|
ما بعد التعددية الثقافية
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 5242 - 2016 / 8 / 2 - 20:27
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
د. عبد الحسين شعبان أكاديمي وحقوقي عربي هل لا زال مفهوم التعدّدية الثقافية يحظى برصيده السابق في الغرب أم ثمة تغييرات بنيوية ظهرت عليه، لدرجة أفقدته جاذبيته أو بعضها، لا سيّما في ظلّ صعود موجة الإرهاب الدولي وارتفاع منسوب حركة الهجرة واللجوء، بفعل تدفّق مئات الآلاف من اللاجئين من بلدان الجنوب الفقير إلى بلدان الشمال الغني؟ مثل هذا السؤال يستولد سؤالاً آخر، هل أن ظاهرة التعدّدية الثقافية، جديدة على المجتمعات أم أنها قديمة قِدم البشرية؟ وإذا كانت الدولة بمفهومها الحديث، نتاج الفكرة القومية في أوروبا ومتعلقاتها ومتفرعاتها لاحقاً، خصوصاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر اللذين، شهدا رواجاً للصراع القومي، فإن القرن العشرين عرف صعود الصراع الآيديولوجي، في حين أن القرن الحادي والعشرين، اتسم بصراع الهوّيات الدينية والإثنية واللغوية وغيرها، ولا سيّما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء عهد الحرب الباردة. لكن فكرة التعدّدية الثقافية تمتد إلى أبعد من ذلك، كواقع معيش عرفته الأمم والشعوب، وليس خطاباً فلسفياً أو تجلّياً فكرياً أو توجهاً نظرياً. وقد كانت الإمبراطوريتان الرومانية والعثمانية تعتبران نموذجين تاريخيين لمجتمعات أو دول قائمة على التعدّدية الثقافية. وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، اتّخذ مفهوم التعدّدية الثقافية بُعداً آيديولوجياً وسياسياً وحقوقياً، وخصوصاً في ميثاق الأمم المتحدة بتأكيد حق تقرير المصير، باعتباره حقاً للشعوب والأمم، وخصوصاً تلك التي تسعى لتحقيق الانعتاق والاستقلال، وهو حق ملزم وغير قابل للتصرف، أو كما يسمّى باللاتينية Jus Cogens . وكان "إعلان تصفية الكولونيالية" الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 العام 1960 قد جاء عليه، مثلما أدرج في العهدين الدوليين: الأول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والثاني الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الصادران العام 1966، كما تم التأكيد على احترام حقوق ما سمّي " بالأقلّيات"، وهو الذي استند إليه "إعلان حقوق الأقليّات" الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، العام 1992، وكذلك "إعلان حقوق الشعوب الأصلية" الصادر في العام 2007، وإنْ بقي مفهوم الأقليات يستحمل معنى الاستتباع إزاء مفهوم "الأغلبيات" ويستبطن عدم التكافؤ والمساواة، الذي تعنيه الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ومثل هذا الفهم لا يرتقي بالطبع إلى مفهوم التعدّدية الثقافية، التي تستند إليها الدول العصرية والمبادئ الدستورية والمواطنة المتساوية، حتى وإن جرى تفسيرها على نحو مختلف ومتعارض، كما تجري هذه الأيام ارتباطاً بمأساة اللاجئين. حين توجّه مئات الآلاف من البشر على شكل كتل وجماعات وموجات إلى أوروبا بصفة لاجئين، وهم بالطبع من ثقافات مختلفة جذرياً عن الثقافة الغربية السائدة، تصدّت لهم العديد من الحركات اليمينية والعنصرية والمتعصّبة في الغرب، والتي ازدادت وتيرة تطرّفها ومناوءتها للاجئين وللهجرة، تارة بزعم الحفاظ على علمانية الدولة، وأخرى عدم تعريض الثقافة الليبرالية وقيمها لخطر التدييّن أو الأسلمة، خصوصاً وأن القسم الأعظم من المهاجرين هم من الدول العربية والإسلامية، وثالثة عدم رغبة اللاجئين في الاندماج ورابعة التحذير من الإرهاب الدولي، علماً بأنه ليس بإمكان أحد أن يوقف حركة انتقال الأفراد التي استفحلت على نطاق واسع من مجتمع إلى آخر في ظل العولمة وثورة الاتصالات والمواصلات، ناهيك عن التبادل الثقافي والتفاعل الحضاري داخل المجتمعات نفسها، تلك التي لم يعرفها التاريخ البشري من قبل. وبالعودة إلى ستينات القرن الماضي، فقد كانت التعدّدية الثقافية في عدد من المجتمعات الغربية ظاهرة مقبولة ومُقرّة، خصوصاً الإقرار بالتنوّع في الأديان والأعراق والثقافات، التي تقبل بعضها البعض على أساس المواطنة واحترام التباينات مع بقاء بعض الإشكاليات الداخلية التي لم تجد حلولاً ناجعة، لكن مثل هذا الإقرار فتح الباب أمام انتقال جماعات كبيرة من مواطني البلدان المُستعمرَة إلى الدول الاستعمارية السابقة، وهكذا تشكّلت تعدّدية ثقافية جديدة، اعتمدت على إدماج المهاجرين مع إرثهم الثقافي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وخصوصاً في بريطانيا والبلدان الانكلوسكسونية، بينما كانت مقاربة فرنسا مختلفة، حيث استهدفت صهر المهاجرين في بوتقة الدولة والمجتمع وقيمهما، وقد ترك المنهج الأول تأثيرات إيجابية على المهاجرين وعلى البلدان التي استقبلتهم بالطبع، في حين ترك المنهج الثاني بعض التأثيرات السلبية التي ظهرت نتائجها لاحقاً. عشيّة انتهاء الحرب الباردة ظهرت تنظيرات جديدة تحت عناوين مختلفة، اتّسعت بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) العام 2001 الإرهابية التي حصلت في الولايات المتحدة، داعيةً إلى إعادة النظر بمفهوم التعدّدية الثقافية وتطبيقاتها، ومنها "نظرية نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما، التي اعتبرت إن التحدي العظيم الذي تواجهه الديمقراطيات الغربية يتمثّل بالخطر الإرهابي واللاجئين، الذين يتعذّر دمجهم وهم في غالبيتهم من الدول الإسلامية، ودعا فوكوياما إلى تجاوز مفهوم التعدّدية الثقافية للجماعات واختزاله إلى العلاقة بالأفراد وحقوقهم، طالما أن بعض الجماعات ترفض القيم الغربية الليبرالية التي ينبغي التمسك بها، طبقاً للتجانس والتماسك الاجتماعي المشترك. إن بعض المواقف والإجراءات المتخذة بالغرب بشأن حقوق الجماعات الثقافية تضع الديمقراطيات الغربية أمام مفترق طرق، إما باستمرار احترام الخصوصيات والهوّيات الفرعية والتفاعل الحضاري والتواصل الثقافي، أو التحوّل إلى تذويب الهوّيات وإدماج الثقافات وصهرها، تحت عنوان القيم الليبرالية التي ينبغي التمسّك بها، وتلك ستعني رفض التعدّدية وعدم الاعتراف بالخصوصية الثقافية للآخر. وتحت مسوّغات فكرية وأخرى أكاديمية جرى الترويج إلى أطروحات "موت التعدّدية الثقافية" و"حدود التعددية الثقافية" و"ما بعد التعدّدية الثقافية" بزعم أن الاختلاف والتنوّع لم يكونا عنصرين إيجابيين وتوحيديين، بل أدّيا إلى تقسيم المجتمع إلى بؤر اجتماعية وغيتوات متناحرة الثقافات، لاسيّما الوافدة والرافضة للتأقلم والاندماج مع القيم الغربية داخل البلد الواحد الذي يحمل المواطن جنسيته، لكنه يرفض الانضواء تحت قيمه وهوّيته.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
استقالة أم إقالة ل6 وزراء عراقيين؟
-
ميونخ وصورة أخرى للإرهاب
-
أمريكا تبحث عن حصة في الانتصار -العراقي-..
-
-نيس- وخريطة الإرهاب
-
تقرير تشيلكوت وماذا بعد؟
-
حقائق تقرير تشيلكوت ودلالاته..!!
-
جدلية الهوية والمواطنة في مجتمع متعدد الثقافات
-
داعش والفلوجة ودلالات الهزيمة
-
ماذا بعد نشوة النصر في الفلوجة؟
-
الوجه الآخر لبريطانيا -الأوروبية-؟
-
تيسير قبعة: غيمة فضية في فضاء الذاكرة
-
الاتجار بالبشر.. والأمن الإنساني
-
الفساد والوجه الآخر لمعركة الفلوجة..!
-
الأزمة العراقية الراهنة: الطائفية، الأقاليم، الدولة
-
زيد الحلي: حين يغمّس يراعه بحبر المودة
-
اسرائيل والخطيئة الجديدة
-
الموصل وبعض تداعيات معركة الفلوجة..!
-
هل يبقى العراق موحداً؟
-
أي مخاض جديد بعد الفلوجة؟
-
أي ثمن لتحرير الفلوجة؟
المزيد.....
-
خريطة مواقع قواعد أمريكا بالدول العربية بعد ما دعا له مستشار
...
-
ترامب يعلن تنفيذ ضربات -دمرت- مواقع نووية إيرانية -بالكامل-
...
-
ما هي ردود الفعل السياسية والاعلامية في إسرائيل
-
ترامب يعلن ضرب 3 منشأت نووية في إيران
-
كوليس الضربة الأمريكية
-
إيران: استهداف منشآتنا النووية عمل وحشي مخالف للقوانين الدول
...
-
لفهم مدى قوة الضربة الأمريكية بإيران.. مسؤول يكشف تفاصيل ما
...
-
-حان دورنا-.. مستشار خامنئي يدعو معددا 3 وسائل للانتقام من ا
...
-
أول تعليق من هيئة الرقابة النووية السعودية بشأن الضربة الأمر
...
-
مصدر لـCNN: أي عمل عسكري إسرائيلي ضد إيران سيعتمد على رد فعل
...
المزيد.....
-
كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف
/ اكرم طربوش
-
كذبة الناسخ والمنسوخ
/ اكرم طربوش
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|