|
حركة التاريخ
محمود كرم
الحوار المتمدن-العدد: 1424 - 2006 / 1 / 8 - 10:27
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لـيـس خـافـيـا ً عـلـى أحـد أن الـكـثـيـر مـن الأيـديـولـوجـيـات الـقـومـيـة قـد سـقـطـت ولـم تـعـد لـهـا الـبـريـق الـنـظـري و( الـثـوري ) كـمـا كـانـت سـابـقـا ً وتـلـقـت ضـربـة مـوجـعـة فـي صـمـيـم هـويـتـهـا الـتـي تـمـزقـت وتـآكـلـت مـن الـداخـل وأصـبـحـت ضـربـا ً مـن الأوهـام خـاصـة ً بـعـد كـارثـة احـتـلال حـكـم الـبـعـث الـبـائـد لـدولـة الـكـويـت وكـان تـهـاوي حـكـم الاسـتـبـداد والـغـطـرسـة الـشـوفـيـنـيـة الـقـومـيـة فـي بـغـداد الـمـسـمـار الأخـيـر فـي نـعــش أيـديـولـوجـيـا الـتـوحـش الـعـروبـيـة ..
ويـنـطـبـق الأمـر كـذلك بـصـورةٍ كـبـيـرة عـلـى الأيـديـولـوجـيـات الأصـولـيـة الـديـنـيـة ذات الـمـنـحـى الـسـلـفـي الـتـي أخـذت فـي الـتـهـالـك ولـم تـعـد تـغـري أحـدا ً فـي الـدفـاع عـنـهـا عـلاوة ً عـلـى فـشـلـهـا الـذريـع فـي عـدم قـدرتـهـا عـلـى اقـنـاع الـنـاس بـضـرورة تـبـنـي مـشـاريـعـهـا الـسـيـاسـيـة والـثـقـافـيـة وخـاصـة ً بـعـد أحـداث 11 سـبـتـمـبـر ..
مـَن كـان يـتـصـور أن الآلاف مـن الـشـبـاب والـشـابـات يـنـزلـون الـسـاحـات الـعـامـة فـي بـيـروت بـعـد حـادثـة اغـتـيـال ( رفـيـق الـحـريـري ) لـيـعـلـنـوا عـن اشـمـئـزازهـم ورفـضـهـم للأيـدلـوجـيـات الـقـومـيـة الـعـروبـيـة وكـل الـشـعـارات الـمـرافـقـة لـهـا وتـصـمـيـمـهـم عـلـى الـتـخـلـي عـنـهـا لأنـهـا كـانـت الـسـبـب فـي دمـار لـبـنـان وجـرّهِ قـسـرا ً لـدفـع فـاتـورة الـصـراعـات الـعـربـيـة الإسـرائـيـلـيـة وبـاقـي الـصـراعـات الـعـربـيـة الـعـربـيـة نـقـدا ً وتـقـسـيـطـا ً ..
وكـذلك الأمـر بـالـنـسـبـة للـشـعـب الـعـراقـي الـذي لـم يـعـد يـكـتـرث عـلـى الاطـلاق بـاسـتـحـضـار أيـديـولـوجـيـا الـفـكـر الـعـروبـي والـذي ذاق مـرارتـه عـلـى مـدى ثـلاثـة عـقـود مـتـتـالـيـة مـن حـكـم حـزب الـبـعـث فـكـان أن تـوثـب الـعـراقـيـون للـمـضـى فـي صـنـاعـة مـسـتـقـبـل الـعـراق الـجـديـد عـبـر بـوابـات الـديـمـوقـراطـيـة والـحـريـات والـحـداثـة الـسـيـاسـيـة رغـم كـل الـمـعـوقـات والـعـراقـيـل الـتـي يـضـعـهـا فـي طـريـقـه أعـداء الـحـيـاة والإنـسـانـيـة إلـى درجـة أن قـال الـشـاعـر ( عـلاء الـجـويـهـل ) مـعـبـرا ً عـن حـالـة الـعـراق الـيـوم :
( في العراق علّمنا الله أن نضمد جراحنا ليس لنشفى بل لنهيأ في الجسد مساحة لجرح آخر(
ولـكـن رغـم كـل ذلـك أقـبـل الـشـعـب الـعـراقـي عـلـى الاسـتـفـتـاء عـلـى الـدسـتـور الـجـديـد وكـل أشـكـال الـحـيـاة الـمـعـاصـرة بـروحـيـة الـواثـق مـن عـدم جـدوائـيـة اجـتـرار كـل مـا يـمـت إلـى الـحـقـبـة الـقـومـيـة الـسـابـقـة ونـظـريـاتـهـا الـمـوبـوءة ..
ولـم تـكـن الأصـولـيـات الـديـنـيـة الـتـفـجـيـريـة الـمـسـكـونـة بـأحـلام الـخـلافـة الإسـلامـيـة بـمـنـأى عـن حـتـمـيـة الانـحـسـار والـتـفـتـت والـهـلاك عـلـى كـافـة الأصـعـدة ..
فـعـلاوة عـلـى تـصـمـيـم أمـريـكـا والـعـالـم الـغـربـي عـلـى مـحـاربـتـهـا وتـجـفـيـف مـنـابـعـهـا الـمـالـيـة وضـربـهـا فـي أكـثـر مـن مـكـان مـن الـعـالـم تـدافـعـت الـحـكـومـات الـعـربـيـة أيـضـا ً لـمـحـاربـتـهـا وتـطـويـقـهـا ومـلاحـقـتـهـا فـي كـل مـكـان ومـا شـاهـدنـاه فـي الـممـلـكـة الـعـربـيـة الـسـعـوديـة عـلـى سـبـيـل الـمـثـال مـن حـربٍ شـرسـة عـلـى قـوى الـعـنـف الـديـنـي الـدمـوي ووقـوف الـشـعـب الـسـعـودي بـجـمـيـع فـئـاتـه مـع الاجـراءات الـحـكـومـيـة يـبـرهـن عـلـى أن تـلك الأصـولـيـات الـديـنـيـة لـم تـعـد مـرغـوبـة ولـم تـعـد تـلـقـى الـقـبـول والـتـأيـيـد كـمـا كـانـت فـي الـسـابـق ..
وقـد يـجـعـلـنـا ذلك نـسـتـشـف شـيـئـا ً فـي غايـة الأهـمـيـة يـتـعـلـق بـأن الـتـاريـخ قـد يـصـل بـه الـحـد فـي مـرحـلـةٍ مـن حـركـتـه الـدائـمـة لـكـي يـعـلـن عـن رفـضـه الـكـامـل لـتـلك الأيـديـولـوجـيـات الـمـقـيـتـة ولـفـظـهِ لـهـا وعـدم اسـتـيـعـاب حـراكـهـا الـفـكـري والـثـقـافـي فـي مـنـاحـي الـحـيـاة والـواقـع وعـدم قـبـول تـطـلـعـاتـهـا الـمـحـكـومـة بـانـسـدادات الـمـاضـي للـحـاضـر والـمـسـتـقـبـل ..
وقـد أكـون مـتـفـائـلا ً بـتـلك الـنـتـيـجـة الـحـتـمـيـة لـتـلك الأيـديـولـوجـبـات الـقـومـيـة والـديـنـيـة إلـى الـحـد الـذي سـيـخـطـئـنـي الـتـاريـخ فـي حـركـتـه الـمـتـعـاقـبـة وقـد يـسـنـدنـي حـدسـي بـقـدرة الـتـاريـخ عـلـى تـجـاوز هـذه الـمـرحـلـة الـقـاتـمـة مـن واقـعـنـا الـمـعـاصـر ..
وكـمـا أن الـزمـن يـخـبـرنـا أنـه دائـم الـتـغـيـيـر والـتـشـكـل والـتـحـول ولا يـسـيـر إلـى الـوراء أبـدا ً ولا يـمـكـن رهـنـه لـنـمـطٍ مـعـيـن مـن الـفـكـر والأيـديـولـوجـيـا فـأن الـتـاريـخ هـو الآخـر عـبـر حـركـتـه فـي نـسـيـج الـمـجـتـمـعـات يـُـعـلـن عـن تـكـذيـبـه ورفـضـه فـي نـهايـة الـمـطـاف لـمـنـطـقـيـة الأيـديـولـوجـيـات الـعـدائـيـة للـحـيـاة والإنـسـانـيـة فـي الاسـتـمـرار والـبـقـاء عـلـى قـيـد الـحـاضـر والـمـسـتـقـبـل ..
وكـمـا أن الإنـسـان لا يـولـد إلا وأنـه سـرعـان مـا يـكـبـر ولا يـكـبـر إلا وأنـه يـتـعـلـم ولا يـتـعـلـم إلا وأنـه يـكـابـد ولا يـكـابـد إلا وأنـه يـسـمـع ويـنـظـر ويـحـس ويـتـحـرك فـكـذلك الـتـاريـخ يـجـري مـع الإنسـان فـي نـسـق ٍ مـتـواز ٍ مـن حـركـة الـحـيـاة ومـعـانـيـهـا الـكـثـيـرة وتـجـلـيـاتـهـا الـكـبـيـرة ..
وكـمـا قـال أحـد الـمـفـكـريـن : ( إن التاريخ ليس شيئا ً يكتب مرة واحدة ، بل هو مادة تكتب مئات المرات .. )
وفـي ذلـك إشـارة واضـحـة إلـى أن الـتـاريـخ لـيـس مـتـحـفـا ً أثـريـا ً نـزوره مـرة واحـدة ونـبـقـى فـيـه إلـى الأبـد لـيـحـتـفـظ بـمـتـحـفـيـتـهِ الـمـطـلـقـة عـلـى مـدار الـزمـن بـل أنـه يـُـكـتـب مـئـات الـمـرات لأنـه دائـم الـحـركـة ودائـم الـتـغـيـيـر ودائـم الـمـواصـلـة فـي تـجـلـي الأحـداث واسـتـنـطـاق الأفـكـار والـنـظـريـات والـرؤى ..
وكـمـا أن مـَن يـسـمـع أخـفـت الأصـوات ويـنـظـر أبـعـد الأشـيـاء لا بـد وأنـه يـتـعـلـم ومـسـافـات الـحـيـاة هـي مـسـافـات الـنـمـو وسـاحـات الـحـيـاة هـي سـاحـات الـصـراع وفـيـهـا يـسـقـط مـَن يـسـقـط وفـيـهـا يـنـجـو مـَن يـنـجـو فـأن الـتـاريـخ هـو الآخـر مـلـيـيء بـالأصـوات والأشـيـاء والـمـسـافـات والـسـاحـات والـفـراغـات لـذلك فـهـو يـُخـبـرنـا عـلـى الـدوام بـتـأثـيـراتـه ومـؤثـراتـه وتـعـاقـبـاتـه وأحـكـامـه وحـتـمـيـاتـه الـمـنـطـقـيـة ..
وكـمـا أن الـتـاريـخ فـي مـرحـلـةٍٍ مـن حـركـتـه الـدؤوبـة قـد ضـاق ذرعـا ً بـهـتـلـر ومـوسـيـلـيـنـي وشـاوسـيـسـكـو فـقـد ضـاق ذرعـا ً بـالـطـاغـيـة صـدام ووجـدنـاه وراء الأقـفـاص عـاريـا ً لا يـجـد مـا يـسـتـر بـه ثـقـوبـه الـسـوداء غـيـر أمـجـاده الـزائـفـة والـيـوم أيـضـا ً يـخـبـرنـا الـتـاريـخ بـتـشـبـعـهِ حـد الـضـجـر والامـتـلاء مـن كـل الأنـمـاط الـسـيـاسـيـة والـثـقـافـيـة الـتـي تـسـيـر عـكـس طـبـيـعـة الـحـيـاة وروح الـعـصـر ومـفـاهـيـم الـحـداثـة ..
ومـا حـدث للأيـديـولـوجـيـا الـقـومـيـة الـشـوفـيـنـيـة مـن سـقـوطٍ مـريـع فـي الـعـراق ومـا حـدث للأيـديـولـوجـيـات الأصـولـيـة الـديـنـيـة مـن فـشـل ٍ ذريـع فـي الإمـسـاك بـزمـام الـحـيـاة والـعـصـر ومـا سـيـحـدث للـبـنـان وسـوريـا بـعـد أن عـصـفـت بـهـمـا ريـاح حـادثـة اغـتـيـال الـحـريـري يـؤكـد عـلـى أن هـذه الـدول قـد دخـلـت حـركـة الـتـاريـخ ولـيـسـت بـمـنـأى عـن حـتـمـيـاتـه ومـنـطـقـيـة اسـتـمـراره الـدائـم فـي الـتـغـيـّـر والـتـحـول ..
#محمود_كرم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حدَثَ في لندن
-
الآخر هو أنا
-
أيها العابرون مهلا ً
-
ثقافة التلقين الديني
-
اشتهاءات الحلم
-
الانتماء للوطن وليس للأوهام
-
استبداد الصورة
-
الطغاة .. ذاكرة الماضي القبيح
-
جبران تويني في دروب الضوء والنهار
-
الشتاء وصديقتي والحزن
-
اللاعنفيون رومانسيون حقيقيون
-
ثقافة الأمنيات
-
الهويات القاتلة
-
الفكر الحر
المزيد.....
-
سترة منفوخة في اليابان ستجعلك تنام بأي مكان
-
أجمل إطلالة حمّام في العالم؟ هذا ما ينتظرك داخل فندق معلّق ع
...
-
على الخريطة.. المواقع المستهدفة في إيران وإسرائيل
-
صراع إيران وإسرائيل.. نائب الرئيس الأمريكي يوضح ما يدور بذهن
...
-
معضلة إسرائيل في فوردو.. ماذا يعيقها في هجوم برنامج إيران ال
...
-
الأولى موجودة والثانية بطريقها للشرق الأوسط.. ماذا نعلم عن ا
...
-
الإمارات.. توجيه من محمد بن زايد للتعامل مع الإيرانيين ممن ت
...
-
لماذا فشلت القبة الحديدية في اعتراض الصواريخ الإيرانية؟
-
نشأة الكون – دراسة جديدة تُشكك في نظرية الانفجار العظيم
-
تصعيد بين إسرائيل وإيران وسط دعوة أمريكية لطهران بالاستسلام
...
المزيد.....
-
كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف
/ اكرم طربوش
-
كذبة الناسخ والمنسوخ
/ اكرم طربوش
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|