مقهى عبد ننه ... قراءة في تأريخ مدينة يسكنها وهج السياسة ويتقاذفها التاريخ..2

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)

الحوار المتمدن-العدد: 5254 - 2016 / 8 / 14 - 15:33
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    

مقهى عبد ننه ... قراءة في تأريخ مدينة يسكنها وهج السياسة ويتقاذفها التاريخ..2


في الفترة الأخيرة تيس لي أن أقرأ كتابين مختلفين في المنهج وفي الرؤية وإن كان كلا الكاتبين ينضمان تحت عنوان واحد، الكتاب الأول شهادات تأريخية عن واقع المدينة النجف من خلال دور معلم مكاني محدود وهو مقهى عبد ننه وما أرتبط به من دور للحركة السياسية في النجف وبالذات الشق اليساري منه، الكاتب وما كتب تم عرضه من خلال المقالة الأولى وفيها تفصيل استعراضي لأغلب جوانب الرؤية التي قدمها ذياب مهدي أل غلام عن رصد لمشروع المدينة في حركتها للتخلص من ثوبها الديني التقليدي المتمثل بسطوة المؤسسة والمجتمع المحافظ على جو المدينة وإندفاعها التأريخي لتمثيل واقع معين رداءه العام قداسي طقوسي وإن لم يخل من أثرا كبيرا في الجانب الفكري والأدبي.
الكتاب والذي تشرفت بقراءته مخطوطا هو ((التاريخ المثير للجدل)) شخصيات قلقة وأحداث مغيّبة وفكر ماضوي في مدينة النجف الأشرف للكاتب والمؤرخ الأستاذ السيد حمد القابجي، وهو شهادات تأريخية أيضا للواقع السياثقافي في مدينة النجف قدمها الكاتب على أنها يوميات تمتد لعقد من الزمان من عام 1915 ولغاية عام 2015، غالبها شهادات شخصية أو تقييمات ذاتية لبعض الأحداث والشخصيات والوقائع التي عاصر في جزء منها المؤرخ ونقل أو أستعرض واقع الجزء الأخر بقراءة أراد منها أن تكون حيادية لتأريخ مدينة النجف أيضا من وجهة نظر سياسية محددة تشترك مع كتاب ذياب أل غلام كونهما ينطلقان من نظرة أحادية تمثل جزء من حركة اليسار السياسي النجفي.
في الكتاب الثاني قدم القابجي شهاداته هذه على أنها أستعراض ظواهر تحولت إلى تأريخ فهو لم يدرسها ويدونها على أنها مصفوفو تأريخية تتبع المنهج الوثائقي أو النقدي أو حتى الاستعراضي بقدر ما أراد منها أن تتحول إلى نقاط مهم تؤشر لزمن محتدم، فيقول (وهذا الأمر يحتاج الى دراسة الظواهر الإجتماعية وسير تطوّر الأحداث التاريخية ، لا وفق متوازيات وتسلسلات منطقية لمراحلها وحسب ، بل أيضاً في ضوء الإنقطاع التاريخي ومتعرجات محتدمة وتحوّلات الجزئية والتكوينات الصغيرة ، والإسهامات الفردية والمحاولات الشخصية ، وبدايات إجتهادية ،وخطوات شجاعة ، رغم أن هذه لا تشكّل هي الأخرى قاعدة كافية يمكن الركون اليها)، هذا تماما ما أراده وجسده في كتابه (التأريخ المثير للجدل) ولولا هذه المقدمة لا يمكن أعتباره كتابا تأريخيا بقدر ما يحتوي من أدب سياسي تأريخي وهو نفس المنهج الذي أبدع فيه الكاتب ذياب أل غلام حينما قدم الشهادات ليجمل لنا وجهة نظر تأريخية أكثر منها محاولة لكتابة تأريخ مدينة.
التأريخ عندي كقارئ متخصص بالمعرفة وناقدا لها لا يمثل نفسه بالتدوين والأرشفة، ولكنه محاولة لكشف مسارات الفعل الوجودي للإنسان وأرتباطها أولا بالعوامل المحفزة والنتائج النهائية من جهة، وكون الحدث التأريخي لم ولن يولد من فراغ فهو سلسلة أفعال ووقائع رابطها فكري أولا، وسلسلة علل وأسباب ومظاهر تكشف عن نوعية الحدث التأريخي وكيفية رسم هذه الحركة داخل خط الزمن الذي هو في الأخر سوف يكون شاهدا على فعل الإنسان العاقل، المجانين وفاقدي الوعي والمهمشين عن دور فاعل في الحياة لا يصنعون تأريخا ولا يمكنهم أيضا فهم التأريخ ولا حتى المساهمة بجزء منه لأنهم لا يملكون حسا به ولا وعيا محددا تجاهه.
في الصفحات من 39 إلى صفحة 42 تناول الكاتب القابجي شخصية نجفية سياسية وأجتماعية ورياضية هي شخصية رضا العلي أو رضا عبد ننه، المناضل الشيوعي اليساري الذي قاوم وساهم في محاربة السلطة الملكية ردحا من الزمن وشاغل الخصوم وأشترك في الكثير من الصراعات السياسية والمنافسات الحزبية داخل المدينة متخذا من مقهى عبد ننه العائدة لوالده مرتكز وغطاء وحاضنة سياسية، وهذا هو الرابط الأهم الذي يربط بين الكتابين، أضافة إلى أن المنهج الكتابي كما أسلفت يشترك بينهما في أستعراض الظواهر التأريخية دون أن يتدخل في تصحيح أو نقد أو مناقشة الحدث، هذه المهمة تقع على كاهل الناقد التأريخي أكثر مما يتحملهما الكاتبين، فهما أسسا منهج الكتابة على طرح الشهادات على أنها وثائق تأريخية أما أنها تم معايشتها فهي شهادة للتأريخ أو تم نقلها على أنها شهادة من التأريخ، وفي الحالين يكون الكاتب محايدا عن تقدير قيمة الحدث من الناحية التأريخية.
الكاتب ذياب أل غلام قبل أن يكون كاتبا يؤرخ فهو فنان تشكيلي يستعرض الفكرة من خلال اللوحة ويرسل فكرته بقالب جمالي أكبر كلما تعمق في تفاصيل الموضوع، هذه الكيفية مارسها في الكتابة أيضا فهو نقل لوحة جمالية تأريخية أسهب في تلوين تفاصيلها الدقيقة بشهادات وملاحظات وتأطير فني للمكان _ الحدث، مقهى عبد ننه ، السياسة في النجف، الواقع الأجتماعي المتصارع مع ذاته في لوحة إنطباعية أكثر مما هي لوحة بورتريت شخصية، نقل النجف كمدينة تتنفس السياسة وتتعاطها بعينه هو وبما يبصره عقله وكأنه يقول هذه النجف التي أحببتها جميلة بلا رتوش ولا تزويق، قد نشترك معه في رؤية الجمال لكن ما لا نشترك به معه أنه نقل الوجه المقابل له والمنتمي به، ولم ينقل شهادات تأريخية عن الجانب الأخر الجانب الضد أو الجانب المحايد، في كتاب السيد القابجي نجح في نقل جزئيات قد لا تكون كافية لكنها معبرة عن الوجه الأخر ولو بصورة أقل من الحيادية التامة.
التأريخي عندما يكون أيديولوجي يقرأه من خلال الفكرة المتبناة ولا يمكنه أن يتجاوز الأيديلوجية وهذا أمر طبيعي لا يمكن محاسبة الكاتب عليه، قد ينجح البعض في تجاوز فكرته ويجنح إلى التجرد وهذه قليلا ما تحدث حتى مع كبار كتاب ومدوني التأريخ، وطالما أننا أتفقنا منذ البداية أن العمل الكتابي للكاتبين لم يختار التدوين الوثائقي ولم يبنيا المنهج النقدي في كتابة التاريخ وإنما أسترسلا في عرض شهادات خاصة عن حدث وعن زمن الهدف الأساسي من كلا العملين هو أستعراض ظاهرة والكشف عن بعض الوجه الماضوي للمدينة التي عاشا فيها ضمن جبهة سياسية له رؤية ولها تفسير خاص.
ما يحسب لابن غلام الكاتب ذياب أل مهدي هي فكرة المقهى التي جعل منها كوة أو النافذة التي ينطلق من للتجول داخل المدينة القديمة بأعتبارها رمز حركي، رمز قادر على التحريك والفعل دون أن يكون جامدا أو ثابتا كحجر لا ينطق، كانت مقهى عبد ننه أذن هي البوابة التي يمكننا من خلالها كشف الظاهرة التاريخية وتحويلها إلى بانوراما تخيلية للنجف الماضي، النجف المدينة التي لها أوجه عدة متناقضة أحيانا ومتصالحة أحيانا وبين البين والبين في غالب أوقاتها، لكنها في النهاية هي مدينة تريد أن تعبر عن ذاتها المتمردة عكس ما يفهمه الكثيرون أنها مدين أموات وقبور وسراديب وفقه ماضوي.
أما ما يحسب للسيد القابجي أن تنوع كثيرا ونوع في أختيار العناوين بين البالغة الأهمية في رسم التاريخ وبين القضايا قليلة الأهمية لكنها أيضا ساهمت بجز ما من سردية التاريخ، التنوع هذا يرسم أفق أكبر للرؤيا ويغطي مساحة كبيرة لا ترتبط بالمكان المحدد الذي نطل منه على المدينة كما فعل ذياب أل غلام، بل صحبنا هو في جولة في صفحات عديدة متعاقبة ومتباعدة من أحداث لا بد أن نفهمها بمقدماتها ونتائجها لنفهم لماذا النجف مدينة متمردة، في ختام هذه الملاحظات لا بد من التنويه بشجاعة الكاتبين في تدوين هذه الشهادات وحفظها لتكون جزء من الذاكرة التاريخية للأجيال القادمة وللمؤرخ المحترف الذي يمكنه أن بمنحها البعد التأريخي العلمي لتكون جزء من مدون العراق الوطن الذي في كل الأحوال هو أيضا لاعب خفي في حدث النجف التأريخي ولاعبن محرك للكثير من أحداثها.

#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)       Abbas_Ali_Al_Ali#          

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات