون رجل السلطة ذاك "صاحب سعادة" وهو لا يطفئ الأنوار؟ كيف يتبجح "صاحب السلطة" ذاك بالنجاعة الطاقية ونور 1 ونور 2 ونور 3 و 4 ثم يترك الأنوار مضيئة كأن شيئا لم يكن؟ تركت الأنوار جانبا فرأيت في دورة المياه ما رأيت، خسارة في خسارة؛ المياه تسيل أينما تنزهت في رحاب القصر الفسيح؛ قنوات المياه معطوبة حتى النخاع ولا أحد يستغيث. أين نظرية القيمة الكلية؟ أين نظرية القيمة الحدية؟ بل أين نظرية القيمة الاجتماعية التي لقنوها لنا تلقينا في فصول شتى ونحن على كراسي لا حراك فيها؟ يستفيق "صاحب السعادة" كل صباح ليقضي مآرب الناس تاركا وراءه مآرب لم تُقْضَ ولن تُقْضَ أبداً لأنها عالقة بأجيال قادمة لا دخل لنا فيها مع العلم أننا نؤثر فيها أيما تأثير. يستهلك "صاحب السعادة" الكهرباء والماء استهلاكاً والكل عبارة عن طاقات غير متجددة. إنه فعلا "صاحب سعادة" يسعد الناس فيسعدونه في هذا الوقت الراهن ولكنه لا يسعد الأجيال القادمة لأنه يستهلك من الكهرباء أكثر مما تحلو سعادته ومن المياه أجَم مما هو أوْفر من الفرشاة مهدِ السعادةِ نفسها.

عاد "صاحب السعادة" من عمله اليومي مبتهجا وكانت سرائر وجهه البهي تدل على ذلك بوضوح. إنه فِعْلاً إنسانٌ سخي أبي ندي شهمٌ معطًاءٌ؛ ولكن إذا كان كذلك فمن أجل ألأجيال الحالية فقط، فبالنسبة للأجيال القادمة حسب ما يرى من تصرفاته فلتذهب إلى الجحيم. إنسان سخي أبي ندي معطاء، هكذا عرفتُ "صاحب السعادة" فليكن كذلك عندما يفكر ليس فقط في الأجيال الجالية بل أيضا في الأجيال القادمة. كُنْ نباتيا أو لحميا، هذا يهمك يا "صاحب السعادة"؛ فقد رأيت في بلاد الهند نباتيا يجر دراجة هوائية وعلى متنه أنا وثلة من الورى وهم أربعة والهندي عابد البقر، ولكني رأيت أيضا أناسا ممن أبدعوا في علوم شتى وهم يجرون العِلْمَ جرا، أ أينشتاين نباتي أم لحمي؟

أيها النباتي كَارِهَ اللحوم والشحوم، يا "صاحب السعادة"، لقد نَهَلَ من سعادتك هؤلاء الناس وهم مُعْتَرِفُون. أنت إنسان مُعْتَرَفٌ بِك يا "صاحب السعادة" من الساكنة ومن زملائك في المهنة على حد سواء؛ ولكن، إياك وإياك أن تَنْسَ الأجيالَ القادِمَة. اطفىء كل الأنوار وسُد كل الحنفيات كلها مهما كنت نباتيا أو لحميا فلن تَبْلُغَ الجبال طولاً....

كتبها د. ابراهيم منصوري، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة القاضي عياض، مراكش، المغرب.



#ابراهيم_منصوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في رثاء الفنان موحى اٌلحُسيْن أَشِيبَان
- الرافعة الواقعة: حِوار بين شَيْخ ومُرِيد
- هيثم يبكي
- الزايدي وباها بين اللجة والسكة
- عن فاجعتي أحمد الزايدي وعبد الله باها


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...
- عبر -المنتدى-.. جمال سليمان مشتاق للدراما السورية ويكشف عمّا ...


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ابراهيم منصوري - النباتي والكهرباء والماء وأنا