أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يعقوب زامل الربيعي - سفر على ذمة الدوران ..















المزيد.....

سفر على ذمة الدوران ..


يعقوب زامل الربيعي

الحوار المتمدن-العدد: 5317 - 2016 / 10 / 18 - 11:27
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة
.................
مذ ولدته أمه " شنينة "، سمته قابلة المحلة " عبد الواحد "، لكنه حين شب على رأسه وزنديه، كره أن يكون عبداً لهذا الواحد، صمم أن يشيع بين أهله وبين أقرانه والجيران، أسمه الجديد "واحد". بعد فترة ليست بالقصيرة تعود الكل أن يسموه " واحد ". على أن " شنينة " التي ولدته سريعا بأذن ربه، ظلت في سرها المكبوت تناديه " وحَيّد ". كانت تخاف عليه من بطش الواحد الأحد وهو الضعيف البنية المصاب بعدد العلل التي رافقت جسده حتى مماته.
الغريب في هذا " الواحد "، شهيته العجيبة لالتهام قطع " الطابك " المحشو بالزوري(*)، أو على صيد الجراد المنتشر في بلدته الصغيرة المليئة بالحشرات والزواحف. في موسم الحصاد أو قبل نمو واكتمال السنابل عندما يتكاثر الجراد، كان " واحد " يصيد يوميا ما يكفي من هذه الحشرات القارضة ليبدل حشو الطابك بلحم وعظام الجراد وليس بالزوري. كان " المُكن " وهو ما اصطلح على الجراد الأخضر اللون تسميتة بين عامة الناس أشهى وألذ " لواحد " وحتى لكثير من أهالي الريف. على أن " واحد" كان من الصفوة التي تشتهي " المُكن " بطريقة غير عادية بدلا من الزوري. وكانت " شنينة " تساعده في أغلب الأوقات باصطياد هذا القافز القارض ذو السيقان الصلبة الطويلة والأجنحة الخشنة.
عندما كبر واختط شاربه، وقل وجود الجراد والمكن، لأسباب يجهلها، تحول إلى صياد للحمام البري والعصافير والزرازير التي يستغفلها ويستدرجها بحبات الدخن والشعير وغالبا بكرات فتات الخبز حين تحط لتدخل شباكه الصغيرة المنصوبة على أرض دارهم الطينية.
أنه لصعب وعسير معرفة دخيلة صائد الجراد، وما يختزن داخل هذه النحافة الهزيلة المزودة بما يغري من مواطن الغرابة في داخل رأسه. التوغل فيه كما استنباط شَعُبٍ قاسٍ محاطاً بالأسرار وبزهوٍ شديد النفور لما فيه من كثافة عشب بري.
كان مع شدة ولعه بالأشياء الدقيقة والخفية على تفكير أقرانه، كسولا جدا، محبا للنوم حتى ساعة متأخرة من النهار. فقد كان يشق أنفاس زوجته وأبنه الوحيد طوال الليل برواية ما يبلل خاطره زما تركت الحياة من حفر بروحه. تتدلى ذكريات الأعوام الماضية خيطاناً فينحدر بفم باسم وعينين تلطم سماء الماضي، يشرع بسرد حكاية وكانها لا تنتهي. ينقل الخطى بين قفر وقفر. بين جنس عريق ومأثرة. على انه لم يكن ينسى كيف كانت أمه "شنينة" تقضي وقتاً طويلاً عند وسادته، وهي ترجل شعر رأسه وتمسد وجهه تناديه بصوت خافت وشفيف
ــ " يمّه يا واحد . أكعد يمه، الدنيا الظهر". عبد الواحد حتى لو مّن عليها بهمهة أو بكلمة زاجرة. تروح تعيد الكرة بنفس طيبة:
ــ يمه واحد، أكعد يا بعد روحي. هذه ريوكك يم راسك. خبز حار وجايك مخيوط.
ويبرد الشاي كثيراً . وتروح " شنينة " من جديد لتسخن الشاي على نار الموقد الطيني. ومن جديد تسكبه في استكان " واحد " الخاص المذهب الجميل الذي اشترته، دون مساومة على سعره، كما اعتادت، من أحد الباعة في " الكاظمية " عند زيارتها للإمام الكاظم. ومن ثمة تروح " تخوط " بملعقة خاصة بالضيوف. تذيب السكر ليصبح حلواً.
ــ يمه واحد، حار ومخيوط . أكعد يا بعد أمك.
الجدار الطيني يهتز، أما " واحد " فلا يهتز لنداء " شنينة " وحين تحس باليأس، تجرب كذبة صغيرة من كذباتها البيضاء:
ــ واحد.. يمه أكعد.. الشبج صاد حميّمة .. يمه بالشبج فختيه .
عندها ينتفض " واحد " كالملسوع. يرفس الإزار الصوفي الملوّن. يستقبل مكان الشباك في باحة الدار. وعندما لا يجد لا حمامة ولا فاختة ولا حتى عصفور، يروح يشتم أبو شنينة وأحيانا يجدف بشتم الإله. فتخف شنينة نحوه ضاحكة لتصالحه بكلمات تمس قلبه بالحنان والشفقة. ليعود للغرفة يتناول فطوره البارد والشاي البارد المخيوط.
لم يكن يشعر أو يحس بأي ما ضغينة أو أنه كان يقصد التعسف، عندما أشار المحقق بأصبع الاتهام إليه. لكنه كان يشعر بأنه يعطيه نوع من الأولوية لما سيقوله بحضرة الموجودين في تلك الغرفة المعتمة. حتى حين أشار ببعض من كلمات نحو الرجل الذي أسند ظهره على مسند كرسييه، لم تكن تلك الأصبع ثابتة كمن ينبغي لمن يريد أن يقول شيئا ذا أهمية. ومع شعوره بتورط صاحبه بأكثر من انعكاس غير واضح لشخصية موسوعية لمثل رجل يسمي نفسه " واحد " في سرده لقصص أعتقد المحقق أنها غير حقيقية كما يعتقد الآخرين عداه، شعر أيضا أنه أستعجل بتلك الفكرة التي لم تتبلور بعد.
ــ لم أفعل له شيئا. كل ما في الامر أنني التصقت بسبب الزحمة.
ثم فجأة يتذكر، بعد ان حاول أن يتناسى ، كيف أنه كان يرافق في كل مرة أبنه لمحطة القطار وهو مسافرا نحو الحرب الازلية، يشير على أبنه:
" روح أحجز لك مكان في أحدى القاطرات، وأنا سأتكفل بقطع تذكرة لك ".
وكيف كان شديد الحماس أن يندس بين كتل الجنود. يزيح اللحوم والعضل والروائح المكتظة، ليقطع تذكرة لصبيه الذي أكتمل شاربه بين الشظايا وشقوق الموت. عندما يتذكر تلك الأيام وكيف جيء بأبنه يوماً في تابوت خشبي ملفوفا بعلم قاني الألوان، كان يسقط مغشياً عليه بدموع جافة كأنها التيزاب. لكنه عندما فقد زوجته بعد أشهر برحيلها المفاجئ، وتركته وحيداً، نسي التيزاب والتضرع ومبغاتة الشقوق التي تمس عضل القلب والأوداج. لم يتبق في ذاكرته سوى اللجام الضيق الذي ما زال يشق فمه.
... وعندما تبدو السواحل أبدية يمعن النظر إليها وكـأنه ينظر إليها من ربو عالية. بالأمس، عندما كان يرتعش من شدة البرد، وهو يجوس الطرقات المتعرجة باحثا عن ثمة مقهى قد يجد الدفء فيها. طوال سيره المتسرع، تناهت لأنفه رائحة حساء متبل بالبهار والبصل المقلي، حينها تذكر أمه التي كانت تقدم مثل هذا في فطوره صباحا، واحيانا عشاء في الليل. لم ينم طوال الليل سوى بضعة ساعة لم تكن مريحة. الشرطي الذي ظل يتابع وجوه الموقفين أكثر أوقات النهار وحتى في الليل، خيل له أن هذا المسمى " واحد " ربما كان يعرفه من قبل. وقد يكون أبناً لأحد الذين كان يسكنون ذات قريته القديمة.
كل ما في الأمر أن " واحد " امتلأت قامته في ذلك اليوم، وهو محشور في باحة محطة القطار بين حشد جنود ملتصقين بعضهم ببعض، بأسوأ الهواجس. لكل من المحتشدين كانت وصمة ضعف ، أو ثلمة ، تقع في زاوية من ذاكرته، تظهر أحيانا بوضوح حين يواجه المرء سياق سلوكي يحدث مصادفة داخل قضية تواجهه في موقف ذا خصوصية اخلاقية على وجه التحديد.
كان " واحد " كلما تذكر جرأته النافذة، في موقف ما، تملكه شعور بالضخامة المفرطة، ومن احساس بأنه خارج سيطرة القمع والاستبداد الذي يعاني منه الكثيرين. هذا حين يكون وسط حشد ما، أو لحظة ينفرد بشخص ما يختاره أحيانا بعناية. هذا ما وجد نفسه فيه وهو في بناية حجز التذاكر في محطة القطار النازل للبصرة ، أو الصاعد للموصل، وهكذا شاء أو لم يشأ حشر نفسه داخل نسق الضعف والشفقة ، وكان وهو داخل تركيب باهظ، يجعله الشخص الوحيد، بلا صبر وغالبا ضحية لنفس نحسة، مستعجلاً للعثور على الشخص المختلف من بين حشد متشابه في الملابس والضيق والهم للحصول على فرصته لقطع تذكرة قبل غيره ولحجز مكانه داخل آخر قطار لرحلة الساعة العاشرة ليلا.
في تلك الساعة وهو بين أوانٍ وأباريق بشرية بلون كاكي واحد، تلفح وجوههم سمرة الصيف والحرب وفوضى احساسهم بأنهم جزء ما على مائدة الحرب الآكلة، التي أريد لها أن لا تموت، إنما عزو قدر كان يمتلك سبة الآكل والمأكول بقى هو من يتحرك بين حزمة الحشد المتصلب.
أحايين، ما كانت غير جذور تتصل ببعضها، صبغة بلا حذر تتموج، تتحرك وحيدة أليمة. تتسلط لتبلغ ذروتها، وعبر فورانها المحموم كما زبد الماء تغطي خضرة الملوحة، ضائعة كما ديجور داخل قعر قبو، ترتد، ترتج، وقبل موتها، تترك ذاكرتها على سطح الماء.
عندما أعاد ضابط الشرطة سؤاله أكثر من مرة على المدعو " واحد " كان هو لا ينفك يجيب في تأكيد ثابت مرددا الحقيقة التي لا يعرفها غيره:
ــ ماذا كنت تفعل في محطة القطار؟
ــ كنت مسافراً
ــ إلى أين؟
لا أدري.
ــ لماذا؟
ــ هكذا تعودت
ــ لماذا؟
ــ لا أدري. أنا فقط أسافر.
مذ فقد أبنه في حرب الأعوام الثمانية، ولحقت به زوجته العليلة، وبقي وحيداً، أستنسخ جسدا مغلقاً بلون التوحد. ومع رائحة الروث والعاقول وخبز " الطابك " المحشو بالمُكن الأخضر أو بزفر الحرش، كان يتشمم على الدوام المعتقدات الاسطورية وعادات الشياطين. لهذا تعود على الاقلاع مقنعا نحو محطات القطارات التي تكون عادة مليئة بالجنود الملتحقين بالحرب الآلية المتدحرجة. هناك يطلق " واحد " فجوة مزدهرة من بين ثناياه، يباغت فيها تصلب آليتين من بين أليات جنود المحطة. وفي سخاء يروح يدفع تيه احلامه بينهما. ثمة حساسية من أجلال مباغت تشده للدانة نجمة قطبية، طرية كما الرذاذ المعطر غب المطر. بعدها يرتقي قاطرة بلا تعيين، وأحيانا بوجه مرضوض مدمى من أحدهم مع ثلة من الجنود يشبعونه أثلاما وايلاما وذنوباً، ينسل بعدها خضيبا مكلوماً، حيث يجد له مكاناً في الحضور الوحيد.
العجلات ، كانت دائماً، تدور به على المدن والقصبات والمحاري القاحلة، كأنها حفيف أجنحة، تفتق فيه اللحظات الباهرة مرة، ومرة، كما يدٍ سوداء تحتضنه من رمل تلويه لتلقي به في حجيرات لا قعور لها ولا سقوف.
أعتاد أن يمتطي حصانه الحديدي، دائم الترحال، ينصهر فيه كما حيوان بخياشيم وألسنة وقوادم وسروج، للاتصال بوحيه الغابي، ثم يعود في اليوم التالي إلى جرابه الضيق. حيث غرفته المعتمة، يلوذ بها من الراسخ الثابت المليء بالطناطل والسعالى. هكذا أفاد في آخر تحقيق معه، وبعد أن تأكد لضابط التحقيق، أن هذا المدعو " واحد " ليس غير مجنون، وبعد أن تنازل الجندي الشاب عن دعواه شفقة منه على رجل غامض بكل المعنى، لذا أمر بإطلاق سراحه إن لم يكن محكوم بجريمة أخرى. على أن ما حيّر ضابط التحقيق وكاتب ضبط الإفادة بعدها، أنهما حين فتشا جيوبه قبل اطلاق سراحه، عثورهما على تذاكر سفر بتواريخ لسنين غير معاشة بتاتاً، وعلى قطارات لم تكن موجودة في هذه الايام.
.............
(*) الطابك: نوع من الخبز من عجين الرز ثخين الحجم يشوى على جمر أقراص الروث المجفف من تحت ومن فوق غالبا ما يحشى " بالزوري " أي اصبعيات السمك الصغيرة.



#يعقوب_زامل_الربيعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لمأوى البحار، تعال.
- لرسو الأنواء...
- أعرني مجاورتي !..
- البحيرة ...
- الرتيلا..
- الشفق...
- حقول الرغبة..
- ...وبمغبر ثيابي..
- صانع الفراشات الشمعية..
- سماء زرقاء ، وكوكبنا...
- المغزى .. بداية!
- آ آ آخ...
- بانتظار من سيأتي..
- قطرة على مجسات يدي..
- مساحة لحقول المتطلبات..
- لعري تنفسه، جُلدكَ...
- أنا وأنتِ بعضها..
- جوانب من شرفات الاجنحة..
- المتوالي المفقود..
- لو أنت وحدكَ تجيءُ


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يعقوب زامل الربيعي - سفر على ذمة الدوران ..