|
جيسيكا
فاتن نور
الحوار المتمدن-العدد: 5339 - 2016 / 11 / 10 - 05:20
المحور:
الادب والفن
(1)
..رأيت البشر يتحللون إلى فراغ، وتنصهر مركباتهم إلى سائل قزحيّ أو تتسامى إلى بخار زئبقي أحمر؛ عند اجتيازها. على الطريق السريعة؛ لم يسعفني ساعتها العصر الباروكي وموسيقى فيفالدي؛ فقد كان اختياره شطحة كبيرة أجّجت مجامر فصولي الأربعة وأشجان ما تبقى من فصلي الأخير. ولم تسعفني موسيقى كارمينا بورانا؛ فمقطوعة "فورتونا" التي أحب، لا تأخذني إلى ذلك الصخب المحض، صخب اللامعنى الذي كنت أتوقه ولو لبرهة من الوقت؛ فهي صاخبة بتمردها العلماني المتذبذب بين المجون والطهارة، وكنت في حالة لا تسعفها العلمانية ولا آلهة القدر القروسطي حتى لو خلدّها كارل أورف. وخلف المقود، في ذلك اليوم المغمور بالشمس والضجيج؛ كانت الأفكار التي احتشدت في رأسي كأنها جيش خرج لاستعادة شرف مدينته الضائعة قبل أن يُدجَّن وطنياً. ثمة غوغائية وجلبة مثيلة كانت تعصف داخل جمجمتي وخارجها، بذلت قصارى جهدي للسيطرة عليها بما تبقى من وعي خلفه حفل الليلة الماضية ولم أوفق. كفرت بالحفل، مع أنه كان حفلاً نموذجياً للاستجمام الثقافي والاسترخاء النفسي. وقد التقيت في صالته بذلك النوع من البشر الذي يطيب لي ملاغاتهم أو مجادلتهم دون هوادة في قضايا بائسة تماماً مثل الانتخابات الأمريكية، وكنت قد تكهنّت بأن الآوان لم يأت بعد لتقود هذا البلد امرأة؛ فثمة حتمية جارفة لابدّ أن تخوض تجربتها بشكلٍ أو آخر، ووضعت رزمة نقدية على طاولة المقامرة وكلي ثقة بحتمية كسب الرهان كثقتي بالحتميات التاريخية. كفرت بذلك الحفل وكان لابدّ أن أكفر بشيء لتفريغ الشحنة السالبة التي كانت على وشك التفجّر. فقد خشيت أن أتحلّل وتنصهر مركبتي قبل رؤية جيسيكا. بحثت عن بدائل سريعة لكبح الطبول المتقارعة في رأسي بلا ايقاع، فقررت الاستماع إلى موسيقى أكثر صخباً. هكذا تخبطت بين الروائع الموسيقية حتى استدركت نفسي بأغنية "القلب المرن". شعرت بمرح اللامعنى يدّب في جسدي، وسرت في عروقي خفّة دم جعلتني أقترب من نفسي، تساقطت معها بعض الأفكار صرعى، لكنني لا أنكر محاولة إسعافها ولو بفتور وكأنها أبن عاق يستجدي النجدة ولا أريد أن أخسره به بأي حال. المرونة عنصر إيجابي يدفع للبقاء والتجدد، هكذا فكرت؛ لأطمئن نفسي وأنا في طريقي إلى لقائها. كنت أحاول شحن ذاتي بطاقة إيجابية نكايةً بآلهة القدر الدؤوبة على شحن دروب البشر بطاقات سالبة تسمّم عقولهم وضمائرهم.
التساؤلات التي انفلتت مني عند لقائها، كانت من نسيج واقع "لقيط" شاخ بعقليات قروسطية، وهرم بطرائق الروٌاد المسرفة في المعالجات النظرية وكأنهم في سباق تسطيري مع الخرافة. روّاد "الفكر الكتابي" الذي لا ظلال له حتى في ممارساتهم الحياتية؛فهم غالباً نشطاء أحلام وتنظير لا واقع وتدبير، ومناضلو ثرثراث إعلامية ولم يجرؤوا قط على الحرب الفعلية لصالح أفكارهم دون يقين، مع أنهم جهابذة متشككون أو يدعون. ربما هذا أحد أسباب فشل التنوير في المدن التي وطأتها الموبقات والبساطيل وتناسلت فيها الآلهة حتى في مخادع أهل العزم العلماني والحسم التنويري. تلك المدن الخاسرة أصلاً، التي شرّعت أبوابها كالعاهرات لانماط خرافية من طحن الذات فاقت الخيال والتصور، واستبّد بها الطغيان الذاتي والانغماس الطوعي في المواخير الماضوية، وما عادت تقوى على غلقها؛ لفقر دمها وافتقارها الشديد إلى "بناؤون أحرار” لا يصيبهم يأس أو فتور. نعم هو هكذا، أكدّت لنفسي، عندما يكون البناؤون سجناء حبر أو سلاطين كلام، كالفقهاء؛ تسقط المدن حضارياً لصالح الموتى والمستثمرين. كانت جملة تساؤلات غير متوقعة في لقاء غير متوقع جاء بعد مراسلات رقمية قصيرة كانت قد بدأتها جيسيكا بسؤالها الدعائي المعتاد الذي يتكرر بعد كل غياب أو انسحاب مفاجئ إلى عزلة أو تصوف أو تجربة جديدة أو شيء ما لا أظنه ذي قيمة. سؤال ممزوج غالباً بالتبتل العاطفي والملامة وبمفردات كسيرة بمصداقيتها ومنطقها تحرص على رصّها بعناية ووضعها في إطار التفقّد والأطمئنان. هذا ما اعتادته جيسيكا، أن تقلب الطاولة بوجهك حتى تبدو وكأنك المنسحب الغائب في جوف الزمن دون سابق إنذار، تاركاً خلفك ضحية تستغيث. فمع أن إهتمامي بوضعها الصحي كبير للغاية؛ كنت قد شردت بذهني عندما راحت تحدثني عن القسطرة التي عملتها مؤخراً وأمور صحية ذات صلة، ربما حاولت من خلالها دون جدوى؛ ردم حفرة عامين من الغياب غير المهذب أو التجاهل. شردت بعيداً إلى عرش ذلك الملك، المملوك وهو متربع على آرائك عرشه. "يا إلهي! ماذاعن قسطرة “العقل”، صرخة دوت في دواخلي كأنها زلزال مباغت. فيما لو توافرت الآلية والشروط وتمكنّا من غربلة الطواقم ونفض الأسرّة، فكرت؛ "القسطرة العقلية" ستكون هي المخلص الحقيقي من ثنوية العقم والاجترار وما خلفته من تصدّع وضياع.
فكرت بأمور كثيرة لا تسعها أيام طويلة من البحث والتأمل والتعاسة. "العواهر" هذا ما اخترعته لتسمية مثل هذه الأمور التي تشغلني، فهي عواهر فعلاً كونها تتسع كلما طرقتها وتستعصي كلما لاحقتها، وكان لابدّ أن أخترع اسماً حركياً سريّاً يأسرني للتفكير بها ويشدني إليها عندما أبتعد أو يصيبني الضجر. لا أدري كيف تهافتت هذه العواهر في رأسي على مساحة ضيقة من الزمن؛ ففي غضون ثوان معدودات، خطفني فيلق منها . واستحوذ على خواطري. كانت جيسيكا قد تلاشت خلالها على الكرسي المقابل إلى غمامة من دخان متصاعد وآثار شبحية ليدين تتحركان برتابة وبطء أمام ناظري. كان المشهد هكذا؛ شبح يدها اليسرى كأنه تطوع لتدليك شبح اليمنى التي كانت ممسكة بزمام سيكارة وبفتوة كما بدا لي. عرفت لاحقاً أن جيسيكا كانت تشكو من خدر في يدها اليمنى وصليل سببه انحسار تدفق الدم إثر إجراءات القسطرة. ولم يدهشني أن يكون الدخان سلاحاً لتحدي المرض والسيكارة بندقية نحملها أحيانا ببسالة المحاربين القدامى. لا أدري كم استغرقت حالة الشرود تلك وكم ابتعدت عن سور الحواس أو كم أقتربت. فقد كانت كأنها غيبوبة مفاجئة إلى الوعي! بشرودي ذاك، نجحت في استعادة بعضي الذي افتقدته ذلك اليوم وأنا في طريقي إليها.. ولا أذكر كيف انتهى بي المطاف إلى تلك الجرأة العضلية التي أدت إلى دفعها وحصرها في حيز ضيق وفي مكان يضج بالزبائن والسابلة.
لم تضطرب جيسيكا عندما وجدت نفسها ملتصقة على حائط الواجهة الأمامية للمقهى الذي كنا فيه، كانت ذراعاي ممدودتين براحتين مسترخيتين بانبساط على الحائط أعلى رأسها، وبتماس عرضي مع قبعة رديئة حرصت على ارتدائها. ..جيسيكا.. نطقت بأسمها بصوت مرتفع وكأنني في محاولة لجسّ رنينه أو تنغيمه، في نفس الوقت الذي كنت أحاول فيه استنطاق أنفاسها؛ عن سر توهج ذلك الشبق الإنساني النبيل وتلك الثمالة الوجودية التي تتملكني في حضرتها بعد كل غيبة. ورحت أتأمل ملامحها بشغف وكأنني أتعرّف عليها لأول مرة أو التقيها لآخر مرة. كان مسحاً بصرياً غطى ذبول جسدها الذي شممته ذات يوم بوَلَه يغمره الشعور بالحيف والأسى، شممته بأقصى ما استطاعته حاسة الشم؛ كنت على يقين بأنني أشم "وطن" في طريقه إلى زوال. ها هي، قلت في سري، وكانت يدي اليمنى قد تزحزحت قليلاً لتستقر أعلى كتفها الأيسر؛ ها هي أرطال من اللحم الممزق والعظم المطحون، يكتسي بها كيان ذهاني مضطرب؛ ها هي كأنها تختصر بؤس الشرق وتجسّد أوهامه الخوارق وانكفاءاته. لا غلو أن تكون جيسيكا كما هي؛ تلك الكأس الممتلئة دوماً بالمرارة واللذة والقلق، تلك الكأس المرتعة التي لا أجرؤ إلاّ على ارتشافها بطيب خاطر وحيرة.
يتبع..
فاتن نور
#فاتن_نور (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العلمانية ضد محاربة الأديان..
-
حوار عن العقل النقلي
-
وزارة التعليم العالي وتحديات الكعب والتنورة
-
تحريض..
-
وجه الحقيقة والحقن بالبوتكس
-
الوجه الآخر للإرهاب
-
الفاتيكان معقل الراسخين في الاستثمار
-
كوكتيل أسئلة دينية..4
-
كوكتيل أسئلة دينية..3
-
الكرة الخفية والإله الخفي
-
كوكتيل أسئلة دينية..2
-
ورقة التوت يا وطن الضجر
-
كوكتيل أسئلة دينية
-
اغتراب الطلع
-
العقل ليس قرباناً لأصنام الدين
-
ازدراء الأديان في ميزان المسؤولية
-
بين العقل العلمي والعقل الديني
-
شعارات تعبّر عن جزع السنين
-
الإسلام الصحيح مفهوم واقعيّ أم متخيل؟
-
فوتوشوب..
المزيد.....
-
النيابة تطالب بمضاعفة عقوبة الكاتب بوعلام صنصال إلى عشر سنوا
...
-
دعوات من فنانين عرب لأمن قطر واستقرار المنطقة
-
-الهجوم الإيراني على قاعدة العُديد مسرحية استعراضية- - مقال
...
-
ميادة الحناوي وأصالة في مهرجان -جرش للثقافة والفنون-.. الإعل
...
-
صدر حديثا : كتاب إبداعات منداوية 13
-
لماذا يفضل صناع السينما بناء مدن بدلا من التصوير في الشارع؟
...
-
ميسلون فاخر.. روائية عراقية تُنقّب عن الهوية في عوالم الغربة
...
-
مركز الاتصال الحكومي: وزارة الثقافة تُعزّز الهوية الوطنية وت
...
-
التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي
-
يتصدر عمليات البحث الأولى! .. فيلم مشروع أكس وأعلى الإيردات
...
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|