أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عبد الحسين سلمان - الماركسية الغربية – 3 من غرامشي إلى مدرسة فرانكفورت















المزيد.....


الماركسية الغربية – 3 من غرامشي إلى مدرسة فرانكفورت


عبد الحسين سلمان
باحث

(Abdul Hussein Salman Ati)


الحوار المتمدن-العدد: 5211 - 2016 / 7 / 2 - 17:25
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


الماركسية الغربية – 3
من غرامشي إلى مدرسة فرانكفورت

تأليف: دوغلاس كلنر...
ترجمة: الراحل كامل شياع
مراجعة : عبد الحسين سلمان


تقيم القوى الفكرية والثقافية السائدة في عصر من العصور، بالنسبة للمنظر الماركسي الإيطالي أنتونيو غرامشي، نوعاً من الهيمنة (hegemony), أو السيطرة بواسطة الأفكار والأشكال الثقافية التي تستحث على أو تغري بقبول حكم الجماعات القائدة للمجتمع.
وقد حاجج غرامشي بأن وحدة الجماعات السائدة (prevailing groups) , عادة ما تنتج من قبل الدولة (كما في الثورة الأمريكية أو توحيد إيطاليا في القرن التاسع عشر)، ولمؤسسات “المجتمع المدني” أيضاً دور في إقامة وتدعيم الهيمنة.
والمجتمع المدني، المقصود هنا، يشمل :
مؤسسات الكنيسة، التعليم، الإعلام وأشكال الثقافة الشعبية، وسواها.
هذا المجتمع يتوسط بين المجال الخاص للمصالح الإقتصادية والعائلة والمجال العام المتمثل بسلطة الدولة.

إن المجتمعات، في نظر غرامشي، تحافظ على إستقرارها من خلال الربط بين “السيطرة” أو القوة و”الهيمنة” المنظور إليها كقبول بـ أو إجماع على “القيادة الفكرية والإخلاقية”.
لذلك نرى وجود النظم الإجتماعية وإعادة إنتاجها يتحقق عبر بعض المؤسسات والجماعات بإتباع العنف لممارسة السلطة والسيطرة لحفظ الحدود والضوابط الإجتماعية (مثال ذلك نجده في قوات الشرطة، الجيش، لجان الأمن الأهلية)، في حين أن مؤسسات (كالدين والتعليم والإعلام) تدفع بإتجاه القبول بالنظام السائد من خلال ثبيت الهيمنة، أو السيطرة الأيديولوجية لنمط محدد من النظام الإجتماعي (مثلا، السوق الرأسمالية، الفاشية، الشيوعية وهكذا…).
إضافة إلى ذلك، تثبت المجتمعات هيمنة الرجال وبعض الأعراق عبر إضفاء طابع مؤسسي للنظرة الأبوية وتفوق الذكور أو سيادة عرق حاكم أثنية على جماعات أخرى تابعة.
المثال الرئيسي الذي يسوقه غرامشي في ” دفاتر السجن” , هو الفاشية الإيطالية التي إستأصلت النظام البرجوازي الليبرالي الذي سبقها (في إيطاليا) من خلال سيطرتها على الدولة وممارستها، القمعية غالباً، التأثير على التعليم، الإعلام، والمؤسسات الأخرى الثقافية والإجتماعية والسياسية.
إن نظرية الهيمنة عند غرامشي تتضمن في وقت واحد تحليل قوى الهيمنة القائمة والأساليب التي بواسطتها تحوز جماعات سياسية معينة سلطة مهيمنة، وترسيم خطوط القوى والجماعات والإفكار المضادة للهيمنة والتي بوسعها قلب وضع الهيمنة السائد.
كمثال على هذا فإن تحليل كيفية فوز النظامين المحافظين لمارغريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في الولايات المتحدة بالسلطة في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات يتطلب دراسة تفصيلية لتمكن الجماعات المحافظة من الهيمنة عبر السيطرة على الدولة، إستخدام الإعلام، التكنولوجيا الجديدة، والمؤسسات الثقافية مثل مراكز البحث، جمع التمويل، والجماعات السياسية الفاعلة.
إن تفسير صعود وهيمنة السياسة المحافظة لتاتشر وريغان يتطلب تحليل كيفية فرض هيمنة تلك السياسة في الإعلام والمدارس والثقافة بصورة عامة. ولا بد لهذا التحليل من أن يناقش كيف تم النظر إلى السوق، على المستوى العام أو المعولم، وليس إلى الدولة كمصدر لجميع أشكال الثروة وكحلّ لكل المشاكل الإجتماعية، في مقابل ذلك، صُورت الدولة كمصدر لنظام ضريبي مفرط، تقييدات مبالغ فيها، وعطالة بيروقراطية.
حدد غرامشي الأيديولوجيا بأنها الأفكار السائدة التي تشكل ” السمنت الإجتماعي” (social cement), الذي يوحّد النظام الإجتماعي السائد ويضفي عليه التماسك.
ووصف فلسفته بأنها “فلسفة ممارسة” (praxis), لكونها تمثل نمطاً من الفكر المناقض للأيديولوجيا ونوعاً من الفعل الذي ينازع المؤسسات والعلاقات الإجتماعية السائدة، وذلك بهدف إنتاج “هيمنة إشتراكية مضادة”.
في مقاله ” موضوعات ثقافية: Cultural Themes:: مادة الأيديولوجيا” :
لاحظ غرامشي أن الطباعة في زمنه كانت الوسيلة السائدة لإضفاء الشرعية الأيديولوجية للمؤسسات وللنظام الإجتماعي القائم، رغم ذلك، هناك مؤسسات أخرى كثيرة مثل الكنيسة، المدارس والجمعيات الثقافية-الإجتماعية والجماعات لعبت هي الأخرى دوراً في ذلك.
ودعا إلى توجيه نقد مستديم لهذه المؤسسات وللأيديولوجيا التي تضفي الشرعية عليها، وبموازاة ذلك، دعا إلى إيجاد مؤسسات وأفكار مضادة من شأنها أن تنتج بدائل للنظام القائم.
نقد غرامشي لنمط الثقافة السائدة والمجتمع إستأنفته مدرسة فرانكفورت والدراسات الثقافية البريطانية، اللتان وفرتا العديد من الأدوات النافعة للنظرية الإجتماعية والنقد الثقافي.
إن مفاهيم مثل الأيديولوجيا واليوتوبيا والنظرية الإجتماعية المادية التاريخية التي أسهم كل من لوكاش وبلوخ في تطويرها، قد أثّرت في مسار مدرسة فرانكفورت. يشير مصطلح ” مدرسة فرانكفورت” إلى نتاج مجموعة معهد البحث الإجتماعي الذي تأسس في فرانكفورت/ ألمانيا عام 1923 وكان أول معهد ذا توجه ماركسي مرتبط بجامعة ألمانية مهمة, تحت قيادة مديره، كارل غرونبيرغ.

نهج عمل المعهد في عشرينيات القرن الماضي نهجاً تجريبياً وتاريخياً متوجهاً نحو مشاكل حركة الطبقة العاملة الأوربية.
في عام 1930 تولى رئاسة المعهد ماكس هوركهيمر الذي جمع حوله شلّة من المنظرين الموهوبين أمثال أريك فروم، فرانز نومان، هربرت ماركوزة، تيودود أدورنو. وسعى المعهد بتوجيه من ماكس هوركيمر إلى تطوير نظرية إجتماعية متعددة الإختصاصات يمكن توظفيها كأداة للتحول الإجتماعي.
كان عمل المعهد في تلك الحقبة يقوم على جمع وتركيب الفلسفة والنظرية والإجتماعية، عبر الربط بين علم الإجتماع وعلم النفس والدراسات الثقافية والإقتصاد السياسي.
المشروع الكبير الأول للمعهد في عهد هوركهيمر تمثّل في طرح دراسة منهجية للسلطة، هي عبارة عن بحث في أفراد إستسلموا لسلطة غير عقلانية في نظم سلطوية (authoritarian regimes) .
وتوج هذا العمل بكتاب من جزءين بعنوان ” دراسات في السلطة والعائلة” Studies on Authority and Family..(1936) وبسلسلة دراسات عن الفاشية.
كان أغلب باحثي المعهد من اليهود والماركسيين الراديكاليين الذين أضطروا لمغادرة ألمانيا بعد صعود هتلر إلى السلطة.
أغلب هؤلاء هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث تم إلحاق المعهد بجامعة كولومبيا بين عامي 1931 و1949 وهو تاريخ إنتقال المعهد مجدداً إلى فرانكفورت.
منذ عام 1936 إلى يومنا هذا وسم المعهد عمله بأنه ” النظرية النقدية للمجتمع”. وأضحت “النظرية النقدية” لسنوات طويلة علامة مميزة للطابع الماركسي للمعهد، وتفردت في محاولة إيجاد نظرية إجتماعية نقدية متعددة الإختصاصات متجذرة في الديالكتيك الهيغلي- الماركسي، المادية التاريخية، ونقد الإقتصاد السياسي، ونظرية الثورة.

أظهر أعضاء المعهد أن مفاهيم ماركس عن البضاعة، النقود، القيمة، التبادل، الفيتشية (الصنمية) لا تنطبق فقط على الإقتصاد الرأسمالي ولكن أيضاً على العلاقات الإجتماعية في ظل الرأسمالية، حيث تتحكم السلعة وعلاقات وقيم التبادل بالعلاقات الإنسانية وبجميع أشكال الحياة الأخرى.
حاجج هوركيمر في مقال من مقالاته الرئيسية المعنون ” النظرية التقليدية والنظرية النقدية”... Traditional and Critical Theory (1937) :
بأن النظرية التقليدية ( تشمل الفلسفة الحديثة والعلم منذ ديكارت) تنزع عموماً إلى التجريد، موضوعانية..... objectivistic ( تنظر إلى الموضوع من الخارج. المترجم) ومعزولة عن الممارسة الإجتماعية.
على نقيضها، فإن النظرية النقدية النابتة في النظرية الإجتماعية والإقتصاد السياسي “الماركسي.... Marxian”، تقدم نقداً منهجياً للمجتمع القائم، وتتحالف مع الجهود المبذولة لإنتاج بدائل للرأسمالية والمجتمع البرجوازي( الذي كان آنذاك يمر في طور الفاشية بالنسبة لأغلب بلدان أوربا).
كتب هوركيمر بأن ” محتوى” النظرية النقدية ” يكمن في تغيير المفاهيم التي هيمنت على الإقتصاد إلى نقائضها: تبادل عادل بدلاً من اللاعدالة الإجتماعية المترسخة، إقتصاد حر بدلاً من الهيمنة الإحتكارية، العمل المنتج بدلاً من تعزيز العلاقات التي تمنع الإنتاج، الحفاظ على حياة المجتمع بدلاً من إفقار حياة الناس.
إن هدف النظرية، عند هوركيمر، هو تغيير الشروط الإجتماعية، وتوفير نظرية لـ ” للحركة التاريخية للحقبة التي أوشكت الآن على نهايتها” .
أنتجت النظرية النقدية تحليلاً نظرياً لتحول رأسمالية المنافسة إلى رأسمالية الإحتكار والفاشية، وتطلعت لأن تكون جزءاً من الحركة التاريخية التي تستبدل فيها الرأسمالية بالإشتراكية.
أدعى هوركهيمر بأن , المقولات التي برزت تحت تأثير (الإشتراكية) تتجه نحو نقد الحاضر. والمقولات الماركسية عن الطبقة، الإستغلال، فائض القيمة، الربح، الإفقار والإنهيار هي لحظات في إطار كلي يتطلب البحث عن معناه ليس في إعادة إنتاج المجتمع الحاضر، بل في تحويله إلى مجتمع سليم.
لذلك فإن النظرية النقدية تجد حافزها في مصلحة التحرر، وهي فلسفة للمارسة الإجتماعية المنخرطة في ” النضال من أجل المستقبل”. لذلك يجب على “النظرية النقدية” أن تكون مناصرة لـ ” فكرة مجتمع المستقبل بوصفه تجمعاً لبشر أحرار، مادام هذا المجتمع ممكن التحقيق، مع الأخذ بالإعتبار الوضع الحالي للوسائل التقنية .
في سلسلة من الدراسات المنجزة في عقد الثلاثينات من القرن الماضي، طوّر معهد البحث الأجتماعي نظريات عن الرأسمالية الإحتكارية، الدولة الصناعية الجديدة، دور التكنولوجيا والشركات العملاقة في إطار الرأسمالية الإحتكارية، الأدوار المهمة للثقافة الجماهيرية والإتصال في إعادة إنتاج المجتمعات المعاصرة، والإنحدار الحاصل في الديمقراطية ومكانة الأفراد. وإستندت النظرية النقدية على ديالكتيك هيغل، النظرية الماركسية، نيتشه، فرويد، ماكس فيبر والإتجاهات الأخرى في الفكر المعاصر.
ورسمت ملامح واضحة لنظريات إحتلت موقعها في مركز النظرية الإجتماعية لعدة عقود قادمة.
ولم يحصل إلا نادراً أن إجتمعت في وقت واحد نخبة من مفكرين موهوبين كهؤلاء في مجال الدراسات المتعددة الإختصاصات تحت رعاية معهد بحثي واحد. وقد تمكن هذا الفريق من إدامة حضور النظرية الإجتماعية الراديكالية خلال فترة تاريخية صعبة، ووضع ملامح نظرية ماركسية محدثة لواقع إجتماعي متغير ولوضع تاريخي جديد في طور إنتقال من رأسمالية المنافسة إلى الرأسمالية الإحتكارية.
خلال الحرب العالمية الثانية ونتيجة لضغوطها إنقسم المعهد وتفرق أعضاؤه، فأنتقل أدورنو وهوركهيمر إلى كاليفورنيا، في حين عمل لوينثال وماركوزة ووفومان وآخرون في خدمة الحكومة الأمريكية كمساهمين في الصراع ضد الفاشية.
في تلك الفترة تعاون أدورنو وهوكهيمر لإنجاز كتابهما المشترك ” ديالكتيك التنوير” (1947) الذي إستعرضا فيه رؤية التاريخ منذ اليونانيين القدماء حتى الوقت الراهن، ناقشت(الرؤية) كيف أن العقل والتنوير إنقلبا إلى نقيضهما من حيث الجوهر، ليحولا ما كان يعدّ وسائل للحقيقة والحرية إلى مجرد وسائط للهيمنة.
كنتيجة لضغط نظم الهيمنة الإجتماعية، أصبح العقل أداتياً يميل لإختزال الكائنات الإنسانية إلى أشياء ومواضيع، والطبيعة إلى أرقام.
ولئن مكّنت أنماط تفكير تجريدي كهذه العلم والتكنولوجيا من التطور المطّرد، فإنها أنتجت فعلياً تشيؤاً إجتماعياً، توجته معسكرات الإعتقال التي نظرت للموت نظرة نفعية (مجردة من أي إعتبار إنساني. المترجم).
يُظهِر كتاب ” ديالكتيك التنوير” كيف غدا العقل ذو طابع أداتي ( العقل المستخدم كأداة وليس العقل كقيمة بناءة للحياة.المترجم)، وكيف أن العلم والتكنولوجيا أنتجا وسائل مرعبة للتدمير والموت، وكيف جرى تسليع الثقافة بصناعة الإنتاج الواسع للثقافة، وكيف آلت الديمقراطية إلى فاشية حين إختارت الجموع حكاماً مستبدين ومضللين.
علاوة على ذلك، أوضح الكتاب كيف أن الأفراد، برؤيتهم المفرطة في تشاؤمها، قد قمعوا حاجاتهم الجسدية وتخلوا عن رغباتهم نتيجة دمجهم وتسليمهم بمعتقدات كبتية، وتركوا إنفسهم يتحولون إلى أدوات للعمل والحرب.
طرح هوكهيمر وأدورنو نقداً حاداً للنزعة العلمية العقلانية في فكر التنوير، ولنظم السيطرة الإجتماعية، وسحبا نقدهما ضمناً على الماركسية لأنها هي الأخرى أكدت على أولوية العمل والعقل الأداتي في نزعتها العلمية وأحتفائها بـ ” الإنتاج الإشتراكي” وإقتسامها ” مسلمات” الحداثة الغربية والهيمنة على الطبيعة.
بعد الحرب العالمية الثانية عاد أدورنو وهوركهيمر وبولوك إلى فرانكفورت لإعادة تأسيس المعهد في ألمانيا، في حين بقي لوينثال، ماركوزة وآخرون مقيمين في الولايات المتحدة.
في ألمانيا نشر أدورنو وهوكهيمر ومساعدوهم سلسلة كتب وأصبح المعهد يمثل تياراً فكرياً بارزاً. وأصبح مصطلح “مدرسة فرانكفورت” أنذاك منتشراً كسمة مميزة لطريقتهم في البحث الإجتماعي المتعدد الإختصاصات، وبشكل خاص للنظرية الإجتماعية التي طورها أدورنو، هوركهيمر ومساعدوهما.
وقد إنخرط ممثلو هذه المدرسة في نقاشات منهجية وجوهرية مع منظرين إجتماعيين آخرين، وتحديداً في ما عرف بـ “الخلاف الوضعي”..... “the positivism dispute,” ، حيث إنتقدوا المقاربات التجريبية والكمية في النظريات الإجتماعية، ودافعوا عن نسختهم التأملية والنقدية للنظرية الإجتماعية.
وكانت المجموعة التي تحلقت حول أدورنو وهوركهيمر قد عبّرت عن عداء متزايد للماركسية الجامدة، وتبعاً لذلك إنتقدوا بأشكال مختلفة ” الماركسية- اللينينة” و”الماركسية العلمية” لتخليهما عن المنظور الثوري العلمي للماركسية.
ولعل أفضل ما عرفت به مدرسة فرانكفورت هو النظريات التي قدمتها عن ” المجتمع المدار كلياً”..... “the totally administered society,” (الخاضع للإدارة الشاملة. المترجم) أو ” مجتمع البعد الواحد” والتي حلّلت السلطة المتزايدة للرأسمالية على جميع مناحي الحياة الإجتماعية وتطور أشكال جديدة من السيطرة الإجتماعية.

لكن خلال عقد الخمسينات من القرن الماضي، حصل تباعد بين العمل الذي إضطلع به المعهد في فرانكفورت والنظريات التي طرحها أريك فروم، لوينثال، ماركوزة وآخرون من الذين لم يعودوا إلى ألمانيا، وجاءت متعارضة مع البحوث السابقة والجارية آنذاك لأدورنو وهوركهيمر.

لذلك من غير الصحيح النظر إلى عمل المنظرين النقديين المختلفين خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كوحدة متماسكة ومنسجمة مع نفسها. وبينما كان هناك إحساس مشترك بغاية محددة وعمل جماعي في مجال النظرية الإجتماعية المتعددة الإختصاصات منذ عام 1930 وحتى بداية الأربعينات، فقد سار منظرو هذه المدرسة في مسالك متعارضة، وصار مصطلح ” مدرسة فرانكفورت” يشير فعلياً خلال الخمسينات والستينات إلى عمل المعهد في ألمانيا فقط.

يورغن هابرماس :
الذي هو أحد طلاب أدورنو وهوركهيمر أنتج مادة غنية من الأعمال الدائرة حول إشكالية الماركسية الغربية، لتفضي تدريجياً إلى تقديم مساهمة فلسفية خاصة به عن العقل التواصلي والنظرية النقدية الإجتماعية.
في عمله المبكر، طرح هابرماس رؤى تاريخية نقدية حول الإنتقال من الثقافة التقليدية والحيز العام الديمقراطي إلى مجتمع الإعلام الجماهيري والإستهلاك. في كتابه الرائد ” التحول البنيوي للحيز العام…. The Structural Transformation of the Public Sphere , وضع هابرماس في السياق التاريخي تحليلات أدورنو وهوركهيمر لصناعة الثقافة.
من خلال عرض الخلفية التاريخية لإنتصار صناعة الثقافة، ناقش هابرماس كيفية تميز المجتمع البرجوازي في نهاية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر من خلال صعود مكانة الحيز العام الذي يقف بين المجتمع المدني والدولة والذي يلعب دوراً وسيطاً بين المصالح العامة والخاصة.
فلأول مرة في التاريخ صار ممكناً للأفراد والجماعات تحديد ملامح الرأي العام وإعطاء تعبير مباشر لحاجاتهم ومصالحهم أثناء تأثيرهم على الفعل السياسي. فالحيز العام البرجوازي جعل من الممكن تشكيل حقل للرأي العام المعارض لسلطة الدولة والمصالح المتنفذة التي صنعت ملامح المجتمع البرجوازي.
لقد حلل هابرماس التحول من الحيز العام الليبرالي الذي نشأ في عصر التنوير ومن الثورتين الأمريكية والفرنسية إلى الحيز العام المسيطر عليه من قبل الإعلام في المرحلة الراهنة التي يدعوها مرحلة “دولة الرفاه الرأسمالية والديمقراطية الجماهيرية.”
وهذا التحول التاريخي يجد أساسه في نظرية هوركهيمر وأدورنو عن صناعة الثقافة حيث سيطرت شركات عملاقة على الحيز العام وحولته من حقل للتحاور العقلاني إلى حقل يتحكم فيه الإستهلاك والروح السلبية.
في هذا التحول إنتقل ” الرأي العام... public opinion” من الإجماع العقلاني النابع من المجادلة والنقاش والتأمل إلى رأي مصنّع من قبل إستطلاعات الرأي وخبراء الإعلام.
وبالنسبة لهابرماس، فإن الترابط الداخلي بين مجال المناظرة العامة والمشاركات الفردية قد انكنسر وتحول إلى مجال التحكم السياسي والإستعراض، حيث يستقبل المواطن- المستهلك ويمتص بصورة سلبية مواد التسلية والمعلومات.
لذلك تحوّل المواطنون إلى مشاهدين لبرامج وخطابات وسائل الإعلام التي تتحكم بالنقاش العام وتختزل مشاهديها إلى مواضيع للأخبار والمعلومات والشؤون العامة.
ويلخص هابرماس ذلك قائلا: “طالما أن الإعلام الجماهيري اليوم يزيل القشرة الأدبية من التأويل الذاتي البرجوازي ويستخدمها كأشكال قابلة للتسويق للخدمات العامة المقدمة من ثقافة المستهلكين، فإن المعنى الأصلي قد إنقلب رأساً على عقب .
لكن نقاد هابرماس حاججوا مدعين أنه قد أضفى بعداً مثالياً على المجال العام البرجوازي المبكر لأنه قدمه كمنتدى للنقاش العقلاني في حين أنه جرى، في الواقع، إستبعاد بعض الجماعات، وتم تجاهل عدة قوى معارضة كالطبقة العاملة، عامة الناس، والحقل العام للنساء، تلك القوى التي نمت إلى جوار الحقل العام البرجوازي لتمثل أصوات ومصالح بقيت مستبعدة من هذا المنتدى.
رغم ذلك فإن هابرماس محقّ حين إعتبر أنه خلال عهد الثورات الديمقراطية برز مجال عام سمح للمرة الأولى في التاريخ للمواطن العادي بالمشاركة في النقاشات والمناظرات السياسية، والتنظيم والنضال ضد السلطة غير العادلة.
إضافة إلى ذلك، أشار هابرماس إلى الدور المهم المتزايد للإعلام في السياسة والحياة اليومية وإلى الوسائل التي إتبعتها الشركات لإحتلال هذا المجال(العام) مستخدمة الإعلام والثقافة للترويج لبرنامجها ومصالحها.
النسخة الخاصة للنظرية النقدية التي صاغها هابرماس وظّفت اللسانيات، والأبعاد التواصلية في الفلسفة والنظرية الإجتماعية التي لم يكترث لها الأعضاء الآخرون لمدرسة فرانكفورت، وضمت إليها طيفاً واسعاً من النظريات القديمة والمعاصرة. في كتاب ” النظرية والممارسة” (1973) برز هابرماس كنصير للطابعين القيمي والعملي للنظرية الإجتماعية النازعة إلى التحرر والتحول الإجتماعي التقدمي. أما كتابه ” المعرفة والمصالح الإنسانية” (1971) فقد إقتفى الإختلافات بين النظرية الإجتماعية ذات المنهج التحليلي (الوضعي) الهادفة إلى السيطرة والمعرفة الموضوعية، والنظرية التأويلية الهادفة إلى الفهم (كما في نموذج العلوم الإنسانية)، والنظرية الإجتماعية النقدية التي تتخذ من التحرر غاية لها.
لكن القطيعة الأكثر وضوحاً لهابرماس مع النظرية الإجتماعية لمدرسة فرانكفورت ومع الماركسية الغربية تمثلت في كتابه ذي الجزئين ” نظرية الفعل التواصلي Theory of Communicative Action…” (1983).
في هذا العمل الكبير أظهر هابرماس بأن كلاً النظرية الكلاسيكية (القديمة) والنقدية قد أخفقتا في تطوير أفكار عن الفعل التواصلي، ولذلك لم تقدما نماذج وافية للتحليل اللغوي والمعياري وكذلك للنظرية الديمقراطية عن الإجماع.... (إتفاق جماعي في الرأي) consensus.
عبر حوار مع المنهج التأويلي، نظرية النظم، البراغماتية، فلسفة التحليل اللغوي وبعض الإتجاهات الوضعية في العلوم الإجتماعية ,حاول هابرماس تطوير أسس معيارية جديدة للنظرية النقدية رابطاً إياها مع مشروع الديمقراطية الجذرية.
وقد واصل هابرماس وآخرون ممن تأثروا بمدرسة فرانكفورت سعيهم لإيجاد نماذج مختلفة للنظرية الإجتماعية النقدية بربطها بالنظرة النسوية (كنانسي فريزر وشليا بن حبيب .. Shelia Benhabib ) التعددية الثقافية وموضوعات وحقول كثيرة أخرى.
من استعراض حقل النظرية النقدية، يلاحظ المرء وجود عدم إنسجام في النظريات والمنظرين والمشاريع ذات الصلة الضعيفة بالإلتزام بالبحث المتعدد الإختصاصات في النظرية الإجتماعية، وبالإهتمام بالنقد الإجتماعي والتحول تحت تأثير أعمال منظرين كأدورنو، هوركهيمر، ماركوزة، هابرماس وآخرين.
النظريات النقدية تنزع لأن تكون متشككة ومتحفظة إزاء النظرية الإجتماعية التجريبية والكمية، ومتعاطفة مع التركيب النظري، النقد الإجتماعي والتحول الإجتماعي. وقد واصلت دورها كنظرية ذات نزعة فاعلة رغم أنها غالباً ما تكون هامشية حيث نازعتها خلال ستينات القرن الماضي أشكال ماركسية أكثر فاعلية .
يتبع.......

يمكن الحصول على الكتب التالية من الروابط آدناه:

1. كتاب : دراسات في السلطة والعائلة
http://freudians.org/wp-content/uploads/2014/09/Horkheimer-Authority-and-the-Family.compressed.pdf

2. كتاب : ” النظرية التقليدية والنظرية النقدية”...
https://www.sfu.ca/~andrewf/hork.doc

3. كتاب النظرية و الممارسة
https://ricardoblaug.files.wordpress.com/2009/11/democracy-real-and-ideal-main-text1.pdf

4. كتاب : نظرية الفعل التواصلي

http://www.dphu.org/uploads/attachements/books/books_2795_0.pdf

5. كتاب دفاتر السجن:
https://ia600805.us.archive.org/13/items/ketab0812/ketab0812.pdf




#عبد_الحسين_سلمان (هاشتاغ)       Abdul_Hussein_Salman_Ati#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الماركسية الغربية -2
- الماركسية الغربية -1
- ماركس المغدور بالترجمة العربية
- الاسلام السياسي - الحاكمية لله
- حسقيل قوجمان: البريء
- كارثة العراق الاقتصادية و مخالب صندوق البنك الدولي
- طوطم (طبقة !) العمال العراقية.
- الاقتباس من ماركس : فارس كمال نظمي نموذجاً.
- ميزانية العراق لعام 2016 والكارثة القادمه.
- ثروة الامم-14
- ثروة الامم-13
- ثروة الامم-12
- مؤشر الارهاب العالمي لسنة 2015
- ثروة الامم-11
- ثروة الامم-10
- ثروة الامم-9
- عبد الحسين سلمان (جاسم الزيرجاوي) - كاتب , باحث ومحقق في الف ...
- ثروة الامم-8
- ثروة الامم-7
- ثروة الامم-6


المزيد.....




- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عبد الحسين سلمان - الماركسية الغربية – 3 من غرامشي إلى مدرسة فرانكفورت