أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - العربي أبو سلطان -محمد الهباهبه-: حالم لم يفارقه حلمه















المزيد.....



العربي أبو سلطان -محمد الهباهبه-: حالم لم يفارقه حلمه


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 5148 - 2016 / 4 / 30 - 18:09
المحور: الادب والفن
    


العربي " أبو سلطان " محمد الهباهبه:
حالم لم يفارق حلمه

قبل بضع سنوات تقدّمت مني في القاهرة شابة جميلة، قالت إنها صحفية وتعمل في جامعة الدول العربية وعائلتها تعيش في الشام وهي أردنية الأصل واسمها رولا، وقد رافقت سيّدة تعمل في صحيفة الأهرام جاءت لتجري مقابلة معي على هامش اجتماع مشترك لخبراء مستقلين من المجتمع المدني وممثلين عن الحكومات، كانت جامعة الدول العربية قد نظّمته.
ما إن أخذنا استراحة خلال المقابلة وطلبت لهما فنجاني قهوة، حتى قالت لي الشابة الأردنية أنت صديق والدي، فسألتها ومن يكون والدك، قالت إنه محمد الهباهبه واستوقفتها: أهو العربي" أبو سلطان"؟ فقالت نعم، فاستذكرت معها حوارات ولقاءات في الشام، وفاجأتني وأفجعتني عندما قالت إنه توفّي. سألتها: إنْ ترك أية مذكرات أو يوميات يمكن الاستعانة بها لكتابة شيء عنه بما يستحقه الرجل وبما تعكسه سيرته النضالية المتميّزة؟ فقالت لم تسعفهم الظروف القاسية التي مرّوا بها للاهتمام بذلك، وإنْ أصبح الأمر ضرورياً الآن.
I
لا أزعم أنني الأكثر معرفة أو صداقة بالعربي "أبو سلطان"، لكن شقيقه مصلح الهباهبه، وهو مناضل عروبي أيضاً، يعرف مدى العلاقة التي ربطتنا، ولاسيّما في الثمانينيات، ولذلك أراد أن يشرّفني بالكتابة عنه، وهو مطّلع على جزء من الحوارات التي كانت تجري بيني وبينه، وبين أوساط غير قليلة تعود غالبية أصولها إلى التيار القومي، والتي كانت في نقد ذاتي لبعض تجاربها، مثلما كان بعضنا يميل إلى قراءات جديدة وانتقادية للتيار الماركسي وتجارب الحركة الشيوعية عموماً، الأمر الذي وفّر أرضية مشتركة لعدد من القضايا الشائكة والحساسة.
وكانت تلك الحوارات، بما فيها من مصارحات ومكاشفات ونقد ذاتي ونقد للآخر، بمثابة عقد متين لصداقة فكرية من جهة، وارتباطات شخصية وصداقية من جهة ثانية، وحسب سبينوزا: الأفراد الأحرار وحدهم يستطيعون الارتباط برباط الصداقة الوثيق.ووفقاً لأرسطو: الصديق هو من يتمنّى الخير بشكل مماثل لصديقه، لأن الصداقة الكاملة تتحقّق بين أناس فضلاء.
وعلى الرغم من استمرار توجهاتنا الفكرية، لكن ما كان يقلقنا أخذ يكبر وارتفعت إلى درجة كبيرة حرارة نقدنا ومنسوب احتجاجاتنا ومراجعاتنا للتجربة، دون تخطئة كل الماضي أو "تحريره" من المستقبل أو "تحرير" المستقبل منه، كما ورد في إطار مسابقة دولية مريبة كان قد دعا إليها معهد غوته الألماني. هناك من يريد قطع الصلة بالماضي، لا نقده، سواء باسم المعاصرة أو الحداثة أو ما بعدها أحياناً، بما فيه تراثنا القديم والحديث، بزعم سلفية أو انقياد إليه، بل والعيش فيه وعدم القدرة على تجاوزه. والاغتراب هو الوجه الآخر للسلفية، والأصالة والمعاصرة لا ينبغي لهما التعارض مع التراث والتاريخ.
صحيح أن الماضي أصبح ماضياً وهو جزء منّا لا نستطيع أن نتخلّى عنه لكن ذلك لا يعني الاستغراق فيه والتعامل معه كحاضر أو سحب أحكامه على الحاضر، لأنه أصبح ماضياً، وحتى الماضي لا يمضي كلّياً. إنه يؤثر فينا ويعتمد الأمر على قدراتنا في استيعابه والاستفادة منه والتخلّص من بعض تأثيراته الضارة. وأخطائه ونواقصه بالنسبة للفرد أو الجماعة، وحتى الأخطاء والنواقص فإنها تكون صميمية وذات صدقية بقدر الاعتراف والإقرار بها.
لا يمكن النظر إلى الماضي باعتباره كلّه أو قسمه الكبير سلبياً أو خاطئاً، فهذا الأمر لا يعني سوى الاغتراب والانسياق وراء الآخر وتقليده واستنساخ تجاربه. وبغضّ النظر عن عفوية وسذاجة، أو قصدية وإغراضية مثل هذه الأطروحات، فإنها ستلحق ضرراً كبيراً لا بحاضرنا فحسب، بل بمستقبلنا، لأن الماضي ليس ركاماً من الأخطاء والخطايا، بل فيه الكثير من الإيجابيات والإبداعات والتضحيات التي يمكن التأسيس عليها.
إن نقد الماضي بكلّ ثقله لا يعني "التحرّر" منه، بل إعادة قراءته على نحو جديد وبما يستجيب لحاجات الحاضر ويتطلّع لمتطلبات المستقبل، وهو، وإنْ احتوى الكثير من الأخطاء والثغرات والعيوب، لكنه لا يجثم على الصدور أو يقف على الأكتاف مثل حارس، بقدر ما يعيش في الذاكرة ومن خلال تراكم طويل الأمد، يستوجب توظيفه ليخدم الحاضر والمستقبل، عبر التخلّي عن بعض ما عفا عليه الزمن، سواء من أفكار أو ممارسات أو من صيغ تنظيمية ظلّ البعض يتشبث بها لتفضيل نفسه على الآخرين بزعم امتلاك الحقيقة، ولكنها في واقع الأمر كانت أقرب إلى دوران حول الذات فبها ومنها وإليها يعود كل شيء، بما فيها الحقيقة، التي تميل حيثما ملنا، والأمر لا يقتصر على فريق يساري أو تقدمي دون سواه، فتلك كانت واحدة من مظاهر الصراع الآيديولوجي في عهد الحرب الباردة وشيوع نمط التفكير الشمولي، للأنظمة والأحزاب التي تقودها أو تدور في فلكها.
ومن أولى مظاهر التمرّد وبدايات التفكير المستقل هو التحرر من ثقل النصوص والتعاليم التي هي أقرب إلى التعاويذ والأدعية والتخلّص من أسرها السحري، باعتبارها من اليقينيات المقدسة التي لا يمكن المساس فيها، واستخدامها بمناسبة أو غير مناسبة، وفي الكثير من الأحوال في غير ظروفها. فالكل بشر وهؤلاء بطبيعتهم خطّاؤون ، والمعيار هو التجربة والممارسة، أما الأفكار والنظريات، فهي ليست أكثر من مرشد للعمل وأداة للتحليل ليس إلاّ، وهذا ما تُعلِّمه الماركسية ذاتها، وماركس بالذات هو من وضع البراكسيس في مصاف الفكرة وبالسير معها وإليها يمكن الاحتكام، وهكذا لا يمكن فصل الوسيلة عن الغاية، والتطبيق والممارسة عن الفكرة والنظرية، وهذه مثل تلك، أقرب إلى الشجرة من البذرة، وعلاقتهما مترابطة ومتكاملة وعضوية، حسب مفهوم فيلسوف الهند العظيم ورائد المقاومة اللاعنفية المهاتما غاندي.
العربي "أبو سلطان"، هي التسمية التي عرفته فيها لأكثر من ثلاث سنوات، حتى صارحني ذات يوم باسمه الحقيقي، وقد كنّا لا نسأل عن الأسماء الحقيقية وإنْ عرفناها، فنحتفظ بها لأنفسنا، ولنحو عقدين من الزمان كان صديقي المناضل والمفكر البحريني عبد الرحمن النعيمي يكنّى بسعيد سيف، وكان صديقي عبد النبي العكري يُعرف في أوساط عربية ودولية باسم حسين موسى، وكان سعيد عبد الهادي عضو قيادة الجبهة الديمقراطية هو الصديق سليمان الرياشي والرفيق غسان الرفاعي وهو التسمية اللبنانية لرفيق عراقي أصبح قيادياً في الحزب الشيوعي اللبناني، وكان قد عاش في لبنان منذ أواخر الأربعينات وكان "باسم العراقي" أداة التنفيذ الأساسية في مطار الثورة في عمان الذي أنزل عدداً من الطائرات وقام بتفجيرها، واسمه الحقيقي عدنان البياتي وحتى وإن كنّا نعتقد إن الإسم حركي، فلم يكن ذلك يعنينا لأننا اعتدنا عليه وتلك ثقافة حزبية قديمة بدأت أولى خطواتنا بها، وقد رسختها بصورتها الجديدة ثقافة المقاومة الفلسطينية التي سادت الساحة الفكرية والسياسية منذ سنوات أواخر الستينات، خصوصاً ما اصطلح عليه تسمية الأبوات " أبو عمار" و"أبو أياد" و"أبو جهاد" و"أبو ماهر اليماني" وأبو " ليلى" وأبو جهاد "القيادة العامة" وأبو العباس (جبهة التحرير الفلسطينية) وأبو نضال (المجلس الثوري) وأبو فرح (عاطف أبو بكر ) وأبو موسى وأبو خالد العملة (فتح الانتفاضة) وهكذا. وحين يرحل بعضهم فإننا لا نعرف اسمه أحياناً وإن عرفناه، فلا نتداوله بحكم اعتيادنا على الأسماء الحركية.
قال لي يوماً لماذا لا تستعمل اسماً حركياً؟ قلت له ربما الحاجة إلى وجه علني تتطلّب ذلك، فأنا أكتب وأنشر وأوّجه المذكرات وأدير اجتماعات مثقفين وهيئات مهنية عديدة، وأقابل شخصيات عامة ، فلا يجدر الخروج باسم مستعار، والوسط بشكل عام يعرف اسمي، أما من يحترف العمل السري، فمن حقه إذا وجد في الأمر ضرورة أن يستخدم اسماً أو صفة تبعد الأنظار عنه، وإذا زالت الظروف، عليه الظهور باسمه وصفته، لأن ذلك أكثر ثقة بالناس، وأكثر ثقة من الناس به. وقد دأب ثوريون كبار على استخدام أسماء حركية: لينين وتروتسكي وستالين وفهد وسلام عادل وغيرهم في ظروف اضطرّتهم لذلك، وحسب رفيقنا فهد، أمين عام الحزب الشيوعي في العراق والذي أعدم في شباط (فبراير) العام 1949، فإننا لسنا من هواة السراديب، وإذا اضطررنا للعمل السري، فذلك بسبب العدو والسلطات الحاكمة وشحّ الحريات والملاحقة.
II
حوارنا ذلك، كان بداية حوارات حول الماركسية وهل من الضروري أن تتحول الحركات القومية التقدمية إلى حركات ماركسية؟ أو إنه من الأفضل لها البقاء في مواقعها والتقارب مع التيارات الماركسية القائمة من خلال التعاون والنقد المتبادل، وذلك كان رأيي في حوارات مع قيادات من الجبهة الشعبية في البحرين وبعض الشخصيات الخليجية والحركة الفلسطينية بشكل عام مثل الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية.
قال لي مرّة أحد الأصدقاء من التيار القومي وأفضل تسميته التيار العروبي: هل لديكم طابو بالماركسية أي (سند ملكية)؟ وهل هي درّة ثمينة استورثتموها وتريدون الحفاظ عليها لوحدكم، وتخشون من أي أحد يشارككم فيها؟ أم إنها فكر مشاع لمن يريد اعتناقه؟ إنها فكر إنساني للبشرية وليس لمجموعة تطلق على نفسها الحركة الشيوعية.
قلت له مهما كانت التسميات، فالشيوعيون وغيرهم من العروبيين ومن جميع القوميات والاتجاهات يمكنهم الاستفادة من الماركسية، بما فيه الرأسماليون يستفيدون من منهج ماركس ويوظفونه لخدمة مصالحهم وتوجهاتهم. وقد تخلّى بعضنا عن المنهج الذي لا يزال صحيحاً وتمسّك بالتعاليم والاستنتاجات التي كان بعضها خاطئاً وبعضها عفا عليها الزمن ولم يعد صالحاً بعد أكثر من 150 سنة. الماركسية نقرأها بمنهجها، فهي منفتحة وحيّة وعلينا قراءتها بهذه الروحية، وليس كنصوص جامدة أو كليشهات وإذا كان بعض تعاليم ماركس تصلح لعهده، فعلينا أن نضع التعاليم في إطار النظرية بما يصلح لعهدنا، مثلما علينا استنباط الأحكام من خلال دراسة واقعنا وليس استنساخ واقع آخر.
ولو عاد ماركس اليوم لغيّر الكثير من تعاليمه واستنتاجاته، لأنها كانت منسجمة مع عصره ومع المعارف والعلوم التي كانت سائدة آنذاك، أما الآن فإن الثورة العلمية – التقنية وثورة المواصلات والاتصالات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية " الديجيتل" جعلت الكثير مما كان صحيحاً في ظرفه التاريخي، متخلفاً أو غير واقعي هذا اليوم، الأمر الذي بحاجة إلى إعادة نظر في مفهوم الطبقة العاملة ذاته، وتنظيمها السياسي أو طليعتها- كما كنّا نقول- وأساليب العمل، فضلاً عن الكثير من المفاهيم بخصوص التحوّل الاشتراكي بعد فشل التجربة الاشتراكية العالمية.
قلت العروبة وليست القومية لأن الأولى هي شعور وجداني تلقائي طبيعي وهي رابطة بين المتحدّرين منها والذين يعيشون ثقافتها ولغتها ووجودها وينتمون عاطفياً إليها، أما القومية فهي انتماء آيديولوجي، وإذا ما تحوّل إلى سلطة أو نظام، فإنها ستكون ذات طابع استعلائي وشوفيني في الكثير من الأحيان، وحتى القوميات المضطهدة فإذا ما تحوّلت الرابطة القومية لها من شعور وجداني وانتماء طبيعي وتلقائي وأصبحت آيديولوجيا ، فإنها ستقود إلى الانعزالية والتقوقع ورفض المشتركات ذات البعد الإنساني.
لم يعد مثلاً كتاباً مثل: ما العمل؟ صالحاً وقد صدر في العام 1903، وكان فتحاً لينينياً حينها أي قبل قرن وعقد ونصف من الزمان، لأن العالم تغيّر، وأفكار مارتوف التي كنّا نتهم بعضنا البعض بها أو ندينها ونستنكرها، أصبحت اليوم أقرب إلى الواقع من السابق، في حين أن قاعدة ما يسمى بـ:الضبط الحديدي والتنظيم الفولاذي وخضوع الأقلية للأكثرية والهيئات الدنيا للعليا والوحدة المفروضة أحياناً وبالقوة هي السائدة، من تراث الماضي، على الرغم من أن البعض لا يزال يتمسك بها بأسنانه بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة، وتحت ذرائع ومبررات شتى!.
ليس هذا فحسب، فعلينا التوقّف إزاء التجربة الاشتراكية ذاتها لدراستها بما لها من إيجابيات وما عليها من سلبيات، وكانت أولى الإرهاصات قد بدأت من جانب مفكرين كبار كنت أقرأ لهم بنهم وأناقش بعضهم، كما حصل مع الياس مرقص، وقد دوّنت بعض تلك المناقشات في كتاب صدر لي بعنوان" تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف"، وكانت كتابات ياسين الحافظ محط اهتمام خاص من جانبي، إضافة إلى تجارب الأوروشيوعية: موقف الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الشيوعي الإيطالي والحزب الشيوعي الإسباني، وآراء غارودي وميشيل فوكو وألتوسير وهابرماز وآخرين.
وحتى موقفنا من تروتسكي ووجهات نظره بدأنا نقرأها بشيء أقرب إلى الحيادية من النظرة المسبقة. وأتذكر الثلاثية الشهيرة لاسحاق دوتشير ، والمقصود بها : تروتسكي النبي المسلح، النبي الأعزل والنبي المنبوذ، وكذلك كتابه: ستالين سيرة سياسية، بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف معها، كما كنّا نتوقف أحياناً عند تجارب البلدان الاشتراكية: تجربة المجر العام 1956 وتجربة تشكيوسلوفاكيا 1968 والتدخل السوفييتي بعنوان "النجدة الأممية"، وتجربة "نقابة تضامن" في بولونيا في أواخر العام 1980. لم تكن انتقاداتنا كافية حينها، لأن ثقافة الحرب الباردة كانت هي السائدة، مثلما كانت انتقاداتنا ناقصة للأنظمة العربية الحاكمة الاستبدادية، بحكم الصراع الآيديولوجي العالمي والاستقطابات المسبقة.
قلت "لأبي سلطان"، لديكم كعروبيين الكثير مما تستطيعون قوله والمجادلة فيه معنا ومع الآخرين، مثل: المسألة الفلسطينية، عليكم مثلما علينا عقلنة مواقفنا منها، أنتم بخصوص التطرّف فيها واعتبار كل ما هو يهودي صهيوني، كما كان سائداً من وسائل دعاية صاخبة وضارة، ونحن علينا الاستماع إلى إيقاع الناس ونبضهم، ولذلك غامرنا بتاريخنا حتى استدرنا من موقف رفض قرار التقسيم إلى موقف تأييده دون مبررات كافية أو مقنعة والسبب هو الامتثال لرأي المركز الأممي (الاتحاد السوفييتي) الذي غيّر رأيه فاتخذنا خطوة أقرب إلى قفزة في الهواء لمصالح الدولة الاشتراكية العظمى، وضد مشاعر ملايين العرب والمسلمين، والأمر استمر دون نقد ومراجعة جديين باستثناءات قليلة.
وكان على الحركة القومية التخلّص من عقدة مكافحة الشيوعية واعتبار الشيوعية الوجه الآخر للصهيونية، وظلّت تلك الرواسب قائمة وتطل برأسها بين الحين والآخر، حتى بعد تغيّرات جوهرية بدأت في سياسات مصر وسوريا والعراق إزاء العلاقة مع الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية، ولكن الصراع الثانوي حوّلناه بإرادة أو دون إرادة منّا إلى صراع تناحري، في حين أن صراعنا الأساسي هو مع الامبريالية والصهيونية والاستغلال.
والوحدة العربية، علينا نقد أنفسنا بشأن الموقف من قيامها ووضع عقبات اعتراضية بخصوص تأييدها، مثلما عليكم نقد أنفسكم بخصوص ممارساتها، عندما أصبحت واقعاً بقيام الوحدة المصرية – السورية في شباط (فبراير) العام 1958 (التي اتّخذت موقفاً عدائياً من الديمقراطية والتعدّدية وحرّية التعبير)، وكذلك عندما تعثّر قيامها لاحقاً بسبب التيار القومي العروبي المنقسم والمتصارع مع بعضه لدرجة الاستئصال، فتحوّلت الوحدة العربية من حلم أحياناً إلى كابوس، ومثلها مسألة الحرّية والاشتراكية، اللتين اختزلتا إلى شعارات عمومية في ظل بيروقراطية الدولة واندغامها بمؤسسات الحزب وقمع الآخرين بحجة الثورية والحزم الثوري والعنف الذي لا غنى عنه للقضاء على المعارضات.
علينا الآن وفي إطار المشترك البحث عن مستلزمات قيام الوحدة العربية التي نسعى إليها أن تكون ديمقراطية الأسلوب واجتماعية المضمون، وعلينا دمج الوطني بالاجتماعي، خصوصاً في ظلّ الهيمنة الامبريالية واستمرار وجود الكيان الصهيوني.
كانت فسحة الشام لإجراء حوارات من كل الأنواع متعة حقيقية مع سعيد سيف وموفق محادين والعربي أبو سلطان وصابر محي الدين وبسّام أبو شريف وناجي علوش وجورج جبور وإنعام رعد وخالد عبد المجيد وعربي عواد وشفيق الياسري وجواد دوش وعوني القلمجي وعبدالله نمر ومحمد عادل وداود تلحمي وتيسير قبعة والياس مرقص وحسن العلوي وفوزي الراوي وفاضل الأنصاري وأبو فاخر وكريم مروّة وسعدالله مزرعاني وعامر عبدالله وآخرين، مثلما هي متعة الحوار الثقافي والأدبي مع ممدوح عدوان وعلي الجندي وسعدي يوسف ، وبندر عبد الحميد وكوكب حمزة ونبيل سليمان وفاضل الربيعي وعبد المنعم الأعسم وجمعة الحلفي وطارق الدليمي وهادي العلوي ومحمد ملص وجواد الأسدي ومظفر النواب وهبة محمد ورولا ركبي ويوسف عبد لكي وعلي كريم وأبية حمزة وحميد مرعي وهيثم حقي وعشرات آخرين، في مجالات الشعر والأدب والفن وقصيدة التفعيلة والقصة القصيرة والرواية والسينما والمسرح والنقد والإعلام وغير ذلك.
III
لنشأة العربي "أبو سلطان" دور في هذا الانفتاح والتطوّر الذي حصل في حياته، خصوصاً من الناحية السياسية، فقد نشأ في الأردن (عمان) في ظروف النكبة ومع قرار التقسيم 1947، وكان والده يعمل في سلك الشرطة، وبعد خدمة 29 عاماً وصل إلى رتبة عريف. وكان أخوه غير الشقيق سعود من أم أخرى بعثياً، وهو تأثر بفكر حزب البعث القومي المعادي للامبريالية والداعي للوحدة العربية وتحرير فلسطين. وقد قرّر الانتماء إلى حزب البعث العام 1963، وقد اضطرته ظروف العائلة إلى ترك الدراسة والتوجّه إلى العمل، فعرف ظروف الاستغلال في شبابه الأول، وقد بدأ حياته العملية في معمل للحلويات ثم التحق بعد سنوات قليلة بالتخليص الكمركي.
وكان لهزيمة 5 حزيران (يونيو) وقع نفسي كبير على العربي "أبو سلطان"، فقرّر ترك كل شيء ملتحقاً بالمقاومة، وحصل ذلك في أواخر العام 1967، وكان بالطبع قد اختار منظمة الصاعقة (المدعومة من دمشق) لأنه انحاز في حركة 23 شباط/فبراير العام 1966 إلى الجناح اليساري كما سمّي وهو الأقرب إلى سوريا. وشارك في العديد من العمليات القتالية المباشرة في فلسطين المحتلة. وكان دوره بارزاً في أحداث أيلول /سبتمبر 1970 المؤلمة وما سبقها، وقام هو معي باستعادة تلك الأحداث مبدياً أسفه ومرارته لما حصل كفعل ورد فعل وسقوط ضحايا لم يكن له مبرر على الإطلاق.
وقال لي إنني على الرغم من نقدي لموقف الحزب الشيوعي الأردني والأحزاب الشيوعية بشكل عام من موضوع المقاومة والقضية الفلسطينية، لكنني عندما سمعت أن قوات للأنصار تشكلت لتكون أقرب إلى جبهة شيوعية مقاومة استبشرت بذلك، لأن الأمر يعني أن الاتحاد السوفييتي سيرمي بثقله في هذا الاتجاه الجديد. قلت له ربما كانت أحداث أيلول عاملاً سلبياً بحيث تراجعت الفكرة وقد يكون الاتحاد السوفييتي قد سحب يده منها واكتفى بدعم المقاومة القائمة و م.ت.ف.، فضلاً عن ذلك إن إدارات أحزابنا الشيوعية العربية لم تكن مستعدّة لمثل هذا التغيير، وإن بدت بعض الإرهاصات في الحزب الشيوعي اللبناني وداخل عدد من الأحزاب الشيوعية، لكن المسألة لم تتبلور كاتجاه سائد.
اعتُقِل " أبو سلطان" لأكثر من مرة بعد الحوادث في الأغوار وبعد الاشتباكات في عمان في العام 1970، وكنّا نضحك من شعارات "كل السلطة للمقاومة" و"هانوي عربية" وغير ذلك من استعارات واقتباسات في غير موقعها وفي غير ظروفها. أفرج عنه العام 1971 وتوجّه إلى سوريا، وفي سوريا التحق بجماعة صلاح جديد كما أخبرني، فتم تجميد عمله في الصاعقة وفكّت القيادة القطرية الأردنية الارتباط به، بل وحرّضت عليه.
اضطرّ في العام 1975 لمغادرة دمشق إلى بيروت، وكان قد شارك في معارك الفنادق في الحرب الأهلية اللبنانية، وعلى الرغم من الشجاعة والبسالة، فقد كانت تقييماته لاحقاً خارج نطاق مثل تلك الصراعات التي لم يكن لها مبرر. وكان تركيزه الكبير على الصراع الأساسي مع العدو الصهيوني- الإمبريالي، على الرغم من أن جماعة جريدة الراية التي كان منتمياً إليها، المقصود جماعة صلاح جديد، كان تركيزها ضد النظام الحاكم في سوريا، لكنه بالتدريج أخذ يبحث عن صيغة أردنية اختط لها نمطاً جديداً دون أن يتخلّى عن بُعدها العروبي. ولم تعد حتى هذه الصفة كافية له، فأخذ يفتش عن دائرة أممية وإنسانية وجد فيها ضالته، خصوصاً باقتراب تفسيراته من الماركسية، وتأثّره مثل الكثير من العروبيين حينها بالفكر الماركسي والتيار الماركسي، وإن كانت صياغتهما أقرب إلى اليسار الجديد.
وقد أقام علاقة وطيدة بالجيش الأرمني السرّي وقيادته الممثلة بمجاهد، ومجاهد الأرمني الذي قدّر لي أن ألتقيه عدّة مرات، كانت واحدة منها في منزل عامر عبدالله هو "آغوب آغوبيان" الذي سقط مضرجاً بدمائه في ظروف غامضة ومريبة في اليونان، وهو صنو "سالم" أي " كارلوس" الفينزويلي القابع في السجن منذ عقد ونيف من الزمان، حيث تم إلقاء القبض عليه في الخرطوم وسلّم إلى السلطات الفرنسية التي حاكمته، ثم أودعته السجن بتهم عديدة، و"مريم" أي "نوريكو شيغينوبو" اليابانية التي لا تزال نزيلة السجن في اليابان، وهؤلاء جميعهم كانوا من تلامذة الدكتور وديع حداد أو " معهد الثوار" كما كانوا يطلقون عليه، مثلما هو باسم العراقي وليلى خالد وآخرون.
قلت له مرّة إن وجود اليسار الجديد من حركة القوميين العرب والشعبية والديمقراطية، وجماعة محسن ابراهيم- فواز طرابلسي "منظمة العمل الشيوعي" ضروري بقدر نقد بعض مواقفنا، مثلما من الضرورة بمكان أن يستمر نقد مواقفكم برؤية ماركسية، حتى وإن كانت كلاسيكية، فإنها تستطيع أن تعقلن أو " تدوزن" الوجهة اليسارية العروبية الجديدة. فسألني هل يمكن التقارب لدرجة التوحّد مثلما حصل في كوبا واليمن في حزب واحد؟ أجبته لا أدري فقد تكون ظروفهم غير ظروفنا والتجربتان تحت المجهر، لكنني أميل إلى بقاء كل في موقعه وممارسة نقد الآخر بروح رياضية وحيوية، إلاّ أن ما حصل وهذا ما كنتُ أتلمّسه إن اليسار الجديد أصبح أكثر تقليدية منّا أحياناً في علاقته بالمركز الأممي ودفاعه عن السوفييت وتبنّيه لمقولات وأفكار كنّا قد بدأنا بنقدها أو التململ بشأن تعميمها منذ أواخر الخمسينيات أو حتى بدايات الستينيات، وإذا ببعض التنظيمات العروبية تتبنّاها في الفكر وفي التنظيم، وبفارق أكثر من ربع قرن.
كنت أشعر أن ذلك لا يخدم الطرفين، وبالتالي سيكون ثقلاً جديداً علينا، وهو حوار كنت قد أدرته منذ أواخر الستينيات مع أطراف من حزب البعث بشقيه العراقي والسوري وأوساط قومية مختلفة في إطار علاقات صداقة أشرت إلى بعضها في مناسبات مختلفة مثل حوارات مع زهير يحيى وعلي كريم ووميض نظمي وصباح عدّاي وهاني ادريس وسمير العاني وقيس السامرائي وطارق الدليمي ومجبل السامرائي ومحمد سليمان وآخرين.
في العام 1976 ترك "أبو سلطان" بيروت متوجّهاً إلى الجنوب اللبناني ووجد نفسه فيه، أي في محور مقاومة الاحتلال، وهو الحلم الذي ظل ينام ويستيقظ ويراه، وتم اختياره قائداً عسكرياً بترشيح من جورج حبش وناجي علوش، وارتبط حينها بصداقة وتعاون وتنسيق كاملين مع زاهر الخطيب الأمين العام لرابطة الشغيلة، كان هو ومحمود النوايسة قد أسسا لجان آذار الشعبية في الأردن ، وخلال الاجتياح الاسرائيلي العام 1978 وبعد زيارة السادات للقدس 1977 وقبل التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد والصلح المنفرد 1978-1979، بدأت العديد من المنظمات الفلسطينية تتخذ مواقف مضادة، خصوصاً أن المحور العراقي كان قوياً في بيروت، والصراع السوري - العراقي كان على أشدّه، ولاسيما بعد انفراط عقد الوحدة العراقية – السورية (العام 1979).
في هذه الظروف بالذات وفي التباسات الصراع والشكوك والاتهامات من الجميع ضد الجميع، اختُطف العربي "أبو سلطان" العام 1980 من مثلث خلده وبقي رهن الاختطاف 45 يوماً، وكانت تهمته من طرف السوريين: التعاون مع بغداد والأخوان المسلمين، خصوصاً وإنه كان قد انتمى إلى جماعة صلاح جديد، الأمر الذي يصبح فيه مثل هذا الاتهام ممكناً بحكم الاختلافات السياسية، لكنه كان قد وقف ضد الهجمة الأخوانية في سوريا، على الرغم من علاقته المتردية مع السلطة السورية، كما أنه كان حساساً من ممارسات النظام العراقي، ولهذا أفرج عنه بقناعة بطلان مثل تلك التهمة.
وقد أكّد موقفه هذا برفض الحرب العراقية- الإيرانية والدعوة إلى وقفها فوراً وحلّ الخلافات بالطرق السلمية، وهو الموقف الذي كنّا نتبناه منذ بداية الحرب، وعندما تطورت مجريات الحرب بدخول القوات الإيرانية إلى الأراضي العراقية، دعونا إلى رفض المشروع الحربي والسياسي والإيراني وسحب القوات الإيرانية من الأراضي العراقية، وهو الموقف ذاته الذي اتّخذناه حين كانت القوات العراقية قد توغلت داخل الأراضي الإيرانية. وقد لقي مثل هذا الموقف صدى عربياً.
خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت العام 1982 كان صوت العربي "أبو سلطان" يأتي من "إذاعة صوت الثورة العربية" إذاعة صوت الشغيلة، وكذلك من خلال صحيفة الحقيقة ثم مجلة الدنيا (لاحقاً)، وبعد خروج المقاومة من بيروت العام 1982 عاد إلى الشام وتم توقيفه في طرطوس لمدة شهرين، لحين استكمل التحقيق معه، وقرر بعد الإفراج عنه الانتقال إلى دمشق والعيش فيها.
وكان "أبو سلطان" كثير الاهتمام، بل والانشغال بموضوع مكافحة الصهيونية، ولذلك دعم الجهود التي بادرت إليها نخبة عربية متميزة أخذت على عاتقها تأسيس اللجنة العربية للدفاع عن القرار 3379 الصادر عن الأمم المتحدة في 10 تشرين الثاني /نوفمبر العام 1975 القاضي بمساواة الصهيونية بالعنصرية واعتبارها شكلاً من أشكال التمييز العنصري ، وهي التي تشكّلت من عدد من المثقفين العرب ضمّت: ناجي علوش وعبد الرحمن النعيمي وعبد الفتاح ادريس وعبد الهادي النشاش وغطاس أبو عيطة وصابر محي الدين وسعدالله مزرعاني، إضافة إلى جورج جبور (رئيساً) وكاتب السطور (أميناً عاماً) مثلما كان مهتماً بالدفاع عن ثورة مصر وعن المعتقلين المصريين بسبب مواقفهم من كامب ديفيد، حيث شكلنا لجنة عربية للدفاع عنهم. وكان حريصاً على المشاركة والحضور في الفعاليات التي أقيمت عبر اللجنتين المذكورتين.


VI
بعد استقراره في الشام تعمّقت علاقتي معه، وكنّا نلتقي في مكتب حركة التحرر الوطني عند سعيد سيف، وكان ممثل حزب البعث حينها السفير السوري السابق عبد الرحمن فرزات، صديقي من أيام عمله في إطار الاتحاد الوطني لطلبة سوريا قيادياً وكنت في حينها في اتحاد الطلبة، والتقينا في قيادة وفدينا إلى المؤتمر العاشر لاتحاد الطلاب العالمي في مطلع العام 1971، وارتبطنا بصداقة منذ ذلك الحين حتى وفاته، وكان قد عمل في مكتب الأمين العام المساعد عبدالله الأحمر مديراً، وممثلاً لحزب البعث في حركة التحرر الوطني.
في أواخر العام 2002 وكان سعيد سيف (عبد الرحمن النعيمي) قد غادر إلى المنامة بعفو عام وخاص واستقبل على الأكتاف وفوق الرؤوس، مناضلاً نظيفاً ومقداماً، وقد نشر عنه كاتب السطور مؤخراً كتاباً بعنوان " عبد الرحمن النعيمي :الرائي والمرئي وما بينهما"، وكنت قد جئت دمشق من لندن والتقيت " أبو سلطان" الذي كان قد تعرّض لحادث دهس من دراجة نارية كاد يودي بحياته. كانت جروحه عميقة وألمه شديداً، لكنه كان رابط الجأش إلاّ أن تأثره وتبرّمه، يبدآن كلّما سمع أخبار الحصار الاقتصادي على العراق وموت أطفاله بالجملة. كانت تلك الجروح تثير الجزع فيه أحياناً، فردّدت على مسامعه ما يقوله جلال الدين الرومي، فلعلّه الأقرب إلى وصف حالنا:
لا تجزع من جرحك
وإلاّ كيف للنور أن
يتسلّل إلى باطنك!؟
وقال لي مرّة : "على كرهي للنظام العراقي، وأرجو أن لا تزعل مني، فلو كنت قادراً على القتال لتوجّهت إلى بغداد لقتال الأمريكان" . قلت له: "ولماذا أزعل، نحن نختلف مع النظام العراقي حول احتكار العمل السياسي ومصادرة الحريات والتخبّط في السياسات الاقتصادية وهدر الأموال، والدخول في حروب عبثية ونهج الاستبداد والعنف، لكننا لا نختلف معه حول الوطن وحول الموقف من الاحتلال الأجنبي المنتظر وفي الموقف من الحصار والقرارات الدولية المجحفة والمذلّة".
وكان قد استشهد بعدد من الأعمال التي نشرتها بهذا الخصوص، لاسيّما في موضوع الحصار، وطلب مني تفسيراً حول القرار 688 الخاص بكفالة احترام حقوق الإنسان وكيفية تطبيقه دون أن يمس سيادة العراق. قلت له إن السيادة مجروحة والكرامة مهدورة والاستقلال منتهك، وقد يكون هذا القرار أقل الحلول ضرراً إذا تمكّنا من الحيلولة دون غزو العراق، ومن المفارقة أن النظام وافق على جميع القرارات المجحفة والمذلّة، لكنه لم يوافق على هذا القرار الخاص باحترام حقوق الإنسان، علماً بأن جميع القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن، وكلّها قرارات مجحفة ومذلة، كانت قد صدرت ضمن الفصل السابع الخاص بالعقوبات الواجبة الأداء في الحال، وإلاّ فإن من "حقه" استخدام جميع الوسائل لإجبار العراق على تنفيذها، بما فيها استخدام القوة، لاسيّما في ظل اختلال التوازن الدولي وغياب الكتلة الاشتراكية.
أما القرار 688 الذي صدر في 5 نيسان (ابريل) العام 1991 فإنه صدر ضمن الفصل السادس الخاص بتسوية المنازعات بالطرق السلمية، وإن التركيز عليه قد يحول دون اللجوء إلى الحرب التي تتشبث بها الولايات المتحدة دون وجه حق وخلافاً لقواعد القانون الدولي وما يسمى بالشرعة الدولية.
V
بعد الانفراج الذي حصل في الأردن في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات زار "أبو سلطان" عمان ولقي العديد من أصدقائه، كما لاحظ كيف تغيّرت الدنيا، ولكم كان يتألم حين يرى محاولات الابتزاز والاستفزاز، لكنه كان واضحاً ولا يخفي شيئاً... إنه مع المقاومة وهي سبيله إلى العالم الأكثر عدلاً وخيراً وسلاماً.
كان "أبو سلطان" يحترم قناعات الآخرين دون أن يتجاوز قناعاته، ويشاركهم همومهم وكانت قدراته هائلة في كسب الأصدقاء، فبقدر عناده وصرامته وسرّيته وجدّيته، كان فكهاً وساخراً ومرحاً، وفي دعاباته أحياناً تتلمس نوعاً من الحكمة، أقرب إلى حكمة الصحراء وتلقائية مثل تلقائية الريف. لم يعرف "أبو سلطان" الحقد حتى على أعدائه، كان رحوماً بقدر ما هو حازم، كان موقف "أبو سلطان" من المرأة تقدمياً، فهو يتعامل مع زوجته وعائلته بشيء من الحميمية واحترام الحقوق لدرجة مثيرة، ولعلّ هذا الجانب الاجتماعي الحميمي يعكس تقدمية الرجل وصدق قناعاته، لأن المرأة هي المحك الحقيقي لتقدمية الإنسان.
كان يعطي للصداقة حقها، لا أدري إن كان قد قرأ عبارة أفلاطون: الصديق إنسان هو أنت، إلاّ إنه الشخص هو غيرك. وصدق أبو حيان التوحيدي حين قال : إن فيلسوفاً سُئل ذات يوم: من أطول الناس سفراً، فأجاب من سافر في طلب الصديق، وصديق صديقنا العربي سلطان ، كان العقل، وهو الذي يختار وفقاً له الأصدقاء، ولهذا بقدر ما كان منفتحاً وكريماً وسمحاً، كان صعب المراس شديداً في التدقيق في اختيار الأصدقاء، الذين سيمنحهم ثقته.
خسر "أبو سلطان" كثيراً في حياته ، لكنه ربح حلمه الذي ظلّ مخلصاً له، مثلما كسب نخبة من الأصدقاء والمحبيّن، وهم ثروة حقيقية وكنز كبير كان يتباهى به، وكان يردّد مثلا ً روسيًّا: ثروتي في هذا العالم صداقاتي، لهذا كان يتألم كلّما رحل صديق أو غاب، ومثل جبران خليل جبران، كان همّه يكبر: كلما غادرنا حبيب مات جزء منّا، وكلّما قتل حلم من أحلامنا مات جزء، فيأتي الموت الأكبر، ليجد كل الأجزاء ميتة فيحملها ويرحل...
حمل " أبو سلطان" حلمه الذي كبر معه وعاش فيه وله وحاول أن يرويه بكل ما يستطيع لكي يزهر ويثمر ويتحوّل الحلم إلى حقيقة، وحتى يومه الأخير لم يفارقه حلمه، وحتى الموت الذي داهمه في العام 2005 لم يأته مرّة واحدة، وإنما جاء بطريقة الأجزاء.
لم ينطفئ حلم " أبو سلطان" طالما بقي الإنسان في عالمنا العربي يحلم بطرد محتليّ بلاده ومغتصبي حقوقه، الذين لن تدعهم المقاومة بكل أشكالها مدنية سلمية أو دفاعية مسلحة أن ينعموا يوماً براحة بال واسترخاء تحت شمس القدس الذهبية، ولن تتحقق الأحلام إلاّ بالعدالة والمساواة وإلغاء الاستغلال تحت أي عنوان أو صورة أو مضمون جاء ذلك. إنه حلم العربي أبو سلطان ، وحلم جميع المقاومين في بلادنا والعالم.






ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• شهادة للكاتب نشرت في كتاب العربي أبو سلطان "محمد الهباهبه"، شهادات وكتابات، إعداد مصلح الهباهبه، تقديم الأستاذ زاهر الخطيب، شبكة ميسلون للدراسات والإعلام، لبنان ـ بيروت، ط1، 2016.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الماراثون العراقي والعودة إلى المربع الأول
- اللحظة اليابانية.. ال«هُنا» و«الآن»
- الفلوجة وسريالية السياسة العراقية
- محمد السمّاك :الشاب الثمانيني الذي يسيل من يراعه عطر الفلسفة
- «غوانتانامو» وتسييس العدالة
- وليد جمعة : كان يشرب من دمه كأنه النبيذ!
- «وثائق بنما» وتبييض الأموال
- ثلاثة سيناريوهات محتملة في العراق - حوار مع جريدة الزوراء
- اللاجئون السوريون وهواجس التوطين
- الدولة العراقية معطّلة ومشلولة بسبب الطائفية السياسية وألغام ...
- تمنيت على الحزب الشيوعي إدانة المحتل أو مقاومته أو الدعوة لس ...
- مشروع التفكيك الجديد
- جورج جبّور : بين كتابين !
- إسرائيل عنصرية مقننة
- تحيّة وداع إلى زها حديد من جامعة أونور
- تمنيت أن يتّبع الحزب الشيوعي المقاومة المدنية السلمية اللاّع ...
- عن تفجيرات بروكسل
- حوار الحضارات أم صدامها؟
- .. وماذا عن سد الموصل؟
- الجامعة ومستقبل العمل العربي المشترك


المزيد.....




- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - العربي أبو سلطان -محمد الهباهبه-: حالم لم يفارقه حلمه