أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد البورقادي - السلطة القمعية وشروط بناء الفرد الخاضِع والمُنمَّط..















المزيد.....


السلطة القمعية وشروط بناء الفرد الخاضِع والمُنمَّط..


محمد البورقادي

الحوار المتمدن-العدد: 5214 - 2016 / 7 / 5 - 22:49
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


العقاب كآلية لتطويع الجسد :

تلعب السلطة كوعاء للسياسية وحاضنة لإيديولوجياتها دورا بارزا في تطويع أجساد الأفراد في اتجاه ما ترنو إليه ميولات قادتها ،فهي لا تتهاون في اتخاذ جميع السبل مهما كانت وحشيتها وظلاميتها في تعبيد مساراتها وتحقيق مطامحها الهادفة إلى شل تحركات الأفراد وتنميط ممارساتهم وفقا لنموذجها المثالي الذي ارتضه (أو ارتضاه ساستها ) سبيلا ليسير المجتمع وفقه.
إن الجسد بما هو غاطس ضمن حقل سياسي ، فعلاقات السلطة تعمل فيه عملا مباشرا ، فهي توظفه وتطيّعه ، وتقومه ، وتعذبه ، وتجبره على أعمال وتضطره إلى احتفالات ، وتطالبه بدلالات ، هذا التوظيف (الاستثمار) السياسي للجسد مرتبط ، وفقا لعلاقات معقدة ومتبادلة ، باستخدامه اقتصاديا ، وإلى حد بعيد كقوة إنتاج يزود بعلاقات سلطوية وبسيطرة ، ولكن بالمقابل ، إن تكوينه كقوة عمل لا يكون ممكنا إلا إذا أخذ ضمن نظام استعبادي ، ولا يصبح الجسد قوة نافعة إلا إذا كان بآن واحد جسدا منتجا وجسدا مسترقا، وهذا الاسترقاق يحصل إما بالوسائل المادية "العنف " ، وإما بالاديولوجيا .
فمن خلال تطويع الجسد يتم تطويع الوعي وقولبته وإعداده ليصير مطمئنا.فالمقصود ليس وسم الجسد بالتعذيب ولكن إعادة تركيب وزرع مبادئ جديدة في عقل المتمرد . وبالتالي فهي عقوبة نفسية أكثر منها جسدية ، وإن ظهرت معالمها في الجسد .
إن ارتكاب الفعل الجرمي أيا كان ، يعني مخالفة لقواعد الحكم "النظام"، تلك المخالفة التي تعني بحسب فوكو انتهاكا ليس لحرمة القانون فحسب ، بل تعتبر كإهانة إلى كرامة شخص الأمير أو الحاكم كآمر وكمطاع ، وبالتالي فممارسة العنف ضدا على القانون السائد هي بمثابة طعن في شرعية القانون المنبثق من الأمير أو الحاكم الذي يمتلك السلطة وبالتالي القوة.ويؤكد فوكو على أن تدخل العاهل لا يكون فقط للتحكيم بين الأطراف المتنازعة "أي بين القانون كشكل تنظيمي واللاجئين للعنف "؛ ومعرفة أسباب حدوثه للإسراع في حلها ، بل إنه تدخل كرد فعل مباشر على تلك الفئة التي أهانته ، فصارت من أعدائه الذي وجب إلحاق العقاب بهم ، درء ا لتطاول فئات أُخر من جهة وحفظا لكرامة شخصه التي انتهكت من جهة أخرى. فنرى من تعريف القانون بالذات أنه لا ينزع فقط إلى الحماية "أي حماية حق الأفراد والممتلكات"، بل أيضا إلى الانتقام من التطاول على سلطانه عن طريق معاقبة الذي يتجاوزون محضوراته" (فوكو ، 1975)
إن العقاب أو التعذيب بهذا المعنى يلعب وظيفة قانونية سياسية ، إنه احتفال من أجل إعادة إقرار السيادة بعد جرحها لحضة ، إنه يعيدها بأن يظهرها في كل أبهتها وألقها.
إن الجريمة بكل أشكالها إذ ترتكب من طرف الأفراد ، فهي تحتقر العاهل وتظهر عدم الإذعان لسلطانه والامتثال لأوامره ، وبالتالي فهي خدش لقوته التي يظن أنها لا تقهر أولا يمكن أن تقهر ."لأنها معززة بمؤسسات صلبة مادية ورمزية "، و هدفها أي السلطة "في شكل العاهل" ، ليس فقط إعادة التوازن بقدر ماهي إظهار التفارق إلى حده الأقصى بين فرد من الرعية تجرأ على خرق القانون ، والعاهل أو السلطة ، الكلي القوة الذي يظهر قدرته
ولذلك فإلحاق العقاب بالمدان هو في مجمله فعل إرهابي يهدف إلى تخويف وترهيب الجماعة في صورة الفرد وإنذارها إن سولت لها نفسها يوما مخالفة القانون بما قد يلحقها من عقاب وتنكيل ، قد تفننت في تطبيقه المؤسسات السجنية إلى أبعد الحدود الممكنة من أجل تطويع الجسد وتهذيبه وجعله مطمئنا راضيا مسلما بالنظام السائد.
كما تهدف من خلال تعذيبه أن تجعل منه المثل الذي يجب أن يدون عميقا في قلوب الناس ، وتتغيا تركيع الجماعة من خلال تركيعه وغسل دماغها من خلال غسل دماغه، إن السلطة بذلك تريد أن تبرز قوتها اللامحدودة أمام العاجزين "الرعية " ، تلك القوة التي ستقودهم إلى الإنسياق مع النسق العام والقبول به كمسار أمثل ونهائي ونموذجي لا محيد عنه إلا إليه ، تلك القوة التي تجعلهم منقاذين كقطيع غنم بكل التزام وتفاني ،وبإشارة واحدة من الراعي "الحاكم."
فالعقوبة بهذا المعنى ليست إلا وجها قاسيا ومرغما لإنتاج وإعادة إنتاج أجساد طيعة ذات طبيعة منظبطة وانظباطية ونمطية تضعها العقوبة الملحقة بها في قوالب جاهزة وذات حدود غير متجاوزة . إن هذه السلطة تجعل من القواعد والالتزامات روابط شخصية يشكل كسرها إهانة ويستدعي انتقاما ردعيا في حق الجاني ، فالهدف من شراسة العقوبة هو إيقاض الوعي ليلتفت لعواقب العصيان والتمرد ، فيحجم ويتراجع عن فعله ، إنها بذلك تخترق ليس فقط الوعي بل تتجاوزه إلى اللاوعي هدفا لاستدماج صورة غضبها ونقمتها في داخله لتصير مرتسمة على الدوام مستبطنة في داخله رادعة له عن القيام بأي سلوك ينافي و يعارض عرفها السلطوي.
فليست امتيازات العدالة وحدها وإلى مثل هذا الحد ، ولا تحكمها ، ولا تعاظمها الموروث وحقوقها غير المراقبة ، هي المنتقدة ، بل هو الخلط بين ضعفها وتجاوزاتها ، بين مبالغاتها ونقائصها ، وبشكل خاص مبدأ هذا الخلط بالذات وهو السلطة الملكية المفرطة ، والهدف الحقيقي للإصلاح ليس هو تأسيس حق جزائي جديد انطلاقا من مبادئ أكثر عدالة ، بل وضع نظام اقتصاد جديد لسلطة المعاقبة وتأمين توزيع أفضل للثروة وتحقيق نمو مستمر ومتواصل حتى يصل مردوده إلى أصغر نقطة في الجسم الاجتماعي.
بعد اعتقال أو محاصرة المجرم المعنف ، تقوم آلية الإعلام بتعزيز دور السلطة عن طريق الإشهار المقولب الذي تقوم به في حق هؤلاء المتمردين وذلك عن طريق وصمهم بالمنحرفين أو المتطرفين وغالبا ما تصف أعمالهم بالتخريبية ، وتضخم تلك الأعمال رغم قلتها لإثارة وتأليب عامة الجمهور عليهم ، وتحاول من خلال ذلك استدماج صورة مشوهة مغلوطة عن هؤلاء في ذهن المتلقي ليس فقط لنبذهم واسترضاء إحلال العقوبة عليهم ، ولكن أيضا لمنع محاولة نهج نفس سبيل هؤلاء والقيام بنفس أعمالهم.
وتتفنن الدولة في جعل الشباب يرجعوا ما فيه من بؤس وبطالة وفقر وتهميش وإقصاء إلى عجزهم الذاتي وعدم قدرتهم على صنع النجاح والتفوق المأمول ، فارتفاع نسبة الفقر والبطالة ليس مرده لضعف استراتيجية الدولة عن الرفع من نسبة النمو وتحقيق التنمية المنشودة ولكن سببه الأساس هو فردي ،على حد زعم الدولة ، يتحمل كل فرد مسؤولية إنتاجه وبالتالي عليه الرضوخ لاختياره الذاتي ، إن خطابها المظلل والمشوه للحقيقة والممرر عبر الجهاز الإعلامي ، وسيلتها المثلى لنشر أفكارها بزي متنكر ، غالبا ما يؤدلج الواقع ويجعل منه عقبة لا تُتجاوز إلا بصعوبة يزيد من حدتها عجز الميزان التجاري وزيادة المديونية الخارجية وضعف الاقتصاد تبعا لذلك "خصوصا في الدول النامية "، فهي تحاول أن لا تظهر هذا الضعف والتهاون عن طريق إيجاد استراتيجيات محبوكة تحت أسماء جذابة من مثل "الاصلاحات الكبرى"، هدفا لخلق توازن ضمني من شأنه امتصاص غضب الفئات المهمشة التي تأمل في تحسين مستوى عيشها وارتقائها الاجتماعي ، ومنطقها في ذلك "أي الدولة " هو منطق ميكيافيلي بالأساس، إذ يقوم على خلق المشاكل ، نتيجة لضعف التسيير والحكامة ، وتقديم نفسها كبطلة تقوم بحلها وإيجاد ممكنات تجاوزها ، لتبقى صورتها على الدوام براقة ولامعة في صفوف الشعب ، وهي بفعلها ذلك كأنما تسرق رغيف الشعب ثم تعطيه منه كسرة ثم تأمره بعد ذلك أن يشكرها على كرمها ولطفها على حد تعبير غسان كنفاني.
ولذلك فإن سياسات الدولة الاجتماعية منها بالخصوص لا تهدف إلى تحسين الحياة الاجتماعية للأفراد بقدر ما تهدف إلى رتق الفتق الذي خلفته تلك السياسات جراء سوء تدبيرها وإهمالها المفرط ، فحين تدعي الإصلاح أو التقويم ، فهي بذلك تحاول إيصال فكرة للشعب بأنها في خدمته ومهمتها هي مصلحته ، في حين أنها بذلك تريد إخفاء أكبر قدر ممكن من الاختلالات والعيوب التي نتجت عن سياساتها ، تلك العيوب التي كلما استفحلت زاد عطش الناقمين إلى التمرد وأخذ العنف سبيلا ، وهي غالبا ما تلجأ لتدبير تناقضاتها المتزايدة بغطاء الإعالة أو الإعانة لفئات معوزة محدودة جدا وتغطي تلك الإعانات شبكة إعلامية وطنية تنقل للرأي العام مسارات تلك الإعانات طمعا في حشد رضى الفئات الناقمة الأخرى أو على الأقل تفادي انفجار شحنة غضبها التي تحتدم تدريجيا لفترة معينة ريثما تنهمك في صناعة حيل أخرى أكثر حنكة ودهاء في المستقبل القريب، إنها تعلم جيدا أن تعاظم تلك التناقضات قد يسبب دمارها أو على الأقل إرهابها.
إن ما تجري محاولة إعادة تكوينه في هذه التقنية التأديبية ليس هو الفرد الحقوقي ، المأخوذ بالمصالح والمنافع الأساسية المذكورة في العقد الاجتماعي ، بقدر ماهو تكوين للفرد المطبّع الخاضع للعادات وللقواعد وللأوامر ولسلطة تمارس قوتها باستمرار حوله وعليه ، ويترتب عليه تركها تعمل بصورة آلية في ذاته ، هناك إذا أسلوبان مختلفان تماما في التصرف تجاه المخالفة ؛ إعادة تأهيل الفرد الحقوقي الذي ينص عليه العقد الاجتماعي أو تشكيل فرد مطبٌع خاضع للشكل العام والدقيق لسلطة ما.
ولعل ما ذهب إليه عبد الله حمودي في حفره الانثربولوجي حول ماهية السلطة وجذورها ما يعاضد قول فوكو إلى حد كبير ،فالعادات والمعايير التي تتحكم من خلالها السلطة تنبع من الأصول الثقافية التاريخية للمجتمع وتعيد إنتاج نفسها من خلال العلاقات الفوقية التي تفرض الخضوع لها من طرف كل الأنظمة التحتية المتمفصلة التابعة لسلطتها . وانطلاقا من ذلك يطرح عبد الله حمودي العلاقة بين الشيخ والمريد كعلاقة تحكم الفاعلين والمؤسسات في الحقل السياسي ، فهي لا تحكم فقط الجهاز المخزني وحده ، وإنما تمتد إلى الأحزاب والنقابات والبيروقراطيات العامة والخاصة كذلك ، وبالتالي يصبح الفعل الكاريزمي والمواقف الناتجة عنه أحد أسس مناهج التكوين وبرامج الأحزاب السياسية حتى تلك التي تتخذ من الإسلام مرجعا سياسيا ، ويستبعد عبد الله حمودي تفسير وضعية المجتمع بالعامل الاقتصادي ويفسر خضوع الأغلبية الشعبية والنخبة بمسألة التقرب ، بمعنى تقرب المجتمع من المركز الموزع للسلطة والنعم.
إن السلطة وفق ما توصل إليه حمودي تمتح جذورها الثقافية من جدلية الشيخ والمريد التي تتلخص في طاعة وولاء المريد لشيخه وتربية هذا الأخير وفق قواعد صارمة وشاذة في بعض الأحيان لكي يُجعل منه خليفة الشيخ في منطقة ما ، إن الانبناء الثقافي المدمج في علاقة الشيخ والمريد والمبني على الخوف والطاعة عوض الاحترام والتفاهم لا يعتمل فقط في النسق الصوفي وإنما يتجاوزه لكل الأنساق الأخرى بما فيها السياسي الذي يتخذ من هذه العلاقة منهجا تقوم عليها سلطته وكيانه داخل المجتمع ، ذلك أن العلاقة السلطوية تتمأسس حول تمثل فرض الطاعة باستبقاء الخوف قائما في أذهان ونفوس الناس ، لأن هذا الاستبقاء ،والذي يعززه استقواء الجهاز المخزني هو ما به تتمكن السلطة من فرض نظامها ونموذجها الحصري على كافة المؤسسات وتمكين الخضوع الإجباري لمختلف استراتيجياتها بشكل تنأى به عن الدخول في المنازعات أو التعارضات الذي تشكل النسق العام ، فعلاقة الشيخ والمريد المستدمجة ثقافيا تمكنها بأقل التكاليف الممكنة من الهيمنة على مختلف حقوق الأفراد ونزع طابع التنازع بحولها وجعل أمرها أمرا مقدسا تماما كأمر الشيخ لمريده الذي يعتقد هذا الأخير أنه على صواب وأن من واجبه التواضع والإجلال للشيخه (كرمز للسلطة ) لكسب حبه والأمن من خوفه وعدم إحلال نقمة اللعنة عليه ،وبالتالي فإن هذا التمفصل البنيوي المتجذر بين الاجتماعي والسياسي هو ما به يتشكل النسق الانثربولوجي للعلاقات السلطوية (العربية بالخصوص)حيث ينتقل هذا البناء الثقافي لا شعوريا من نسق ضيق إلى آخر أكثر شمولا مضفيا على السلطة طابعا مقدسا صوفيا لا يمكن مناقشة ممارساته أو معارضتها "إن علاقة الشيخ بالمريد هي العلاقة النموذجية لعلاقات السلطة الأخرى، ومن خلالها تظهر تطابقاتها البنيوية مع تلك العلاقة" (حمودي ، ط4 ، 2004) ، ويضيف كذلك بأن كل التفاعلات القائمة بين النسق الاجتماعي والسياسي قائمة على ثلاثية الخدمة والطاعة والتقرب لشخص الزعيم أو النخبة وهي بذلك تصب في منحى واحد من أجل بناء وترسيخ الدولة المخزنية، فالمريد أو خدام الدولة يعتقدون من خلال ممارستهم والعادات الخاصة التي يتمثلونها أنهم يقتربون من النجاح بالوفاء والطاعة للشيخ أو الزعيم وليس بالمجهود والعمل الشخصيين . ومن هنا ففرص وممكنات الارتقاء الاجتماعي لا تنبني على الكفاءة والمردودية وإنما على مبدأ التقرب الذي لا يتحقق بدوره إلا بالخدمة والطاعة (بدون اعتراض) لأوامر السلطة مهما بلغت درجة حيفها. ويطرح حمودي ثلاث مقومات أساسية تنغرس بواسطتها السلطة السياسية للدولة المخزنية في الجسد الاجتماعي وهي المراقبة (عن طريق التنمية الاقتصادية المتسارعة )والايديولوجيا والقمع.

مسارات صناعة الفرد الانضباطي :

إن السياسية الإنضباطية الإلزامية التي تحرص مؤسسات السلطة على غرسها بطريقة محسوبة جدا في جسد الفرد ونفسه وفي إيماءاته وسلوكاته ، تدخل الجسد البشري داخل قالب نمطي خاضع بكل انقياد ، وتفكك مفاصله وتعيد تركيبه وتجعل منه آلية في خدمة أهداف ومصالح السلطة ، تلك السلطة التي تحاول أو تتوصل إلى أقصر الطرق للتسلط عل جسد الآخرين ، ليس فقط من أجل أن يحققوا المطلوب ، بل لكي يتصرفوا كما يراد لهم ووفقا للسرعة والفعالية المحددة لهم ، فالإنضباط كما يقول فوكو" يصنع هكذا أجساد خاضعة ومتمرسة ، أجساد طيعة ، ويزيد من قوى الجسد بالمعنى الاقتصادي للمنفعة ، ويقلص هذه القوى بالذات بالمعنى السياسي للطاعة" (فوكو ، 1975) ، فإذا كان الاستغلال الاقتصادي يفصل بين قوة العمل ومنتوج العمل ، فإن الإكراه الانضباطي يقيم في الجسد علاقة ضابطة بين كفاء ات متزايدة وبين سيطرة متزايدة.
كما أن السلطة حسب فوكو ، إضافة إلى طابعها الانضباطي ، هناك أيضا الطابع الرقابي الاستشرافي والذي تحاول أن تستحضره وتثيره في الوعي المضطرب للأفراد الذين يستشعرون دائما أنهم مراقبون أو محروسون بأعين خفية تتعقب كل حركاتهم لتعتقل الشاذ منها ، "أي الذي يشذ عن شرائعها "، تلك الوظيفية الاستشرافية تولّد عند الفرد عبودية حقة ، تضمن حصولها "أي السلطة " ، بطريقة أوتوماتيكية ، بحيث تنتفي معها ضرورة اللجوء إلى وسائل القوة المادية الملموسة لإكراه الشاذ على نهج السلوك الحسن ، والعامل على العمل ..إلخ. ففعالية السلطة وقوتها الضاغطة قد انتقلت إلى الوجه الخفي الذي تحضر فيه بثقلها المادي ، بقدر ما تعيض عن ذلك بإحلال قوة مراقبتها ونظرتها بشكل لا واعي ودائم في نفوس الأفراد ، "ذلك أن الفرد المخضَع لحقل الرؤية مع علمه بذلك ، يقيم في حسابه ظغوطات السلطة ، فهو يُعملها عفويا على ذاته " (نفس المرجع السابق) ، حيث تنزع السلطة بذلك إلى اللاتجسد وكلما أمعنت في هذا الأخير ، بدت مفاعيلها أتبث وأعمق ، ومكتسبة بصورة نهائية . ويساهم في تعميق تلك الصورة الترهيبية للسلطة احتفالات التباهي والاستعراض التي تقوم بها أجهزة الأمن من حين لآخر ، ويغطيها جهاز الإعلام بدوره بصورة حصرية ، تلك الصورة التي تظل ماثلة في أذهان الأفراد بشكل تزيد معه فرص الطاعة والإنقياد وتتقلص إلى جانبه إمكانيات الطغيان والاعتراض.
إن السلطة ، ورغم كونها قوة صلبة تتعزز بجهاز أمني محنك ، فهي لا تسخره على الدوام لإحلال الإرغام والخضوع بالقوة ، بل غالبا ما تعتمد على قوتها الناعمة والتي تتخلص بحسب آلان جوزيف في "القدرة على الاحتواء الخفي والجذب اللين ، بحيث يرغب الآخرون في فعل ما ترغب به القوة المهيمنة من دون حاجة إلى اللجوء إلى استخدام القوة ، أو بما يغني عن استخدام سياسة العصا والجزرة " (ناي ،2004) ، وهذا يعني أنه ليس بالضرورة اللجوء إلى السيطرة إذا كان في الإمكان إحلال الهيمنة مكانها أو كما يقول غرامشي " الهيمنة على الثقافة هي الوسيلة الفعالة للإبقاء على الحكم في مجتمع رأسمالي".
فالقوة الناعمة تتأتى من جاذبية النموذج ، وما يمتلكه من قدرة على التأثير والإغراء للنخب والجمهور على السواء ، إذ حينما تبدو السياسة الوطنية مقبولة ومشروعة في أعين الأفراد تتراجع الحاجة إلى استخدام القوة العارية ، أو كما يقول جوزيف : "حينما أجعلك تريد فعل ما أريد منك فعله ، فليس ثمة موجب لاستخدام القوة " (نفس المرجع السابق) ، فالهيمنة بذلك هي الوجه الخفي للسلطة الذي تحاول أن تكسب به شرعية سياساتها بالحيلة والتخدير عوض الإكراه والإلزام ، فتوجيه سلوك الآخرين والتحكم في وعيهم من خلال آليات الضبط والتأثير الناعمتين ، إنما يعدان شكلا من أشكال الإكراه المبطن الذي قد تفوق خطورته ممارسة العنف الفج في كثير من الأحيان ، وبالتالي فالقوة الناعمة ،أو الرأسمال الرمزي بالتعبير السوسيولوجي ،هي ذلك السم اللذيذ الذي يوظف لصالح تفعيل استراتيجيات التحكم والهيمنة بأقل الخسائر الممكنة ، أي دون لجوء واضح وصريح للقوة العسكرية.
ولعل ما ذكره بن خلدون يتناسب اطرادا مع هذا السياق حيث أشار إلى أن "المغلوب مولع بتقليد الغالب وباستبطان شعور الخوف والوجل تجاهه والممزوج بالإعجاب والإنجذاب إليه ، هذا الشعور المتناقض والذي لا حيلة للميؤوس العاجز على مجابهته هو ما يشلّ قدرته على التفكير الواعي والمتبصر في الظواهر والأشياء" (بن خلدون ، 1377).
بل وحتى الأحزاب السياسية التي تحتل الفضاء السياسي يتم ضبطها بواسطة النظام الداخلي كما يؤكد على ذلك عبد الله حمودي ، هذا النظام الذي يتحكم في الانتفاضات الحضرية ويضعف النخب من جهة أخرى عن طريق شرائها أو إغرائها بمكاسب أخرى ، فالنخب التي تطالب بالتغيير ولا تعارض نظام المخزن تحضى بالنعم وتُقرّب من السلطة ، ومن هنا فإن ممارسة السلطة قائمة على تناقضات تجزيئية جهوية وتُبنى على أساس دعم الشبكات الموازية للمخزن وبالتالي يظل النظام الاجتماعي والسياسي مهددا طالما افتقد للموارد الضرورية لتلبية حاجات أفراده. تلك الموارد التي استنفتها القوى الموالية "المستشراة " للسلطة وأعادت توزيعها على الأجيال اللاحقة بحسب استحقاقاتها ، أي بحسب درجة ولاءاتها ، ولذلك فالتحكيم السلطوي يقوم على عملية احتكار الموارد الاستراتيجية بما يخدم مصالح الطبقة البورجوازية ويزيد من نفوذها . وهذا ما أكده مصطفى حجازي كذلك إذ يؤكد على أن المجتمعات المتخلفة" تستحكم فيها الحضوة التي تعطي الحظوظ جميعا لقلة قليلة من الناس ، وينتج عن هذه الظاهرة الاقتناع بأن طريق الثروة والارتقاء لا يكون بالجهد الفردي والكدح هزيل المردود ، وإنما بالاستزلام والتقرب من ذوي الحضوة" (حجازي ، 2001).
ولأن إثارة العنف كشكل من أشكال الاحتجاج على القائم من الأوضاع يفضي إلى تهديد مصالح الملاّك الكبار، كان لزاما على السلطة محاصرته بأي وجه كان والدعوة إلى العدول عنه في كل المنابر ، وإن لم تفلح في ذلك بتلك الوسائل الرمزية ، بادرت في زرع الرعب في نفوس المحتجين عن طريق الإنزال الأمني المكثف والاستعراض المهيب للقوة، فهي تعلم أن مطامح المجتمع المدني تتعارض وتنامي احتكاراتها الرمزية والمادية وتتعارض مع براغماتيتها المتوحشة.
لكن وظيفة السلطة ،كقائمة على تمكين الانضباط الأقصى والمطلوب لعناصر المجتمع ، لتحييد المخاطر وتفادي مساوئ التجمعات الكبيرة العدد، لا تقوم فقط بهذا الدور الوحيد كرمز للاستقواء المضمر بفرضية إحقاق الأمن ولكنها بحسب فوكو تلعب أيضا وبالتوازي مع ذلك ، دورا إيجابيا من شأنه أن ينمي المنفعة المحتملة للأفراد ، فالانضباط كما يردع الشاذ عن النسق المرتضَى ، فهو كذلك ينمي مهارة كل فرد ، وينسق بين هذه المهارات ويزيد من الانضباط في الشغل، ومن فرض احترام الأنظمة ، وفي منع السرقات والجرائم.
إن هذا الانضباط يعمل على تنمية الكفاءات وتحقيق الأرباح وتهذيب السلوكات ، وجعل منها غايات ويدخل الأفراد في مجموعة آلية وكل القوى ضمن الاقتصاد العام ، ولا شك أن هذا النوع من الانضباط للنسق الجاري هو تعزيز لقوة السلطة الناعمة وتفعيل لأهدافها ، وبذلك فالإنضباطات تعمل أكثر فأكثر كتقنيات تصنع أفراد مفيدين ، بشكل تتحرر معه من موقعها الاستبدادي وتنفصل معه عن أشكال الاستعباد أو التكفير أو الاعتقال الذي تمارسه . إنها بذلك تحاول أن تعوّض أفرادها عن أثر إكراهات تحكمها ورقابتها المفرطة بشيء رمزي يزيد من فرص صلتها القرابية معهم وبشكل يشرعن أكثر فأكثر ممارستها لسلطتها في أعين الأفراد ، فوضيفتها المزدوجة تلك هي ما يبرر تسلطها وما يمتص غضب أفرادها في الآن نفسه.




#محمد_البورقادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العولمة كسيرورة إنتاج لسياسات الطرد والإقصاء الاجتماعي ..
- واقع الفرد في ظل هيمنة العولمة والسلطة..
- جون جاك روسو وشروط تشكيل العقد الاجتماعي..
- نصائح للشباب: الإكثار من فعل الخير..
- اختلالات النسق الجامعي..
- إنسان اليوم في ظل الحضارة المادية..
- ماذا يُطْبَخُ للمجتمع المغربي تحت غطاء المقاربة التشاركية وا ...
- نظرة موجزة حول شروط إنتاج الإرهاب..
- حياتي كلها فداك يا أمّي ..
- نصائح للشباب : أقبل قبل المغادرة وتيقّظ قبل الفوات..!
- نصائح للشباب :الدخر ليوم الميعاد
- التعلق بغير الله خُذلان ..
- شقاوة الحب..
- داعش : شروط الإنتاج..
- التموقع الإقتصادي العربي في عالم العولمة..
- الفساد في مواجهة التنمية..
- تأملات في البادية..
- ماذا استفاد المجتمع من سياسة الخوصصة ؟!
- الإنسان في الفكر المادي..
- محاكمة العقل للفكر التطوري الدارويني..


المزيد.....




- تربية أخطبوط أليف بمنزل عائلة تتحول إلى مفاجأة لم يتوقعها أح ...
- البيت الأبيض: إسرائيل أبلغتنا أنها لن تغزو رفح إلا بعد هذه ا ...
- فاغنر بعد 7 أشهر من مقتل بريغوجين.. 4 مجموعات تحت سيطرة الكر ...
- وزير الخارجية الفرنسي من بيروت: نرفض السيناريو الأسوأ في لبن ...
- شاهد: أشباح الفاشية تعود إلى إيطاليا.. مسيرة في الذكرى الـ 7 ...
- وفد سياحي سعودي وبحريني يصل في أول رحلة سياحية إلى مدينة سوت ...
- -حماس- تنفي ما ورد في تقارير إعلامية حول إمكانية خروج بعض قا ...
- نائب البرهان يبحث مع نائب وزير الخارجية الروسي تعزيز العلاقت ...
- حقائق عن الدماغ يعجز العلم عن تفسيرها
- كيف تتعامل مع كذب المراهقين؟ ومتى تلجأ لأخصائي نفسي؟


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد البورقادي - السلطة القمعية وشروط بناء الفرد الخاضِع والمُنمَّط..