أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن نور - جيسيكا..4















المزيد.....

جيسيكا..4


فاتن نور

الحوار المتمدن-العدد: 5379 - 2016 / 12 / 22 - 10:12
المحور: الادب والفن
    



جيسيكا..4



دقائق انشغل فيها السيد مروان بتهذيب شاربه، تسللت خلالها جيسيكا بغلال من الذاكرة.
الشجرة المعمرّة، المتآخية مع الشمس رغم تشققات القلف، بساط الفيء الأبيض وأفانين السمر.
المقبرة الشاسعة، وهي تلامس بإجلال حمرة الأفق الممتد أمامنا إلى سكون.
ومرح الغزلان؛ كأنه يشي بأن موتى المكان يرقدون بسلام مضاعف.
أشجان السجون والمنافي، وهيبة الصحراء بقسوتها ونعومة جلدها الرملي المدبوغ بالطراوة تارة والجفاف، وجنون من وطأها ببساطيل لعينة.
التزحلق الحلو عن كبوة النعاس إلى دندنة الشعر والرواية، بفيوض الأرواح الهائمة حينما تلتقي خلسة، وتتوارى بالحنين والجنون.

بدء الطريق أمامي بالالتواء. تضاءل إلى زجاجة نبيذ عملاقة، أمتدّت بها يد إله طيب. إله استوى على حانته الفاخرة نادلاً لزبائنه من الحيارى والمتعبين، بينما راحت مركبتي تتصاغر بصخب وقرقعة، إلى ما يشبه علبة سردين فارغة، تصاغرت وإياها كل مركبات الطريق السريعة المحاذية.
شيء ما يتفجر في رأسي أو يُفخّخ، شيء ما يجعلني أرى الأشياء على غير طبائعها لبريهات من الزمن، كل شيء حولي أجده ينزع للتحول والتلاشي، ثمة نشاط كهرومغناطيسي يتكاثف، ولوحات سوريالية تتخلق في دماغي، ترتسم بها ملامح جديدة للعالم. يحدث هذا غالباً؛ عندما تتجلى جيسيكا بالغلال والعشوائيات.

بعد لقاء المقهى، كنت قد شرّعت كل نوافذ التواصل ويسرّت سبله الممكنة. نوافذ وأبواب تسع العقلاء والمجانين والمرضى، وكل صنوف البشر مهما اختلفت أهوائهم وأمزجتهم وظروفهم. لكنها هربت، توارت في الزمن كخيط دخان.
ربما لم يعد يهمها التواصل مثلما يهمني وأتوقه بكل جوارحي.. وكثرما فكرت في هذا. إنما فتح أبواب رحيبة يغلق عادة أخرى ضيقة، فقد غلقت بوجهها أبواب التذرع والملامة التي لم أعد أطيقها بعد كل قطيعة وفي غضونها، عبر قصاصات رقمية تلقي بها في الأثير بين الفينة والفنية؛ لخدش مرارتي.

ولكن ماذا لو كانت قد انتحرت فعلاً.. سألت نفسي بتوجس ومرارة. كانت رغبتها في الخلاص قد بلغت ذروة الجبن، أو ربما ذروة الشجاعة. وقد حدثتني عنها في ذلك اللقاء الذي بدأت أتذكر تفاصيله الحرجة. تلك التي لم أفلح بتذكرها عندما حاولت بإلحاح ولجاجة. هذا من خبايا عمل الدماغ واسراره في الأرشفة والتشظي، التي لم يقف عليها العلم بثبات بعد. كثرما فكرت في هذا، وكثرما أدهشني دماغي بشكل خاص، وفاجأني بتقاذف شظايا من ملفاته المبعثرة في جغرافيات وأمكنة منسية؛ فيتجدّد إهتمامي بها.

صرخة أطلقها السيد مروان اقتلعتني من نشوة التسربل بالذاكرة والانبهار بما يتخلق عنها من سرابات وحقائق.

..أخيراً تمكنت من اللعينة.. أعلن عن اقتلاعها مبتهجاً.

..هذا أفضل، أجبته باهتمام مفتعل، يبدو شاربك الآن أكثر أناقة بعد تمكنك من تلك الناشز.

..ما ظننتها مخربة للأناقة هذه الشعرة النافرة.. قال وهو ينظر إليها بتقزز. وكيلا تخرب أناقة المركبة؛ ها أنا ألقي بها في القارب.. أضاف بنبرة ناقدة ثم استدار نحوي بشكل مفاجئ؛ كأنه يريد أن يدلي بشيء خطير استفاضت به جوارحه؛
أنا وبكل جبروتي، أكاد أغار منه، من هذا الرماد نعم.. قال فاركاً أرنبة إذنه وكأنه يتحسس مواطن الوجع. الوجع الذي لا يدري بأنني أدريه. فقد توطدت علاقتي بنادين بعد طلاقها منه، إلى أقصى التمرد والجنون في كشف خبايا الذات ورغبائها الدفينة وأسرار الليل خلف أبوابه الموصدة.

..وأنا بكل طفولتي التي لا تشيخ بسياط الوقت ولا تسبت، مثلك سيد مروان، أكاد أغار منه، لأن الرماد ببساطة مادة لا تحترق.

..آواه.. أي نعم. كم أنتظر ذلك اليوم الذي سنقلع فيه بقارب كهذا بعيداً عن احتراقاتنا اليومية.. أضاف بتهدج وهو يحدق بسيجارته التي تتضاءل بين أصابعه الغليظة.
زفرة طويلة زفرها على زجاج النافذة، واستطرد لتأنيس الجو.. ها أنا الآن بكامل أناقتي، بلا نوافر أو نواشز ويمكنني التركيز والمتابعة.

..هل أنت متأكد.. مازحته بمرح؛ فكلانا يعرف عن نواشز الثاني ونوافره على مدى عقدين من الزمن.
حسناً إذن.. عن المحاضرة دعني أصارحك بأن وقتها أنشطر في رأسي إلى ثلاثة أثلاث متزاحفة؛ ثلث كنت قد استثمرته بالحديث عن ما بعد الحداثة، أو أضعته. هراء أن نقفز إلى مرحلة هي وليدة لما قبلها، الذي لم نقو على خلقه بعد. أو نقفز إلى ردة فعلها قبل فعلها.
وثلث يا صاح؛ عرجت فيه على إشكاليات الحداثة بموضوعية لا أحسدك عليها، فقد فاتك أن تذكر بأن الكثير من دعاة الحداثة يمثلون اليوم أهم إشكالياتها.
والثلث الخاتم سيد مروان؛ ذبحت فيه الحداثة على الخازوق الأصولي، مما يؤكد وجودكم الإشكالي.
وثمة حشد من دعاة التنوير والحداثة المشهود لهم بالحصافة والإتزان -هذا حسب توصيفك الدائم طبعاً - يصفق بحماس وانبهار.. كأي قطيع.

..آه كم يؤلمني هذا التهكم والسفور، ولكن أجدني شغوف بالألم هذا اليوم؛ ربما لأزن به ما ينتظرني من ثمار الفرح في لاس فيغاس. هاتني بالمزيد عسى أن أفلح في رجرجة الكلام والخروج بزبده اللذيذ.

..وآلمتني محاضرتك بالمقابل، كن مطمئناً بهذا التعادل، بل وقضّ سفورها مضجعي ليلة البارحة. لقد ساءلت سقوف بيتي وجدرانها وحشداً من ريش وسائدي؛ كيف سننجو إذا كان الفارس أعمى والفرس عرجاء.

..نعم نعم هذا واضح ومثير للقلق. إنما الحداثة مفهوم واسع مرن، حظي باهتمام بالغ من قبل الفلاسفة والأدباء وشغل علماء الاجتماع منذ عصر النهضة ليومنا. لكن كثرما يوظف الاصطلاح خارج إطاره المعرفي، يوظف بمطاطية رغويّة تغتاله كمفهوم راقٍ يستهدف الإنسان بكل مكوناته وكينونته الوجودية دون استئصال. ولا أعرف كيف يفهمها الآخرون حقيقةً، ولكن فهم العوام للحداثة -ولغيرها من القضايا، يهمني أن أقول- يتبلور من خلال المتداول في الشارع والمقهى، الصحافة ووسائل الإعلام، ومطبوعات تجارية تفتقر إلى الرصانة الأكاديمية. وهذه مصادر لا يعول عليها في اقتناء معرفة..
في الوعي السائد؛ ما تسطره الكتب له قيمة. وكأن المادة المطروحة تكتسب قيمتها بالطباعة والنشر وتفرضها على الآخر. وأجد مثل هذا في حقل الأدب والشعر وغيره من الحقول الثقافية.

..هذا رائع وما بوسعي أن أتفق معه أكثر. عبارة "قرأت هذا في كتاب كذا” مازالت عبارة دفاعية بامتياز في الحوارات والمناضرات، ولا أحسبك غافلاً عن تدافع جيل الشباب لطباعة منجزات غير ناضجة لاستحضار قيمة. والمؤسف أن التباهي بالكم الطباعي تجاوز المبتدئين. صارت الثقافة توزن بالحبر المطبوع مهما كانت رداءته. ومن ينجح في تسويق رداءته في مطبوعة أو أثنتين، يصبح مفكراً أو أديباً يمكنه تسويق الأكثر رداءة بأعلى قيمة وأقل جهد.
ولكن لنبقى في مربط الفرس؛ إذا كنت تلمح باستحياء عما آعرفه أنا عن الحداثة كوني أفك خط المعرفة بشهادة إعدادية، دعني أقول بعض ما في جعبتي قفزاً على هذا الربط المقيت بين الثقافة والتحصيل العلمي...

..لا تسمح صداقتنا بمثل هذا الربط الذي يؤسفني تخيله بشخصنة العام من الحديث، فكلانا يعرف ثقافة الآخر ولولا السعة لما بقينا أصدقاء. أوليس كذلك؟

..لا بأس عليك. وأطمع بآذان صاغية.
أعرف أن الحداثة ليست كأي مشروع قياسي، يمكنني القول بأنها مشروع استقرائي جاد، وتسلسل تراكمي من تحولات البنى الثقافية والمعرفية والاجتماعية،وما يحيطها من تحولات نظم العمل والإنتاج. ولا أنسى البنى العلمية فنظرتنا الى الكون ليست كنظرتنا قبل قرن من الزمن. الحداثة مشروع شامل للتغيير الجذري يجتاح المعارف التقليدية، يخلخل الثوابت والمسلمات ويخترق التابوهات والمعاقل المعرفية للوعي الغيبي؛ لصياغة وعي مغاير يضطلع بالمهمات الحضارية لهذه المرحلة ويتعاطى بعقلانية مع إشكالياتها تأصيلاً لمحورية الإنسان وتوسيعاً للمهمة النقدية.
وهذا ما لم تجرؤ على التوغل بمقاصده الواقعية لنحت قيمة؛ لأنك -وكم يؤسفني ما سأقول- تمسك العصا من الوسط، أقصد أنت والسرب.

..أنا والسرب.. قاطعني مردّداً ملء شدقيه، بعد أن نفث سحابة من الدخان بإتجاه المقود بشقاوة محببة.
يروق لي الجدال مع السرب الآخر لأنه معتق بنبرات غضبه الطفولي.. أضاف وهو يربت على كتفي ملاطفاً.. لدينا الآن سربان مبهمان يتوسلان الضبط والتعريف؛ سربنا وسربكم، أما الثاني فلا أدري كيف يمسك بعصاها، هذا إذا كان من ذوي العصي.. اضاف بنوبة من الضحك أهتزت بها مركبتي.

..الفاصلة غير مرئية بين النقائض أحيانا أو تكاد أن تكون، بين اللذة والألم هنا. ها أنت تضحك من فرط الأخير متلذذاً بالطفل الكبير داخلي الذي غمرك بكل هذا المرح.

..أي نعم أنه الطفل الكبير الذي أحب بيقين، وأطمع منه بالمزيد من الاسترسال الممتع رغم قساوته.. قال بصوت جاد هذه المرة، موقداً سيجارته الثانية بنشوة غامرة.

..سيد مروان؛ ما كانت أوربا لتنهض لو فكر فلاسفتها ومفكروها بطريقة جبر الخواطر والإرضاء.
لم يفكروا قط، أن في صراعهم مع السلطة الكنسية، ثمة تحقير للهوية ومساس بمشاعر اتباعها، فالهوية كانت محقرّة بالبؤس الثيوقراطي والتسيّد اللاهوتي. مستفرغة بالوعي المسيحي الأصولي الذي انتفضوا ضده بكل جبروت دون عنعنات رجعية، وأناسها كانوا عبيداً صاغرين لجلد إنسانيتهم ومتأقلمين مع سياطه. صعب أن تحقّر أناس بهذه الرثاثة. لكن ثمة من انتفض بجسارة وحزم، بصرامة وإصرار من أجل إنقاذ الهوية والمصير من دياجير الجهل والظلام.
وسربنا الذي لا يعجب سربكم، يخوض الواقع بلا عصا، كان من المفترض أن يكون سربكم المهيب عصاه الضاربه في المحيط لولا وسطيته. بيد أنكم تمسكون بطرف العصا بمهارة الفرسان، عندما تنهالون بها على ظهور سربنا.
هكذا تطيحون بقواعد شعبية ممكنة، ما زلتم تفتقرون إليها؛ هذا طبعا لو ترجلتم عن تحقيرها بتملقات التفاضل المعرفي لصالح تيارات رجعية، لا أظنها تخدم قضيتكم بأي حال.


يتبع..

فاتن نور
Dec, 2016



#فاتن_نور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جيسيكا..3
- جيسيكا..2
- جيسيكا
- العلمانية ضد محاربة الأديان..
- حوار عن العقل النقلي
- وزارة التعليم العالي وتحديات الكعب والتنورة
- تحريض..
- وجه الحقيقة والحقن بالبوتكس
- الوجه الآخر للإرهاب
- الفاتيكان معقل الراسخين في الاستثمار
- كوكتيل أسئلة دينية..4
- كوكتيل أسئلة دينية..3
- الكرة الخفية والإله الخفي
- كوكتيل أسئلة دينية..2
- ورقة التوت يا وطن الضجر
- كوكتيل أسئلة دينية
- اغتراب الطلع
- العقل ليس قرباناً لأصنام الدين
- ازدراء الأديان في ميزان المسؤولية
- بين العقل العلمي والعقل الديني


المزيد.....




- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن نور - جيسيكا..4