أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - كريم عامر - صوفيا شول : زهرة ثلجية .. فى رياض الحرية















المزيد.....


صوفيا شول : زهرة ثلجية .. فى رياض الحرية


كريم عامر

الحوار المتمدن-العدد: 1470 - 2006 / 2 / 23 - 11:43
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


بعد مرور مايقرب من خمسة عشر عاما على الهزيمة الساحقة التى منيت بها المانيا فى الحرب العالمية الأولى ، تمكن حزب العمال الوطنيين الإشتراكيين المعروف إختصارا تحت إسم " النازى " من الوصول إلى الحكم وأصبح زعيمه " أدولف هتلر " مستشارا لألمانيا .
ومنذ اليوم الأول لوصوله إلى سدة الحكم سعى " هتلر " إلى إحكام قبضته على كافة شؤون البلاد ، فأقام حكما ديكتاتوريا بشعا مستخدما كافة أجهزة الدولة فى قمع المعارضة والتنكيل بها ، وتمكن بسرعة البرق من تحقيق أهدافه الشمولية المتطرفة ، فألغى الأحزاب السياسية وفرض سياسة الحزب الواحد على الجميع ، ولم يكن هتلر يهتم بمحاكمة مناوئيه ، بل كان يتخلص منهم بالإعتقال والإغتيال ، فقد كان يحتقر الديمقراطية ويسعى جاهدا إلى القضاء عليها ودحر كل من يطالبون بها ، وإستطاع هتلر خلال فترة وجيزة أن يسيطر على مقاليد الأمور داخل البلاد وحكمها بأسلوب شمولى قمعى بشع تمهيدا لتحقيق أطماعه التوسعية وضم أجزاءا أخرى من العالم إلى الرايخ الثالث .
كان هتلر عنصريا متعصبا للجنس الآرى ، وكان عداءه لليهود على أشده ، فقد جعل أحد أهم أهدافه إبادة اليهود فى شتى أنحاء العالم ، فأقام المعسكرات المزودة بغرف الغاز الخانق لإبادتهم ، حيث كان اليهود يساقون إلى حتفهم فيها بالجملة ، وفى كل بلد إحتلها هتلر كان يدفع بالأبرياء من اليهود رجالا ونساءا وأطفالا ، شيبا وشبابا ، إلى غرف الموت ، وتمكن هذا السفاح المجرم خلال سنوات قليلة جدا من إعدام مايقرب من ستة ملا يين يهودى برىء .
ولم يكن اليهود وحدهم ضحايا غطرسة هتلر وعنصريته ، ولكن طال ذالك أيضا عددا من الأجناس الأخرى التى كان الطاغية يرى أنها أحط قدرا من الجنس الآرى ، فلم يسلم من ذالك الروس والغجر والعرب والأتراك وغيرهم ممن رأى أنهم يحملون فى داخلهم حقدا على النظام النازى فى ألمانيا .
عمل هتلر على إعداد ألمانيا لتكون السبب فى إشعال الحرب ، وبدأ مع إستقرار الأمور له داخل البلاد بعد إخماده لأصوات المعارضين له والمناوئين لسياساته فى تنفيذ خططه البشعة الأخرى .
كانت بريطانيا وفرنسا غارقتان فى مشاكلهما الإقتصادية ، ولم تلتفتا إلى الخطر النازى الرابض على الأبواب عندما خرق هتلر معاهدة فرساى أو عندما ضم النمسا إلى ألمانيا أو عندما إستولى على البقية الباقية من تشيكوسلوفاكيا .
ولكن نذر الحرب بدأت تلوح فى الأفق عندما زحفت جيوش الطاغية على بولندا ، فإستيقظ الحلفاء من سباتهم وعقدوا العزم على مواجهة هذا السفاح وإيقاف أطماعه عند حدودها مهما كانت النتائج .
أعلنت المانيا الحرب ، وجرَّت إليها معظم دول العالم ، وراح عشرات الآلاف يتساقطون قتلى على كافة الجبهات فى معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، وتمكن هتلر فى منتصف عام 1942 من الإستيلاء على أكبر مساحة من الأراضى الأوروبية كما لم تفعل أى دولة فى التاريخ القديم والمعاصر ، فى الوقت الذى كانت المانيا تسيطر فيه على أجزاء كبيرة من شمال إفريقيا وتعد نفسها للزحف صوب مصر .
* * * * *
وفى هذا التوقيت الحرج ، وبينما كان أحد من الألمان لا يجرؤ أن يفتح فاه بكلمة تمس الفوهرر أو تحاول نقد سياساته الإجرامية المدمرة ، فى الوقت الذى باع فيه معظم الألمان أنفسهم لهتلر ووضعوا حياتهم تحت تصرف دماغه السادى المريض ، فى الوقت الذى كان الملايين من المواطنين الألمان يعيشون حياة السلبية واللامبالاة بكل هذه الفظائع التى تجرى من حولهم وتتم بإسمهم ، فى هذا الوقت الذى كان الجميع يرفعون فيه شعارات الخوف والسلبية والرعب والإنهزامية والإنقياد الأعمى لرغبات السفاح البربرى النازى السادية ، فى هذا الجو المشبع بالخوف والملىء بالرعب ، ظهرت هذه الوردة البيضاء الصغيرة الشابة : مجموعة من طلاب جامعة ميونيخ قرروا الخروج عن المألوف السلبى ، والعزف على نغمة عذبة صافية نقية مغايرة للنغمة الصاخبة المألوفة ، قرروا أن يصيحوا بأعلى أصواتهم مطالبين بسقوط الطاغية ، وإندحار النازية ، والبقاء للحرية .
تعددت إنتماءاتهم وميولهم ، وإختلفت تخصصات دراستهم ، ولكنهم إتفقوا على شىء واحد هو العمل على إسقاط النظام النازى الذى عصف بالبلاد وأذاق أهلها مر العذاب وجعل من حياتهم جحيما لا يطاق ، وحول شبابهم إلى أدوات للموت وضحايا لرغبات الفوهرر الشاذة السادية .
وعلى الرغم من أن " الوردة البيضاء " كانت تضم فى عضويتها وجوها شابة كثيرة مابين أساتذة فى الجامعة وطلاب فيها ، إلا أن الوجه المشرق الذى كان يميز هذه المجموعة هى تلك الفتاة العشرينية ذات الملامح الطفولية الصافية البريئة والسحنة الهادئة المبتسمة التى تخفى ورائها كما هائلا من التمرد على الأوضاع المرة اللاإنسانية ، ورفض الخضوع للنظم الديكتاتورية الوحشية ، وتقديم الموت على حياة الذلة والمهانة والتبعية ، والتضحية بكل غال ونفيس من أجل السعادة والرخاء والسلام والحرية ، إنها " صوفيا شول " التى جازفت بحياتها من أجل تحرير بلادها من سطوة وسيطرة نظام الحكم النازى الذى كان يعيث فى بلادها فسادا ويحكمها بالحديد والنارويقودها إلى الهاوية بكل همجية ووحشية وبربرية .
* * * * *
ولدت صوفيا فى التاسع من أيار ( مايو ) عام 1921 بمدينة فروختنبرج frochtenberg لوالد كان يشغل منصب رئيس بلديتها ، وفى عام 1932 إنتقلت عائلة صوفيا إلى مدينة أولم ulm وإستقرت بها ، وبعد ذالك بعام واحد تغير الوجه الحضارى لألمانيا مع وصول النازيين إلى السلطة بزعامة هتلر ولم يكن عمر الفتاة يناهز الثالثة عشرة بعد .
وعندما كانت صوفيا تدرس فى المرحلة الثانوية إلتحقت كمعظم أقرانها بـ" منظمة الشباب الهتلرى " التى أنشأها هتلر خصيصا لدمج الشباب فى بوتقة سياسية واحدة والحيلولة دون بروز إتجاهات سياسية معارضة لنظام حكمه بين صفوفهم ، ولكن صوفيا لم تتأثر على الإطلاق بهذا الأمر ، فقد كانت تمتلك منذ نعومة أظفارها حاسة نقدية قوية مكنتها من رفض السياسات العنصرية التى كان هتلر ينتهجها فى محاربة خصومه ، إضافة إلى أن الآراء السياسية المعارضة التى كان والدها وأصدقائها يتداولونها سرا فينا بينهم قد ساهمت بشكل فعال فى حياكة نسيجها الفكرى الرافض لسياسات الحكم النازى الداخلية والخارجية .
وقد تركت عملية إعتقال شقيقها هانز وبعض رفاقها دون مبرر عام 1937 لفترة قصيرة أثرا عميقا عليها ، ودفعتها تلك الأزمة إلى أن تفكر جديا فى إخراج معارضتها للنظام النازى من حيز السرية الفكرى إلى رحاب التنفيذ الواقعى ، لتصبح واحدة من أشهر المعارضات للنظام النازى فى المانيا وإحدى ضحاياه فى ذات الوقت .
لم تكن إهتمامات صوفيا تنصب فى محيط السياسة فحسب ، وإنما كان لديها العديد من المواهب والهوايات التى غطت مجالات أخرى كثيرة ، فقد برعت فى فن الرسم ، وإتصلت بالعديد من فنانى عصرها الذين ساعدوها على تنمية موهبتها وإثرائها ، كما أنها كانت شديدة التوق إلى القراءة والمطالعة خاصة فى المجالات العلمية والفلسفية ، كما أن عشقها للموسيقى كان بلا حدود حيث كانت تشترك مع بعض زملائها وأصدقائها فى تنظيم أمسيات موسيقية يتمتعون فيها بالإستماع إلى الموسيقى المحببة إلى قلوبهم ، كما كانت تقضى أوقاتا طويلة فى نزهات ممتعة مع أصدقائها فى التزلج والسباحة ، ولقد شكلت هذه الهوايات العالم الخاص لصوفيا شول و البديل الحقيقى للواقع المر الذى حول فيه النظام النازى البلاد إلى جحيم لا يطاق .
وفى ربيع 1940 تخرجت صوفيا من المدرسة الثانوية بتفوق ملحوظ ، وكانت أطروحة تخرجها تحت عنوان " اليد التى تهز المهد قادرة على أن تزلزل العالم " فى إشارة واضحة إلى وعيها ونضجها الفكرى الشديد وإيمانها بقدرتها كإمرأة على تغيير الواقع نحو الأفضل ، وطابعها الفريد فى التمرد على كافة أشكال التمييز التى تعانى منها المرأة والأقليات فى بلادها .
* * * * *
كان النظام فى ألمانيا فى ذالك الوقت يشترط على كل من يرغب فى الإلتحاق بالجامعة أن يقضى فترة فى الخدمة الإلزامية فى إحدى مؤسسات الخدمات العامة ، وكانت صوفيا تأنف من ذالك لأنها لم ترد أن تشارك هؤلاء المجرمين فى إجرامهم ولا أن تكون خاضعة لهم ولو لفترة وجيزة ، وظنت أنه بإستطاعتها أن تستبدل ذالك بالعمل التطوعى فى إحدى رياض الأطفال حيث كان عشقها لهم بلا حدود ، فالتحقت بالعمل كمدرسة فى إحدى رياض الأطفال بمدينة أولم ، ولكن أملها هذا ذهب أدراج الرياح ، فلم تحظى بالقبول فى الجامعة إلا بعد أن عملت لدة ستة أشهر فى إحدى فروع هذه المؤسسات فى بلومبرج .
ولقد دفعها النظام شبه العسكرى الذى كانت تخضع له خلال تلك الفترة والذى إكتشفت أنه يغتصب حرية الفرد ويحوله إلى مجرد عبد للنظام الذى يسيطر عليه هتلر إلى التفكير مليَا فى إتخاذ موقف حاسم تجاه النظام النازى .
وفى مايو 1942 إلتحقت صوفيا بجامعة ميونيخ بعد أن جابهت عوائق كثيرة تمكنت فى النهاية من التغلب عليها ، لتدرس العلوم البيولوجية والفلسفية التى كانت تعشقها ، وكان شقيقها ورفيق درب نضالها " هانز " يدرس الطب بذات الجامعة ، فعرفها على أصدقائه الذين وجدت صوفيا لديهم رغبة حاسمة فى التمرد على الوضع السائد فى المانيا والعمل على محاربة النظام النازى الحاكم سلميا ، حيث كانوا يشاركونها العديد من الميول والإهتمامات والمواقف السياسية المعارضة .
وفى هذا الجو الميونيخى الساحر بالنسبة لفتاة مثل صوفيا ، إلتقت بعدد من الفنانين والكتاب والفلاسفة الذين كان لهم أعظم الأثر فى تكوينها النفسى والثقافى ، وفى موقفها السياسى ، وكان على رأس هؤلاء البروفيسور " كورت هوبر " الذى ساهم بكثافة فى دعم تلميذته النجيبة " صوفيا " معنويا .
* * * * *
وفى مطلع صيف 1942 كانت صوفيا تؤسس بالإشتراك مع رفاقها وشقيقها " هانز شول " وبعض أساتذتها وعلى رأسهم البروفيسور " كورت هوبر " حركة " الوردة البيضاء " لمقاومة النظام النازى سلميّاً عن طريق مخاطبة الطلاب بواسطة المنشورات التى كان أعضاء الحركة يطبعونها ويوزعونها لفضح أساليب القمع والإجرام التى ينتهجها النظام النازى على الصعيدين الداخلى والخارجى ، وكانت صوفيا وشقيقها هانز يتولون فى الغالب عملية طبع هذه المنشورات وتوزيعها فى طرقات وممرات ودهاليز الجامعة ، وكانوا يخرجون ليلا لنقش جدران المنازل والشوارع بالعبارات المعادية لهتلر والنازية والمطالبة بالحرية .
وإمتد تأثير حركة " الوردة البيضاء " بعد ذالك إلى طلاب جامعات أخرى فى هامبورج وبرلين وفيينا وغيرها ، وكان أعضاء الحركة وعلى رأسهم صوفيا شول يضعون فى مقدمة إهتماماتهم إطلاع الشباب الجامعى على حقيقة الفظائع التى يرتكبها هتلر ونظامه الإجرامى تجاه اليهود والبولنديين والمعارضين الألمان ، ولفت أنظارهم إلى حجم الفساد الذى تفشى فى مؤسسات الدولة والإنحطاط الأخلاقى الذى تفشى فى أوساط الشباب بتشجيع من السلطات العليا النازية .
فلقد أرادت " الوردة البيضاء" أن تكسر الحلقة المفرغة التى كان الكثيرون يدرورون فى إطارها منتظرين من سيبدأ أولا فى التصدى للنظام النازى من الداخل ، وهو الأمر الذى جعل من كل أصحاب الضمائر الحية فى المانيا يشعرون بالذنب لموقفهم السلبى من النظام الديكتاتورى النازى .
وكانت صوفيا على رأس هذه المجموعة المناضلة تشترك فى إنتاج المنشورات وتوزيعها على طلاب الجامعة ، وتخرج تحت جنح الظلام إلى الشوارع والميادين مستغلة موهبتها الرائعة فى نقش جدران شوارع ميونيخ بشعارات الحركة المناهضة لهتلر والمعادية للنازية ، لتفاجىء رجال الجستابو فى الصباح بهذه العمليات التى تستهدف التقليل من شأن هتلر ونظامه فى نظر المواطنين وحثهم على التمرد عليه ورفض الخضوع لسياساته الإجرامية البشعة .
وإستمر الحال على ذالك حتى كان هذا اليوم الذى تمكن فيه رجال الجستابو من إخماد هذه الأصوات المغردة فى فضاء الحرية إلى الأبد .
* * * * *
ففى الثامن عشر من شباط ( فبراير ) عام 1943 إستيقظت صوفيا وشقيقها هانز كعادتهما فى الثامنة صباحا ، وكان بحوزتهم مايقرب من الف وثمانمائة نسخة من المنشور الأخير الذى أصدرته الحركة والذى كانوا يعتزمون تفريقه على زملائهم طلاب الجامعة ، وتوجها فى العاشرة والنصف إلى الجامعة ليمارسا واجبهما المعتاد فى توزيع هذه المنشورات التى تجشما المشاق والصعاب فى كتابتها وطبع مئات النسخ منها .
وبينما كانت صوفيا وشقيقها هانز منهمكين فى عملية بعثرة هذه المنشورات فى دهاليز وطرقات الجامعة ، لمحهما الحارس " يعقوب شميد " وهما يلقيان المنشورات من فوق الدرابزين ، فأسرع خلفهما ، وعندما لاحظ هانز وصوفيا ذالك حاولا التخلص مما كان بحوزتهما فى إحدى الغرف القريبة ، ولكنهما لم يحاولا الفرار بل جمدا فى مكانهما منتظرين لحاقه بهما .
قام " شميد " بإلقاء القبض عليهما ، وتم إبلاغ الجستابو الذى قاد حملة واسعة النطاق طالت أصدقائهم ومعارفهم ، وتم تفتيش منزلهما وإحراز الآلة الكاتبة وآلة النسخ التى كانا يسخدمانها فى إنتاج منشوراتهم ، وتم إستجواب صوفيا وهانز قبيل أن يتم ترحيلهم إلى سجن مركز قيادة الجستابو فى مدينة ميونيخ .
* * * * *
وفى هذا المكان إلتقت صوفيا للمرة الأولى بـ" إلزا جيبل " التى كانت تقضى عقوبة السجن وإستغلت للعمل بمكتب الإستقبال بالسجن ، وكانت صاحبة الفضل فى رواية تفاصيل ماحدث لصوفيا فى أيامها الأخيرة من خلال الخطاب الذى أرسلته إلى والديها لتخبرهم بتفاصيل ماحدث لها خلال هذه الفترة فى تشرين الثانى ( نوفمبر ) عام 1946 .
إعتقدت إلزا منذ الوهلة الأولى أن خطئا ما قد أدى إلى إلقاء القبض على صوفيا ، فلم تتصور بداءة أن هذه الفتاة الجميلة ذات الملامح الطفولية البريئة والسحنة الهادئة قد تقوم بهذه الأفعال الغير محسوبة العواقب .
رافقت إلزا صوفيا خلال أيامها الخمسة الأخيرة فى زنزانتها ، وكانت صوفيا تتعرض للإستجواب بصورة شبه دائمة ، بينما كانت معنوياتها مرتفعة للغاية ، فقد كانت تتنبأ بهزيمة المانيا الوشيكة فى الحرب خلال ثمانية أسابيع على الأقل ، وبالفعل تحققت نبوئتها بعد وفاتها ، ولكن بفترة أطول مما كانت تتوقع .
كانت إلزا تحاول التخفيف عن صوفيا خلال هذه اللحظات الأخيرة من حياتها مانحة إياها جرعات من الأمل فى أن يتم تخفيف الحكم عنها أو إطلاق سراحها ، ولكن صوفيا لم تكن تعبء بهذا ، بل كانت تسعى إلى تحمل عبء ماحدث نيابة عن شقيقها وأصدقائها .
* * * * *
وعندما شعر " روبرت موهر " الذى كان يتولى التحقيق معها بقدر من التعاطف تجاهها ، حاول أن يمنحها فرصة جديدة لإطلاق سراحها عندما أخذ يشرح لها معنى النازية والشرف الألمانى ومدى شناعة ما إرتكبته - على حد تعبيره - تجاه النظام النازى ، كان موهر يريد أن يمنحها فرصة حقيقية للنجاة عندما سألها :-
" ... أنسة شول ... إن كنت قد تعلمت من هذا الدرس وفكرت جيدا فيما حدث ... بالتأكيد لن تندفعى ثانية فى مثل هذه الأفعال الطائشة المتهورة ... اليس كذالك ؟؟!! " ...
فما كان من هذه الفتاة الجريئة الشجاعة المضحية إلا أن أجابته بلهجتها الهادئة النبرة الواثقة من نفسها والمدركة لنتيجة ماتتفوه به :-
"... لا ياسيدى ... أنت مخطىء بالطبع .... إن قدر لى أن أغادر هذا المكان فسأكرر مافعلته مرات ومرات ... بالنسبة لك فإنه يجب أن تتوب عن الأخطاء التى ترتكبها بعملك هذا ... أما أنا .. فلا ... إنه واجبى يا سيادة المحقق !! . " ...
* * * * *
كانت صوفيا تحرص على أن تضيق دائرة الإتهام بقدر إستطاعتها عليها فقط ، وكانت تتمنى أن يتم إستبعاد شقيقها وأصدقائها من مواجهة هذه التهمة ، وقد صدمت عندما أخبرتها إلزا فى اليوم الرابع بعد القبض عليها بأن أحد أفراد مجموعتها قد زج به فى السجن ، كان هذا الفتى هو " كريستوف بروبست " ، شعرت صوفيا بالحزن والهلع لهذا الأمر ، فقد كانت تدرك جيدا أن كريستوف يعول أسرة بكاملها وكان يعمل جاهدا من أجل سعادتها ورفاهيتها ، وكانت صوفيا تحاول أن تستبعده دائما من هذه العمليات خوفا عليه وعلى مستقبل أسرته التى لا تحتمل فراقه .
كانت صوفيا تردد فى أيامها الأخيرة :-
" ... سوف أموت حتما ... ولكن كم عدد من لقوا حتفهم هذه الأيام فى ميادين القتال ؟؟ كم عدد الأطفال الصغار الواعدين الذين راحوا ضحايا لهذه الحروب البشعة ؟؟؟ لماذا أخاف من موتى إذا كان سينبه الآلاف من الناس ويوقظهم من غفوتهم ....
من قلب المأساة ومن بين أجساد الطلاب ... ستخرج الثورة حتما ..." .
كانت إلزا تمنحها الأمل فى إحتمالية أن تسجن لفترة ما ثم يطلق سراحها ولكنها كانت ترفض التفكير فى هذا الأمر :-
" ... إذا حكم على أخى بالموت ... فلا يجب أن أتوقع عقوبة أقل من هذا ... إننا فى النضال سواء ... ويجب أن نكون فى الموت سواء " .
وعندما أحضر لها أحد المحامين للتحدث معها فى إجراء شكلى قبل المحاكمة ، سألها عما إذا كان يمكنه أن يطلب العفو عنها على إعتبار أنها إمرأة .. أو صغيرة فى السن ، لم تدعه صوفيا يستأنف حديثه قائلة أن لديها طلب واحد ترجوه أن يعمل على تنفيذه هو أنه فى حالة الحكم بإعدام شقيقها ينبغى أن يتم ذالك بإطلاق الرصاص بدلا من المشنقة أو المقصلة لأنه كان جنديا يقاتل فى الصفوف الأولى ، وقبل أن يفيق الرجل من ذهوله عاجلته هذه الفتاة الشجاعة اللامبالية بالمصير الذى ينتظرها بتسائل آخر عما إذا كان سيتم شنقها على رؤوس الأشهاد أم سيتم قطع رقبتها بالمقصلة !! .
وجهت صوفيا ... الفتاة الصغيرة البريئة ... هذه الأسئلة إلى محاميها بنبرة هادئة وبرباطة جأش يعجز عنها الأشداء من الرجال ، وكان ذهول محاميها حائلا بينه وبين قدرته على إجابتها .
* * * * *
وفى الثانى والعشرين من شباط ( فبراير ) عام 1943 كانت صوفيا على موعد مع القدر ، أيقظتها إلزا فى السابعة من صباح ذالك اليوم لتستعد للمثول أمام المحكمة التى لا إستئناف فيها ولا معارضة ، جلست صوفيا على حافة فراشها تقص على إلزا حلمها الأخير الذى شاهدته قبل لحظات ، فقد رأت فيما يرى النائم أنها كانت تحمل طفلا جميلا فى رداء أبيض طويل فى طريقها كى تعمده ، كان الطريق إلى الكنيسة جبليا شديد الإنحدار ، ينتهى بمجلدة ( سطح مائى متجمد ) تفصل بينه وبين الكنيسة التى تقع على الجانب الآخر ، حملت صوفيا طفلها بكل ثبات حتى بلغت هذه المجلدة التى ما إن قاربت على الوصول إلى جانبها الآخر حتى تصدع الجليد تحت قدميها ، وكان لديها الوقت الكافى لكى تضع الطفل على الجانب الآخر وتتركه فى أمان قبيل أن تهوى فى القاع .
وفسرت صوفيا حلمها هذا قائلة أن الطفل ذو الملابس البيضاء هو أفكارها التى ستبقى على الرغم من كافة العوائق التى تعترض طريقها :-
" ... لقد كتب علينا أن نمهد الطريق للأجيال القادمة ... ولكن يجب أن نموت مبكراً من أجل أن تحيا أفكارنا ..." .
كانت هذه هى آخر الكلمات التى تحدثت بها صوفيا شول مع صديقتها إلزا جيبل قبيل أن يفترقا إلى الأبد ، فبعد لحظات إستدعيت إلزا إلى عملها ، ثم أخذت صوفيا إلى المحكمة .
* * * * *
كانت المحاكمة التى عقدت لصوفيا وشقيقها هانز وصديقهما كريستوف بروبست عبارة عن مسرحية هزلية لإضفاء قدر من المشروعية الزائفة على المصير الذى كان فى إنتظارهم بعد ذلك بسويعات قليلة !! .
فقد بدأت الجلسة فى العاشرة من صباح هذا اليوم المشئوم ، وكان القاضى قد عيَّن محاميا للدفاع عنهم كإجراء شكلى لا هدف منه سوى إقناع الرأى العام بأن المحاكمة قد أخذت مجراها الطبيعى ، وقد قرر الإدعاء عدم إستدعاء أى من شهود النفى بحجة أن المدعى عليهم سبق إعترافهم بالتهم الموجهة لهم !! .
وعندما رفعت الجلسة لبعض الوقت كى يتناول القضاة طعام الغداء ، وقف " يعقوب شميد " الحارس الذى وشى بهم يتفاخر بفعلته أمام الجمهور الذى تم حشده فى القاعة ، متلقيا منهم كلمات وعبارات الإطراء والمديح والإعجاب والتقدير والإستحسان ، لأنه وشى بهؤلاء الأبرياء الثلاثة الذين ينتظرهم مصير مظلم بعد ساعات قليلة سببه لهم وشاية هذا الرجل الذى لم يتورع عن الظهور فى قاعة المحكمة لكى يعبر عن تشفيه فيهم ، ولم يسجل أى من أعضاء هيئة المحكمة أدنى إعتراض على هذا الفصل الهزلى الذى إكتمل بعد ذالك بلحظات قليلة .
ففى حوالى الثانية عشرة والنصف ، وصل " روبرت شول " و " ماجدلينا شول " والدى هانز وصوفيا إلى قاعة المحكمة بينما كان المحامى يقدم دفاعه الهزيل المتفق عليه مسبقا ، فما كان من " روبرت شول " إلا أن طلب أن يتولى مهمة الدفاع عن أبنائه ، فأمر القاضى عملاء الجستابو المتواجدين فى القاعة بإخراجه منها على الفور !! .
وإنتهت الجلسة بعد ذالك بحوالى عشر دقائق بإدانة الشبان الثلاثة ، وحكم على صوفيا شول وعلى هانز شول وكريستوف بروبست بالموت لأنهم حاولوا تحطيم القيود التى فرضت عليهم دون إرادتهم .
حاول الوالد المكلوم أن يقدم طلبا عاجلا بالعفو عن أبنائه ، إلا أن محاولته بائت بالفشل ، وطلب منه أن يتوجه إلى السجن كى يلقاهم للمرة الأخيرة .
* * * * *
وفى الساعة الخامسة من مساء هذا اليوم ، أسدل الستار على حياة المناضلة الألمانية الشابة صوفيا شول وشقيقها هانز وصديقهما ، عندما نفذ فيهم الحكم الجائر بإعدامهم ، وتم قطع رؤوسهم على مقصلة النظام النازى الجائر الذى إنتقم منهم لأنهم حاولوا مقاومة الطغيان والحصول على حريتهم التى سلبها منهم هؤلاء الطغاة الذين لم يستمروا طويلا وتحققت فيهم نبوءة صوفيا شول التى صرخت فى وجه القاضى بجرأة تحسد عليها :-
" ... سيأتى اليوم الذى تقف فيه مكانى ... "
فى إشارة واضحة إلى أن النظام النازى الذى يمثله هو المجرم الحقيقى الذى يجب أن يعاقب وليست هى التى لم تقم سوى بواجبها تجاه بلادها وتجاه الإنسانية .
رحلت صوفيا شول عن عالمنا ولم يكن عمرها قد تجاوز الحادية والعشرين سوى بتسعة أشهر وثلاثة عشر يوما وسويعات قليلة ، ولكن أثرها الذى خلفته بوقفتها التى لا مثيل لها فى وجه الطغيان الذى كان يحكم بلادها قد كتبت لها عمرا جديدا بذكراها التى ستعيش بيننا إلى الأبد .



#كريم_عامر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل أخطأت هندٌ حقاً ؟؟ .
- إنها ليست النهاية ... ياهند .
- إلا الحماقة أعيت من يداويها ...!! .
- قتل النساء على خلفية الشرف الذكورى الضائع !
- فى ذكرى إعدام الجعد بن درهم
- عود حميد ... مع بداية العام الجديد
- بين التشريع المدنى .. والتردى صوب الهاوية
- وإجتزت الإمتحان ... بنجاح
- حقيقة الإسلام كما شاهدتها عارية فى محرم بك
- هوية الفرد فى المجتمع الإنسانى
- لن أسير مع القطيع !
- قضاة ... أم خيالات مآته ؟؟!!
- بايعوا الرئيس مبارك ... أميرا للمؤمنين !! .
- رسالة الى السيد الرئيس
- إنطبعات متظاهر
- الدفاع عن المرأة ... دفاع عن الذات
- تعليم الإناث وأثره فى إنهيار الفكر الذكورى .
- فتش عن القاعدة
- النظام الأسرى بين المساواة والقوامة .
- من واقع رسالة طالب أزهرى : الأزهر والقاعدة ... وجهان لعملة و ...


المزيد.....




- انتشار التعبئة الطلابية ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية
- بيلوسي للطلبة المتظاهرين: انتقدوا إسرائيل كما شئتم لكن لا تن ...
- فرنسا: القضاء يوجه اتهامات لسبعة أكراد للاشتباه بتمويلهم حزب ...
- ضغوط أميركية لتغيير نظام جنوب أفريقيا… فما مصير الدعوى في ال ...
- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - كريم عامر - صوفيا شول : زهرة ثلجية .. فى رياض الحرية