بدو سيناء: ما أشبه اليوم بالبارحة

محفوظ أبو كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 5301 - 2016 / 10 / 1 - 14:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

حفظنا مما درسناه في مادة التاريخ ان خيانة العربان كانت من أهم أسباب هزيمة قوات عرابي واستسلامه للبريطانيين، في موقعة التل الكبير عام 1882. ولم نعرف كيف ولماذا خان الأعراب الثورة العرابية إلى أن وقعت في يدي مذكرات الرحالة د. إدوارد هنرى بالمر أستاذ اللغة العربية فى جامعة كامبريدج حينذاك، والخبير في قبائل بدو سيناء حيث عاش بينهم حين كان يجوبها لإتمام دراساته الميدانية واشتهر لديهم باسم « الشيخ عبد الله». وعندما قررت بريطانيا غزو مصر والقضاء على الثورة العرابية، كان أحد محاور الغزو منطقة القناة، لذا عملت بريطانيا على تجنيد قبائل سيناء لحسابها. وفي منتصف يونيو 1882 أوفدت وزارة الحرب البريطانية بالمر لتمهيد الطريق ، وحددت له المهام التالية : ضمان عدم تعرض البدو للجنود البريطانيين أثناء اجتيازهم القناة والصحراء - الحيلولة دون انضمام القبائل إلى ثورة عرابى - إتلاف خطوط الإتصالات لإعاقة اتصال عرابي بقواته وأعوانه - ضمان انضمام القبائل لصف بريطانيا اذا احتاجتهم تطورات المعارك. وقد ذكر بالمر في مذكراته أنه وصل إلى غزة فى 15 يوليو وكان يحمل فى جيبه رسالة توصية من الخديو توفيق موجهة إلى موظفى الدولة فى بور سعيد والقنال وسيناء، توصيهم باطاعة أوامره ومساعدته بلا تحفظ، وبدأ بتقديم الرشاوى على مدى واسع بين قبائل البدو فى شرق القناة، وكانت لها أثر فعال فى تنفيذ المطلوب منه، وقام بزيارة أصدقائه من قبيلتي التياها والترابين بعد غياب عشر سنوات. كتب بالمر حوادث رحلته فى مفكرته التي عُثر عليها بعد مقتله بسيناء.
ومضى يسرد فى مذكراته: «اننى أعرف الآن كيف يمكن الوصول إلى أي شيخ من مشايخ البدو فى الصحراء . وقد تمكنت من جعل قبيلة التياها – وهى أشجع القبائل وأكثرها درايه بشئون الحرب – طوع أمري . لقد نجحت فى مهمتي أيما نجاح، ففي يوم 18 يوليو قابلت هنا شيخ العرب الكبير و تمكنت من إقناعه، وفى اليوم التالى التقيت ببعض الرجال الذين كان عرابى باشا يسعى لاستمالتهم إلى جانبه، وقد نجحت فى استمالتهم إلينا، فى 22 يوليو عرفت بأن عرابى باشا استطاع أن يضم إليه 2000 فارس من البدو وأنه جاء بهم إلى معسكره فى القنال، و لكنهم سيرجعون متى بدأ القتال لأن رجالي يعرفونهم حق المعرفة، وتحوطاً من ألا ينسحبوا، تم تخصيص عشرة آلاف من رجال التياها والترابين لطردهم . ونظرا لأننى وعدت شيخ العرب بمنحه 500 جنيه، فأنا واثق أنه سيفعل كل ما أكلفه به"
‎كان بالمر قد انطلق من غزة إلى جنوب رفح ثم إلى وسط الصحراء ، التقى بعدد كبير من البدو ، قدم اليهم مالا كثيرا لكى يقوموا ضد عرابى إذا حاول وقف الملاحة بالقناة . وقد كتب فى مذكرته فى يوم 20 يوليو: " عقدت اتفاقا مع الشيخ الذى يأمر كل العرب في هذه المنطقة، تعهد بحماية القناة ضد عرابى لو اننى أخرجت له ثلاثة شيوخ من السجن، وقد أرسلت لسفيرنا فى القسطنطينية لينفذ ذلك". واصل بالمر طريقه فى سيناء متنقلا بين القبائل والعربان حتى وصل إلى عيون موسى القريبة من السويس ليلتقي على ظهر باخرة بريطانية فى خليج السويس فجر يوم 12 أغسطس 1882. بعدد من الضباط بحضور رجل المخابرات الكابتن جيل، وأُعطيت له الأوامر ليعود إلى الصحراء مرة أخرى وزود بمبلغ 20 ألف جنيه استرليني لينفق على قطع خطوط التلغرا ف وتأليب قبائل سيناء على عرابي .
انطلق بالمر فى مهمته، ولكنه ما إن وصل ومرافقيه إلى وادى سدر حتى انقض عليهم جماعة من اللصوص بتدبير بعض معاونيه البدو، قتلوه وسرقوا المال…. أوفدت وزارة الحربية البريطانية بعد انتهاء الحرب بعثة عسكرية إلى سيناء للتحقيق فيما حدث ومعرفة مكان رفات بالمر ورفاقه. وتمكنت البعثة بالتعاون مع شيوخ القبائل من القبض على القتلة والشهود ومعرفة مكان رفات بالمر ورفاقه، في شهر نوفمبر من نفس العام، رُحِّل المتهمين إلى الإسكندرية حيث قدموا إلى محكمة عسكرية خاصة قضت على 11 رجلا بالإعدام، وعلى 13 بالسجن مددا مختلفة، وتمت مصادرة أملاكهم وجميع أملاك قبائلهم من عقار وماشية ونخيل وأغنام، ‎ونفذ حكم الإعدام شنقا يوم الأربعاء 28 فبراير 1883 فى ساحة مديرية الشرقية بالزقازيق على مشهد من مشايخ قبائل البدو. وجرى إخراج رفات بالمر- وقد عثر بينها على مذكراته- ونُقلت إلى لندن فى 16 مارس 1883 ودُفنت فى كنيسة سانت بول. ولا يزال شاهد قبر بالمر موجوداً حتى هذه اللحظة هناك وعليه رثاؤه ورثاء رفاقه ( لما قدمه لبريطانيا وخدمة الملكة والشعب البريطاني). حقا قدم إدوارد هنرى بالمر الكثير لبريطانيا. فقد أثمرت جهوده عن: قيام القبائل بتضليل عرابي وإهامه بأنهم سيمنعون القوات البريطانية من استخدام القناة، مما دفعه للتخلي عن تعطيل الملاحة بها - كما أسفرت عن قيام القبائل بتأمين وتسهيل تحركات القوات البريطانية قبل وأثناء موقعة التل الكبير- كما تم تنفيذ خطة قطع خطوط التلغراف - نجاح الترتيب القاضي بانسحاب القبائل ليلة المعركة، مما مكن القوات البريطانية من تحقيق نصر حاسم سريع على قوات عرابي في الموقعة.

#محفوظ_أبو_كيلة (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات