أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد البورقادي - إنسان اليوم في ظل الحضارة المادية..















المزيد.....

إنسان اليوم في ظل الحضارة المادية..


محمد البورقادي

الحوار المتمدن-العدد: 5133 - 2016 / 4 / 14 - 07:49
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إنسان اليوم يعيش في ترف لم يسبق أن عاش مثله قبل..ولكنه كذلك يعيش في تخمة وفي امتلاء ..وفي تضخم ..وفي ازدياد تضخم ..ولا يعرف كيف يصرف هذا التضخم ..
لقد جرب جميع الملذات ..ولبى جميع الشهوات ..وأطلق العنان لكل المكبوتات ..
نفسه دائما في احتقان ..فهي دائما في تطلع لقادم جديد ، للذة أخرى ..وكلما طرق سمعها جديد زاد شوقها للظفر به ..وكلما علمت بما سبقها الآخر إليه كلما زاد احتراقها وزادت لهفتها وتقطعت من شدة الحسد والطمع ..ونذبت حضها وسوء حالها ..وتأهبت بكل ما أوتيت للحاق ..فإن لحقت ترائى لها غَيْرٌ آخر قد ملك أكثر منها ..فنغص عليها ذلك حلاوة ما تملكه ..وعقدت العزم على اللحاق من جديد ..وهي في سباق على الدوام ..
وقد تجد الإنسان ينعم بصحة جيدة ..ويمتلك شقة فاخرة ..ويحضى وزوجة صالحة ..وله أبناء يبرونه ..وعمل بدخل قار ..وأصدقاء مخلصين ..ولكن رغم ذلك متوثر ..سريع الغضب ..نفسه تغلي لأتفه الأسباب ..ومن شدة الغليان ينفث السم من فمه على أول من أثاره ..ويتأفف دائما ..ولا يعرف سبب التأفف وإن سئل أجاب بأن ليس هناك شيء عاد يروقه ..وتزداد الشكوى ..والضجر والتذمر ..
إنه يبحث عن شيء لا يعرفه ولا يظن حتى أنه موجود ..ينشد سرابا يتخيل إليه من فرط تذمره أنه حقيقة ..وكلما مَرَّ عليه يوم لم يجده فيه زاد ألمه وتحرقت نفسه إليه ..
بات إنسان اليوم مالاًّ سئما..في جشع مستمر ..وفي نهم لا ينقطع ..ولا صبر له ..ولا حيلة له ..والحاجات تَخْلَقُ في نفسه كما يَخْلَقُ النبات بالمطر ..والأماني تلوكه في نفسه ولا يعرف كيف يصرفها ..والأحلام تتنامى في خياله ولا مُلجم لها ..بات حزينا كئيبا لا يَصْدِفُ عنه الحزن برهة إلا ليعاود الزيارة من جديد ..بات الحزن قرينه والسخط جليسه ..أحلامه لا تنفك تغادر مخيلته ولا تبارح ذهنه ..
إنسان اليوم يبحث في كل لحضة عن أفيون ..عن مخدر ينسيه مرارة الحياة التي يكابدها ..وألم المعاناة التي تنوء بحملها الجبال ..وحجم الهموم التي لفرط سمها يصدأ الحديد..
وكلما زاد سقف التمني كلما ازداد حجم التوثر ..وكلما كثر صياح اللهفة آرق الذهن ..وأذبل القلب ..فأفقده نوره ..وسلب منه راحته وأنسه ..
بات لا يضحك كما السابق ..ولا يسليه التلفاز أو الحاسب ..ولا يمتعه السفر ..ولا تنشط بدنه الرياضة ..إنسان اليوم بدا يتصنع المزحة ويتكلف الصواب وينافق العالم ويكذب على الكل ..وليته يستريح بهذه الأفعال ..بل كلما هم بفعلها زاد احتقانه وارتفع ضغطه ..
زوجته لا يسعد بها ..وأصبحت لا تروقه كما السابق ..حتى اللحضات الحميمية التي يقضيها معها لا يشعر بحلاوتها ولا يتمتع بها ..أصبح يعاملها بجفاء وبخشونه ..لا يكثرث لمشاعرها ..هي دائما تلاطفه وتتوسل بكل شيء لترضيه ..وتلوم نفسها إن قصرت معه في شيء ..وما إن يلمع في ذهنها ما قد يسترضيه حتى تهم بالإتيان به راجية كسب وده ..ولكنه رغم ذلك لا يرضى ولا تستهويه محاولاتها للتقرب منه ..بل أصبح يتلذذ بعنائها في سبيل رضاه ..وبشقائها لكسب عطفه ..إنه أناني ولا يحس بأنانيته ..إنها لا تدري أن المشكلة ليست فيها ..بل هو..إنه هو أصل المشكل !
غذا يبحث عن النجاة ..عن منفذ للخروج من هذا الضيق المتراكم ..لقد ملّ من كل شيء ..وأصبح يتشبث في كل ما من شأنه أن ينجيه ...يبحث عن النجاة في مخدر يتناوله ..في وجبة غذاء شهية يتناولها ..في نميمة أو غيبة تشفي غليل حقده وحسده ..في سيجارة يتناولها ..في خمر يشربها ..في جلسة قمر ..يبحث عن شيء يذر عليه المال ذرا ..يبحث عن لذته بين أحضان امرأة عارية في ليلة حمراء وسط فندق من خمس نجوم ..
لكنه لم يجد الخلاص رغم ذلك ..فما إن ينتهي مفعول السيجارة .المخدر ..النميمة ...إلخ حتى يعود إليه النداء من جديد ..والنداء هذه المرة أقوى مما سبق ..النداء يصم الآذان ويزيد الضغط ضغطا..وكلما استجاب للنداء زاد الضغط ..وكلما أراد أن يلبي حاجة النفس بإتيان مرادها ازداد نهمها وزاد إلحاحها لطلب المزيد ..وليتها تشبع بكثرة الإستجابة ..وليت رغبتها تقف عند حد ..ولكن طمعها ليس له حدود ولا يملأ جوفها شيء ..إنها عميقة بلا قرار ..وعالية بلا سقف كالبحر كلما شربت منه ازددت عطشا ..
بات يتقلب في الشهوات ..وينهل من السم يحسبه عسلا ..ومن الداء يحسبه دواء ..ويعمل بمنطق "داوني بالتي كانت هي الداء" ..ولكنه منطق سرعان ما يتكشف أنه خاطئ على الأقل في حالته هذه ..
فالضجر لا يشفيه إلا الكبح والمنع ..والسئم يأتي من عدم القناعة وسوء الرضا ..والإكتئاب مرده لعدم قدرة الإنسان على كبح الرغبات وقمع الشهوات التي ما إن يستحكم شوقها من القلب حتى تمرضه وما إن يتعلق بها المهج حتى تتلفه ..وما إن يعمل العقل على الإتيان بها حتى يظل ويشقى ..وما إن يرتمى على فراشها البدن حتى يذبل بعد هياجه ..وينفر بعد شوقه ..ويدبر ويفتر بعد إقباله وولعه ..
ولذلك فإنه ينشد المستحيل ..ويطلب ما لن يجده ..فلن يجد الخلاص في سرعة تلبية النداء ..ولن يجد الراحة في التطلع إلى من ملك أكثر منه ..والعجب العجاب أنه على علم بذلك ومع ذلك ما زال ينشد الحل فيه ..ولا جرم أنه كلما اختار ذلك ازداد عذابه ..وهو بغفلته كأنما يحتسي نارا يحسبها ماء ا باردا ..
إنه منهك وكلما زاد إنهاكه واضطرابه ..ازداد طغطه ..وكلما ازداد طغطه باغتته الخواطر والوساوس ..فتلمحت له الخلاص في الإنفجار ..في الإنتحار ..ولكنه متردد من الإقدام عليه
يمنعه من ذلك خوفه من اللامجهول ..مما بعد الموت.. فالبقاء في عذاب الحياة أهون عليه من المضي في طريق لا يعرفها ..
لقد بات يضحك عنوة ..ويأكل بدون رغبة في الأكل ..جفت عواطفه بعد أن كانت متقدة ..خبت عزيمته بعد أن كانت متأججة ..خملت نفسه بعد أن كانت نشطة مرحة..
أمسى لا يلاعب أطفاله إلا ناذرا ..وإن فعل ذلك فتكلفا ..
ولا يجامع زوجته إلا بطلب منها ..وإن حدث ذلك فيحدث بلا روح ولا معنى ..
ولا يجالس أهله إلا في وقت الأكل ..أما في غيره فتجده بين لوحته الرقمية .. أو هاتفه ..
لا يتكلم إلا قليلا وإن تكلم فالعصبية تحشو كلامه ..والإستبداد يلازم رأيه ..ونبرة صوته تنم عن حنقه ..وصوته يعلو كلما قاطعه أحد ..
أصبح منعزلا بعد أن كان منطلقا مرحا يحب الحياة ..وغدا دائم الشكوى قليل الرضى ..يشكو من لاشيء ..مرضه غير مرئي ويستعصي عليه تشخيصه ..
لقد دمرت العادة حسه ..ولم يعد يستجيب لمثيرات كان يستجيب لها من قبل ..إن العادة قتلت نشاطه وشلت حركته فأردته مسجونا في قفص الهم والضجر ..
لاشيء يثير انتباهه ..ويوقض غفلته ..لا شيء يسعده.. لا شيء يسترعي اهتمامه ..لقد فقد الأمل من الحياة عند فقده المعنى منها ..هذا المعنى الذي أغشته المادة "الحياة المادية" قبل أن تقتله العادة والطمع ..
إنه في انتظار دائم لشيء يفيقه من كابوسه ..ويرد له نشاطه ..ويبعث فيه الحياة من جديد ..لشيء يرد له روحه التي أفقدتها العادة حقيقتها وسرها..ويرجع له حماسه ..
لقد أغشاه حب المادة "الحياة المادية" فصار لا يرى للحياة معنى..لقد حسب أن في إطلاق العنان لشهوات النفس وعدم ضبط الحرية إنعام وسعادة ..ولكنه كان مخطأ من البداية لأنه لم يسمع لنداء آخر كان يؤزه أزا "الفطرة"..كان جرس الإنذار قويا في اللحظات الأولى ..قويا لدرجة تفقده الإستمتاع بلذة محضورة ..وتكبحه من الإسراف والتبذير في غير محله ..وتعرفه هدفه الحقيق من وجوده ، وترضيه بقدره في الحياة..لكنه لم يعر لتلك النداء ات بالا وفرط كثيرا حين لم يسمعها أو لم يرد أن يسمعها ..وهذا حال الإنسان في عجلته ..فهو عجول قل ما ينتبه لعواقب عمله ..ولا يستفق إلا بعد الفوات ..
لقد تناسى أن للحياة مثل ومبادئ وقيم بدونها يسقط في براثن العبث والعدمية ..فبدون إيمان وبدون مثاليات لا يمكن للحياة أن تُعاش ..وبدون تلاقح الجسد مع الروح وانصهارهما لن تستقر النفس ولن يهدأ روعها ..وبدون بوصلة حقيقة تقود في موج الحضارة المادية سيغرق الإنسان في بحر الحس الذي لا ارتواء فيه وإنما إنهاك وإهلاك ..
لقد غفل عن حقيقة أن شهوات الحس ليست غاية لذاتها من حيث تقوده لليأس والملل عوض السعادة "المزيفة "..وأنها أفيون يبلّد عقله وينسيه صوابه ويعمي بصيرته ويتلف بوصلته ..
وبدون وجود حقيقة أسمى يعيش لأجلها سيكتشف أن حقا ليس لوجوده معنى ..



#محمد_البورقادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا يُطْبَخُ للمجتمع المغربي تحت غطاء المقاربة التشاركية وا ...
- نظرة موجزة حول شروط إنتاج الإرهاب..
- حياتي كلها فداك يا أمّي ..
- نصائح للشباب : أقبل قبل المغادرة وتيقّظ قبل الفوات..!
- نصائح للشباب :الدخر ليوم الميعاد
- التعلق بغير الله خُذلان ..
- شقاوة الحب..
- داعش : شروط الإنتاج..
- التموقع الإقتصادي العربي في عالم العولمة..
- الفساد في مواجهة التنمية..
- تأملات في البادية..
- ماذا استفاد المجتمع من سياسة الخوصصة ؟!
- الإنسان في الفكر المادي..
- محاكمة العقل للفكر التطوري الدارويني..
- حال الناس بين الغفلة واليقظة..
- جَحِيمُ الخادماتِ في السعودية..
- رهانات التنمية وإكراهات البيئة ..
- رهانات التنمية وإكراهات البيئة .
- لقد مات من فَرْطِ الإستهلاك ..
- الرأسمالية والإغتراب ..


المزيد.....




- السعودية.. أحدث صور -الأمير النائم- بعد غيبوبة 20 عاما
- الإمارات.. فيديو أسلوب استماع محمد بن زايد لفتاة تونسية خلال ...
- السعودية.. فيديو لشخصين يعتديان على سائق سيارة.. والداخلية ت ...
- سليل عائلة نابليون يحذر من خطر الانزلاق إلى نزاع مع روسيا
- عملية احتيال أوروبية
- الولايات المتحدة تنفي شن ضربات على قاعدة عسكرية في العراق
- -بلومبرغ-: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائ ...
- مسؤولون أمريكيون: الولايات المتحدة وافقت على سحب قواتها من ا ...
- عدد من الضحايا بقصف على قاعدة عسكرية في العراق
- إسرائيل- إيران.. المواجهة المباشرة علقت، فهل تستعر حرب الوكا ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد البورقادي - إنسان اليوم في ظل الحضارة المادية..