أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - احمد سعدات - يوم الأرض.. الذكرى والمهام الوطنية المُلحة















المزيد.....


يوم الأرض.. الذكرى والمهام الوطنية المُلحة


احمد سعدات

الحوار المتمدن-العدد: 5482 - 2017 / 4 / 5 - 09:44
المحور: القضية الفلسطينية
    


يشكّل يوم الأرض فصلاً نوعياً في ملف الاشتباك التاريخي المفتوح الذي يخوضه شعبنا ضد المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني العنصري منذ أكثر من مائة عام.

وقد كانت الأرض على الدوام عنوان ومحور هذا الصراع، وقد تميزت هبة يوم الأرض عن محطات المواجهة الأخرى بسعتها وعنفها وشموليتها كل القوى والمدن العربية، وقد بدأت الأحداث احتجاجاً على قيام الاحتلال بمصادرة الآلاف من الدونمات في مناطق الجليل الفلسطيني على حساب أراضي سخنين، وانتقلت إلى دير حنا ودير الأسد وأم الفحم والكرمل والناصرة وغيرها من المناطق العربية، وارتقى فيها ستة شهداء والمئات من الجرحى.

وقد عكست حدة هذه الهبة حجم الغضب المتراكم لدى جماهير شعبنا، وعدم قدرتهم على التعايش مع تصاعد القمع القومي والاجتماعي والتمييز الذي مارسه الكيان الصهيوني بحقهم منذ نكبة عام 1948، ورغم نجاح العصابات الصهيونية بطرد وتهجير عبر وسائل التطهير العرقي آلاف المواطنين الفلسطينيين عجزت عن تهجير الآلاف أيضاً ممن شكّلوا شوكة في حلق الكيان الصهيوني، وهاجساً يؤرقهم ووضع علامة استفهام كبيرة حول مستقبل مشروعهم الاستيطاني العنصري، أما الهاجس الآخر فقد مثله اللاجئون الفلسطينيون الذين أقرت الشرعية الدولية وجوب عودتهم وفق القرار الدولي رقم 194 الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1949.

وعليه، فقد اشتملت السياسة العامة لدولة الكيان الصهيوني على ربط تنفيذ هذا القرار والعمل بكل السبل لتصفية قضيتهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أخضعت ما تبقى من شعبنا لقوانين الطوارئ التي أقرها الانتداب البريطاني قبل رحيله، وأبقتهم تحت الحكم العسكري حتى عام 1966.

وقد مارست خلال هذه الفترة كل أشكال التنكيل، والاضطهاد بحقهم، بما في ذلك ارتكاب الجرائم كما جرى في مذبحة كفر قاسم عام 1956، وقد قدمّ عالم الاجتماع الشرقي التقدمي " يهودا شنهاف" وصفاً دقيقاً لحالهم في كتابه (حول مصيدة الخط الأخضر) حيث قال" منذ العام 1948 لم تشُيد داخل الخط الأخضر أية بلدة أو قرية عربية جديدة، وبقيت أكثر من مائة قرية فلسطينية غير معترف بها" ([1]).

ويضيف "بين سنوات 1995 إلى 2001 حُوّل للاستخدام العربي ما نسبته (25.0%) فقط من أراضي الدولة على الرغم من أن نسبة السكان العرب تبلغ حوالي 15%، كما يكشف الكاتب أيضاً أن " توزيع الأراضي في منطقة الجليل ظلماً واجحافاً ليس بين اليهود والعرب، بل أيضاً بين يهود آخرين وذلك على أساس طبقي واثني، حيث أن (63%) من أراضي الجليل تقع في منطقة نفوذ مجالس إقليمية ذات اغلبية اشكنازية يقيم فيها (6%) من مجموع السكان في المنطقة، فقط (21%) من الأراضي تقع في منطقة نفوذ مجالس إقليمية ذات أغلبية من اليهود الشرقيين، ووضع السكان العرب أسوأ بكثير، فالمجالس المحلية العربية تحتفظ بمساحة (16%) من مساحة الأراضي، علماً أن نسبة السكان العرب تصل إلى (72%) من سكان الجليل([2]).

وحول أشكال الخنق والتضييق ضد الجماهير العربية يورد الكاتبان " حايم يعقوبي، وشبلي كوهين" وصفاً لهندسة الحيز داخل دولة الكيان كسلسلة من أشكال الفصل ودللا على ذلك من خلال: السور الفاصل في الرملة بين حي الجواريش وحي " غان بال" والسور الذي أقامه سكان قيسارية بينهم وبين جسر الزرقا، السور الذي خُطط لإقامته بين حي "مردش شمر" العربي في اللد وبين " موشاف كفار تشفي" ([3]).

وقد كثـفت وثيقة " كينج" التي تبنتها وزارة الداخلية الصهيونية السياسة التي تبنتها الحكومة الصهيونية في السبعينات لمواجهة ما سمُي بالخط الديمغرافي الذي يمثله فلسطينيي الداخل، وقد تضمنت هذه الوثيقة خطوات وبرامج لتهويد الجليل، وإيجاد أغلبية يهودية في مناطق التجمعات العربية عبر مصادرة المزيد من الأراضي وبناء المدن والقرى الزراعية، فضلاً عن إجراءات التضييق على فرص العمل والدراسة، وصولاً إلى الحد من نسبة الخصوبة والانجاب. كل ذلك بهدف دفع العدد الأكبر منهم للهجرة بحثاً عن فرص العمل والتعليم.

العامل الثاني المتعلق بالجانب الموضوعي الذي أعطى الهبة زخماً تزامنها مع حالة النهوض الوطني الفلسطيني العام في أعقاب هزيمة 1967، وتوسيع نطاق العمل الفدائي بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، والانتصارات السياسية والدبلوماسية التي حققتها المنظمة، ففي مؤتمر قمة الرباط تم الاعتراف بالمنظمة ممثلاً شرعياً ووحيداً لشعبنا، وبعد ذلك بقليل الاعتراف الدولي بمنظمة التحرير كعضو مراقب في الأمم المتحدة، ثم قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (3236) الذي أكد على الحقوق الوطنية لشعبنا، وحقه في تقرير مصيره.

وفيما بعد صدور قرار الجمعية العامة باعتبار الصهيونية حركة عنصرية، فقد توحد شعبنا في أماكن تواجده كافة حول فعاليات هذا اليوم، واتسعت الهبة لتشمل الضفة والقطاع التي لم تكن أقل غلياناً من الداخل الفلسطيني، لكن التمييز النوعي كان بتجاوز هذه الهبة القيادات التقليدية العشائرية التي اتكأ عليها الاحتلال لاحتواء التناقض والاحاطة به، كما أن شعارات الهبة تجاوزت المطالبة بالحقوق المدنية الفردية التي كان يكثفها شعار المساواة الذي رفعه الشيوعيون والذين شكلّوا لواء الدفاع عن الحقوق العربية.

وقد رفعت القوى الحاملة للانتفاضة من جيل الشباب شعار المطالبة بالحقوق الجماعية القومية لشعبنا، وبعضها كحركة أبناء البلد والتي أعلنت بوضوح أنها جزءاً لا يتجزأ من الحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة (م.ت.ف)، ورفعت شعار وحدة الأرض والشعب والمصير.

وقد عبّر عن هذه الحقيقة الكاتب اليهودي " أورن يفتايل يائيل" بقوله " إن يوم الأرض عام 1976 يشكّل نقطة تحول في عملية خلق هوية جماعية فلسطينية جديدة من نوع لم يسمح به القانون، وتعكس مطالب المجموعة الفلسطينية السياسة العنصرية التي اتبعتها إسرائيل والتي تفضل أن تتخيل نفسها في نظرها ونظر العالم كدولة ديمقراطية ليبرالية وغربية وهي تثبت الادعاء القائل أن التعهد الكاذب في وثيقة الاستقلال بالمساواة في الحقوق بين جميع رعاياها دون التمييز من ناحية الدين أو العرق أو القومية لا يمكن أن يتحقق في إطار نموذج دولة " يهودية وديمقراطية"، ولهذا السبب ينعت " يفتال " إسرائيل " باسموقراطية" وليس " ديمقراطية". ([4]).

وقد شملت حركة مناهضة الصهيونية منظمات يسارية يهودية تشكّلت في منتصف الستينيات أبرزها " المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية " ماتسبن" ( البوصلة) والتي تم تشكيلها من تيارات كانت جزءاً من أحزاب اليسار الصهيوني " مبام" أو الحزب الشيوعي الإسرائيلي، التي قرأت الكيان الصهيوني كظاهرة كولنيالية امبريالية، وقد تبنت هذه المنظمة وتفرعاتها فيما بعد ( كالاتحاد الشيوعي الثوري – نضال، والعصبة الشيوعية الثورية ومنظمة الفرع في تل أبيب، واتحاد العمال ) تبنت برامج رفضت الطابع الامبريالي العنصري للكيان، واعتبرت نفسها جزءاً من الحركة الشعبية الفلسطينية والعربية المناهضة له، وطالبت بإقامة دولة اشتراكية في الشرق الأوسط العربي يمكن من خلالها حل التناقضات التي وُجدت بعد النكبة على أساس طبقي أو اثني، وبعض تفرعات هذه الظاهرة كالجبهة الحمراء التي شكلّها القائد اليساري الوطني "داوود تركي" مع عدد من اليساريين اليهود والتي أقامت علاقات مع منظمة التحرير، وتلقت تدريبات عسكرية، حيث تم اعتقالهم ومحاكمتهم وإصدار أحكام قاسية بحقهم.

في نفس الوقت نمى الاتجاه اليساري في أوساط اليهود الشرقيين، وأدى إلى نشوء ما عُرف بحركة "الفهود السود"، وتبنت هذه المنظمة مطالب اليهود الشرقيين بإلغاء التمييز العرقي الممارس ضدهم، وقد انضم الاتجاه الأكثر وضوحاً في هذه المنظمة الذي ترأسه " تشارلي بيتون" إلى الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة التي تقودها القائمة الشيوعية الجديدة.

وكما فتح يوم الأرض الباب لنهوض نضال فلسطيني الداخل والشعب الفلسطيني بشكل عام، عمل على توحيد مكونات شعبنا في الداخل والخارج خلف منظمة التحرير الفلسطينية كقيادة لمرحلة التحرر الوطني الفلسطيني، الأمر الذي تجسد في كل محطات النضال الوطني وصولاً إلى الانتفاضة الأولى كمحطة نوعية في نضال شعبنا ضد المشروع الصهيوني.

في الوقت نفسه ارتفعت درجة الإجراءات الصهيونية لإحباط هذا النهوض سواءً عبر سياسة القمع، وتكميم الأفواه، ومصادرة الأراضي التي شملت كل مناطق التجمعات الفلسطينية التي تركزت في يومنا هذا في مشاريع تهويد النقب عبر مشروع " برافر" وهدم البلدات الفلسطينية وترحيل البدو التي كان آخرها هدم بلدة "أم الحيران"، فضلاً عن إجراءات الاعتقالات الإدارية والاقامات الجبرية، والقوانين الاستثنائية كقوانين مثل "قانون النكبة" الذي يقضي بمعاقبة كل فلسطيني على خلفية إحياء هذا اليوم، أو تعديل قانون المواطنة عام 2005، ووقف إجراءات جمع الشمل للأزواج، فهذا التعديل يمس بشكل حصري ومباشر جماهير شعبنا، حيث يعطي قانون العودة الصهيوني حقوق الهجرة والاستقرار لليهود في "إسرائيل"، ومشروع قانون "منع الآذان الذي أقره ما يُسمى الكنيست الصهيوني بالقراءة التمهيدية.

لكن الضربة الأشد قسوة على مسار النهوض الفلسطيني جاءت من القيادة المهيمنة على القرار في (م.ت.ف) عبر توقيعها لاتفاق أوسلو، فقد مثّل هذا الاتفاق الاستثمار الأسوأ لتراكمات إنجازات النضال الوطني، ولقد كانت له اسقاطاته السلبية وبشكل خاص على جماهير شعبنا في الجزء المحتل من عام 1948، فقد أسقط الاتفاق هذا الجزء المهم من مركبات الشعب الفلسطيني، وحقه في تقرير مصيره، كما همش دور جماهير شعبنا في الشتات، ووضع علامة استفهام حول حق العودة بعد الاعتراف المجاني بـ" إسرائيل" كدولة على (78%) من أراضي فلسطين التاريخية، وأنتج المأزق الفلسطيني الراهن، والأزمة المركبة التي يعيشها شعبنا، في الوقت الذي عجز هذا الاتفاق ومرجعياته ومحطاته على مدار 24 عاماً من وقف التمدد الاستيطاني في الضفة أو إجراءات تهويد القدس المستمرة بتسارع لفرض الأمر الواقع على شعبنا والمجتمع الدولي، والآن يسيطر الكيان الصهيوني على كامل أراضي فلسطين التاريخية، سواء بشكل مباشر في الضفة والقدس، أو بشكل غير مباشر على القطاع من خلال الحصار المفروض عليه.

وعلى صعيد الأرض فإن "إسرائيل" تتولى السيطرة وبيدها كل الصلاحيات على المنطقة المسماة " ج" وفق مصطلحات اتفاق أوسلو التي تضم (60%) من أراضي الضفة، وتعمل على فصلها عبر الجدار الفصل العنصري، كما بلغ عدد المستوطنات أكثر من (600 مستوطنة) قابلة للزيادة خاصة بعد انتخاب "ترامب" رئيساً للولايات المتحدة.

في هذا المناخ تجرأ ما يُسمى الكنيست الصهيوني على إقرار قانون " شرعنة المستوطنات" ليسقط من الخطاب الصهيوني عملية تصنيف المستوطنات إلى شرعية وغير شرعية، وقد حمل هذا التشريع اسم " قانون التسويات" الذي يطلق أيدي الحاكم العسكري في مصادرة المزيد من الأراضي مقابل تعويضات معروفة سلفاً لأي مواطن فلسطيني لا يقبلها، ويغطي هذه السياسة ويعززها سيطرة القوى الصهيونية الأكثر تطرفاً وعدوانية كانعكاس للتحولات الجارية داخل المجتمع الكيان الصهيوني وموازين القوى التي تحكم علاقات القوى السياسية، والأوهام والمراهنات التي تبنتها القيادة المهيمنة على القرار في (م.ت.ف)، وبات ما سُمي بحل الدولتين مجرد سراب لا يعني في نظر القيادة الصهيونية المتطرفة منها والمعتدلة أكثر من إعادة صياغة لمنظومة سيطرة الاحتلال على الأرض الفلسطينية.

هذه السياسة التي لم تنتج سوى كيان هزيل تحت السيطرة الإسرائيلية لا يعلو سقفه عن الحكم الذاتي، وهذا الأساس الذي وجه سياسات الحكومات الصهيونية المتعاقبة عبّر عنه مشروع " ميغال ألون" في بداية الاحتلال مع تعديلات غير جوهرية أملاها الحراك السياسي في المنطقة والعالم، فالمتتبع للمشاريع السياسية التي يجري الحديث عنها وآخرها ما سُمي بمشروع "النقاط الثمانية" الذي اقترحه وزير الخارجية السابق "جون كيري" ورفضه "نتنياهو" في حينه، والذي تبناه رئيس حزب المعسكر الصهيوني " يتسحاك هيرتسوغ" الذي يشكّل عموده الفقري حزب العمل أكثر الأحزاب تباكياً على حل الدولتين، وينص المشروع المقترح في نقاطه الجوهرية على وقف شكلي للاستيطان خارج ما سُمي بالمستوطنات الدائمة، وإعادة الصلاحيات الأمنية للسلطة في المنطقة " A " واعتراف " إسرائيل" بدولة فلسطينية في حدود مؤقتة في حال توافق الفلسطينيون في الضفة والقطاع على إقامتها، وتقديم بعض الحوافز الاقتصادية للسلطة الفلسطينية في الاستثمار في مناطق " ج" ، وتحديد فترة عشر سنوات لإنهاء المفاوضات لتحديد الوضع النهائي الذي ستقام على أساسه الدولة الفلسطينية، ويتم تحقيق " حل الدولتين".

إن ما هو مطروح باختصار لا يتجاوز مشروع "شارون" للحل الانتقالي طويل الأمد بعد اجتياحه المناطق الفلسطينية عام 2002 والذي لم يتمخض عنه أكثر من محمية دولية تحت هيمنة الاحتلال يتم إلباسها طربوش الدولة.

الخلاصة:

ما آل اليه الواقع الفلسطيني المأزوم يعيد طرح السؤال المركزي، عن أسباب الإخفاق الفلسطيني؟، ودون الحاجة للإسهاب فإن للأوضاع الإقليمية والدولية دور مهم، كما الطبيعة القيادية الفلسطينية الطبقية، لكن السبب الأهم هو عدم بناء استراتيجية في الصراع الوطني الفلسطيني على أساس الاستيعاب والفهم الموضوعي الدقيق لطبيعة المشروع الصهيوني، ودوره ووظيفته الإمبريالية في المنطقة، فالطبيعة الكولنيالية الاستيطانية للمشروع الصهيوني الذي لا يختلف من حيث الجوهر عن التجارب الاستيطانية تتطلب برنامجاً للنضال يأخذ بعين الاعتبار القراءة الموضوعية للمشروع المقابل وتناقضاته، واتجاه حركته، فقد طرح التاريخ ثلاثة نماذج للمشاريع الاستيطانية: الأول النموذج القائم على الاستيطان والاحتلال العسكري الذي ترعاه إحدى الدول الامبريالية كالاستعمار الفرنسي في الجزائر، وغيره من النماذج الأوروبية في القارة الافريقية، وهذا كما هو معروف انتهى وتم تفككيه بعد انتهاء الاستعمار لهذا البلد، النموذج الآخر، هو النموذج الأوروبي في أمريكا الشمالية وأستراليا الذي تمخض عنه إبادة السكان الأصليين واستيعاب من تبقى في إطار الأمة الجديدة، والنموذج الثالث هو امتصاص الشعوب للمستوطنين في إطار تكوين الأمم وإحراز استقلالها كما تم في أمريكا الجنوبية والوسطى، وجنوب أفريقيا وزيمبابوي، والتي خاضت شعوب هذا الدول نضالاً طويلاً ضد نظام الفصل العنصري لا يقبل الحلول الوسط بسبب طبيعة المشروع الاستيطاني.

والنموذج الصهيوني هو أقرب للنموذج الثالث مع بعض الخصوصية التي تجعله مختلفاً عنه من حيث الجوهر؛ فنظام الفصل العنصري قائم على الاضطهاد والتمييز القومي والعرقي.

وعليه، فإن كل الأوهام والتوقعات التي بُنيت على مسار مدريد أوسلو تبددت أمام طبيعة الكيان الصهيوني الكولنيالي العنصري؛ فزبدة أطروحات الكيان الصهيوني ورؤيته للتسوية يلخصها مطالبته للفريق الفلسطيني الاعتراف بـ"إسرائيل" كدولة للشعب اليهودي، وهذا يعني مطالبة قيادة الشعب الفلسطيني بإسقاط رؤيتها ومطالبها التاريخية والاعتراف بالرواية الصهيونية، بما يبنى عليه من إسقاط الحقوق الفلسطينية الوطنية بدءاً من حق العودة، مروراً بالاستقلال الوطني، وصولاً لإعطاء الكيان الصهيوني الحق في تهجير جماهير شعبنا في الجزء المحتل في فلسطين عام 1948.

وتعميق الطابع الفاشي للدولة الصهيونية هو أمر طبيعي ومنطقي ومنسجم مع طبيعته الكولنيالية العنصرية، ودون الحاجة للاستشهاد بقراءات مفكري اليسار أو التيار القومي العربي فما آل إليه الواقع داخل الكيان الصهيوني تنبأ به بعض المفكرين الصهاينة من أنصار الصهيونية الروحية التي دعا إليها المفكر اليهودي " آحاد هاعام" وكما هو معروف فقد دعت الصهيونية الروحية إلى استيطان اليهود في فلسطين كحل للمسألة اليهودية، ولكنها عارضت مبدأ إقامة الدولة اليهودية، ودعت إلى تحقيق هذا الأمر بالتفاهم مع العرب الفلسطينيين.

وقد مثل هذا الاتجاه حركات مثل " بريت شلوم" (تحالف السلام) و" كيدما مرزاحي"، ياحود "الوحدة".

ويورد "يهودا شنهاف "وقد تبنى متحدثون مركزيون باسم هذه المجموعات وتفرعاتها، ومن ضمنهم ياهودا ماجنيس "ومارتينا بوبر وآرنست سيمون فكرة الدولة ثنائية القومية"، ويضيف على رأيهم "فإن الانتقال من مفهوم " آحاد هاعام" للوطن القومي إلى نموذج دولة يهودية متجانسة سيشعل حرباً طويلة مع الفلسطينيين ومع الشرق الأوسط بأسره ([5]).

أما " غرشوم شالوم" فقد اعتقد أن الصهيونية بسبب تحالفاتها مع الامبريالية يمكن أن تكون ظاهرة عابرة في تاريخ الشعب اليهودي، وإنها قد تحترق بنار ثورة الشرق الناهض" ([6]).

كما رأى " بوبر" أن دولة ذات أغلبية يهودية تعني دولة يهودية مقلصة ذات نزعة عسكرتارية مطلقة، وليست دولة قابلة للحياة. ([7]).

وقد عبّر أيضاً عن هذا السياق الفيلسوف " شموئيل هوغو برغمان" حيث قال " أن وجود أغلبية في فلسطين لن يغير حقيقة أن اليهود هم أقلية داخل العالم العربي"، معرباً عن اعتقاده أن "إسرائيل" ستخطئ حين توطد قوتها استناداً إلى قوة بريطانية بدلاً من البحث عن تفاهم مع العرب.

وعليه، فإن المهمة الراهنة الرئيسية المطروحة أمام شعبنا وقيادته السياسية هي إجراء مراجعة موضوعية للسياسة التي أنتجتها خلال العقدين والنصف المنصرمين، والتي أنتجت المأزق الراهن الذي نعيشه، وإعادة صياغة الاستراتيجية السياسية الوطنية الموحدة على أساس القراءة الموضوعية لطبيعة الكيان الصهيوني، والنتائج التي أفرزتها مسيرة المفاوضات خلال ربع قرن، واستعادة وحدة مركبات المشروع الوطني التحرري التي تم تفكيكها في محطات المفاوضات والمراهنة العبثية على حل الدولتين، بمعنى وحدة الشعب والأرض والمصير والأهداف المعبرة عن هذه الوحدة المنطقية التي يكثـفها شعار الدولة الديمقراطية الواحدة على كامل التراب الوطني الفلسطيني البديل الواقعي لشعار الدولة اليهودية الديمقراطية كأساس لإنهاء الصراع التاريخي في فلسطين وحول فلسطين.

وعلى المستوى المباشر، مطلوب امتلاك الإرادة السياسية والعمل الجاد لإنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي، وإعادة بناء وترتيب مؤسسات البيت الفلسطيني الداخلي، وفي مقدمتها منظمة التحرير على أسس وطنية وديمقراطية، وتعزيز دورها ومكانتها كأداة جامعة في كل أماكن تواجد شعبنا ووحدة أهدافه الوطنية في العودة وتقرير المصير والاستقلال الوطني، وبمرجعية قيادة ديمقراطية لقيادة النضال الوطني الفلسطيني والديمقراطي الفلسطيني.

صحيح أن التباين المنهجي بين برامج القوى السياسية الفلسطينية لا يؤسس لتوافق راهن حول الأهداف الاستراتيجية للمشروع الوطني التحرري، خاصة فيما يتعلق بمشروع الحل الوطني الديمقراطي الشامل، وموضوع الدولة الديمقراطية الواحدة لكن هناك مساحة معقولة للقواسم المشتركة، تتضمنها التوافقات الوطنية تكفي لإنهاء الانقسام، وإعادة بناء (م.ت.ف)، وتحويلها لجبهة وطنية ديمقراطية لقيادة النضال الوطني، يمكن أن يتم من خلال مؤسساتها الديمقراطية القيادية مناقشة كل الخيارات، كما أن هناك توافق وطني تعكسه الخطابات السياسية حول الثوابت والأهداف الوطنية للمرحلة الراهنة بالعودة وتقرير المصير وإنهاء الاحتلال والاستقلال الوطني، ويصبح المطلوب نبذ الأجندات الفئوية والصراع على القيادة وسلطة الحكم الإداري الذاتي.

وفي نفس الوقت لا أعتقد أن هناك عاقل ملتزم بالثوابت الوطنية لديه قناعة أن معطيات الصراع الموضوعية وطبيعة الكيان الصهيوني وسياساته وموازين القوى المحلية وانعكاساتها على المستويين الإقليمي والدولي يمكن أن تُرجح مُمكناّت نجاح بناء مفاوضات متكافئة تؤسس لإنجاز تسوية سياسية متوازنة بالمدى المنظور.

وعليه ينبغي وقف المراهنة على المفاوضات العبثية التي لن يتمخض عنها سوى إعادة إنتاج المأزق الراهن وتعزيز ركائز المشروع السياسي الصهيوني، والذي يُشكّل توسيع وتكريس الاستيطان رافعته الأساسية.

ولذلك، فإن البديل عن هذه المراهنة هو نقل ملف القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة ومؤسسات المجتمع الدولي، ومطالبته بوضع "إسرائيل" تحت سقف القانون الدولي وإلزامها بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية في إطار تكتيكي لإدارة الاشتباك السياسي في المؤسسات والمحافل الدولية بهدف عزل الاحتلال، وسياساته كخطوة باتجاه نزع الشرعية عن كيانه السياسي الكولنيالي العنصري، وتوسيع نطاق المقاطعة الدولية التي تقودها منظمة " BDS" السياسية والاقتصادية والثقافية والأكاديمية، فالواقع الراهن وسياسات الاحتلال لا تطرح على شعبنا سوى خيار المقاومة الذي يمكن في إطار الحوار الهادئ التوافق على الشكل الرئيسي الناظم القادر على تفعيل كل طاقات شعبنا في ميادين ومحاور الاشتباك مع الاحتلال، دون مقايضة شكل أو أسلوب نضالي بآخر، وهذا يتطلب فك الارتباط مع الاحتلال والالتزامات باتفاق أوسلو، وبشكل خاص الالتزامات الأمنية، الأمر الذي أكدت عليه قرارات المجلس المركزي في جلستين قبل عامين، وإعادة بناء المضمون الوظيفي للسلطة الوطنية باعتبارها إحدى أدوات النضال الوطني لشعبنا.

وعلى المستوى القومي مطلوب إعادة الاعتبار للبعد القومي للنضال الوطني الفلسطيني، وتوفير السياج القومي الشعبي العربي الحاضن لمقاومة شعبنا، وهذه مسئولية مشتركة تتوقف أولاً على قيادة شعبنا في تعزيز علاقاتها ومراهناتها على القوى الشعبية القومية العربية، وعدم الانصياع للضغوطات التي تمارسها القوى الرجعية المتنفذة في مؤسسات القرار العربي، ومن جهة أخرى تعزيز دور القوى الشعبية العربية في دعم النضال التحرري لشعبنا، والنضال ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني على المستويين الرسمي والشعبي، والضغط لسحب ما سُمي بـ"المبادرة العربية" سيئة الصيت، هذه المبادرة التي تسعى أمريكا والكيان الصهيوني القوى العربية المتنفذة لتحويلها إلى مظلة للتطبيع العربي الرسمي، والذي تتسع دوائره بشكل علني أو مستور، وما المبادرة التي يُجري الحديث عنها في إطار ما سُمى بالمؤتمر الإقليمي لتسوية الصراع العربي الصهيوني سوى أداة لتسويغ هذه السياسة وصرف الأنظار عن الواجبات العربية القومية والنضال ضد الكيان الصهيوني، باتجاه تحويل ايران لعدو مركزي، وبناء تحالف عربي صهيوني كمظلة أمريكية لمواجهتها.

وفي هذا الإطار فإن الجبهة الشعبية العربية التقدمية التي تم الإعلان عنها قبل عام يمكن أن تلعب دوراً محورياً وفاعلاً في هذا الاتجاه.

في الختام، لابد من التأكيد أن مجافاة الأوضاع الإقليمية والدولية لنضالنا الوطني أو تراجع المكانة الدولية لقضيتنا يجب ألا تسقط من منظورنا أن هناك العديد من عناصر القوى التي يمكن الارتكاز عليها في بناء برنامجنا للنضال الوطني؛ فصمود جماهير شعبنا ومقاومته وانتفاضته، والإنجازات السياسية التي تحققت على الصعيد السياسي الدولي، واتساع دائرة الأنصار الدولية لنضالنا المترجمة بالنجاحات التي تحققها الحملة الدولية الشعبية لمقاطعة "إسرائيل".

وعليه، فإن المطلوب هو بناء برنامج نضالي وطني بالاستناد إلى عناصر القوة التي نمتلكها وتعزيزها وتوسيعها، وبذلك نستطيع التأسيس لمرحلة نهوض نوعية جديدة، ومغادرة حالة المراوحة حول الذات، ولتحقيق كل ما سبق يتوقف أولاً على استنهاض العامل الذاتي الفلسطيني.

[1] - "يهودا شنهاف، كتاب " حول مصيدة الخط الأخضر" – ترجمة مؤسسة مدار للدراسات والنشر، عام 2007.

[2] - المرجع السابق، صفحة 22.

[3] - حاييم يعقوبي وشبلي كوهين، كتاب الفصل سياسة الحيز في "إسرائيل" ، 2007.

[4] - يستند هذا العرض إلى بحث يفتال (يوم الأرض - تيأورويأ سيبكورت " النظرية والنقد، عام 1998، صفحة 12 +13، ومن صفحة 273 إلى 290 صفحة) ( والاقتباس من كتاب يهودا شنهاف حول مصيدة الخط الأخضر ".

[5] - يهودا شنهاف، كتاب " حول مصيدة الخط الأخضر، ص 70.

[6] - ساسون ساخير " ، ولادة التفكير السياسي في إسرائيل – تل أبيب – ص 396).

[7] - المصدر السابق نفسه.



#احمد_سعدات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مرافعة الرفيق احمد سعدات امام محكمة صدور الحكم
- الوضع الفلسطيني الراهن والمهام الملحة
- ليس دفاعاً عن أحد ولكن انصافاً للحقيقة
- بيان صادر عن الامين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
- كلمة الأمين العام للجبهة الشعبية بمناسبة ذكرى انطلاقة الجبهة ...
- اتفاق جنيف انجاز للثوابت الوطنية ام صك استسلام مجاني
- تشكيل حكومة فلسطينية جديدة هل يمثل استحقاقا وضرورة راهنة
- الانتفاضة الشعبية الفلسطينية إلى أين ؟
- ألازمة الفلسطينية الراهنة وأفاق تجاوزها واستنهاض شعبنا
- حوار رفاقي صريح مع أصحاب الإعلان السياسي للتجمع الديمقراطي ا ...


المزيد.....




- تحقيق لـCNN.. قوات الدعم السريع تطلق العنان لحملة إرهاب وترو ...
- ستتم إعادتهم لغزة.. مراسل CNN ينقل معاناة أمهات وأطفالهن الر ...
- أردوغان يريد أن يكمل -ما تبقى من أعمال في سوريا-
- استسلام مجموعة جديدة من جنود كييف للجيش الروسي (فيديو)
- عودوا إلى الواقع! لن نستطيع التخلص من النفط والغاز
- اللقاء بين ترامب وماسك - مجرد وجبة إفطار!
- -غباء مستفحل أو صفاقة-.. مدفيديف يفسر دوافع تصريحات باريس وب ...
- باشينيان ينضم إلى مهنئي بوتين
- صحة غزة: ارتفاع حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي إلى 31819 قتيلا ...
- هل مات الملك تشارلز الثالث؟ إشاعة كاذبة مصدرها وسائل إعلام ر ...


المزيد.....

- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ
- أهم الأحداث في تاريخ البشرية عموماً والأحداث التي تخص فلسطين ... / غازي الصوراني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - احمد سعدات - يوم الأرض.. الذكرى والمهام الوطنية المُلحة