أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالخالق حسين - التجربة الديمقراطية في العراق















المزيد.....


التجربة الديمقراطية في العراق


عبدالخالق حسين

الحوار المتمدن-العدد: 1395 - 2005 / 12 / 10 - 12:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


بمبادرة من جمعية الأقباط في الولايات المتحدة الأمريكية ورعاية المهندس عدلي أبادير يوسف، تم تنظيم مؤتمر الأقباط العالمي الثاني في العاصمة الأمريكية واشنطن فى الفترة بين 16 و19 نوفمبر 2005، لمناقشة محنة الأقباط في مصر والأقليات الأخرى في البلاد العربية وكذلك "أوضاع الديموقراطية والحريات فى الشرق الأوسط". وقد شرفني منظمو المؤتمر بدعوتهم لي لإلقاء بحث عن (التجربة العراقية في الديمقراطية). وكان المؤتمر ناجحاً و رائعاً بوقائعه ونتائجه وقراراته وبمن حضره من المثقفين الليبراليين العرب الذين أسعدت وتشرفت بلقائهم لأول مرة بعد أن كنا نعرف بعضنا بعضاً إلكترونياً ومن خلال النشر. وكانت أيام المؤتمر حقاً فترة سعيدة وحافلة بالأعمال الفكرية النيرة لخدمة شعوب الشرق الأوسط. أدناه الترجمة العربية بشكل مفصل لمداخلتي التي أرتجلتها بإيجاز شديد.

السيد رئيس المؤتمر، سيداتي وسادتي،
أشكركم على دعوتكم الكريمة لي لتقديم مداخلة عن (التجربة العراقية في الديمقراطية) واهتمامكم بالقضية العراقية. وهذا دليل على إدراككم العميق أن مشكلتكم ليست بمعزل عن مشاكل المنطقة وعلى رأسها غياب الديمقراطية. يقول الفيلسوف الألماني هيغل: (إن ولادة الأشياء العظيمة دائماً مصحوبة بألم). والديمقراطية من أعظم ما أنتجته الحضارة البشرية. لذلك فإن ولادة الديمقراطية في أي مكان من العالم كانت دائماً تمر بمخاض عسير، وغالباً ما كانت تحتاج إلى عملية جراحية قيصرية على شكل حروب أهلية وثورات وانتفاضات شعبية مسلحة، والنموذج العراقي ليس استثناءً. في الحقيقة إن النموذج العراقي هو من أصعب الحالات لأسباب عديدة، كما هو واضح مما يجري في العراق الآن. ولنفهم أسباب هذه الصعوبات أرى من المفيد أن أقدم ولو بإيجاز شديد نبذة عن خلفية العراق وشعبه. إن الصعوبات التي تواجهها العملية الديمقراطية في العراق ناتجة عن عدة عوامل خاصة بهذا البلد: الجغرافية والديموغرافية والتاريخ السياسي.

العامل الجغرافي:
لا شك أن للجغرافية تأثيراً كبيراً على التطور الحضاري في أي مكان. والعراق واقع في أسخن منطقة في العالم ألا وهي منطقة الشرق الأوسط. وهذه الخواص الجغرافية هي التي جعلت من العراق أو وادي الرافدين، كما كان يسمى في الماضي، مهداً للحضارة البشرية. والعامل ذاته جعل من العراق بؤرة للصراعات السياسية والفكرية والمذهبية وعدم الاستقرار في المنطقة. ولذلك ليس غريباً أن اختار التاريخ العراق في وقتنا الحاضر، عصر العولمة، ليكون ساحة للحرب بين الديمقراطية والحرية والحضارة من جهة والإرهاب والاستبداد الفاشي الشمولي والهمجية من جهة أخرى.

العامل الديموغرافي
هذا العامل مرتبط بالعامل الجغرافي، فمكونات الشعب العراقي لها علاقة وثيقة بالدول المحيطة بالعراق. هناك ست بلدان تجاور العراق، مختلفة فيما بينها عرقياً ومذهبياً ولغوياً وثقافياً. وتنوع دول الجوار انعكس على مكونات الشعب العراقي. فجميع دول الجوار لها ما يماثلها من مكونات في الشعب العراقي. فمثلاً إيران في الشرق تشارك نحو 60% من الشعب العراقي في المذهب الشيعي، كذلك عندنا نحو مليون تركماني يماثلون الشعب التركي في الشمال، والعرب السنة يرتبطون بعلاقات العروبة والدين والمذهب مع سوريا والأردن والسعودية والكويت على الحدود الغربية والجنوبية. ونفس الكلام ينطبق على الكرد حيث لهم أشقاؤهم في إيران وتركية وسورية. إضافة إلى أن هناك أكثر من مليون مسيحي من الآثوريين والكلدانيين والأرمن وغيرهم، وهناك أقليات أخرى مثل الصابئة والأيزيديين والشبك...الخ. لذلك، فالشعب العراقي يتصف بتركيب متعدد ومعقد وغير متجانس، عرقياً ودينياً ومذهبياً ولغوياً. ولزيادة الطين بلة، فإن دول الجوار في أغلب فترات التاريخ كانت في صراعات وحروب مع بعضها البعض، خاصة بين الدولة العثمانية التركية والإيرانية الصفوية التي كان من شأنها تأجيج الصراعات الطائفية بين مكونات الشعب العراقي.
ولهذا السبب نرى الشعب العراقي يتصف بالتنوع والاختلاف والشقاق وعدم الانسجام. ولا أدعي هنا أن جميع أمراضنا وشرورنا هي من دول الجوار، ولكن بالتأكيد فإن هذه الدول ساهمت بشكل فعال في تأجيج وتضخيم الصراعات بين مكونات الشعب العراقي. وأفضل مثال هو دور إيران وسوريا الآن في دعمهما للإرهاب من أجل إفشال العملية الديمقراطية في العراق منذ إسقاط النظام البعثي الفاشي. كذلك بقية البلدان العربية التي ترسل الإرهابيين الأصوليين فيذبحون أبناء شعبنا بحجة مقاومة الاحتلال. وكما علق وزير حقوق الإنسان في العراق قبل أيام أن دول الجوار تخاف من الديمقراطية في العراق ويعاملونها كتعاملهم مع مرض انفلونزا الطيور، فيذبحون أبناء شعبنا لمنع انتشار الديمقراطية في بلدانهم.
لقد حرص السياسيون والكتاب العراقيون على إخفاء حقيقة الصراع وعدم الانسجام والتجانس بين مكونات الشعب العراقي عن العالم الخارجي، معتقدين أن الإعلان عنه يجلب سمعة سيئة لشعبنا. أعتقد أن تبني سياسة النعامة في إخفاء الحقيقة في الرمال لا يساعد على حل المشكلة التي تواجهنا. بل يجب مواجهة الحقيقة كما هي، من أجل تشخيص المرض وإيجاد العلاج الناجع له.
قيل إن الوحدة في التنوع والتعددية (unity in diversity). هذه المقولة صحيحة فقط في الدول الديمقراطية حيث تعامل جميع مكونات الشعب بالتساوي أمام القانون في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص وليس هناك مواطنون من الدرجة الثانية أو العاشرة. بينما في الأنظمة المستبدة يكون التنوع لعنة وسبباً للصراعات الدموية بين مكونات الشعب المختلفة. والسبب هو أن الدكتاتور غالباً ما يعتمد على فئة واحدة من مكونات الشعب لتثبيت وحماية حكمه وإحكام قبضته واضطهاد بقية الفئات. وهذا واضح من اضطهاد الأقباط في مصر وإبادة المسيحيين في جنوب السودان ومعاناة الكرد والشيعة والتركمان والكدان والآشوريين وغيرهم في العراق في عهد حكم البعث، وما يواجهه الكرد من الظلم والتمييز العنصري في سوريا وإيران الآن، وهكذا الحال في معظم البلدان المبتلية بالأنظمة الدكتاتورية الجائرة.
ولهذا السبب كان في العراق وباستمرار صراع محتدم وشقاق دائم بين مختلف مكونات الشعب. والوحدة الوطنية الظاهرية كانت كاذبة وزائفة إذ تم إخفاء الصراع بواسطة القمع والحروب الأهلية من قبل الحكومات المتعاقبة المستبدة. ولذلك يعتقد بعض السياسيين والكتاب في الغرب أن الشعب العراقي لا يستحق الديمقراطية بل النظام الديكتاتوري والقبضة الحديدية للحفاظ على وحدته الوطنية. لأن الديمقراطية، كما يعتقد هؤلاء، ستدفع مكونات الشعب إلى حرب أهلية وتفتيت الوحدة الوطنية. في الحقيقة كانت الوحدة الوطنية في ظل الديكتاتورية والقبضة الحديدية وحدة زائفة، ظهرت على حقيقتها بعد سقوط الدكتاتورية. لذلك فتعددية مكونات الشعب العراقي جعلت الديمقراطية ضرورة ملحة ومطلقة ولا يمكن العيش بسلام بدونها.

التاريخ السياسي
كان عدم الوحدة والانسجام بين مكونات الشعب العراقي مشكلة كبيرة في تاريخ العراق الحديث. وكان الملك فيصل الأول هو أول من شخص هذا الداء ولفت انتباه النخبة السياسية الحاكمة لهذه المشكلة في رسالة له كتبها عام 1933 وزعها على عدد محدود من السياسيين العراقيين ونشرها فيما بعد المؤرخ العراقي المرحوم عبدالرزاق الحسني في أحد كتبه. إذ يقول الملك الراحل عن شعب العراق: "وفي هذا الصدد أقول وقلبي ملآن أسى: إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للإنتقاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكل من هذه الكتل شعباً نهذبه وندربه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف، يجب أن يعلم أيضاً عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل. هذا هو الشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقي… " (عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي، ج1، ص12).
لسوء حظ الشعب العراقي مات الملك فيصل مبكراً وبشكل مفاجئ بعد أشهر من كتابة هذه الرسالة. ومنذ موت الملك وقع العراق في حالة فوضى متصاعدة إلى أن تكللت بمجيء نظام صدام حسين الذي نسف كل ما بنته الأجيال الماضية في بناء الدولة العراقية. فخلال 35 عاماً من حكم البعث عانى الشعب العراقي كثيراً من الظلم والحروب والحصار والفقر والمقابر الجماعية. وقد أعتمد النظام على فئة واحدة من مكونات الشعب في دعم حكمه وأغدق عليهم بخيرات العراق واستخدمهم لاضطهاد الآخرين. وبعبارة أخرى، استخدم نظام البعث الطائفية وآديولوجية العنصرية للقومية العروبية بنسختها البعثية المتطرفة لتطبيق سياسة "فرق تسد" لإحكام قبضته على الشعب. وبهذه السياسة قضى حكم البعث على شعور أبناء الشعب بالانتماء إلى الوطن. ولهذا نرى في عراق ما بعد صدام الشعب العراقي ممزقاًُ إلى فئات متصارعة، والغالبية العظمى لا تدين بالولاء للوطن والدولة العراقية، بل جل ولائها لشيخ العشيرة ورجل الدين والطائفة. باختصار شديد، هذه هي خلفية الشعب العراقي.
والسؤال هو كيف يمكن بناء نظام ديمقراطي في هذا البلد وفي ظل هذه الخلفية والأوضاع التي ورثها من نظام البعث الساقط؟
من الجدير بالذكر أن الشعب العراقي لم يمارس الديمقراطية طيلة تاريخه، القريب والبعيد، وحتى في العهد الملكي الذي يصفه البعض خطئاً، بأنه كان عهد الديمقراطية والاستقرار والازدهار. نعم، كانت بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وبمساعدة بريطانيا العظمى، بداية واعدة خاصة خلال 12 عاماً الأولى أي فترة حكم الملك فيصل الأول. فكان هناك تطور سياسي وديمقراطي، سلمي وتدريجي يبشر بالخير. ولكن بعد موت الملك المبكر، استولت النخبة السياسية التي فرضت سياسة القبضة الحديدية واضطهدت الأحزاب الوطنية الديمقراطية ومارست سياسة العزل الطائفي والعنصري. وقد ساعدت تعقيدات السياسة الدولية والحرب الباردة على تصعيد مشاعر العداء في صفوف الشعب والأحزاب الوطنية للغرب والدول الاستعمارية وللنخبة الحاكمة وحتى للنظام الملكي نفسه. ولهذا اتصف العهد الملكي بفترات متواصلة من الاضطرابات السياسية وانقلابات عسكرية، منها ناجحة ومنها فاشلة.

كما ذكرت آنفاً، لم تكن هناك ديمقراطية حقيقية في العهد الملكي. بل كانت هناك ديمقراطية مشوهة وكاذبة حيث كانت النخبة الحاكمة تزيف الانتخابات البرلمانية لصالحها ولم تتحمل المعارضة بغض النظر عن كونها معارضة سلمية وديمقراطية. ومع ذلك حصل تطور اجتماعي واقتصادي في المجتمع العراقي ولكن الخط البياني للديمقراطية كان دائماً يسير نحول الأسفل.
وقد بلغ عداء النخبة الحاكمة للديمقراطية الذروة بعد انتخابات عام 1954. في هذا العام ترأس الحكومة المرحوم الدكتور محمد فاضل الجمالي وهو أكاديمي ديمقراطي وليبرالي، خريج إحدى الجامعات الأمريكية وتلميذ الفيلسوف الأمريكي المعروف جون ديوي. حاول الجمالي إنقاذ الموقف ودعم الديمقراطية. فأطلق سراح السجناء السياسيين وأجاز الأحزاب الوطنية ومنظمات المجتمع المدني وأجرى انتخابات برلمانية. في هذه الانتخابات استطاعت أحزاب المعارضة بالفوز ب 11 مقعداً من مجموع 131. لم يتحمل نوري السعيد، الرجل القوي في العهد الملكي والذي ترأس الحكومة 14 مرة، حتى هذا العدد الضئيل من نواب المعارضة في البرلمان، فدبر انقلاب القصر على الجمالي وألغى البرلمان بعد يوم واحد فقط من مراسيم جلسة الافتتاح وخطاب العرش. وبذلك فقد ساعد نوري السعيد على عدم الاستقرار، حيث يئست الأحزاب الوطنية الديمقراطية من الوسائل السلمية في التحول السياسي نحو الديمقراطية ولجؤوا إلى العسكر، فكانت ثورة 14 تموز 1958 بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم الذي أطاح بالملكية وأسس الجمهورية وحضي بتأييد شعبي واسع ومن الأحزاب الوطنية. وقد حولت الجماهير العملية من انقلاب عسكري في ساعاته الأولى إلى ثورة شعبية حقيقية. ولكن هذا التأييد لم يدم طويلاً إذ بعد أسابيع من الثورة بدأت الأحزاب في صراعات دموية، بين الشيوعيين والقوميين انتهت باغتيال الثورة وقادتها في انقلاب عسكري يوم 8 شباط 1963. والزعيم قاسم، حسب ما كتب عنه كتاب ليبراليون، كان مصلحاُ أكثر منه ثورياً، يميل إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، حيث أصدر قانون الجمعيات وأجاز بموجبه الأحزاب وأكثر من 700 من منظمات المجتمع المدني، كما أصدرت الثورة مجموعة من القوانين كلها في صالح الشعب وبالأخص الفقراء منهم. ولكن كانت الأوضاع أقوى من قاسم رغم شعبيته الواسعة، خاصة بعد إسقاط النظام الملكي حيث تم إطلاق جميع الآفات والشرور والصراعات الكامنة في المجتمع العراقي، إضافة إلى تعقيدات الوضع العربي والدولي خلال الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الغربي الرأسمالي والشرقي الشيوعي. وكما يجري اليوم حيث التاريخ يعيد نفسه، فطموحات قاسم في إقامة النظام الديمقراطي واجه مقاومة عنيفة، وانفجرت في وجهه الصراعات الداخلية وتكالبت عليه القوى الخارجية، خاصة من دول الجوار كما الآن، انتهت بذبح الثورة وقادتها في الإنقلاب العسكري البعثي يوم 8 شباط 1963. ثم توالت الانقلابات العسكرية إلى أن تكللت بمجيء البعث ثانية للحكم عام 1968 واغتصاب صدام حسين الحكم المطلق عام 1979 حيث دشن حكمه بمذبحة ضد 22 من قادة حزبه وشدد قبضته على حكم العراق وتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس كأي نظام شمولي متطرف. وقد عانى العراقيون في عهده ظلماً لا مثيل له في التاريخ إلى حد أنه صار من المستحيل تغيير الوضع من قبل الشعب العراقي ومعارضته الوطنية بدون دعم خارجي.
والنظام لم يكتف باضطهاد الشعب العراقي وجرائم إبادة الجنس ضد الأكراد فحسب بل شن الحروب على دول الجوار وشكل خطراً على أمن واستقرار المنطقة والسلام العالمي. لذلك فغير مقبول إخلاقياً ترك هكذا نظام جائر يضطهد شعبه بهذا الشكل المروع بذريعة عدم التدخل في الشؤون الداخلية. ففي الظروف الدولية الحالية لما بعد الحرب الباردة وكارثة 11 سبتمبر 2001، لم تعد هذه الجرائم التي يرتكبها الطغاة ضد شعوبهم من الأمور الداخلية. ففي ظل العولمة تعتبر المشكلة الوطنية مشكلة دولية، كما حصلت نقلة نوعية في وعي الشعوب حيث صارت الديمقراطية ضرورة مطلقة ومن سمات العصر. ولهذا السبب تحرك المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة استجابة للمسؤولية الإخلاقية بشن الحرب على النظام البعثي الجائر وإسقاطه وتحرير الشعب العراقي من جوره. لذلك أعتقد جازماً أن هذه الحرب كانت عادلة وضرورية وحتمية تاريخية ولأنها مهدت الطريق لإقامة النظام الديمقراطي، ليس في العراق فحسب وبل وفي منطقة الشرق الأوسط كلها.
كما أود أن أؤكد أن شعب العراق ليس ناكراً للجميل، ولكن الإعلام لا يبرز إلا أولئك الناكرين للجميل وأصوات النشاز، وهم غالباً من أيتام النظام الساقط والمتعاطفين معه من مثقفي كوبونات النفط الذين خسروا امتيازاتهم، وأعداء الديمقراطية في العراق. وعليه فإني أتقدم بالشكر الجزيل إلى الرئيس جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء توني بلير على قرارهما الشجاع لتحرير العراق كما أشكر كافة الشعوب والحكومات والجيوش التي شاركت في هذا التحالف المقدس لتحرير بلدي وشعبي من أسوأ نظام دموي ديكتاتوري جائر عرفه التاريخ. وأعزي عائلات الجنود الشجعان الذين استشهدوا في هذه الحرب من أجل تحرير الشعب العراقي من أبشع نظام دكتاتوري همجي عرفه التاريخ وجعل العالم أفضل مكاناً للعيش بسلام.


مسألة فرض الديمقراطية بالقوة؟
هناك أسئلة يوجهها البعض، مثلاً هل يصح فرض الديمقراطية على الشعوب بالقوة وتصديرها على ظهور الدبابات الأمريكية أو على الشعوب ذاتها أن تناضل من أجلها؟ هذا السؤال ليس بالضرورة بريئاً من سوء القصد، فهو قول حق يراد به باطل، خاصة لأنه يأتي عادة من أولئك الذين يدعمون الإرهاب في العراق وهم أعداء الديمقراطية.
نعم، الديمقراطية يجب أن تنبت من الداخل ولا يكتب لها النجاح إذا فرضت على الشعب بالقوة من الخارج. ولكن ما حصل في العراق هو ليس استيراد الديمقراطية من الخارج وفرضها بالقوة على الشعب. إن إسقاط النظام الفاشي من قبل قوات التحالف لم ينفرد به الشعب العراقي، لأن هذه القوات ذاتها حررت ألمانيا من النازية وإيطاليا من الفاشية وفرنسا من الإحتلال النازي الألماني واليابان من الديكتاتورية العسكرية. وهذه الدول تعتبر الآن من بين أقوى الدول الصناعية والديمقراطية الكبرى في العالم. في الحقيقة إن دور قوات التحالف في العراق ليس لفرض الديمقراطية بل لإزالة العقبة المانعة للديمقراطية ولخلق بيئة سليمة لولادة الديمقراطية وذلك بمنح الشعب العراقي الفرصة ليقرر بنفسه أي نظام حكم يريد. وهذا ما حصل. ولسبب واضح كان نظام البعث هو العقبة الكأداء أمام الديمقراطية، وزواله كان فوق إمكانية العراقيين بسبب شراسة القمع بما فيه استخدام الأسلحة الكيمياوية التي استخدمها النظام الجائر ضد الشعب. أما بناء النظام الديمقراطي فمن مسؤولية الشعب العراقي وقواه الوطنية. ولحد الآن فإن العملية الديمقراطية جارية وبنجاح. نؤكد إن وجود قوات التحالف في العراق ليس احتلالاً، بل قوات تحرير صديقة وبقاؤها الآن لصالح الشعب العراقي لحماية أرواح الناس وممتلكاتهم من الإرهابيين الصداميين والزرقاويين الوافدين وسوف تغادر هذه القوات عندما تتأكد من قدرة القوات العراقية على القيام بواجبها على أحسن وجه. لقد كان العراق محتلاً احتلالاً داخلياً من قبل حزب البعث لخمسة وثلاثين عاماً، عانى الشعب العراق خلاله أبشع عذاب. وقائمة الفضائع طويلة وباتت معروفة للرأي العام العالمي.

التطورات الديمقراطية في العراق منذ سقوط النظام الفاشي
*- سقوط النظام الفاشي في 9 نيسان 2003،
*- تشكيل مجلس الحكم الانتقالي في 13 تموز/يوليو 2003،
*- إقرار قانون إدارة الدولة للفترة الانتقالية في 8 آذار 2004،
*- تشكيل أول وزارة بعد سقوط حكم صدام في 28 حزيران 2004،
*- إجراء أول انتخابات برلمانية في 30 كانون الثاني 2005، لانتخاب أعضاء الجمعية الوطنية المؤقتة والتي كان من أهم مهامها كتابة مسودة الدستور، وكان ناجحاً حيث شارك فيها نحو 60% من المسجلين رغم تهديدات الإرهابيين، وصار الإصبع المصبوغ بالحبر البنفسجي رمزاً للديمقراطية وتحدي الإرهاب،
*- استفتاء الشعب على مسودة الدستور يوم 15 تشرين الأول 2005 بنجاح، حيث كانت نسبة المشاركة أكثر من 10 ملايين نسمة، ولأول مرة في تاريخ البلاد العربية ودول المنطقة تكتب مسودة الدستور من قبل أعضاء منتخبين ويتم استفتاء الشعب عليها وتصير دستوراً مشروعاً.
*- والآن تجري الاستعدادات لإجراء الانتخابات البرلمانية الثانية في 15 ديسمبر القادم لانتخاب أعضاء الجمعية الوطنية الدائمة ذات الصلاحيات الكاملة ولأربعة أعوام.

وهكذا فهناك ثلاث عمليات تصويت في عام واحد إضافة إلى ما صاحبها من السجال بين الأحزاب والمثقفين والمنافسات الحرة بين قوائم المرشحين، كل ذلك عبارة عن دورات تثقيفية مكثفة يتعلم الشعب العراقي من خلالها قواعد الديمقراطية، إنها الديمقراطية في حالة الفعل Democracy in action . فالديمقراطية من تلك الأمور التي يتعلمها الإنسان عن طريق الممارسة والتثقيف وليس عن طريق قراءة الكتب فقط. أنها مثل السباحة، فإذا يريد أن يتعلمها إنسان، عليه أن يذهب إلى النهر أو المسبح. كذلك الديمقراطية تتعلمها المجتمعات عن طريق الممارسة فتخيب مرة وتصيب أخرى إلى أن تتعلم قواعد اللعبة وتصبح جزءً من ثقافاتها كما الحال في الغرب.
والجدير بالذكر إن الذين قاطعوا الانتخابات في 30 يناير/كانون الثاني الماضي قد شاركوا بحماس في الاستفتاء على الدستور، رغم أن غايتهم كانت لإفشاله إلا إنهم طالما اقتنعوا أن صناديق الاقتراع هي الوسيلة الصحيحة للتعبير عن وجهات نظرهم وتحقيق أغراضهم السياسية بدلاً من الرصاص، فهو انتصار للعملية الديمقراطية الجارية الآن. ليس هذا فحسب، بل نسمع الآن رجال الدين العرب السنة يدعون أتباعهم للمشاركة الفعالة وبقوة في الانتخابات القادمة لأنهم توصلوا إلى قناعة أن التمرد المسلح لن يجلب لهم وللعراق سوى الكوارث. وهذا بحد ذاته انتصار للديمقراطية.
ولأول مرة تصبح للمرأة حصة (كوتا) ملزمة في عضوية البرلمان لا تقل عن 25% ودون وضع حد أعلى.
كما ولأول مرة يحطم العراقيون محرماً tabooفي الدول العربية، إذ ليس بالضرورة أن يكون رئيس الجمهورية عربي مسلم سني. فرئيس الجمهورية العراقية الآن هو كردي، السيد جلال طالباني.
لا ندعي أن الدستور الذي نجح في الاستفتاء الأخير كان كاملاً وعادلاً، إذ فيه مواد كثيرة لا نتفق معها كديمقراطيين ليبراليين وعلمانيين، ولكن هذه المواد يمكن تعديلها في المستقبل. إذ ليس من الممكن تحقيق تغيير المجتمع من حكم صدام حسين الجائر إلى نظام توماس جيفرسون الديمقراطي بين عشية وضحاها. إن ما تحقق في العراق خلال عامين استغرق ما بين 8 إلى 12 عاماً في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. والدستور الأمريكي استغرق 12 عاماً لكتابته و تم تعديله ست مرات. فمن الصعوبة مطالبة الشعب العراقي أن يقفز إلى الديمقراطية الغربية الناضجة بهذه السرعة وبعد كل تلك المعانات طويلة. الديمقراطية في الغرب لم تصل إلى هذا المستوى من النضج إلا بعد مئات السنين حيث صارت جزءً من ثقافة هذه الشعوب.

دروس من التجربة العراقية:
لا شك أن واجه العراق بعد سقوط الفاشية حالة مؤلمة من الفوضى والجريمة المنظمة والإرهاب. والسؤال هو، لماذا حصل ذلك؟ يقول برنارد لويس: "يجب معاملة الديمقراطية كما نتعامل مع الدواء، فالجرعة الكبيرة قد تقتل المريض". إن ما حصل في العراق كان نتيجة جرعة كبيرة من الديمقراطية وضعف حكم القانون وغياب قوات الأمن. فجميع مؤسسات الدولة قد انهارت في ساعات بعد سقوط النظام البعث الفاشي لأنها كانت ممثلة في شخص الدكتاتور صدام حسين. والتحول السريع من دكتاتورية مفرطة في القمع إلى ديمقراطية منفلتة فوق قدرة الناس على الاستيعاب، لا بد من حصول فوضى وانتهاكات.

أعتقد أن الفوضى بعد سقوط أي نظام مستبد شر لا بد منه ويمكن تجنبها فقط في حالة قيام الدكتاتور نفسه بإجراء التحولات من الدكتاتورية إلى الديمقراطية. وأفضل مثال هو ما قام به ميخائيل غورباجوف، رئيس الاتحاد السوفيتي السابق حيث مهد للديمقراطية بالغلاسنوت والبريسترويكا، فجنب بلاده الكثير من المآسي. وصدام حسين ليس غورباجوف. لذلك فما حصل في العراق كان لا بد منه ولم يكن هناك أي بديل آخر غير الذي حصل. ومع ذلك، فالعراق رغم الصعوبات التي يواجهها بسبب الإرهاب، إلا إنه على الطريق الصحيح وفي الاتجاه الصحيح. والشعب العراقي بعد كل تلك المعاناة يمتلك الإرادة القوية والوسائل للمضي قدماً في بناء نظامه الديمقراطي. وقد خرج العفريت من القمقم وسوف لن ولا يسمح مطلقاً لعودة النظام الدكتاتوري الجائر وبأي شكل كان، قومياً أو إسلامياً. وكلي ثقة أن العملية الديمقراطية في العراق ستحقق نجاحاً باهراً رغم الصعوبات، والعراق سيصبح منارة لشعوب المنطقة في تحقيق الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والازدهار الاقتصادي.
وشكراً على حسن إصغائكم.



#عبدالخالق_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دور المنافقين في صنع المستبدين
- المقاومة والإرهاب وجهان لعملة واحدة فاسدة
- ماذا يعني البعث في ذاكرة العراقيين؟
- مؤتمر القاهرة يخدم أعداء العراق
- رسالة من العراق إلى أنظار حكومتنا الرشيدة
- مؤتمر الأقباط العالمي الثاني انتصار للمظلومين
- إقرار الدستور إنتصار لكل العراقيين
- ماذا هيأتم للانتخابات القادمة؟
- محكامة صدام عادلة لأنها تحت الإحتلال!
- ملاحظات حول محاكمة صدام حسين
- أهمية الاستفتاء على مسودة الدستور
- صولاغ الوزير الغشيم
- ما يجري في العراق فضيحة عربية
- من الذي يحكم في العراق؟
- من المستفيد من تصاعد التوتر في البصرة؟
- ما جدوى مشاركة عراقيي الخارج في الاستفتاء والانتخابات؟
- كارثة 11 سبتمبر وحكمة التاريخ
- على السنة العرب أن ينأوا بأنفسهم عن البعث
- فاجعة جسر الأئمة، من المسؤول عنها؟
- الدستور، والخيار بين - كل شيء أو لاشيء


المزيد.....




- الطلاب الأمريكيون.. مع فلسطين ضد إسرائيل
- لماذا اتشحت مدينة أثينا اليونانية باللون البرتقالي؟
- مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية: الجيش الإسرائيلي ينتظر ال ...
- في أول ضربات من نوعها ضد القوات الروسية أوكرانيا تستخدم صوار ...
- الجامعة العربية تعقد اجتماعًا طارئًا بشأن غزة
- وفد من جامعة روسية يزور الجزائر لتعزيز التعاون بين الجامعات ...
- لحظة قنص ضابط إسرائيلي شمال غزة (فيديو)
- البيت الأبيض: نعول على أن تكفي الموارد المخصصة لمساعدة أوكرا ...
- المرصد الأورومتوسطي يطالب بتحرك دولي عاجل بعد كشفه تفاصيل -م ...
- تأكيد إدانة رئيس وزراء فرنسا الأسبق فرانسو فيون بقضية الوظائ ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالخالق حسين - التجربة الديمقراطية في العراق