أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن نور - جيسيكا..5















المزيد.....

جيسيكا..5


فاتن نور

الحوار المتمدن-العدد: 5413 - 2017 / 1 / 26 - 09:52
المحور: الادب والفن
    



انتحى أقصى اليمين متكئاً على زجاج النافذة، عدّل من جلسته حتى انتهى قبالتي.
..هذا تهكّم غليظ يؤلمني، ردّ بفورةٍ من الغضب، سرعان ما تداركها بلملمة أطراف معطفه بفتور.
وهل الطعن بالنخبة يخدم أية قضية.. أضاف بهدوءٍ مفتعل. ملامحه المتجهمة، وهو يلقي بعقب سيجارته في القارب، كشفت عن حجم انفعالاته.
أيقنت أن الوقت ليس مناسباً للحوار؛ فمع رغبته به وفضوله، ومع حرصه على الإصغاء أو محاولته، جاءت ردوده عرضيّة، متغافلة عن زبد الكلام، متماهية مع مخيضه الطفولي بمتوالية من التوتر والتظاهر بعدم الاكتراث.
مع كلّ هذا العريّ؛ عن أية نخبة يتحدث.. سألت نفسي.
ما شكل النخبة التي لا تكترث لعراءات المجتمع، ولا تلقي عليها بعض كساء. ما دورها ما لم تطور المعرفة وتحد من سلطة المجهول وسطوته. ما زادها الفكري وحدّة ذكائها، وهي تعّول على الحل السياسي لجرّ عربة التغيير كأي عابر سبيل على قوارع الثقافة، وتتشدق بأصولية مبطنة للتجديد والإصلاح. نخب عارية دون شك، يصعب توقيرها.
لا ألقي عليه بالكثير من اللوم مع أنه من نشطاء الواجهة؛ فقد أثقلت سنوات زواجه الأخيرة كاهله. تقوقع بعض الوقت بخيبة كبيرة. لكنه تمرّس خلالها على النكران. وأعدّ نفسه لأنشطة الطيش ومماحكات التبرير. بات لا يركن إلى سكينة، يحفر سكناه ويتكيّف - مثل أرانب البراري - في جذوع الغابات المطيرة أو في الصّحاري، أينما نبتت - شجرته نادين - أو نصبت خيامها.
كررّ لي ذات مساء ما اعتاد تكراره كلما طرأ عتاب؛ أن صداقته بها صداقة متفوقة، لا يهزّها طلاق أو فراق. وأن المصادفة وحدها هي من جمعته بها في أحايين كثيرة، عدا الأمكنة المحببة التي اعتادا على ارتيادها قبل الانفصال ومازالا كعادتهما. وفي نفس المواقيت المفضلة لديهما غالباً. أكد لي، أن نادين ممتنة لتلك الصدف التي تشعرها بسعادة غامرة وارتياح، وأنها قد صرحت له بهذا أكثر من صدفة، حتى راوده شعور بأنها ربما قد ندمت على طلاقها منه.

ياله من مغفّل، كأي عاشق، لا يصدق أن للتذمر همساته الناعمة، وللشكوى ثمة حسيس لا يسمعه غير الندماء.
ونادين كما عرفتها، امرأة شديدة المراس، ميّادة القد، ثاقبة الحواس وبارعة الحدوس، ذات خصال لا تبدو أنها من خصال البشر. تركن للصمت والصوت الخفيض، لا تجترح لغواً أو دويٰاً مهما ضجرت أو غضبت، مع إنها من روّاد الصالات الصاخبة وعشاق المقامرة. وكثرما همست في أذني بصوتٍ رخيم، ورقةٍ لا تحتملها سياقات التذمر والشكوى أو الانفعال والغضب.

"متى يكف عن بوليسيته، عله يتفرغ لزراعة المزيد من متسلقات الواجهة” كانت همسة منها طرقت أذني بعد عودتها من رحلة صيد حرّة لا تكبلها طقوس، غير طقوس طليقها التلصصية. يومها كنا نتمطى في ملاهي بحيرة أوزارك مع نفر من الأصدقاء، وقد سألتها، بعد تخمين مقاصدها؛ عن السر وراء تبنيه للمظهر الجديد، قالت؛ أن له في شعر الوجه بعض عزاء.

"أحسبني تحت المراقبة، آواه كالجواسيس. أنه لمن القسوة أن تسكن ثقب كاميرا وأنت الهارب منها”.. همست في أذني يوم الاحتفاء بعيد ميلادها الأول بعد الطلاق.
ليلتها ترنحّت بالتندر وأفرطت بالتساؤل، كنّا قد احتسينا الكثير من تيكيلا الكرز، وقزقزنا ما تبقى من لب القرع والفستق بعد انتفاض المدعويين، همست؛ كيف لرجل وقور أن يخادع نفسه؟ كيف يزّور الحقيقة من يبحث عنها؟ ما معنى أن يفضّ رجل عشق امرأة بأصبعه.. ضحكنا وقتها كثيراً لترف المبالغة وعث الواقع، حتى أستبد بنا النعاس وغلبنا النوم، كانت ليلة حافلة بالكوميديا السوداء.

..أبصق سيد مروان. أبصق بسرعة على شيء تريد إخماده؛ إذا كانت تحتويه جدران من ورق، كهذا العقب الذي سيحرق المركبة لو تركته هكذا متوهجاً في القعر.

..لا بل سأمسك العصا من الوسط، ردّ بتقزز واضح.. متماهياً مع ما سلف من الحديث، مؤكداً أثره.
بللّ طرف سبابته، طرق طرقاً خفيفاً على الجمرة، وكانت قد أحدثت ثقباً في القارب توهجّت حوافّه بما ينذر بخطر. هذا أفضل، أفضل من البصاق، أوليس كذلك.. سأل بهيبة رجل الإطفاء، وأشاح بنظره خلف زجاج النافذة.
بنظرةٍ خاطفة مني اختلستها وأنا أحشر شاحن الموبايل في المركبة، رصدت علائم الازدراء على وجهه، تلك التي حاول أخفاءها.
السكوت أجدى.. قلت في نفسي. عندما يتشظى الرجال لا جدوى من الحوار معهم؛ سأتركه يخوض صراعاته الداخلية مع نفسه. يزدري من يشاء ويستهجن كما يريد.
حشرت طرفيّ السلك بين الشاحن والموبايل مع شعوري ببعض الارتياح. علنّي أجدها طالما ساد الهدوء، تلك المعزوفة التي صحوت على ذكرها فجر اليوم ولم يمنحني الوقت طراوته لسماعها.. قلت في نفسي، وأنا اتصفح قوائمي الموسيقية بحذر على الطريق السريعة.

ها قد لاح برج المطار أعلى الشارع.. قال بصوت خفيض ملتفتاً ناحيتي. دقائق وأغادر المركبة، ياله من قحطٍ أثيم، في جعبتي قارب مثقوب، حفنة رماد وآثار حريق. سألقي به حتماً في أقرب حاوية.
ماذا لو سافر معي إلى مدينة الخطيئة، علّ السرب المقامر هناك يكفّ عن ترميم افلاساته بالقروض والمقامرة.. سأل مازحاً مشيراً إلى طليقته ولاس فيغاس.
أظن أن أساريره قد انشرحت بمجرد رؤية البرج؛ ياله من شقاء لا يجزيه نسيان.. حدثتّ نفسي، وأنا أبحث عن تلك المعزوفة التي خامرتني أصداؤها حد الثمالة.
..إنما بعض اللوم أحسبه عليك، أجدك لا تتوانى عن قرضها، هذا يدفعها للتمادي. ماذا تقول في هذا.. سألته ببرود.

..المغفلون فقط، يتوانون عن زوجاتهم أو حبيباتهم.. تمتمّ بالعبارة وغمغمّ لبريهات.

في رأسه العنيد مازالت نادين حبيبة وزوجة. هذه حالة نكران مؤلمة لنا وله.. حدثت نفسي، وأطلقت قصار الزفرات بتواتر مع بحثي عن المعزوفة بين عشرات لم تؤرشف بدقة. تطوّحت سبابتة في الهواء على حين غرّة، وارتعشت منتصف المسافة بيننا كما الطائر الطنّان، وهو يبتلع ريقه بعسرٍ ملحوظ. أظنه سيدلي بشيء مثير بعد هذا المشهد الدرامي الذي فاجأني به.
عن الحداثة وقبل المغادرة أريد أن أقول.. خرج صوته مبحوحاً، مرتبكاً، لكنه أستأنف بعزم؛ عن خلخلة الثوابت والمسلمات بالأخص، أجدها مسأله حدود قابلة للجدال، أقصد عندما نقترب من الشرق. النقل المحض للمشروع لا يلائم مناخنا الثقافي وأسسه البنيوية..
سحب سبابته بتوجس وذعر، وكأنه تفاجأ بها مثلي. فتح زجاج النافذة وأخذ نفساً عمقياً لترميم ثقته بما سيقول، وأردف محاولاً جهده أن يكون متزناً لا تعتريه نوبات من الامتعاض الفكري أو التشتت:
ربما علينا التفكير بحداثة جديدة، حداثة تليق بنا نحن الشرقيين. حداثة مثلما تتبنى العقلانية؛ تتبنى الوجدانية، حداثة لا تطعن بثوابت الأمة أو تستهجن القيمة الغائية للوجود الإنساني. حداثة مؤانسة، لا تنكر البعد الروحي ولا تبخس أثره في نشأة الوعي والتكوين الثقافي. حداثة تحاكي قلوبنا بالمقابل التي لا نريد لها التصخّر بوجود مادي صرف. نريد حداثة توقد لنا الحاضر دون أن تحرق الماضي أو تجرح ترانيمه الجميلة.. هذا الذي حاولته في المحاضرة التي لم ترق لكم، أنتم السرب الطائش بتمرده، الهجين بمعارفه.

..ما عدنا ندري أينا الهجين سيد مروان، حقاً أينا الهجين؟ سؤال مهم سنعلق به ردحاً من الجدال. إنما الأهم في هذه اللحظة: هل أنت على ما يرام؟



فاتن نور
Jan, 2017



#فاتن_نور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جيسيكا..4
- جيسيكا..3
- جيسيكا..2
- جيسيكا
- العلمانية ضد محاربة الأديان..
- حوار عن العقل النقلي
- وزارة التعليم العالي وتحديات الكعب والتنورة
- تحريض..
- وجه الحقيقة والحقن بالبوتكس
- الوجه الآخر للإرهاب
- الفاتيكان معقل الراسخين في الاستثمار
- كوكتيل أسئلة دينية..4
- كوكتيل أسئلة دينية..3
- الكرة الخفية والإله الخفي
- كوكتيل أسئلة دينية..2
- ورقة التوت يا وطن الضجر
- كوكتيل أسئلة دينية
- اغتراب الطلع
- العقل ليس قرباناً لأصنام الدين
- ازدراء الأديان في ميزان المسؤولية


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن نور - جيسيكا..5