نعيم إيليا
الحوار المتمدن-العدد: 5513 - 2017 / 5 / 7 - 15:35
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ينبغي التنويه بأن الكثير من القضايا التي كانت تتردد على عيادة الفيلسوف للمعالجة بوساطة التأمل، باتت وقد كفّت، أو كادت، عن التردد عليها بعد إذ تبين أن التأمل وحده ليس خيرعلاج لها، ومضىت تطلب علاجها الفعَّال في مختبرات العالِم.
من هذه القضايا المهاجرة من عيادة التأملات الفلسفية إلى مختبرات العلماء، قضية المعنى. والمعنى مصطلح فلسفي يقصد منه الغاية أولاً؛ فيكون السؤال حينئذ عن معنى الوجود، هو السؤال عن غاية الوجود والموجود من وجوده. ويكون المقصود منه، ثانياً، هذه الانطباعات والتأثيرات والصور التي ترتسم في الذهن والنفس والحواس عند مماستها للأشياء الخارجية؛ ويكون السؤال حينئذ عن معنى ما انطبع في الذهن أو النفس أو الحواس، هو السؤال عن أمرين: فالأول عن حقيقة هذا الذي انطبع فيها وعن مصدره، كاللون ما هو؟ وهل هو، مصدره الشيء الذي يُرى حقيقة، أم هو من صنع حاسة العين؟ وكالجَمال ما هو؟ وهل هو في كنه الأشياء التي يراها الإنسان جميلة، أم هو من صنع قوى النفس؟
فأما هذه المسألة الثانية من قضية المعنى، فقد استوفت حقها من البحث، وانتهت إلى نتيجة لا يزيدها التكرار نفعاً هي أن هذه المعاني يصنعها التفاعل بين الحاسِّ والأشياء المحسوسة: فلا هي يصنعها الحاس بمفرده أي بمعزل عنها، كما يرى بعض الفلاسفة، ولا هي في جواهر الأشياء المحسوسة على الصورة التي ترتسم في نفس الحاسِّ؛ مما لا يصح مع هذه النتيجة أن يقال إن الحاس يخلق الجَمَالَ، على سبيل المثال، ولا يصح معها بالمقابل أن يقال إن الجمال ليس مستكناً في جوهر المحسوسات. وإنما الصحيح المفروغ منه أن يقال إن (التفاعل) بين الحاس والأشياء المحسوسة، يصنع أو يخلق معنى الجمال. فيكون من ذلك حقاً أن لا جمال من غير حاس يحس الجمال، ولا جمال من غير وجود شيء محسوس يثير في الحاس معنى الجمال. وهذا ضرب من الديالكتيك أو الجدل قوامه الترابط الوثيق بين الحاس والمحسوس.
فنعدِّي عن هذه المسألة المحسومة، ولا نبالي إلا بالمسألة الأولى من قضية المعنى؛ مسألةِ الغاية من الوجود أو من الموجودات، فنقول فيها: لا يتحقق صدق هذه المسألة بالتأمل وحسب! فللفيلسوف أن يتأمل الوجودَ ليراه بعقله لا معنى له، أو ليراه أن له معنى. ولكن جميع الذي يراه الفيلسوف في الوجود بتأمله - وإن استأنس الناس بما يراه وتناقلوه في أنديتهم – لا يجوز أن يؤخذ على أنه حقيقة صادقة كل الصدق؛ لأن هذا الذي يراه الفيلسوف بتأمله، مفتقرٌ إلى البرهان الصادق. وغني عن القول أن ما كان مفتقراً إلى البرهان الصادق - وإن احتمل أن يكون حقيقة – لا ينبغي أن يعد حقيقة صادقة.
فإن الفيلسوف إذ يرى الوجود، ويرى الحياة لا معنى لهما، أو يرى أن لهما معنى، ورؤيته هذه في الحالين، لا يعزُّها برهانٌ رياضي علمي توكده التجربة توكيداً؛ فإن رؤيته هذه لن تُقبل أنها حقيقة لا يمارى فيها - ولهذا نجد أن مراكز البحث العلمي وتوزيع الجوائز، لا تكافئ عالماً على رؤية له لا يقوم على صحتها برهان رياضي علمي تجريبي – وسيكون في وسع فلاح أميّ يتمتع بذكاء فطري، أن يسكت هذا الفيلسوف الزاعم إن للوجود بموجوداته غايةً، أو الزاعم إنه ليس له من غاية، بأن يطلب منه البرهان على صدق الذي يزعمه. ولا شك هنا في أن الفيلسوف سيعجز عن تلبية طلب الفلاح بما يقنعه إقناعاً! وقصارى ما يمكن أن يقدمه للفلاح ههنا قوله له: إن الغاية من الوجود والموجودات إنما تدرك بالعقل أو بالشعور أو بكليهما معاً لا بالمعادلات الرياضية والتجربة المخبرية. ولكن قوله هذا، لن يقنع فلاحنا الذكي بالفطرة الذي لن يعدم الرد عليه بقوله: العقلُ - وإن كان مرشداً وهادياً ودليلاً، وكذا الشعور - لا يملك أحدهما أو كلاهما معاً، أن يبرهن على صحة قضية المعنى في الحالين برهاناً قطعياً إلا بأداة مادية تنتج برهاناً قطعياً صادقاً. وإن هذا لشبيه بحال علماء الفيزياء الذين إذ لم يملكوا أن يثبتوا حقيقة الانفجار العظيم بمنطقهم الرياضي المجرد ومعادلاته المعقدة، تداعوا على بناء مختبر عملاق في (سيرن) يكون أداتهم لإقامة البرهان القطعي اليقيني الصادق على صحة نظرية الانفجار وما يلابسها.
وتتضح معالم هذه الحقيقة بالنظر في آراء الفلاسفة وطرائقهم في البرهان. فإذا نظرنا، على وجه التمثيل، في برهان أرسطو: (( كل ما هو ثابت، فهو فعل محض، والله ثابت فالله فعل محض)) وجدناه أقرب إلى المغالطة منه إلى الحقيقة الموضوعية. وذلك لأن فيلسوفنا يضع مقدمة (كل ما هو ثابت فهو فعل محض) من غير أن يقدم لنا دليلاً مادياً قبل ذلك على وجود ما هو ثابت لا يتحرك ألبتة. لقد أراد أرسطو أن يفسر حركة الكون الأزلية الأبدية، فأوجد بخياله إلهاً ثابتاً والكون يعشقه لكماله فيتحرك الكون بالعشق إليه ولكنه لا يدركه. وقد كان ضرورياً في منطقه أن يكون إلهه فعلاً محضاً لا تخالطه قوة لأن ما هو بالقوة قد لا يتحقق، أو قد يفسد ويموت. ولكن كيف علم أرسطو أن إلهه فعل محض لا تخالطه قوة ولا تحركه قوة من خارجه؟ هذه هي المشكلة!
ولو أخذنا برهان الرجل الطائر لابن سينا، وهو البرهان الذي توخى منه إثبات أن النفس أو الروح قوة منفصلة عن البدن، لتبيَّن أن هذا البرهان، ليس شيئأ مما يجاوز حدود الصورة الشعرية. فإن تعليق البدن في خلاء تام، ضرب من المحال. فلكي يصدق هذا البرهان يلزم أن يكون تعليق بدن إنسان حي في الخلاء التام – ولا وجود لخلاء تام - حدثاً ممكناً. بيد أن ذلك أمر لا يمكن التحقق من إمكان حدوثه إلا بالتجربة العملية: فهل كان ابن سينا قام بإجراء تجربة عملية تعزز صحة برهانه؟
وإذا أخذنا رأي (Empedokles) في أن الخالق (الخالقين) محبة وأنه منزه عن الكراهية، لأعوزنا الدليل على ذلك. فإن المحبة الخالصة لا وجود لها بمنأى عن الكراهية. فإن قيل إن ما ينطبق على أمر من أمور البشر أو يُفهم بمداركهم، لا ينطبق على الخالق ولا يفهم بعقول البشر وإنما بعقله هو، جاء الرد: فهل رأى (Empedokles) الخالق وعاين صفاته وخبر أحواله وكيف يعقل الأشياء؛ ليؤخذ رأيه على أنه حقيقة صادقة لا ريب فيها؟
فمما تقدم من أمثلة، نتأدَّى إلى نتيجة تتعلق بالغاية من الوجود وموجوداته مُفادها: ستظل الغاية من الوجود وموجوداته مجهولة أو معرفتها لا يقينية، حتى يتمكن العلماء من استكشاف حقيقة الكون كيف نشأ، ولماذا نشأ. فما دمنا لا نعلم لماذا نشأ الكون مما يشبه العدم؛ فلن نعلم الغاية منه علم اليقين. إن جميع الآراء في الغاية من الوجود، حتى لو بدت لنا صادقة، آراء مجردة تخمينية ليس يجدي أن نتقبلها معتقدين أنها حقائق موضوعية لا تنفذ إليها ريبة.
#نعيم_إيليا (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟