أحمد عليان
الحوار المتمدن-العدد: 5606 - 2017 / 8 / 11 - 13:34
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
خطر التدين المصلحي
من الشائع عن وعاظ منابر التثقيف و التوجيه الديني في العالم العربي ربط تخلف المسلمين بتركهم للدين و التدين . و جماعات الوعاظ في الجزائر سائرون على هذا المنحى ، فهم مجمعون بوثوقية تامة على ضرورة محاربة التخلف بالرجوع للنهج الديني ذي المرجعية الروحانية الصالحة لكل زمان و مكان .. و بالفعل كان لهذا التوجه الديني الطارئ مفعول السحر في الفكر الجمعي (المشبع بعقلية الإتكال المعروفة بالنفور من برامج الإصلاح العقلاني التي تتطلب وقتا كافيا لتحقيق منجزات لا تتحقق بغير الجهد الفكري ، ومتاعب الجهد العضليي) ، فصار الكل يردد شعارات ما أجمع عليه الوعاظ ، و المتكلمون على منوال : " الإسلام هو الحل " ، " لا صلاح لآخر الأمة إلا بما صلح به أولها " ، "الاشتراكية كفر" ، "الديمقراطية كفر" ، "العلمانية إلحاد".. الخ .. حيث سارعت الأغلبية عن جهل و سذاجة لتقبل و تطبيق ما فهمت من هذه الشعارات بكل حماس آملة في تحقيق المرتجى من رخاء و ازدهار بفضل الإلتزام الديني .. لكن الأيام والسنين تعاقبت من غير حصول المرتجى . و لاشك أن لتعارض الشعارات مع مجريات الأمور الواقعية أسبابا وجيهة ، أهمها كامن فيما يمكن تسميته بالتدين المصلحي .
و أقصد بالتدين المصلحي* ما يلاحظ في توظيف التقيد المتزمت بمظاهر و طقوس التقديس الموروث المشبع بمثاليات القيم والتقاليد المتراكمة في المخيال الشعبي المعززة بتسلط العرف النافذ بتأثير سطوة المجتمع المتخلف في قولبة أفراده ، حيث تكون دوافع و حوافز ممارسة التدين (اللاشعورية غالبا) كامنة في دوافع التكيف الاجتماعي الشعبوي الجالب لجملة منافع و امتيازات في شكل تأثير معنوي يسهل للمتدين الحصول على اعتبارات ضامنة لمشروعية الحصول على مكاسب ملفوفة بسمعة مؤثرة في محيط العلاقات الإجتماعية خارج سلم القيم الأخلاقية والحضارية المتعارف عليها إنسانيا .
فتكفي نظرة فاحصة لما هو حاصل في مختلف ميادين التعامل بين الناس عندنا لنرى بوضوح خلو تصرفات معظم المتدينين (بالأسلوب الشعبوي) من الإلتزام بمعايير الأخلاق السامية كالصدق ، والنزاهة ، والشفافية ، وقيم احترام القوانين المدنية.. ، حيث نلاحظ الكثير ممن يستغل بشكل تلقائي السمعة العرفية المكتسبة بطقوس التدين للتستر على إتيان جنح الممنوع قانونا ، و بالتالي للإفلات من محاسبة السلطات المدنية ، أو للتغاضي عن دلالة المرفوض أخلاقيا بدافع التهوين اللاشعوري من وخز الضمير في حالات صحوه عاجلا أو آجلا . كما نلاحظ الاجتهاد في توظيف أدبيات الخطاب الديني للتقليل من شأن القيم الإنسانية و الحضارية بحجج و مبررات التأويل الفقهي المسند بالمنتقى من المرويات عن السلف ، و المدعمة بما يدرج ضمن سلطان المقدس المتعالي عن كل تقييم أو اجتهاد بشري .
و واضح أن مثل هذا الانحراف القيمي الأخلاقي ناتج عن استفحال آفة الهوس الأناني ذي الروافد الرجعية ، المتسترة بشبكة من الشكليات النمطية المعبر عنها بجماليات الخطاب اللفظي و نمطية المظهر الخارجي كاللباس و اللحية ، و طقوس العرف الجماعي ، و كل مواصفات الخصوصية المستقاة من مراجع ذات صبغة دينية و دلالات عرفية مكيفة حسب توجهات مروجيها خصوصا تلك التوجهات الوافدة من محيط البقاع المقدسة ، و ما ينشره مروجوا الفتاوى الخادمة لمصالح الجهات المنتفعة بتجهيل الشعوب .. و لتتهيأ أسباب و مسوغات استغلال الأقلية للأكثرية بمنطق الطبقية المتوحشة التي لا تخضع لقوانين مدنية . ( الطبقية بالمفهوم الديمقراطي مرفوضة باعتبار " الديمقراطية كفر" ) .
و من مخاطر التدين المصلحي تلك الآثار النفسية المحفزة على ما نلاحظه عمليا في تصرفات معظم المتدينين الذين يميلون إلى النشاط الطفيلي ، و يتجنبون مجالات الإبداع و بذل الجهد في مشاريع الإستثمار البناء المنضبط بسياسة ، و برامج مؤسسات الدولة تهربا من الضبط الإداري و الإلتزام القانوني والأخلاقي . لذا نجد معظمهم ممارسين لمهن التجارة و السمسرة و مختلف الخدمات الرائجة في المجالات التي تفلت بسهولة من رقابة القانون ، و تدر أرباحا بأقل مجهود .
و يتذكر معي من عايش أجيال ما قبل الثمانينيات من القرن الماضي كيف كانت مفاهيم و قيم التعامل بين الناس من حيث مقدار الإلتزام بالقيم الأخلاقية ، و ثقافة البعد الإنساني الممازج لقدسية الدين ، و بعفوية التدين الصادق المنزه عن التوظيف المصلحي . حيث كانت صفات الفساد منحصرة في فئة قليلة من المنحرفين المارقين الذين لا يتورعون عن ممارسة شرور السرقة و الكذب و الغش و الرشوة و إخلاف المواعيد و خيانة الأمانة ..الخ ، مقابل فئة من المواطنين الطيبين الورعين المخلصين الممارسين للتدين عن قناعة روحية منزهة عن كل غرض دنيوي . بينما كان السواد الأعظم غير ملتزم بانتظام التدين مع احترامه الشديد للدين و للمتدينين معتبرا إياهم قدوة يجب الإقتداء بها و بالموازاة يعلن سخطه على فئة المنحرفين الفاسدين و لا يذكر تصرفاتهم إلا بتعابير الذم و الاستنكار.
لكن هذا السواد الأعظم سرعان ما وقع في شرك التوجه الذي روج له من راحوا يؤسسون للتراجع عن سياسة العدالة الإجتماعية (الاشتراكية) ، و إقناع الشعب بقبول التحول و الرجوع لسياسة الرأسمالية و التفاوت الطبقي . و لم يكن لهذا الشرك من فعالية لولا توظيف الدين لما له من تأثير على نفسية و عقلية الغالبية من الشعب .. و من ثمة راج نوع من التدين الذي أخلط معالم التمييز بين المجال الروحي و المجال الدنيوي .. لتتكرس متاهة غموض في إدراك الحدود بين الخير و الشر في التعاطي مع منظومة الحقوق و الواجبات نتيجة الخلط بين خصوصية القناعة الدينية و عمومية واجب المواطنة ، فتأكد نهج توظيف التدين في الشأن السياسي الدنيوي بشكل ديماغوجي واسع التأثير ، مع رواج قناعة شكلية بأهمية آداء الشعائر الدينية جماعيا لما لهذا الأداء الجماعي من تأثير على نفسية الأفراد . و بهذا الخليط من القناعات الناشئة بمفعول سياسة التخلي عن مبادئ العدالة الإجتماعية ترسخ الاعتقاد الفضفاض الغامض المؤدي للتهوين من شأن احترام القوانين الوضعية . و تزايد عدد المتحمسين لترويج مظاهر التدين بتزايد حلقات الدرس الوعظ في المساجد و المصليات ، و الحصص الدينية في مختلف وسائل الإعلام ، و مضاعفة محتويات التربية الدينية في التعليم العام . فبينما كان عدد المساجد محدودا و لا تكاد تمتلئ ، إلا في صلوات الأعياد ، صارت الآن موجودة بكل حي تقريبا ، و هي مكتظة بروادها ؛ رجالا و نساء ؛ كبارا و صغارا و أطفالا . و بعلاقة عكسية أفرز هذا التزايد في مظاهر التدين تناقصا صارخا في الإلتزام الأخلاقي و الانضباط المدني بمفعول نوع من الهجنة المؤدية لتغييب فاعلية الفصل بين الطابع الخصوصي للعبادات ، و الطابع العمومي للمعاملات . تغييب أدى إلى نشوء نوع من القيم الهجينة المترتبة عن الخلط بين الواجبات الدينية ، و الواجبات الأخلاقية والمدنية . و غالبا ما تتخذ (بكل عفوية) الواجبات الدينية ذريعة للتهاون في الواجبات الأخلاقية و المدنية . ذاك ما صار سلوكا منتهجا من طرف الأغلبية المتدينة بشكل من أشكال التدين مع انتهاجها لما يتسبب في التأثير السلبي على السير الحسن لروابط التواصل و التعامل اليومي مع الغير . ما يعني أن لانتشار ظاهرة التدين الشعبوي دخل حاسم فيما نحن فيه من أزمات أخلاقية سياسية اجتماعية الخ . فبعد أن تراجع التصنيف التقليدي للمواطنين من حيث هم : كثرة تستنكر تصرفات قلة من الأشرار الفاسدين ، و تتطلع للإقتداء بقلة من الأخيار الصالحين ، صارت الأكثرية فاعلة لكثير من الشرور المكيفة ، و مساهمة في فساد مقنع . و بمساهمة الأغلبية في تسويغ رواج الفساد اختفت المعايير الفاصلة بوضوح بين الصلاح و الفساد في ممارسة المواطنة ، لتسود معايير المصلحة التي أنتجت روح التهافت على المردود المادي الشخصي ، و هوس الاستحواذ ، والتملك و غيرها من مواصفات التكالب الطبقي المقيت بعقلية انتهازية لا تتردد أمام أي ممكن تحقيقه بأية طريقة كانت ف"الغاية تبرر الوسيلة" ، و هذا وفق توافق ضمني صار عرفا نافذا مؤداه " الإلحاح في المطالبة بالحقوق و التقاعس في أداء الواجبات" مع تواطؤ خفي في شكل إجماع على التهرب من رقابة القانون . و هذا امتثالا ومسايرة لميل متأصل إلى عصيان أوامر الدولة الموروث من عهود الاستعمار حيث لا قبول بغير القوانين الجالبة للمنافع ، مع اعتبار الدولة كيانا خصما غريبا عن كيان المجتمع ، و قوانينها معرقلة لطموحات أفراده ، و عليه فالتمرد عن مؤسساتها لا يشكل نقيصة في نظر الرأي العام الخفي الموازي للخضوع العلني لها . هي خلفيات عقلية التحايل من أجل الكسب السهل السريع على حساب الصالح العام . و ما كان لهذا الفكر البائس من حظ في الرواج السريع الكاسح لولا توظيف الدين ، و انتهازية التدين المصلحي التي أنتجت فكرا هداما حطم أهم القيود اللازمة لسلامة مجتمع متحضر..
و من أفظع ما ترتب عن هجمة التديين المصلحي ما صار مألوفا في تصرفات وتعابير شريحة معتبرة من الشباب الذي لا يؤمن بأي مبدإ و لا يلتزم بأية مرجعية بما فيها مرجعية الدين و التدين .. فكر مصلحي بحت منغلق على نفسه في عالم المستحدث من طرق الكسب السريع لاستهلاك أقصى ما يمكن من الكماليات، مع تمرده عن كل توجه من التوجهات الفكرية ، فلا هو من أتباع النهج الإسلاموي ، و لا هو من أتباع النهج العلماني ، و لا هو مستعد لمناقشة أية أطروحة أو نزعة تقترح حلولا لما تعانيه الأغلبية من مجتمعات العالم المتخلف .. جيل أناني متملص من جدية التفكير في غير ما يرضي شهواته ، و
يضمن توفر الصالح للاستهلاك بلا حدود ، بعيدا عن كل التزام ديني أو مدني وضعي .. جيل تربى في أجواء الارتداد عن سياسة العدالة الإجتماعية بعقلية رجعية اتخذت من الدين و التدين مطية للقفز عن سلالم التدرج الموضوعي باتجاه التوازن المتكامل بين مطامح الأفراد و رفاهية المجتمع العادل من أجل احتكار ما يمكن احتكاره بتغييب ثقافة الوعي التنويري .
#أحمد_عليان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟