أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - نبيل عودة - يوميات نصراوي: ذاكرة مبعثرة ... أيام مع سالم جبران -2















المزيد.....


يوميات نصراوي: ذاكرة مبعثرة ... أيام مع سالم جبران -2


نبيل عودة
كاتب وباحث

(Nabeel Oudeh)


الحوار المتمدن-العدد: 5262 - 2016 / 8 / 22 - 17:09
المحور: سيرة ذاتية
    


يوميات نصراوي: ذاكرة مبعثرة ... أيام مع سالم جبران -2

نبيــل عــودة

ارتباطي الفكري ، السياسي والثقافي والاعلامي الواسع مع سالم جبران بدأ منذ عام 1962 حين كنت طالبا في ثانوية اورط – عمال الصناعية في الناصرة .
كانت مدرسة جديدة.. كنت من طلاب الفوج المدرسي الأول. كان في المدرسة قسمان، قسم لتدريس مهنة الحدادة وقسم لتدريس مهنة النجارة.
كنت من طلاب قسم الحدادة، من منطلق أني من بيت نجارين ، جدي وأعمامي ووالدي، وأنا إلى حد كبير أتقن المهنة بالوراثة والممارسة أيضا.. فاخترت ان اكسر طابو النجارة... اخترت الحدادة حبا بالعمل على الماكينات خاصة، اللحام الكهربائي، المخارط ، المقاشط ماكينات الفرز وغيرها من الماكينات التي لا اعرف كيف اسميها باللغة العربية.. طبعا الى جانب المواد النظرية مثل الفيزياء، الرياضيات، اللغات، التكنولوجيا، الرسم الفني وغير ذلك من المواضيع التي لا يمكن لإنسان معاصر ان يتقدم في الحياة بدون ان يلم بها.
كان من المفروض ان نبدأ العمل والتعلم على استعمال ماكينات خراطة وغيرها من الماكينات، فهي الموضوع الأساسي لحداد عصري اليوم، ولكن كوننا مدرسة عربية هي الفرع الأول من نوعها لمؤسسة إسرائيلية جل نشاطها في الوسط اليهودي، عانينا من نواقص كثيرة، أهمها ان المخارط وماكينات العمل الفني المهني للحديد لم تصل رغم بدء السنة الدراسية الثانية، أي وقتنا يضيع بدون ان نتطور مهنيا ، بغياب تطبيق عملي على الماكينات وطرق تشغيلها.
عدم وصول الماكينات والتجهيزات المختلفة قبل افتتاح السنة الدراسية الثانية، الحق بنا ضررا كبيرا، خضنا نضالا طلابيا، توجهنا لإدارة المدرسة بإنذار، توجهنا لبلدية الناصرة لمقابلة الرئيس (في فترة المرحوم سيف الدين الزعبي) ، أعلنا أيضا الإضراب عن التعليم، اتصلنا مع الصحف المعروفة، الصحيفة الوحيدة التي حضرت كانت مجلة "الغد" الشبابية الشيوعية، حضر رئيس تحريرها الشاعر سالم جبران .. وكتب وقتها ريبورتاجا مثيرا تحت عنوان :"وعدونا بالمخارط وكانوا يخرطون"
الموضوع لم ينته هنا...
عرض علينا سالم دعما حزبيا لمطالبنا ومساعدتنا في معركتنا.. ثم تطور الأمر ان لجنة الطلاب التي قادت النضال، وكنت على رأسها الى جانب صديقا العمر المرحومان سمير خطيب ورياض شحبري وعدد آخر من الطلاب بحيث وصل عددنا الى 12 او 15 طالبا... بدأنا نعقد لقاءات اسبوعية في نادي الشبيبة الشيوعية في الناصرة للاستماع إلى محاضرات ثقافية، سياسية وفكرية مختلفة، كان سالم جبران هو المحاضر، وأحيانا حضر آخرون منهم المؤرخ المرحوم د. إميل توما،الذي قدم لنا سلسلة محاضرات عن "جذور القضية الفلسطينية" وهي مواد شملها كتاب له يحمل نفس الاسم صدر فيما بعد.
انا شخصيا كنت عضوا في الشبيبة الشيوعية ثم انضم زملائي رياض شحبري وسمير خطيب وآخرون لحركة الشبيبة الشيوعية، ثم للحزب الشيوعي...
كنت كاتبا قصصيا مبتدئا نشرت عام (1962) اول عمل قصصي لي في مجلة "الجديد" الثقافية الشيوعية ( التي رأس تحريرها كما اذكر محمود درويش ثم سميح القاسم وبعده سالم جبران ) مما لفت انتباه سالم ورفاقه لي، فضمني لهيئة تحرير مجلة "الغد" وانا في الصف التاسع، لأبدأ التدرب على العمل الصحفي في مدرسة لا اعتقد ان الجامعات توفر فرصا أفضل منها لدراسة الصحافة او الإعلام نظريا وتطبيقيا.
من هنا صارت الصحافة جزءا من نبضي وتسري بدمي ...والأهم ان ارتباطي الفكري والثقافي والسياسي بدأ يتطور في اتجاهات لم تكن ضمن ما خططته لحياتي المهنية. اقول ان ذلك فتح آفاق تفكيري.
بعد الثانوية دخلت معهد الهندسة التطبيقية التخنيون لدراسة الهندسة الميكانيكية... لكن الفكر السياسي طغى على تفكيري، وبسبب نشاطي فرضت على الاقامة الجبرية في مدينتي الناصرة ومنعي من الخروج من الناصرة بدون تصريح عسكري.. ربما كنت الأصغر سنا الذين تقيد حركتهم. وكنت اضطر كل يوم احد ان اقف امام مكتب الشرطي المفوض باعطاء التصاريح للحصول على تصريح لمدة اسبوع للوصول الى عملي في حيفا، ويمنعني التصريح من البقاء في حيفا بعد الساعة الخامسة مساء. ودراستي الليلية في معهد التخنيون تبدأ بعد الخامسة مساء، فكنت اضطر للبقاء وتعريض نفسي للعقاب بالسجن والغرامات المالية.
عرض علي سكرتير الحزب الشيوعي في الناصرة آنذاك الرفيق غسان حبيب ان اسافر للدراسة السياسية في الاتحاد السوفييتي، رغم اني كنت قد طلبت السفر للدول الاشتراكية لدراسة موضوع الهندسة الميكانيكية بسبب الإقامة الجبرية المفروضة علي ..وعلل غسان حبيب طلبه بأن أدرس العلوم السياسية والفلسفة بان لي مستقبل في النشاط السياسي والثقافي والصحافي والحزب يحتاج الى إعداد كوادر جديدة لمثقفين شيوعيين. طبعا لم أفكر مرتين، وقبلت الفكرة ولست نادما .. رغم ان الدراسة وتعمقي بالنشاط السياسي، الفكري، النظري والثقافي فيما بعد، كشف لي عمق الأزمة الفكرية التي تعيشها الحركة الشيوعية عامة والحزب الشيوعي الإسرائيلي على وجه الخصوص!!
حين عدت من دراستي الجامعية في موسكو(1970) عملت لفترة محترفا حزبيا. عام (1973) استقلت من العمل الحزبي.. بعد ان اختلفت مع الحزب الشيوعي حول مستقبلي في العمل الحزبي والاعلامي ...وذهبت للعمل حدادا !!
مهنيا لم أكن مجرد عامل حدادة بسيطة، كالتي يمارسها المئات، إنما مارست مهنة تتعلق بأهم فروع العصر، إنتاج تجهيزات للصناعة النفطية ( البتروكيماوية )، بناء محطات توليد الطاقة الكهربائية، بناء منشئات تحلية مياه البحر، بناء المصانع وغيرها من الفروع الأكثر أهمية في الصناعات الفولاذية الحديثة ومجالات الإنتاج الهندسي الفني.
خلفيتي الثانوية المهنية ودراستي الهندسة لمدة سنتين مهدت لي طريق التقدم المهني، برزت فورا بقدراتي المهنية والفنية ووجدت نفسي خلال أقل من سنة مديرا لفحص جودة الإنتاج في أهم وأكبر مصانع إسرائيل (مصنع القضماني في يركا)، ثم اصبحت مديرا للعمل في شركة مقاولات كبيرة (برودني) وأنهيت حياتي المهنية مديرا للإنتاج ومديرا لمصنع متوسط الحجم. وانتدبت من شركة برودني كمدير عمل لتنفيذ مشروع بناء مصنع البلاستك في مدينة شيراز الايرانية ايام الشاه، وأشرفت كمدير مشروع على بناء خزانات ضخمة بقطر (50 – 60 متر) وارتفاع (18متر) في مدينة بوشير (تكتب بوشهر) الايرانية ، قريبا من الفرن الذري الذي كان يبنيه الألمان في ذلك الوقت، وبعد سقوط الشاه واصل السوفييت بناء الفرن الذري..
حين تقاعدت عام (2000) بعد إصابة عمل بالكتف، اختارني سالم جبران نائبا له في تحرير صحيفة "الأهالي" التي صدرت ثلات مرات في الأسبوع .. مصرا أمام صاحب الجريدة، انه على ثقة مطلقة أني أفضل من كل الصحفيين "ذوي الخبرة الطويلة" الذين تقدموا للعمل في "الأهالي"!!
******
عام (1993) كان سالم مرشحا لرئاسة قائمة الحزب الشيوعي ( الجبهة الديمقراطية) للكنيست، وحدثت مخالفات تنظيمية فظة، أسقطت سالم بطريقة لا تليق بالأخلاق الشيوعية التي اشبعونا بشعاراتها ، لكنها لا تخض المتنفذين بالقرار. استأت من الانقلاب على سالم ورأيت فيه بداية مرحلة جديدة لحزب لا استطيع ان أكون عضوا فيه...مرحلة تحول الحزب الى حزب شخص واحد. فقدمت استقالتي من الحزب والجبهة منتقدا ما جرى بحدة. أذكر ان شخصية شيوعية ، رئيس مجلس محلي مرموق ، أستاذ سابق فصل من التعليم أيام الحكم العسكري، وتبوأ مركزا قياديا في الحركة الشيوعية ، قال لي بوضوح وهو مكتئب ان "ما يجري هو تحطيم لمكانة الحزب الشيوعي وسندفع الثمن". لكن لم يتحرك احد ، ربما خوفا على مكانتهم الحزبية.
كان فهمي ان دستور الحزب يسري مفعوله على الجميع ، وقرارات هيئات الحزب لا يمكن نقضها بشكل عشوائي بعد إقرارها من هيئات يشارك فيها الأشخاص الذين اكتشفوا فجأة (بعد ان اقروها بالتصويت) أنها لا تناسبهم.
******
انتقدني سالم جبران بشدة على استقالتي من الحزب الشيوعي والجبهة (1993) ، اثر اقصائه بانقلاب يليق بالانقلابات العسكرية العربية، كان ظنه انه يمكن النضال من الداخل اذ كان محررا لصحيفة الحزب اليومية "الاتحاد" وهو عمليا المفكر البارز الوحيد في صفوف الحزب.. والناطق السياسي الوحيد والمعتمد في وسائل الإعلام العبرية والعربية، والوحيد الذي يشارك بالندوات في الوسط اليهودي، إلمامه موسوعي في مختلف المواضيع، ولغته العبرية سليمة لدرجة ان محررة لغوية لإحدى الصحف العبرية التي كان ينشر فيها مقالات بالعبرية قالت لي اثناء اشتراكها باحدى ندوات سالم انه "الكاتب الوحيد الذي لا أجد في مقالاته العبرية ما يستلزم التصحيح".
لا بد ان أوضح ان استقالتي لم تكن بسبب سالم شخصيا ، انما بسبب رفض أسلوب الانقلاب وصمت قيادة الحزب خوفا من الانشقاق كما حاولوا إقناعي وإقناع آخرين وهو من باب "عذر أقبح من ذنب"، استقالتي كانت تعبيرا عن مرحلة من المراجعات الفكرية والضميرية ، عن تطور رؤيتي الفكرية والفلسفية من مختلف المضامين الفكرية التي يدعي الحزب تمثيلها، وصلت الى قناعة اني لست مستعدا لأكون حجر شطرنج على لوحة يلعب بها المتنفذون ، الى جانب اني كنت على قناعة نظرية ان الفكر الشيوعي يعاني من ضمور وجمود فكري، طبعا كنت مستاء جدا مما برز كضعف مخجل ومريب وجبن في قيادة الحزب ومنها قيادات تاريخية.
هذا الأمر يناقض ما تثقفت عليه في صفوف اروع جامعة فكرية ونضالية حضنتني شبلا يافعا لتعطيني من زخمها الفكري واخلاقياتها الانسانية في نكران الذات والتضحية من أجل الناس ما اعتبره حتى اليوم من مقومات شخصيتي وفكري.. واعني تنظيم الشبيبة الشيوعية في فترتها الذهبية.
ارتبطت مع سالم كمثقف، اعلامي، محاضر بارع، شاعر، قائد سياسي ومفكر مبدع حتى آخر أيامه ، ظل سالم يحمل ألمه الشخصي وشعور المرارة من رفاق الدرب، ألمه لم يفارقه يوما واحدا. كنت أعيش ألمه الذي حاول إخفائه. كان رفاقه المخلصين ، من اليهود والعرب، يواصلون الاتصال به والتشاور معه وإبلاغه بما يجري، بل وتبليغه بقرارات حزبية (ليست للنشر)، وقد وصلنا ( اثناء عملنا في الأهالي عام 2004 ) من رفيق عضو مكتب سياسي، برنامج تحويل الجبهة الى حزب ( بسبب الصراع الداخلي المحتد وقتها بين قيادة الحزب وقيادة الجبهة) ففجرنا الموضوع إعلاميا رغم توجيه ضغوطات واسعة لنا ولصاحب الجريدة للامتناع عن النشر حول هذا المشروع. واعتقد ان نشرنا كان سببا قي إسقاط هذا المشروع. لم يكن سالم ينتقم، بل كثيرا ما وجه رفاقه السابقين الى المواقف الصحيحة من القضايا المطروحة داخل هيئات الحزب.
خلاف حول الاستقالة من الحزب
انتقد سالم كما أسلفت استقالتي.كانت رؤيته اني تصرفت بدون تنسيق مع أحد وهذا صحيح. بأعماق نفسه كان شيوعيا حقيقيا وأكاد أقول لا يرى نفسه خارج صفوف الحزب. كانت له أفكار جاهزة للتطبيق، كان دائما يؤكد ان الفكر والتنظيم الشيوعي يحتاج الى إنعتاق من الصياغات الجامدة، الى تجديد قوة الجذب الفكري للأجيال الصاعدة. طبعا لم يشرح تفاصيل خططه، كان له خطاب سياسي مميز حين يتحدث في الوسط اليهودي ، لا يتهاون بطرحه الوطني ، ولكن باسلوب يجعل الحضور ينصتون لكل كلمة يقولها، حتى لو رفضوا راية ، كانوا يحترمون اسلوبه وطريقة طرحه لأعقد قضايا الصراع ويثير تفكيرهم وليس رفضهم بلا وعي. كان بارعا في اختراق الحواجز السياسية في المجتمع اليهودي، كنت اعرف من مرافقتي له شعبيته الكبيرة من اكتظاظ القاعات في الوسط اليهودي حين يكون المتكلم هو سالم جبران.
الواقع الحزبي كان مؤذيا. كل ما حوله كان يتفجر بالانتهازية. حاول ان يواصل مهامه الحزبية والإعلامية لإصلاح واقع التنظيم والتثقيف كما قال لي. اختلفت معه حول نظرته، عدد من أصدقائه والمقربين له نصحوه ان ينسحب، لكنه اختار البقاء والإصلاح من الداخل. كان يشعر بالضيق من فكرة ترك الحزب. الحزب بيته الذي أعطاه سالم أفضل سنوات عمره . حرر بعد تخرجه من الثانوية مباشرة مجلة الشباب "الغد" ليجعلها نبراسا تثقيفيا تربويا تنظيميا للأجيال الشابة ، وصل توزيعها الى أرقام ضخمة جدا ، في الناصرة لوحدها كان فرع الشبيبة الشيوعية في الناصرة ( في فترة قيادتي للفرع) يبيع أكثر من 1500 نسخة من كل عدد. شارك ببرامج تثقيف مبرمجة لرفاق الحزب والشبيبة الشيوعية وتنظيم الطلاب الذي بدأنا بإنشائه في الشبيبة الشيوعية.. كتب دفاعا عن سياسات الحزب ومواقفه في منابر محلية عربية وعبرية وفي منابر خارج إسرائيل اذكر منها مجلة "فلسطين الثورة" التي كانت تصدر في قبرص. فرضت علية الإقامة الجبرية واثبات الوجود اليومي في مركز الشرطة بسبب مواقفه السياسية التي وجدت آذانا صاغية في الوسط اليهودي أيضا، وتحمله المسؤولية الفكرية والسياسية المركزية في تسويق سياسة الحزب وطريقه، في الوسطين العربي واليهودي.. قاد فرع الناصرة للحزب الشيوعي ليجعل منه فرعا منظما وبيتا لكل مثقف وطالب وأكاديمي وغيور تهمه قضايا شعبه.
أعطى للتثقيف النظري والسياسي أهمية أولى في تطوير الفرع. في فترة قيادته لفرع الناصرة تطورت رابطة الجامعيين ابناء الناصرة كجزء مكون لجبهة الناصرة، ليصل عدد أعضائها لأكثر من 700 عضو والتي قامت بنشاطات اجتماعية وثقافية وسياسية هامة، خلقت في مدينة الناصرة جوا اجتماعيا وشعبيا مريحا ونشاط ثقافي واسع ، كانت برامج رابطة الجامعيين تجذب المئات الذين تضيق بهم أكبر قاعات الناصرة.
بدأنا في إصدار مجلة ناطقة باسم الجامعيين باسم "الطريق"، ترأست أنا شخصيا تحريرها، أصدرنا منها ثلاثة أعداد ، توقفت مع إنهاء سالم عمله في قيادة فرع الناصرة وبداية مرحلة تراجع تنظيمي وسياسي في رابطة الجامعيين،لأسباب قد أعود إليها بمناسبة أخرى. اليوم لم يعد لرابطة الجامعيين وجود.
استلم سالم قيادة الجبهة الديمقراطية القطرية التي أنجزت نجاحات هامة في فترة رئاسته. اتسعت صفوفها وزاد تمثيلها البرلماني وكان قلم سالم وراء كل المناشير الانتحابية وصياغة البرامج والرسائل للمصوتين، حتى كتابة أخبار الاجتماعات الشعبية والانتخابية بطريقة تثير الثقة بالانتصار. ترأس تحرير مجلة "الجديد" الثقافية وتعتبر فترته الفترة الذهبية لمجلة الجديد في المضامين والتوزيع والأرباح. ترأس تحرير جريدة الحزب اليومية "الاتحاد" وأعطاها كل وقته حتى جعلها جريدة ذات تأثير واسع واهتمام جماهيري بما تنشره واتسع توزيعها وانتشارها والاهتمام بها بشكل غير مسبوق.
استطيع ان افهم ان الاستقالة بالنسبة لسالم، فيها اشكاليات عاطفية وفكرية صعبة جدا.
لم أقتنع بوجهة نظر سالم ولم استطع رفض رؤيته وتبريراته. أنا لم أكن إلا عضوا عاديا نشيطا في المناسبات السياسية وفي المجال الإعلامي والثقافي.
أمام موجة التحييد والإقصاء والتحريض الشخصي وقص الأجنحة لم يعد سالم يملك ما يؤثر به على إعادة بناء هيكلية الحزب وتطوير مشروعه الإعلامي والثقافي.
حين دعاني للحضور في إحدى الأمسيات الى بيت أخيه الدكتور سليم جبران في الناصرة، ليتلوا علينا قرارا هاما اتخذه قبل توزيعه على الصحافة، أيقنت ان سالم لم يعد مستعدا لتحمل مسؤولية تفكك التنظيم وتحوله إلى تنظيم الشخص الواحد وان البيان هو بيان استقالته.
وصل في قرارة نفسه انه يلعب مع فريق معاد له يعمل على عزله بتواصل ويجرده تدريجيا من كل مصادر تأثيره، حتى بثمن تدمير التنظيم.
لم يتأخر الوقت ليتأكد قطعا ان الجسور بينه وبين التنظيم لم تعد تسمح له بالمرور الحر، فقدم استقالته. المضحك ان فرع الناصرة (بإيعاز كما يبدو ) اتخذ قرارا بفصله وهو قرار غير شرعي لكون سالم جبران عضو هيئة حزبية أعلى من فرع الناصرة ( المكتب السياسي وسكرتارية اللجنة المركزية وسكرتير الجبهة، ورئيس تحرير الاتحاد ، وهي المناصب الأكثر أهمية في كل التنظيم الحزبي) .
الهيئات العليا بهذه الحالة هي المؤهلة لاتخاذ قرار الفصل وهي لم تتخذ مثل هذا القرار. اعتقد ان هذا القرار أظهر الاتجاه الذي بدأ يسود قيادة عاجزة ضعيفة مفككة بلا عمود فقري، تخضع للضغوطات ولا تلتزم بأي نهج تنظيمي او فكري واضح. تحول الحزب الى قائمة انتخابية نفتقد فيها ما عرفناه من نشاطات وبرامج نضالية لا تتوقف.
سالم لم يكشف كل الحقيقة في كتاب استقالته. ربما كان يعتقد ان الحزب ما زال قادرا على تقييم ما جرى واتخاذ القرارات الصحيحة لمنع ظواهر مشابهة في المستقبل. قال لي بعد ثماني سنوات من استقالته، عندما بدأت أعمل معه في تحرير جريدة "الأهالي" انه إذا كتب عن تجربته الحزبية سيفجر الكثير من الدمامل. حاولت جاهدا ان أجره ليحدثني ببعض ما يخفي. ما حدثني به أقل مما توقعت. قلت له أني على قناعة كاملة انه ما زال الأكثر شيوعية من كل أعضاء الحزب. ابتسم بمرارة تكاد ترافقها الدموع. كانت مقالاته في الأهالي إثباتا على شيوعيته التي لم تفارقه، كنت أغضب احيانا عندما يحذف بعض ما اكتبه من انتقاداتي على الحزب الشيوعي.
بالتلخيص أرى نهاية حقبة تاريخية مشرفة على المستوى الفكري والنضالي ، لشخص تبوأ بنفس الوقت العديد من المناصب المركزية في حياة الحزب الشيوعي وجبهته وإعلامه، يحتاج كل منصب إلى أكثر من بولدوزر بشري. كانت آلام سالم أكثر من قدرة إنسان عادي على الاحتمال. حافظ على ألامه داخل صدره.
بدأت حقبة لا نريدها لهذا التيار السياسي الذي صان شخصيتنا القومية وبنى تكاملنا الوطني من العدم تقريبا. دور الحزب الشيوعي في حياتنا لا يحتاج الى شهادتي الشخصية.
هناك عشرات الشهادات المشرفة كتبها شيوعيون سابقون منهم حنا ابراهيم من البعنة ، الذي استقال او أقيل لا أذكر، كان رئيسا لمجلس البعنة المحلي وشيوعيا عريقا له تاريخه النضالي المشرف وكاتب قصصي وشاعر مرموق سجل في كتاب مذكراته الرائع: "ذكريات شاب لم يتغرب" تجربته المؤلمة مع الحزب .
استقال سالم جبران من حزبه ولم يستقل من تاريخه ،من فكره ومن إخلاصه، محافظا على الكثير من الأسرار التي كان يعتقد ان نشرها ستكون له إسقاطات بالغة الصعوبة لا يريد هو شخصيا ان يتحمل مسؤوليتها.
كتب سالم قصيدة يعبر فيها عن غضبه من الانقلاب عليه، لم ينشرها في الصحافة ، لكنها ظلت في جواريره وأضيفت بعد وفاته لكتاب يشمل كل أعماله الشعرية وهذا نصها:

عاشق النهر
شعر: سالم جبران

عندما تدافعوا إلى المنصّة
مثل قبيلة مندفعة إلى الثأر،
فيهم العربيد والمهرّج
فيهم اللاعق والسارق
فيهم السكران والنصّاب
فيهم الحثالات التي تطرب لصوت تصفيقها
فيهم الهتّافون المحترفون
فيهم مشلولو التفكير العاجزون عن الحلم –
قرّرت أن أنزل عن المنصّة
لا مهزوما ولا هاربا
بل رافضا أن أشارك في المهزلة
رافضا المشاركة في المسؤوليّة عن الفضيحة
هم صعدوا إلى رقصة الانتحار
وأنا لم أنزل، بل صعدت
صعدتُ إلى ذاتي الحرّة، صعدت إلى جبل الحريّة
بقيتُ مع الناس، واحدا من الناس
الشمس في قلبي
لم أستبدل حلمي بحلم آخر
بل نفضت عن حلمي الغبار
ليس عندي وقت حتى لاحتقار
القبيلة التي اندفعت للثأر
بعد انعتاقي فقط،
أعرف تماما الفرق بين المستنقع والنهر
أنا حليف النهر
أنا عاشق النهر !
سالم جبران: الأعمال الشعريّة الكاملة، ص. 237 - 238 (القصيدة لم تنشر سابقا في الصخافة)

[email protected]



#نبيل_عودة (هاشتاغ)       Nabeel_Oudeh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حتى المسيح عانى من العنصريين البيض
- يوميات نصراوي: ذاكرة مبعثرة - ايام مع سالم جبران
- بحث توثيقي للباحث نادر زعبي*: حكاية.. أرض وصمود!!
- انتصارات جبهوية: او فرحة الخائبين
- القصة القصيرة بين التنظير والابداع
- درس في الأخلاق السياسية
- رؤية فكرية بين الاعلام والتأريخ
- يوميات نصراوي: هكذا تعرفت على المناضل تيسير العاروري
- يوميات نصراوي: بورسعيد عربية والقنال مصرية
- يوميات نصراوي: يحكون في بلادنا
- يوميات نصراوي: قصيدة -بطاقة هوية- لمحمود درويش
- لا تضعوا كل بيضكم بسلة أردوغان
- كمن يصطادون السمك في البحر الميت
- رؤية ثقافية فلسفية
- المكان الأكثر أمانا..لكل المتفلسفين!!
- قصص من أمريكا
- ملاحظات نقدية
- 1967: هل اللقاء بين شقي البرتقالة الفلسطينية كان بشارة خير؟
- اشكالية التطبيع بين مجتمعات في عداء سياسي وقومي
- التغيير ليس مرغوبا فقط لكن لا يمكن منعه


المزيد.....




- بوتين: ليس المتطرفون فقط وراء الهجمات الإرهابية في العالم بل ...
- ما هي القضايا القانونية التي يواجهها ترامب؟
- شاهد: طلاب في تورينو يطالبون بوقف التعاون بين الجامعات الإيط ...
- مصر - قطع التيار الكهربي بين تبرير الحكومة وغضب الشعب
- بينها ليوبارد وبرادلي.. معرض في موسكو لغنائم الجيش الروسي ( ...
- الجيش الإسرائيلي يقصف مواقع وقاذفات صواريخ لـ-حزب الله- في ج ...
- ضابط روسي يؤكد زيادة وتيرة استخدام أوكرانيا للذخائر الكيميائ ...
- خبير عسكري يؤكد استخدام القوات الأوكرانية طائرات ورقية في مق ...
- -إحدى مدن حضارتنا العريقة-.. تغريدة أردوغان تشعل مواقع التوا ...
- صلاح السعدني عُمدة الدراما المصرية.. وترند الجنازات


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - نبيل عودة - يوميات نصراوي: ذاكرة مبعثرة ... أيام مع سالم جبران -2