أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سيدة عشتار بن علي - بنية الرّواية في يومياّت نزر ممّا لمسعودة بوبكر















المزيد.....


بنية الرّواية في يومياّت نزر ممّا لمسعودة بوبكر


سيدة عشتار بن علي

الحوار المتمدن-العدد: 5518 - 2017 / 5 / 12 - 11:52
المحور: الادب والفن
    


صعب أن لا تكتب عن الثّورة والأصعب أن تكتب عنها ...مقولة لا أذكر من قائلها لكنها تختزل الكثير فيما يخص تضارب الأراء حول أدب الثّورات الذي ينتمي اليه كتاب نزر ممّا لأديبتنا التونسية مسعودة بوبكر...تأرجحت المواقف وتضاربت فيما يخص أدب الثّورات بين موقفين ..الأول يرى انه لا يجب الكتابة حتّى يختمر الحدث مع موهبة الأديب بمعنى ادق ضرورة الصّبر حتى يهضم الكاتب في وقت كاف ما حدث ومازال يحدث في الشارع العربي• فالرواية كما السينما تطالب بحقها في المسافة الجمالية التي يتحدث عنها جابر عصفور عندما تناول موضوع الثورة المصرية وعلاقتها بالرواية، وطالب القراء بأن يمهلوا الأقلام فرصة لاسترجاع الأنفاس والتموقع في خريطة التغيير التي ضربت المجتمع وهو ماعبر عنه الكاتب الاسباني غويتصلو بعبارة التّؤدة فقد حدد مواصفات كتابة الرواية في توفر التؤدة والاقتدار والرؤية السليمة للمستقبل.الباحثة الفرنسية لوبا يورغانسن تفترض أننا نكتب أي كتاب مرتين أو أكثر؛ المرة الأولى كتابة ذهنية والمرة الثانية كمخطوط بالشكل المتعارف عليه. الكتابة الذّهية شاقة ومضنية ولا يتقنها إلا من تماهت روحه مع الحدث المُلْهم لأنها تشكل البرزخ الذي يُمنح فيه العمل الأدبي روحه وشكله. فالوقائع الكبرى، مثل الثّورات، قد تحتاج إلى وقت طويل للوصول إلى نظرة موضوعية مكتملة لها، ولتقييمها، ولاستكشاف آثارها القريبة والبعيدة. وعلى ذلك يمكن تصور أن هذه الوقائع التي ارتبطت بثورات الربيع العربي سوف تظلّ، لزمن طويل قادم، مادة غنيّة للكتابات الأدبية المتنوعة ويذهب الكثير من النقاد والباحثين الى أن ستة أعوام ليست فترة طويلة، ولا كافية لكتابة عمل أدبي كامل الشروط حول الربيع العربي . فهناك أعمال أدبية عالمية كبيرة، تناولت تجارب ثورات، بعد عشرات الأعوام من مرورها ومنها مثلا «الحرب والسلام» لتولستوي، ولهذا فلا يجب التعجل في كتابة أعمال عن تجارب مثل ثورات العربي لا يزال بعضها في طور الإكمال ولا تزال امتداداتها قائمة في كثير من البلدان العربية، ولا يزال المشهد الأخير لها لم يكتمل بعد».لكن هذا صعب حقيقة ...كيف للأديب أن يسيطر على نفسه وانفعالاته وتفاعله مع الأحداث ويتجاهل حدثا استثنائيا في تاريخ بلاده نادرا ما يتكرر أمّا الموقف الثاني فهو الكتابة عن الثورة وهو الموقف الاصعب لان النص سيكون عرضة لتجاهل قيمته الفنية فمهمة الأديب اولا هي الامتاع الفنّي لا التّوثيق التّاريخي ... اختارالكثيرون الكتابة عن الربيع العربي وقليلون جدا نجحوا في تجنب السقوط في هذا الفخ وعدد قليل ممّا كتب ينتمي الى دائرة الأدب وبامكانه الصّمود أمام قرعات النقد الأدبي وكثيرون هم الذين أرادوا كتابة عمل سردي مطوّل عن الثورة وأمام ارتجاف القلم ومعاندته وعدم مطاوعته لهم في تشكيل نسيج روائي كاف لانتاج رواية آثروا ان يعايشوا الحدث بوضع شهاداتهم المؤقّتة عن الحدث في شكل سردي أقرب الى القصّة فكانت ولادة العديد من الاعمال التي اخذت شكل يوميّات أو قصص من قلب الحدث او رصد لما حدث منذ قيام الثورة ويبقى بعد ذلك المستوى الفني لهذه الشهادات محل نظر وتفاوت بين أديب وآخر وكتاب الأديبة مسعودة بن بوبكر هو عبارة عمل فني يجمع بين الرواية واليوميات او السيرة الذاتية للمؤلفة خلال فترة ما بعد الثورة وهي فترة محدودة من الزمن خدّدتها الكاتبة بعام وتحديدا الفترة مابين 2011..2012 من أيّام ما بعد 14جانفي 2011واختارت له عنوان نزر ممّا أي بعض ممّا
..الكتاب صادر عن الدار التونسية للكتاب ..يمكن القول ان الكتاب مقسم ستّة فصول تتكون من ثمانية عشر عنوانا متفاوتة الطول ..كل عنوان يشير الى حدث او الى مجموعة متتالية ومتداخلة من أحداث الثورة ومع كلّ فصل نجد الكاتبة تستهل بنص يحمل عنوان فيض الخاطر وهذا العنوان مقتبس من الكاتب المصري أحمد أمين الذي قام بتأليف كتاب من عشرة أجزاء يحمل عنوان فيض الخاطر هي عبارة عن مقالات أدبية واجتماعية
وفي الفكر والسّياسة والفيض لغة من فاض يفيض فيضا وفاض صدره بسرّه أي لم يطق كتمه فباح به وفي علم النفس الفيض هو شكل من أشكال العلاج للرّهاب والقلق والاضطرابات وذلك عبر تعريض المريض لذكرياته المؤلمة بهدف إعادة إدماج مشاعره المكبوتة مع وعيه الحالي، وقد تم اخترعه من قبل الطبيب النفسي توماس ستامفي ( Thomas Stampfl) عام 1967المنهجية....واضح جدا من خلال استخدام الكاتبة لعبارة فيض معاناتها من الرهاب والقلق النفسي الشّيء الّذي دفعها الى الهروب من واقعها الى أحضان الطبيعة تنشد الطّمأنينة وراحة البال في البراري
تقول في فيض خاطرها من الفصل الاول
احتجت أن أخلو الى نفسي ..أن أستلّها من حمّى الشّارع والسّاحات ..من السّير الحائر والارتطام بالأجساد الأخرى المضطربة ..من الجري واللّهاث اتقاء الغاز المسيل للدّموع والعنف المجاني ..من رجع صوتي يصرخ مع الصّارخين في هدير الاحتجاجات
تركت العمران خلفي ..تميل المنازل والحوانيت ترمقني مبتعدة عبر الدروب المتربة ..اغيب عن فضولها الصامت في جوف القطار الصباحي نحو الغرب يقضم بشراهة منعرجاته بين حقول القمح والشعير والقصيبة المثقلة سنابلها...هكذا كانت البداية ..الكاتبة أرادت الهروب من الصخب واحتاجت ان تخلو بنفسها لكن أين المفرّ من لعنة الذّاكرة فالذّاكرة لا مهرب منها وبها وجدت الكاتبة نفسها غارقة من رأسها حتى أخمص قدميها في الأحداث بضجيجها ودمويتها وتناقضاتها وصدماتها وخيباتها بل ان الذّاكرة بما تختزنه من أحداث وذكريات وقراءات وروايات سافرت بها الى غياهب التاريخ في اطار فانتازي بديع ميّز سرد أديبتنا بلغة سلسة متماسكة أخّاذة رغم تقافز الالفاظ وجنونها .لن أركز على الأحداث وتفاصيلها فهذه الاحداث كتب عنها الكثيرون وكما قيل قديما المعاني ملقاة على قارعة الطّريق لذلك سوف أحاول رصد الجانب الفنّي لكتاب نزر ما ومحاولة تصنيفه ..هل ينتمي الى جنس الرواية وان كان كذلك ما هو حظه من النّضج الفني و تقنيات الرواية ..ام أنه ينتمي الى أدب اليوميات والسيرة الذّاتية
هذه مجرّد محاولة لقراءة استطلاعية الغرض منها اكتشاف عالم مسعودة بوبكر الابداعي وتجسيدا لهذه الرّغبة وجدت نفسي داخل هذا الفضاء الّذي تتمازج فيه الذّات الفاعلة مع بنية الواقع لتشكّل هذه اللّوحة الفسيفسائيّة المتمثلة في كتاب نزر ممّا بالاعتماد على المقاربة البنيويّة كمنهج في تحليل الخطاب رغم صرامة هذا المنهج الشكلية في محاولة لاستكشاف هذا الخطاب وفكّ طلاسمه وتحديد جنسه السّردي واستكناه غناصره الأكثر تأثيرا وتحريكا للصّيرورة الفنّية في مسارها وتجلّياتها الظّلهرة والخفية
هل ينتمي نزر ممّا الى جنس الرّواية أم الى أدب اليوميات
فلنستعرض أهم المقومات البنائية والفنية الّي يجب أن تتوفر في الرواية ونقارنها بما ورد في كتاب نزر ممّا
تختلف هندسة المبنى الروائي من رواية إلى أخرى ،ويمكن القول إن أبرز عناصر البناء الروائي هي ما يأتي:
1-الحدث 2- الشخصيات 3- الزمان والمكان 4- السرد5-الحوار 6- اللغة..
1-الحدث الروائي هو العمود الفقري لمجمل العناصر الفنية السّابقة ، فهو ليس تماما كالحدث الواقعي ( في الحياة اليومية ) وإن انطلق أساسا من الواقع ، ذلك لأن الكاتب حين يكتب روايته يختار من الأحداث الحياتية ما يراه مناسبا لكتابة روايته كما أنه ينتقي و يحذف ويضيف من مخزونه الثقافي ومن خياله الفني ما يجعل من الحدث الروائي شيئا آخر ، لا نجد له في واقعنا حدثا طبق الأصل ، الأمر الذي ينشأ عنه ظهور عدد من التقنيات السردية المختلفة كالارتداد ، والمونولوج الداخلي ، والمشهد الحواري ، والقفز ، والتلخيص ، والوصف ، وغيرها من التقنيات ....والحدث هنا في فضاء نزر ممّا هو حدث كبير واستثنائي ..حدث الثورة وما حمله معه من أحداث محمومة ومتسارعة كانت هي الأساس الّي عليه بنت أديبتنا صرحها السّردي ..تقول الكاتبة في فيض خاطرها من الفصل الاول :تساءلت منذ هنيهة عمّا جرّني لكلّ ذلك ..الرّجّة الكبرى ..............أو قولها :موعود يا شهر جانفي بالثّورات ...مازلت أرى شارع الحبيب بورقيبة يومها صورة تحيل الى يوم الحشر
2-الشخصيّة
تتعدّد أبعاد الخطاب الرّوائي الجمالية بتكاثف عناصره المختلفة ومن هذه العناصر يتفجّر الخطاب ليكشف عن المجهول من مناطقه النّابضة بالحياة فالشّخصية في البناء الرّوائي ضرورتها لا تتأتّى من كونها مجرّد عنصر من هذا البناء بل تتأتّى أيضا من قيمتها في التّعبير الجمالي ولذلك استقطبت الشّخصية اهتمام النّقاد وأسهمت جهودهم في بلورة تقسيمات الشّخصية حسب أنواعها وتصنيفاها فظهرت الشّخصيات النّامية الّتي تنمو وتتطوّر مع الأحداث والشّخصيّات التي تمتاز بالسكونيّة والثبات على طول المسار السّردي وشخصيّات أخرى رئيسية وأخرى ثانوية
في كتاب نزر ممّا تظهر السّاردة هي حجر الأساس في بناءها السّردي والرّاوية تقدّم هويّتها وشخصيّتها الهاربة بكلّ وعي وادراك ..هاربة من عالمها بحثا عن الهدوء والسّكينة فقد وضّحت معاناتها النّفسيّة بسبب فقدانها للشعور بالأمان ..ذات حائرة ..منكسرة من الدّاخل ..محبطة ...مصدومة ..غير قادرة على التّأقلم والتكيف مع الواقع الكابوسي المحموم لكن أين المفرّ من هذا الواقع الّذي أثقل رأسها وعبثا محاولتها التخفّف منه ...ملعونة هي الذّاكرة لكننا مدينون لها لأنّها كانت حجر الأساس الّذي على أساسه شيّدت أديبتنا صرحها السّردي لتقدّمه للقارئ جاهزا دون أن يدري أن كاتبته لاكت قلبها وأراقت دمه وعانت ما عانت من الصّراع مع الحرف ...في هذا الفضاء السردي نجد حضورا لغدّة شخصيات متنوّعة ومتعددة لكنها لم تكن شخصيّات رئيسية ..منها الّتي تكرّر ظهورها وبالاسماء مثل صديقتها فاطمة ...رجاء قس بن ساعدة ومنها التي كان ظهورها عابرا رغم فاعلية أصواتها وما حملته هذه الأصوات من رسائل متعدّدة للمتلقّي فالسّاردة اختارت صوتها وشخصيتها لتكون هي البطلة وهي الرّاوية في الآن ذاته واختيارها هذا من المؤكّد أنه لم يأت جزافا فاختيار الصّوت الأقرب للقارئ هو من اهم القرارات التي يتّخذها الكاتب كأوّل خطوة في كتابة عمله ..وقد اختارت مسعودة بوبكر ضمير المتكلم ربّما لما يتيحه هذا الضّمير للرّاوي من سرد ما يجول في نفسه وخاطره دون تكلف، لكن استخدامها لصوتها لم يمنعها من استخدام أصوات أخرى للرواية فمنها الواقعي ومنها التاريخي ومنها المجازي ..وقد قدّم فيليب هامون في دراسته السيميائيّة للشخصية تصنيفات ثلاث أولها
أ-فئة الشّخصيات المرجعيّة Personnage referntiel وضمّنها
فئة الشّخصيات التّاريخية
الشّخصيّات الأسطورية
الشّخصيات المجازية
ب-فئة الشّخصيّات الواصلة personnage embrayeurs
وتمثّل علامات وجود المؤلّف والقارئ وما ينوب عنها وأكثر ما تعبّر عن الرواة والأدباء
ج- فئة الشّخصيات الاستذكارية personnage Anaphoress...ونلاحظ حين قراءتنا لهذا البناء السّردي لمسعودة بوبكر استخذامها المكثف واستحضارها لشخصيات من التاريخ ومن التراث ومن الاسطورة اضافة الى الشخصيات المجازيّة وكل هذه الانواع من الشخصيات لا يلزمها فقط قدرة على التخييل والتعبير بل يلزمها ثقافة خاصة ربما لا يملكها أيّ سارد يمكن تسليمه زمام رواية الأحدث ...هذه الشخصيات التي استحضرتها الكاتبة والرّاوية منحت للسّرد على واقعية الأحداث طابعا فانتازيا فريدا من نوعه ...في ص 18وتحت عنوان رؤيا ليلة الفرار ممّا لم يوثّق له من أخبار :سيخلع عن العرش الحسيني آخر سلطان للسّلالة
الشخصيات لدى مسعودة بوبكر ابتكرتها روح متمردة ..محمومة بهذيانها ..جن العالم فجنت الراوية والبطلة وتوغلت ايضا في اللامعقول ..في ص 90:وبين مبسمل ومحملق رفع أحدهم عقيرته بالسّباب ثمّ دعا ربّ الأرباب أن تذهب المدينة ومن رقّ لحالها الى الجحيم فهو لم ينم منذ أشهر مضيفا أن فراخ الكناري التي يسهر على تربيتها تخطّط للطّيران خارج الاقفاص وأن ّ جاره يربّي التّماسيح في مسبح بيته وأنّه رأى سجاح تبحث عن جامع الزّيتونة وأن والده الشّيخ يقول :هذا أوان طلوع الشّمس من الغرب وقريبا يأتي الأعور الدّجّال ...تتعدد الاصوات وتنسب لشخصيات متعددة لكنها في الحقيقة تشي بما يعتمل في نفس الشخصية البطلة الراوية من تشظّي جعلها تتجاوز الواقع وتنخرط في عوالم من الحلم او بمعنى أصح عوالم كابوسية
في ص 93وتحت عنوان النّمل يجتاح الأسواق يتحول النمل الى شخصية ناطقة وناصحة ..قالت النمل :تحسبوا واحتسبوا ان تكفّل سليمان برززقكم ....الراوية أنطقت الحشرة ..جعلت النملة كائنا عاقلا ..يحيلنا هذا التوظيف على كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع ومن خلاله يبرز تشبّع أديبتنا بما زخر به التراث العربي من روائع أدبية ...المهم ..بالنسبة للشخصية كعنصر بنائي هام في تأسيس الرّواية هو متوفر لكن ليس بالشّروط الّتي يتطلّبها النّسيج الرّوائي المصطلح عليه فليس هناك شخصيات رئيسية نامية والراوية يمكن القول انها كانت الشخصية الاهم رغم الحضور المكثف لشخصيات عديدة منها الفاعلة كشخصية الحاكم بأمر الله ومنها الساكنة كشخصية هبنقة وهو يجرّ حماره ...العجوز في هنشير رومان ...صديقاتها ..المعتصمين ..رجال الأمن .اغلبها شخصيات مساعدة ولم يتوفر فيها ما يجب ان يتوفر في الشخصية الرئيسية وكانت الساردة هي البطل الذي تتمحور حوله الأحداث
3- الزّمان والمكان
ننتقل الان الى البنية الزّماكانية التي شكلت كتاب نزر مما لمسعودة بوبكر فثنائية الزّمان والمكان من أهمّ الشروط الجمالية التي يجب ان تتوفر في الخطاب الرّوائي والتي من خلاتلها يقوم الرّاوي بتأطير الحدث وهما عنصران مرتبطان ببعضهما البعض فلا يمكن تناول الزمان بمعزل عن المكان وكلاهما مرتبط بالمكونات الاخرى التي يجب ان تتوفر في العمل السردي كدور الشّخصيات وترتيب الأحداث وغيرها
أ-الزّمان
وقد ميّز البنيويّون بين زمن الحكاية وزمن الحكي واستحوذ على اهتمامهم ة زمن المغامرة أو الزمن الذي وقعت فيه الحكاية لأن زمن الحكاية تستخدم فيه تقنيات متعدّدة أهمّها الاسترجاع والاستباق والتّواتر وغيرها
يظهر لنا الزّمن الطبيعي الموضوعي والّذي حدّته الكاتبة في الاهداء بكل دلالاته أمّا الزمن الذّاتي فهو زمن تخييلي نابع من عمق النّص السردي ..نابع من التّجربة الشّعورية للكاتبة ..تلك التّجربة المتّصلة بوعيها ووجدانها وخبرتها الذّاتية حيث يتمرّد الزّمن على القانون الفلكي ويتمرّد على اللحظة الواحدة ليصبح بامكانه امتلاك أزمنة مختلفة والتّحكّم فيها .وسوف أحاول من هذه الدّراسة الكشف عن البنية الزّمانية في رواية نزر ممّا لمسعودة بوبكر ومقارنتها ببنية المفارقات الزّمنيّة التي يجب أن تتوفّر في الخطاب الرّوائي ففي الرّواية تتداخل الأزمان ويقع تكسير خطّية السّرد ويتمّ عرض أحداث الحكاية بطريقة تختلف عما هي عليه ...تتمرد على التسلسل والترتيب الّذي يفرضه الزمن الفلكي ولدى مسعودة بوبكر نجد أن الحركة الأولى تنطلق من الزّمن الحاضر ثم تتوغّل في الماضي ..ماضي الأحداث مستخدمة في ذلك تقنية الاستذكار أو الاسترجاع Analepses فنجد الكاتبة تغير منحى الاخبار السردي بعد أن يتعلّق ذهن القارئ بصورة حكائية متسلسلة فاذا بها تنحرف عن المبتغى الاخباري عبر الاشارة او التّوغل في أحداث سابقة سواء كانت قريبة المدى أو بعيدة موغلة في القدم أو حتى خياليّة تتعدّى حدود المعقول لكنّ السّاردة وظفته توظيفا فنّيا مبهرا والاسترجاع يعدّ من أهمّ التقنيات الزّمنية حضورا في الخطاب الرّوائي وهذه التقنية اي تقنية الاسترجاع نشأت مع الملاحم اليونانيّة وكان هوميروس هو أوّل من استعملها وتطوّرت هذه التقنية لتصبح من أهمّ التقنيات للكتابة الرّوائية أمّا الحركة الثّانية فاتجاهها يكون نحو المستقبل قريبا او بعيدا عن طريق تقنية الاستباق Paralepsesممّا يمنح لخطابها الكثير من الحيوية والفرادة والجماليّة ومنها قولها في ص 9 :بعد قليل سأجد راحلتي بانتظاري ..فالراوية والسّاردة والكاتبة تمهد للآتي بأحداث أوّليّة تمهّد للآتي فتجعل القارئ في حالة من التّوقع والانتظار لما توفره له الرّاوية من اشارات أوّلية للآتي من الأحداث
ب -المكان
كنت قد ذكرت أن ّ الزّمان والمكان عنصران مرتبطان ببعضهما البعض ولا يمكن تناول الزمان بمعزل عن المكان فالمكان أيضا يعدّ من أهم مكوّنات الخطاب الرّوائي فليس من الممكن طبعا بناء عالم روائي في غياب مكان تجري على أرضه الحكاية وأطوارها وفيه تسير الاحداث من تحولات تقودها أفعال الشّخصيات التي يحدّدها السّارد انطلاقا من عالمه الذاتي الذي يقوم ببنائه فالمكان هو الفضاء الذي يحقق فيه الرّاوي كلّ تصوّراته فالقارئ لن يقنعه النص ان لم يكن هناك موقع تدور فيه الأحداث وتونس نزر ممّا كانت هي اللمسرح الكبير للأحداث ومنه تفرعت أماكن احتضنت الأحداث السردية بنيات صغرى مثل هنشير الرومان ..المنازل ..الأزقة ..المقاهي ...الفندق ...فقد تعدّدت الأماكن في رواية نزر ممّا في ظل المكان الواحد او البنية الكبرى لتكون دعما وتأكيدا على ما يجري من أحداث وتونس كانت المكان اللّامحدود الّذي احتضن شخصيات متعدّدة المستوى والصّفات والاناتماءات الزمنية ..كانت هي المكان الّذي تداخلت اللّوحات وامتزج فيه الواقع بالمتخيّل ..المعقول باللّامعقول ..الحياة بالموت ...الوجدان الفردي بالوجدان الجمعي فتونس في هذا الفضاء الورقي لمسعودة بوبكر ليست :مجرّد ملاحظات جغرافية أو سوسيولوجية وانما هي وصف بنية المكان حسب تعبير لوسيان غولدمان في كتابه مقدّمات سوسيولوجية للرّواية
4-السّرد
طبعا السرد هو العمود الفقري للرواية وفي غيابه يصبح لا وجود لراو او رواية والسرديات من أكثر القضايا الّتي شغلت الباحثين والنّقّاد وفي ظل ّ التراكم المعرفي النّقدي تطورت التقنيات الكاشفة للخطاب من خلال أبنيته ووظائفه وسوف أحاول هنا استكشاف البنية السّردية التي اعتمدت عليها أديبتنا في مسرودها
يبدأ الخطاب في نزر ممّا بكلام للكاتبة تقول فيه :احتجت أن أخلو الى نفسي ..أن أستلّها من حمّى الشّارع والساّحات ..من السّير الحائر والارتطام بالأجساد الأخرى المضطربة ..من الجري واللّهاث اتقاء الغاز المسيل للدّموع والعنف المجاني ..من رجع صوتي يصرخ مع الصّارخين في هدير الاحتجاجات
تركت العمران خلفي ..تميل المنازل والحوانيت ترمقني مبتعدة عبر الدروب المتربة ..اغيب عن فضولها الصامت في جوف القطار الصباحي نحو الغرب يقضم بشراهة منعرجاته بين حقول القمح والشعير والقصيبة المثقلة سنابلها
واضح هنا أنّ اختيارالكاتبة لضمير المتكلّم كراو وهو ما يطلق عليه الراوي المتكلّم أو الرّاوي الشّاهد حيث الخطاب المسرود يعهد به الى كاتبه وعبّرت الكاتبة عن خطابها بلغة سرديّة شاعرية وهي تصف المشاهد الطبيعية مسقطة مشاعرها الداخلية على الواقع الموضوعي وهذه هي اللحظة الابداعية للكاتبة ..كانت شاهدة على هذا المشهد وغيره من المشاهد والأحداث فتتابع وصفها وتوهّجت لغتها وفي الخطاب المسرود تداخلت الأحداث عبر تقنيات الاسترجاع والاستباق والخطاب المسرود كسر البناء الهرمي فتداخلت الأزمنة وألغيت الحدود والتقت شخصيات الحاضر القريب بشخصيات من الماضي السّحيق ونطق الانسان ونطق النّمل وجاءت سجاح باحثة عن جامع الزيتونة وجاء خالد بن الوليد والباي ومراد بوبالة ..كل هذا في بناء حكم الخطاب الروائي من بدايته الى نهايته
كان صوت الكاتبة هو المسيطر في الرواية لكن هذا لم يمنع من وجود أصوات سردية أخرى فقد تعدّدت الخطابات وتنوّعت الأصوات فنجدها مرة تلجأ الى سرد حدث أو رواية أو قصيدة عن أشخاص مختلفين فكان الخطاب فضاءا رحبا تلاقت فيه الأصوات على اختلاف أنواعها ..على اختلاف الازمنة والأماكن فنجد السارد البطل الذي يلتحم بالحدث ومجمل الحديث في اغلب الفصول يكون هو موضوعها كما نجد السارد الشاهد او الراوي العليم الذي ينبعث صوته عبر مختلف الخطابات المسرودة ومنه ما ورد في الفصل الاول من كتاب نزر ما تحت عنوان رؤيا ليلة الفرار مما لم يوثق من أخبار ص18 تقول الساردة العليمة :ترك الحاكم بأمر الله مجلسه بين وسائد الصالون الأحمر ..سحب كرسيا واقترب من الشّرفة البلّورية العريضة ..تكسشف عن منحدر الرّابية التي كستها الظّلال ..أجال بصره يبحث عن خيط أفقي يتحرك
وفي ص 1244..نفض الرجل المطلوب حديثا لخدمة الوطن بقايا نعاس استجابة لعينيه بعد لأي ..أزاح ما اعتلق خاطره من حلم ليلته
5-اللغة
فرق كبير بين السرد المغلق على مشاعر الكاتب، والسرد المخاطب لحواس القارئ كالفرق بين النهر والبحر فالأول مغلق وإن طال والثاني واسع الأفق، متدفق يسافر بك من عالم إلى آخر.هنا في كتاب مسعودة بوبكر يمكن للقارئ بسهولة أن يعيش في تونس ما بين عامي 2011 و2012حتّى وإن لم يزرها او يعايش الفترة الزمنية المذكورة في الاهداء ..يمكن له ان ينصهر مع الأحداث وكأنه جزء لا يتجزأ منها فقد حيكت الأحداث و التفاصيل بحبكة ودقّة متناهية .. الكاتبة استطاعت أن تحيك ثوب مسرودها كما لو كانت بصدد عزف مقطوعة موسيقية من زمن الملاحم تمكنت عبرها من تفجير اللغة والجموح بالخيال عبر المخزون في اللاوعي والوعي لتحيل التّفاصيل المكتوبة إلى مشاهد حية بلغة رشيقة، متأصّلة في التّراث ،عميقة لتحل محل الواقع بكل تجلياته التي جعلت منها يوميات حيّة من لحم ودم تتوفر فيها أغلب الشروط الفنية للرواية .فنحن بازاء انفعال أدبي مع حدث كبير
لغة الكاتبة السردية تبدو كما لو كانت محمّلة بشحنة محبوسة في قمقم ثم انطلقت فجأة من سجنها رغم الطابع الكابوسي في واقعيته الذي رويت به الأحداث ..يبدو من خلال هذا السرد على جماليته تأثر الكاتبة بما يسمى بأدب الدّيستوبيا الّذي أفرزته الثّورات كردّ فعل على انكسار الثورة ومرارة الواقع ودمويته فالسّرد عنيف ..مندفع ..متدفق ..ينضخ غضبا وألما واللغة محمومة كاشفة عما حل بالبلاد من من كوارث وجوّ قابض ...لغة مسعودة بن بوبكر وأركز على اللغة لأن اللغة التي كتبت بها مؤلفها نزر ممّا هي ما يميزه ..كثيرون كتبوا بدقة متناهية عن الأحداث لكن شكل العرض وتقنياته الفنية غالبا هزيلة ومرتجلة وهذا طبيعي بالنسبة لمن كتب عن العاصفة في لحظة وقوعها فكيف استطاعت أديبتنا أن تمسك بزمام اللفظ وجودته على ذلك النحو الساحر ..لغة مشذوبة من كل ما يمكن أن يعيقها ومتمردة على كل ما يمكن أن يقيدها ...هي مزيج يبرز بوضوح مدى اطلاعها ومعرفتها بالتّراث الفكري والأدبي والثقافي للحضارة العربية الاسلاميّة وفي نفس الوقت يبرز ثقافتها واطلاعها على ما زخرت به الاداب الاوروبية من روائع فجاء نصّها مزيجا فريدا واعيا هادفا امتزج فيه التأمّل الوجودي والفلسفي بالقصص الشعري كأجمل ما يكون فأخلصت في نصّها للشعر وللعقل ولتوثّب الخيال وتدبّره وفي الحقيقة نظلم هذا الكتاب ان قمنا بتصنيفه على أنه ينتمي الى أدب اليوميات وربما نبالغ ان صنفناه على انه ينتمي الى جنس الرواية ..هو مزيج تداخلت فيه الاجناس والأصوات مما جعلني أحتار في كيفية تناوله وامساك الخيط الّذي على أساسه أبني قراءتي لكتاب نزر ممّا .



#سيدة_عشتار_بن_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قم للمعلّم وفّه التّبجيلا
- محنة البلاد والاتّحاد
- ادارة التّوحّش
- حول قرار الاقتطاع من اجور الموظفين المضربين (حقّ أريد به باط ...
- المتحذلقون
- ردّدي تراتيلك أيّتها الحياة
- سيمون دي بوفوار والجنس الآخر يا نساء العالم ، أنتن مدينات بك ...
- حديث في حقيقة الصّداقة بين المرأة والرّجل
- عشّاق الحور
- وانتخبنا ......أصوات سرقت ,ومع ذلك تونس انتصرت
- رسالة الى وجدي غنيم
- لقاء وحوار مع الكاتبة والشاعرة سيدة بن علي
- نشيد التّلاشي
- ماذا يجري في العراق ?ثورة أم مؤامرة ?
- سوريا تردّ على الضّباع الغادرة
- ما يجوز ولا يجوز في نكاح البهيمة والعجوز
- القصيدة الّتي لم أقع في حبّها
- الدّيمقراطية هي أن تمنحني الحق في تكفيرك واهدار دمك
- حين شهق الزّهر بالنّدى
- فينوس


المزيد.....




- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سيدة عشتار بن علي - بنية الرّواية في يومياّت نزر ممّا لمسعودة بوبكر